كالصّبح المبين ، إلا أنه صادف في شرق الأندلس الأمير أبا محمد بن عياض أسد الحروب ، وقطب الخطوب ، رجل الثّغر شهرة وشجاعة ، قد ألقى جميع تلك البلاد له بالسمع والطاعة ، فهوت قلوب أهل بلنسية إليه ، ورام ابن عبد العزيز صرفهم عن ذلك فثاروا عليه ، فخضعت أقلامه للسيوف ، ودارت عليه من الفتن صروف ، فلم ير إلا الفرار ، قائلا ليس على زأر الأسد قرار ، فجاءت به المقادر إلى أن حصلته في يد عدوه عبد الله بن غانية ، فسجنه في جزيرة ميورقة إلى أن يسّر الله سراحه على أيدي الموحدين ، فحلّ بمراكش تحت نعمة ضافية ملحوظا بعين الرعاية ، متفقدا من الأمر العزيز بأجزل جراية.
أخبرني أحد الأدباء الأعيان ، ممن كان يمازحه ويركن إليه ، أنه كان دائم الحسرة على كونه لم يطل ملكه ، وكان انجعافه مرة ، وأنه كان يستريح في ذلك بما ينظمه ، قال : ومما أنشدنيه لنفسه من ذلك قوله : [الطويل]
علمت بأن الدائرات تدور |
|
وقد كشفت منّا هناك بدور |
ونادى منادي البين فينا ترحّلوا |
|
فطار فؤاد للفراق صبور |
ونثّر سلك طال في الملك نظمه |
|
كذا كلّ نظم بالزمان نثير |
خرجنا من الدنيا وكانت بأسرها |
|
تصيخ لما نومي به ونشير |
نهضنا بها ما دام في السعد نجمنا |
|
فلما هو جارت وليس مجير |
فلا ينس تسليم السّماطين مسمعي |
|
بحيث القنا والمرهفات سطور |
وحيث بنوا الآمال تكرع كالقطا |
|
وقد زخرت للمكرمات بحور |
وقد قامت المدّاح تنثر نظمها |
|
ودارت علينا للثناء خمور |
ولله يوم قد نهضت بصدره |
|
وحولي من صيد الكماة صقور |
أثار به ركض الفوارس قسطلا |
|
يرصّعه للباترات قتير |
وقد جال جرّرا الذيول مماصع |
|
وطار إلى نهب النفوس مغير |
وقد صمّت الأسماع إذ طاشت النّهى |
|
وحامت على ما عوّدته طيور |
وأصدرت الرايات حمرا كأنها |
|
صدور حسان مسهنّ عبير |
ألا بأبي ذاك الزمان الذي قضى |
|
وتعسا لدهر جاء وهو عثور |
تصابحنا فيه الرزايا فتارة |
|
تصمّ صماخا أو تجيش صدور |
لقد أسخن المقدار طرفي بعده |
|
وكم قرّ بالآمال وهو قرير |
أيا مهديا نحوي التحية عن نوى |
|
تسائلني ، إن الزمان خبير |
فسله عن الماضين قبلي فإنه |
|
على كل حال لا يزال يجور |
فلو أبصرت عيناك همّي حالكا |
|
وشهب الدّياجي في السماء تنير |