قبر سلطان العاشقين عمر بن الفارض (١) :
ثم تخرج من هذه التربة إلى تربة الشيخ الصالح المعتقد شرف الدين أبى القاسم عمر بن أبى الحسن على بن المرشد بن على ، الحموى الأصل ، المصرى المولد والدّار والوفاة ، عرف بابن الفارض. كان ـ رضى الله عنه ـ رجلا
__________________
(١) هو الإمام قدوة العارفين ، وسلطان المحبين الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض ، تلميذ الشيخ أبى الحسن على البقال ، صاحب الفتح الإلهى والعلم الوهبى ، نشأ فى العبادة من حال صغره ، كان مهيبا ، وكان سخيّا معتدل القامة ، وله وجه جميل حسن مشرب بحمرة ظاهرة ، وإذا استمع وتواجد وغلب عليه الحال يزداد وجهه جمالا ونورا ، ويتحدر العرق من سائر وجهه حتى يسيل من تحت قدميه على الأرض ، وكان عليه نور وخفر ، وكان إذا حضر فى مجلس يظهر على ذلك المجلس سكون وسكينة ، وكان يحضر مجلسه جماعة من المشايخ والفقراء وأكابر الدولة وسائر الناس وهم فى غاية ما يكون من الأدب معه ، والاتضاع له ، وإذا مشى فى المدينة يزدحم الناس عليه ، ويلتمسون منه البركة والدعاء ، ويقصدون تقبيل يده فلا يمكّن أحدا من ذلك ، بل يصافحهم .. وكانت ثيابه حسنة ، ورائحته طيبة ، وكان ينفق على من يرد عليه نفقة متسعة ، ويعطى من يده عطاء جزيلا ، ولم يكن يتسبب فى تحصيل شىء من الدنيا ، ولا يقبل من أحد شيئا. وبعث إليه السلطان الملك الكامل ألف دينار فردّها إليه ، وسأله الملك الكامل أن يجهز له ضريحا عند قبر أمه فى قبة الإمام الشافعى ، فلم يأذن له بذلك ، ثم استأذنه أن يجهز له مكانا يكون مزارا يعرف به فلم يمكّن له فى ذلك.
قال ابن الفارض : كنت فى أول تجريدى أستأذن والدى وأطلع إلى وادى المستضعفين بالجبل الثانى وآوى فيه ، وأقيم فى هذه السياحة مدة ليال والها ، ثم أعود إلى والدى لأجل بركته ومراعاة قلبه ، وكان والدى يومئذ خليفة الحكم العزيز بالقاهرة ومصر ، وكان من أكابر أهل العلم والعمل ، فيجد سرورا برجوعى إليه ، ويلزمنى بالجلوس فى مجالس الحكم ، ثم أشتاق إلى التجريد ، فأستأذنه وأعود إلى السياحة ، وما برحت أفعل ذلك مدّة إلى أن سئل والدى أن يكون قاضى القضاة ، فامتنع ونزل عن الحكم واعتزل الناس ، وانقطع إلى الله تعالى فى الجامع الأزهر ، إلى أن توفى ، فعدت إلى التجريد والسياحة وسلوك طريقة الحقيقة ، فلم يفتح علىّ بشىء ، فحضرت من السياحة يوما إلى المدرسة السيوفية ، فوجدت شيخا بقالا على باب المدرسة يتوضأ وضوءا غير مرتب ، يغسل يديه ثم يغسل رجليه ، ثم يمسح برأسه ، ثم يغسل وجهه .. فقلت : يا شيخ ، أنت فى هذه السن فى دار الإسلام ، على باب المدرسة بين الفقهاء ، وأنت تتوضأ وضوءا خارجا عن ترتيب الشرع .. فنظر إلىّ وقال : يا عمر ، أنت ما يفتح عليك بمصر ، وإنما يفتح عليك بمكة ـ شرفها الله تعالى ـ فاقصدها ، فقد آن لك وقت الفتح .. فعلمت أن الرجل من أولياء الله تعالى ، وأنه يتستر بالمعيشة وإظهار الجهل ، فجلست بين يديه وقلت : يا سيدى : أين أنا وأين مكة؟ ولا أجد ركبا ولا رفيقا فى غير أشهر الحج؟ فنظر إلىّ وأشار بيده وقال : هذه مكة أمامك. فنظرت مكة