ثم الذي يظهر : أنها هنا شرطية ، ويكون قد حذف جوابها ؛ لدلالة ما قبله عليه ، تقديره : أنّى شئتم ، فأتوه ، ويكون قد جعلت الأحوال فيها جعل الظروف ، وأجريت مجراها ، تشبيها للحال بظرف المكان ؛ ولذلك تقدّر ب «في» ، كما أجريت «كيف» الاستفهامية مجرى الشرط في قوله : (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [المائدة : ٦٤] وقالوا : كيف تصنع أصنع ، فالمعنى هنا ليس استفهاما بل شرطا ؛ فيكون ثمّ حذف في قوله : «ينفق كيف يشاء» ، أي : كيف يشاء ينفق ، وهكذا كل موضع يشبهه ، وسيأتي له مزيد بيان ، فإن قلت : قد أخرجت «أنّى» عن الظرفية الحقيقية ، وجعلتها لتعميم الأحوال مثل «كيف» وقلت : إنها مقتضية لجملة أخرى كالشرط ، فهل الفعل بعدها في محلّ جزم ، اعتبارا بكونها شرطية ، أو في محلّ رفع ، كما تكون كذلك بعد «كيف» التي تستعمل شرطية؟ قلت : تحتمل الأمرين ، والأرجح الأول ؛ لثبوت عمل الجزم ؛ لأنّ غاية ما في الباب تشبيه الأحوال بالظروف ، للعلاقة المذكورة ، وهو تقدير «في» في كلّ منهما. ولم يجزم ب «كيف» إلا بعضهم قياسا لا سماعا ، ومفعول «شئتم» محذوف ، أي : شئتم إتيانه بعد أن يكون في المحلّ المباح.
فصل في بيان سبب النزول
روى ابن عبّاس في سبب النزول ؛ قال : جاء عمر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت. قال : «وما الّذي أهلكك؟» قال : حوّلت رحلي البارحة ، فلم يردّ عليه شيئا ، فأوحي إليه : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ، يقول : أقبل ، وأدبر ، واتّق الحيضة والدّبر (١).
وروى جابر بن عبد الله ؛ قال : كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها : إن الولد يكون أحولا ، فنزلت هذه الآية (٢).
وروى مجاهد عن ابن عبّاس ؛ قال : كان من شأن أهل الكتاب ألّا يأتوا النّساء إلّا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا
__________________
(١) أخرجه أحمد (١ / ٢٩٧) والترمذي (٢٩٨٤) والنسائي في «عشرة النساء» رقم (٩١) والحاكم (٢ / ١٩٥) والبيهقي (٧ / ١٩٨) والطبراني في «الكبير» (١١ / ٧٧) رقم (١١٠٩٧) وابن حبان (٦ / ٢٠١) رقم (٤١٩٠) والطبري في «تفسيره» (٤ / ٤١٢ ـ ٤١٣) وأبو يعلى (٥ / ١٢١) رقم (٢٧٣٦).
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٦٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» والضياء المقدسي في «المختارة» عن ابن عباس.
(٢) أخرجه البخاري (٨ / ١٤١ ، ١٤٣) ومسلم (كتاب النكاح باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها ومن ورائها) وابن ماجه (١ / ٦٢٠) رقم (١٩٢٥) والترمذي (٥ / ٢٠٠) رقم (٢٩٧٨) وأبو داود (١ / ٦٥٦) رقم (٢١٦٣) والبيهقي (٧ / ١٩٤ ـ ١٩٥) والطبري في «تفسيره» (٤ / ٤١٠) عن جابر.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٦٧) وعزاه لوكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد.