عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفّر بعضهم بعضا ، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالا جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل ، وتقاتلت النصارى كذلك من جرّاء الخلاف بين اليعاقبة والملكية قبل الإسلام ، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفّارا لادّعائهم ألوهية المسيح ، فعظمت بذلك حروب بين فرانسا وأسبانيا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها من دول أوروبا.
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك ، وقد حذر النبيصلىاللهعليهوسلم من ذلك تحذيرا متواترا بقوله في خطبة حجة الوداع : «فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ، يحذّرهم ما يقع من حروب الردّة وحروب الخوارج بدعوى التكفير ، وهذه الوصية من دلائل النبوءة العظيمة.
وورد في «الصحيح» قوله : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» ، قيل يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ، قال : «أما إنّه كان حريصا على قتل أخيه» ، وذلك يفسّر بعضه بعضا أنّه القتال على اختلاف العقيدة.
والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عرض الدنيا ، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا ، وشاء اختلافهم فاختلفوا ، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقدير لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلو كقول طرفة :
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد |
|
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد |
وقوله : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله : وهو ما اقتتل ، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لجواب لو وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لما اقتتلوا. وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تركهم الاقتتال ، هو أنه خلق داعية الاختلاف فيهم ، فبتلك الداعية اختلفوا ، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع ، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطإ أهل الدين فيه