إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به ، وإن كان المراد اختلاف أمم الرسل كل للأخرى كما في قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣] ، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر ، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه ، فاقتتل الفريقان.
وأياما كان المراد من الوجهين فإن قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل ، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يعمهم سوء الفهم وقلة الهدى.
لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام ، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسبابا لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب ، فأسباب الاختلاف إذن مركوزة في الطباع ، ولهذا قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم قال : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا ، لكنّ الخلاف مركوز في الجبلة. بيد أن الله تعالى قد جعل ـ أيضا ـ في العقول أصولا ضرورية قطعية أو ظنّية ظنا قريبا من القطع به تستطيع العقول أن تعيّن الحق من مختلف الآراء ، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلات البعيدة التي تحمل عليها المكابرة أو كراهية ظهور المغلوبيّة ، أو حب المدحة من الأشياع وأهل الأغراض ، أو السعي إلى عرض عاجل من الدنيا ، ولو شاء الله ما غرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافا يدوم ، ولكن اختلفوا هذا الخلاف فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر ، فلا عذر في القتال إلا لفريقين : مؤمن ، وكافر بما آمن به الآخر ، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم ، أما الخلاف الناشئ بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال.
ولهذا قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها» لأنّه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل ، فرجع هو بإثم الكفر لأنّه المتسبب فيما يتسبب على الكفر ، ولأنّه إذا كان يرى بعض أحوال الإيمان كفرا ، فقد صار هو كافرا لأنّه جعل الإيمان كفرا. وقال عليه الصلاة والسلام : «فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ، فجعل القتال شعار التكفير. وقد