مفوّضا إلى الله فمن قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ). وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق ، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله ، فيلزم من ذلك أنّه على الله ، أي مفوّض إليه.
وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهّم إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء ، فمصبّ الاستدراك هو الصلة ، أعني (مَنْ يَشاءُ) ؛ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشإ الله هداه. والتقدير : ولكن هداهم بيد الله ، وهو يهدي من يشاء ، فإذا شاء أن يهديهم هداهم.
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).
عطف على جملة (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧١] ؛ وموقعها زيادة بيان فضل الصدقات كلّها ، وأنّها لما كانت منفعتها لنفس المتصدّق فليختر لنفسه ما هو خير ، وعليه أن يكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها.
وقوله : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) جملة حالية ، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر ، أي إنّما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلّا ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلم وكافر ، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتملين في الآية التي قبلها. ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي ، أي لا تنفقوا إلّا ابتغاء وجه الله. وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد ، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حفّ به من جملة (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) ـ وجملة ـ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ).
وقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) عطف على التي قبلها لبيان أنّ جزاء النفقات بمقدارها وأنّ من نقص له من الأجر فهو الساعي في نقصه. وكرّر فعل تنفقون ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب ، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنّه قصد الخبر بمعنى الإنشاء ، أي النهي عن أن ينفقوا إلّا لابتغاء وجه الله.
وتقديم (وَأَنْتُمْ) على الخبر الفعلي لمجرد التقوّي وزيادة التنبيه على أنّهم