الكف لإخراج المخبوء (١) ، ثم استعمل البث مجازا في انتشار الشيء بعد أن كان كامنا كما في هاته الآية واستعمل أيضا في مطلق الانتشار ، قال الحماسي :
وهلّا أعدّوني لمثلي تفاقدوا |
|
وفي الأرض مثبوت شجاع وعقرب |
وبث الدواب على وجه عطفه على فعل (أَنْزَلَ) هو خلق أنواع الدواب على الأرض فعبر عنه بالبث لتصوير ذلك الخلق العجيب المتكاثر فالمعنى وخلق فبث فيها من كل دابة.
وعلى وجه عطف (وَبَثَ) على (فَأَحْيا) فبث الدواب انتشارها في المراعي بعد أن كانت هازلة جاثمة وانتشار نسلها بالولادة وكل ذلك انتشار وبث وصفه لبيد بقوله :
رزقت مرابيع النجوم وصابها |
|
ودق الرواعد جودها فرهامها |
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت |
|
بالجلهتين ظباؤها ونعامها |
والآية أوجز من بيتي لبيد وأوفر معنى فإن قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) أوجز من البيت الأول ، وقوله : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أوجز من قوله فعلا فروع الأيهقان وأعم وأبرع بما فيه من استعارة الحياة ، وقوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أوجز من قوله وأطفلت البيت مع كونه أعم لعدم اقتصاره على الظباء والنعام.
والدابة ما دب على وجه الأرض وقد أذنت كلمة (كُلِ) بأن المراد جميع الأنواع فانتفى احتمال أن يراد من الدابة خصوص ذوات الأربع.
وقد جمع قوله تعالى : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أصول علم التاريخ الطبيعي وهو المواليد الثلاثة المعدن والنبات والحيوان ، زيادة على ما في بقية الآية سابقا ولا حقا من الإشارات العلمية الراجعة لعلم الهيئة وعلم الطبيعة وعلم الجغرافيا الطبيعية وعلم حوادث الجو (٢).
وقوله : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) عطف على مدخول (فِي) وهو من آيات وجود الخالق
__________________
(١) قيل : إنه كان بجسدها عيب أو داء فكان لا يدخل يده في ثوبها فيمسه لعلمه أن ذلك يؤذيها ، تصفه باللطف. وقيل : إن ذلك ذم له ، أي لا يتفقد أمورها ومصالحها كقولهم : ما أدخل يدي في هذا الأمر أي لا أتفقده.
(٢) قال آلوسي في آخر شرحه لهذه الآية : «وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية. وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله ، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة». (٢ / ٣٣) ، ط. المنيرية.