وروي عنهم الإسكان أيضا ، واختاره أبو عبيد ، وحكاه لغة للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في [نحو] قوله : «نعمّا المال الصالح مع الرجل الصالح» (١).
والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان ، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو ، وممّن أنكره المبرد ، والزجاج (٢) والفارسي ، قالوا : لأنّ فيه جمعا بين ساكنين على غير حدّهما. قال المبرد : «لا يقدر أحد أن ينطق به ، وإنما يروم الجمع بين ساكنين فيحرّك ، ولا يشعر» وقال الفارسي : «لعل أبا عمرو أخفى فظنّه الراوي سكونا».
وقد تقدّم الكلام على «ما» اللاحقة لنعم ، وبئس. و «هي» مبتدأ ضمير عائد على الصدقات على حذف مضاف ، أي : فنعم إبداؤها ، ويجوز ألّا يقدّر مضاف ، بل يعود الضمير على «الصّدقات» بقصد صفة الإبداء ، تقديره : فنعمّا هي ، أي : الصدقات المبداة. وجملة المدح خبر عن «هي» ، والرابط العموم ، وهذا أولى الوجوه ، وقد تقدّم تحقيقها.
والضمير في (وَإِنْ تُخْفُوها) يعود على الصدقات. قيل : يعود عليها لفظا ومعنى ، وقيل: يعود عليها لفظا لا معنى ؛ لأنّ المراد بالصدقات المبداة : الواجبة ، وبالمخفاة : المتطوّع بها ، فيكون من باب «عندي درهم ، ونصفه» ، أي : ونصف درهم آخر ؛ وكقول القائل : [الوافر]
١٢٣٦ ـ كأنّ ثياب راكبه بريح |
|
خريق وهي ساكنة الهبوب (٣) |
أي : وريح أخرى ساكنة الهبوب ، ولا حاجة إلى هذا في الآية.
والفاء في قوله : «فهو» جواب الشرط ، والضمير يعود على المصدر المفهوم من «تخفوها» أي : فالإخفاء ، كقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] و «لكم» صفة لخير ، فيتعلّق بمحذوف. و «خير» يجوز أن يكون للتفضيل ، فالمفضّل عليه محذوف ، أي : خير من إبدائها ، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريّة ، أي : خير لكم من الخيور.
وفي قوله : (إِنْ تُبْدُوا) ، (وَإِنْ تُخْفُوها) نوع من البديع ، وهو الطّباق اللّفظيّ. وفي قوله (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) طباق معنوي ؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الأغنياء الصدقات ، وإن يخف الأغنياء الصدقات ، ويؤتوها الفقراء ، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظا ، والأغنياء بالفقراء معنى.
__________________
(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٢٣٦) وأحمد (٤ / ٢٠٢) وابن أبي شيبة (٧ / ١٨) والطبراني في «الأوسط» و «الكبير» وأبو يعلى كما في «المجمع» (٩ / ٣٥٦) وقال الهيثمي : ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح.
وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم وقال الذهبي صحيح.
(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٥٣.
(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٣٣٨ ، الدر المصون ١ / ٦٥٠.