والتعريف في (الناس) للاستغراق يشمل مشركي مكة فإن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبل قبلة اليهود والنصارى ، وأهل الكتاب ، والحجة أن يقولوا إنّ محمدا اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه. ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم ، أي ليكون هذا الدين مخالفا في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه.
ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فضل بها الإسلام غيره لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلّا الذين أوتوا العلم ، وعلى هذا يكون قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) ناظرا إلى قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ) [البقرة : ١٤٤] ، وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) [البقرة : ١٤٦].
وقد قيل في معنى حجة الناس معان أخر أراها بعيدة.
والحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف ، بحيث لا يجد منه تفصيا ، ولذلك يقال للذي غلب مخالفه بحجته قد حجّه ، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة يقال احتج ويقال حاجّ إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) [البقرة : ٢٥٨] ، فالحجة لا تطلق حقيقة إلّا على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف ، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تورد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشورى : ١٦] ، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه «الكشاف» ، وأما ما خالفه من كلام بعض أهل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي ، وإنما أرادوا التفصي من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة أهل اللسان والعلماء ، إلّا خلافا لا يلتفت إليه في علم الأصول ، فصار هذا الاستثناء مقتضيا أن (الَّذِينَ ظَلَمُوا) لهم عليكم حجة ، فأجاب صاحب «الكشاف» بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مساق البرهان أي فاستثناء (الَّذِينَ ظَلَمُوا) يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة ، فحرف (إِلَّا) يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملا في معناه المجازي ، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لا سيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعا بمعنى لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم.
وجملة (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي) تعليل ثان لقوله : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) معطوف على