وليس ذلك صحيحا ، بل ذلك إدعاء باطل ، ومحال زائل ، وإنما السبب الذي اجتمعت عليه الروايات الصحيحة التي لا تشك في هذا الأمر ، فساد ما بينه وبين مولاه الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين ، لتضييقه عليه ، ومنعه مما تميل نفسه إليه ، ومنافرته إياه في بعض الأوقات ، وقد كان هذا الخلف المستمر بينهما ، قد ظهر بمصر لكثير من أهلها ، وتحدثوا فيه ، وكان الآمر قد عزم على اغتياله إذا دخل عليه في قصره ، للسلام عليه ، أو في أيام الأعياد ، وقويت نفسه على اتمام هذا الأمر ، فمنعه من ذلك الأمير أبو الميمون عبد المجيد ، وقال له : إن هذا الأمر إذا تم على هذه القضية ، كان فيه شناعة وسوء سمعة ، لأن هذا وأباه في خدمتنا منذ خمسين سنة ، لا يعرف الناس في سائر أقطار البلاد غير هذا ، فما يقال في مثل هذه الحال في مجازاتنا لمن هذه صفته ، هذه المجازاة الشنيعة ، والمكافأة الفظيعة ، وما العذر في ذاك إلى الناس ، وهم لا يعلمون ما في نفوسنا له ، وما ننقم عليه بسببه ، وما يعرفون منه في ظاهر الأمر إلا الموالاة الخالصة ، والطاعة الصادقة ، والذب عن الدولة ، والمحاماة عنها ، ولا بد أن تدعو الضرورة إلى إقامة غيره في مكانه ، والاعتماد عليه في منصبه ، فيتمكن كتمكنه أو بعضه ، فيحذر من الدخول إلى قصرنا خوفا على نفسه ، مما جرى على غيره ، وإن دخل علينا كان خائفا معدّا ، وإن خرج عنا خرج وجلا مستعدا ، وفي هذا الفعل ما يؤكد الوحشة ، ويدل على فساد التدبير في اليوم وفيما بعد ، بل الصواب في التدبير أن تستميل أبا عبد الله (محمد) بن البطائحي (١) ، الغالب على أمره المطلع على سره وجهره ،
__________________
(١) كان مولده سنة ٤٧٨ ه / ١٠٨٥ م وقيل أنه كان من أصل وضيع ، حيث كان والده من جواسيس الأفضل بالعراق ، مضى الى مصر وعمل حمالا ، ثم التحق بدار الأفضل فاستخدمه مع الفراشين ، يوصف في وزارته بأنه كان من ذوي الآراء السديدة واسع الصدر سفاكا للدماء ، شديد التحرز ، كثير التطلع الى أحوال الناس من الجند والعامة فكثر الواشون والسعاة بالناس في أيامه. الوزارة والوزراء في العصر الفاطمي : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.