صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافا بلغ بهم إلى التكفير والقتال ، وأوّله خلاف الردة في زمن أبي بكر ، ثم خلاف الحرورية في زمن عليّ وقد كفّروا عليا في قبوله تحكيم الحكمي ، ثم خلاف أتباع المقنّع بخراسان الذي ادعى الإلهية واتخذ وجها من ذهب ، وظهر سنة ١٥٩ وهلك سنة ١٦٣ ، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائبة من الخلاف المذهبي لأنّهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفروا وادّعوا الحلول ـ أي حلول الرب في المخلوقات ـ واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين ، وذلك من سنة ٢٩٣. واختلف المسلمون أيضا خلافا كثيرا في المذاهب جرّ بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة ، وأكثرها حروب الخوارج غير المكفّرين لبقية الأمة في المشرق ، ومقاتلات أبي يزيد النكارى الخارجي بالقيروان وغيرها سنة ٣٣٣ ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة ٤٠٧ ، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة ٤٧٥ ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة ٤٤٥ ، وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة ٥٠٢ وزال الشر بينهم ، وقتال الباطنية المعروفين بالإسماعيلية لأهل السنة في ساوة وغيرها من سنة ٤٩٤ إلى سنة ٥٢٣. ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية. ثم انقلبوا أنصارا للإسلام في الحروب الصليبية ، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل. لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام. وتطرّقت كل جهة منه حتى البلد الحرام.
فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصالة العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائل التي يتفادون بها عن التقاتل ، فهم ملومون من هذه الجهة ، ومشيرة إلى أنّ الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدّوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصّر في العواقب قبل ذلك الإبّان ، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة ، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة ، ولذلك قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فأعاد (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) تأكيدا للأول وتمهيدا لقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ليعلم الواقف على كلام الله تعالى أنّ في هدى الله تعالى مقنعا لهم لو أرادوا الاهتداء ، وأنّ في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكمل من هذا الخلق كما خلق الملائكة. فالله يخلق ما يشاء ولكنّه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى ، وهم يفرّطون في ذلك.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا