هذا الأعمى قلت له أعطيته لفقير ، فقال : ارجع في طلبه فإنّ فيه أسماء مكتوبة فيها سرّ من الأسرار ، فطال تعجّبي منه ومن معرفته بذلك كلّه ، والله أعلم بحاله.
وبجدّه جامع يعرف بجامع الآبنوس (٥) معروف البركة يستجاب فيه الدعاء ، وكان الامير بها أبا يعقوب بن عبد الرزّاق وقاضيها وخطيبها الفقيه عبد الله من أهل مكّة شافعيّ المذهب ، وإذا كان يوم الجمعة واجتمع الناس للصلاة أتى المؤذّن وعدّ أهل جدّة المقيمين بها ، فإن كملوا أربعين خطب وصلّى بهم الجمعة وان لم يبلغ عددهم أربعين صلّى ظهرا أربعا ، ولا يعتبر من ليس من أهلها وان كانوا عددا كثيرا (٦).
ثم ركبنا من جدّة في مركب يسمّونه الجلبة (٧) وكان لرشيد الدين الألفي اليمنيّ الحبشيّ الأصل ، وركب الشريف منصور بن أبى نمّى (٨) في جلبة أخرى ورغب منّي أن أكون معه فلم أفعل لكونه كان معه في جلبته الجمال فخفت من ذلك ، ولم أكن ركبت البحر قبلها وكان هنالك جملة من أهل اليمن قد جعلوا ازوادهم وامتعتهم في الجلب وهم متأهبون للسفر.
حكاية [الدّراهم المخبوءة بالعديلة]
ولمّا ركبنا البحر أمر الشريف منصور أحد غلمانه أن يأتيه بعديلة دقيق ، وهي نصف حمل ، وبطّة سمن يأخذهما من جلب أهل اليمن ، فأخذهما وأتى بهما إليه فأتاني التّجار باكين ، وذكروا لي أن في جوف تلك العديلة عشرة الاف درهم نقرة ، ورغبوا منّي أن أكلّمه في ردّها وأن يأخذ سواها ، فأتيته وكلّمته في ذلك وقلت له : إنّ للتجار في جوف هذه العديلة شيئا ، فقال : إن كان سكرا فلا أردّه اليهم ، وان كان سوى ذلك فهو لهم ، ففتحوها فوجدوا
__________________
(٥) يقول ابن جبير : " وفيها مسجد مبارك منسوب إلى عمر ابن الخطاب رضياللهعنه ، ومسجد آخر له ساريتان من خشب الآبنوس ينسب أيضا إليه ومنهم من ينسبه إلى هرون الرشيد." الرحلة ص ٤٧.
(٦) حسب المذهب الشافعي نجد أن صلاة الجمعة لا تتم إلا إذا حضرها أربعون شخصا على الأقل ويفهم من هذا أن سكان جدة كانوا قلّة على ذلك العهد.
(٧) الجلبة تجمع على جلب ، نوع من المراكب وقد عرّف بها ابن جبير فذكر" أنها ملفقة الإنشاء لا يستعمل فيها مسمار البتة ، وانما هي مخيطة بأمراس من القنبار وهو قشر جوز النارجيل يدرسونه إلى أن يتخيّط ويفتلون منه أمراسا يخيطون بها المراكب ويخللونها بدسر من عيدان النخل ... ومن أعجب أمر هذه الجلاب أن شرعها منسوجة من خوص المقل فمجموعها متناسب في اختلال البنية ووهنها"!! تراجع (المراكب العربية) لحسن صالح شهاب (مصدر سابق).
(٨) حول أسرة أبى نمى المنحدرة من الأشراف القتاديين الذي كانوا يحكمون مكة منذ ٢٧ رجب ٥٩٨ ٢٣ أبريل ١٢٠٢ ، أنظر تعليقنا عند الزيارة الأولى لابن بطوطة للحرم الشريف. ج I ص ٣٤٤.