لالتقاط للدّرر أغوص في لجج المعاني ، وطفقت لاقتناص الغر أعوم في بحار المباني ، إذ وقع المحطّ على آية هي معترك أنظار الأفاضل والأعالي ، ومزدحم أفكار أرباب الفضائل والمعالي ، كلّ رفع في مضمارها راية ونصب لإثبات ما سنح له فيها آية ، فرأيت أن قد وقع التخالف والتشاجر والمناقشة في التعاظم والتفاخر ، حتى إنّ بعضا من سوابق فرسان هذا الميدان قدوتنا ضلوا عن سهام الشتم والهذيان ، فما وقفوا في موقف من المواقف أبدا ، وما وافق في سلوك هذا المسلك أحد أحدا ، ثم إني ظفرت على ما جرى بينهم من الرسائل واطّلعت على ما أورد في الكتب من تحقيقات الأفاضل ، فاكتحلت عين الفكر من سواد أرقامهم وانفتحت حدقة النّظر على عرائس نتائج أفهامهم ، فبينما كنت ناظرا بعين التأمّل في تلك الأقوال إذ وقع سنوح الذهن في عقال الإشكال ، فأخذت أحلّ عقدها بأنامل الأفكار ، وأعتبر دررها بمعيار الاعتبار ، فرأيت أنّ لأسرار قد خفيت تحت الأستار وأنّ الأجلّة ما اعتنقوها بأيدي الأفكار ، فما زلت في بساط الفكر أجول ، وما زال ذهني عن سمت التأمّل لا يزول ، حتى آنست أنوار المقصود قد تلألأت عن أفق اليقين ، وشهدت بصحتها لسان الحجج والبراهين ، فشرعت أحقّق المرام وأحرّر الكلام في فناء بيت الله الحرام راجيا منه أن لا أزلّ عن صوب الصّواب ، وأن لا أملّ عن الاجتهاد في فتح هذا الباب سائلا منه الفوز بالاستبصار عمّن لا تفتر عين فهمه عن الاكتحال بنور التحقيق ، ولا يقصر شأو ذهنه عن العروج إلى معارج التّدقيق ، فوجدت بعون الله لكشف كنوز الحقائق معينا ولتوضيح رموز الدقائق نورا مبينا ، ثم جعلت كسوة المقصود مطّرزة بطراز التحرير ، ليكون في معرض العرض على كلّ عالم نحرير موردا ما جرى بين الأجلّة عند الطّراد في مضمار المناظرة ، وما أفادوا بعد الاختبار بمسبار المفاكرة ، مذيّلا بما سنح لي في الخطر الفاتر وذهني القاصر متوكّلا على الصّمد المعبود ، فإنّه محقّق المقصود بمحض الفيض والجود.
قال صاحب الكشاف عند تفسير قول الله عزّ وجلّ : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ :) «من مثل : متعلّق بسورة صفة لها ، أي : بسورة كائنة من مثله والضمير لما نزّلنا أو لعبدنا ، ويجوز أن يتعلّق بقوله : فأتوا والضمير للعبد» انتهى.
وحاصله أنّ الجارّ والمجرور أعني «من مثله» إمّا أن يتعلّق ب (فأتوا) على أنّه ظرف لغو أو صفة لسورة على أنه ظرف مستقرّ وعلى كلا التقديرين فالضمير في مثله إمّا عائد إلى ما نزلّنا أو إلى عبدنا ، فهذه صور أربع جوّز ثلاثا منها تصريحا منع واحدة