فحصل خلاف في أنّ «أن يؤذن» ظرف أو حال ، فإن جعلناها ظرفا كما قال الزّمخشريّ فقد قال : إنّ (غَيْرَ ناظِرِينَ) حال من (لا تَدْخُلُوا) فهو صحيح ، لأنّه استثناء مفرّغ من الأحوال ، كأنّه قال : «لا تدخلوا في حال من الأحوال إلّا مصحوبين غير ناظرين» على قولنا ، أو : «وقت أن يؤذن لكم غير ناظرين» على قول الزمخشري. وإنّما لم يجعل «غير ناظرين» حالا من (يؤذن) ـ وإن كان جائزا من جهة الصناعة ـ لأنّه يصير حالا مقدّرة ، ولأنّهم لا يصيرون منهيّين عن الانتظار بل يكون ذلك قيدا في الإذن ، وليس المعنى على ذلك ، بل على أنّهم نهوا أن يدخلوا إلّا بإذن ، ونهوا إذا دخلوا أن يكونوا ناظرين إناه. فلذلك امتنع من جهة المعنى أن يكون العامل في (يؤذن) ، وأن يكون حالا من مفعوله ، فلو سكت الزّمخشريّ على هذا لم يرد عليه شيء لكنّه زاد وقال : وقع الاستثناء على الوقت والحال معا ، كأنّه قيل : لا تدخلوا بيوت النبيّ إلّا وقت الإذن ولا تدخلوها إلّا غير ناظرين» (١) فورد عليه أن يكون استثناء شيئين ـ وهما الظّرف والحال ـ بأداة واحدة ، وقد منعه النّحاة أو جمهورهم (٢) والظاهر أنّ الزّمخشريّ ما قال ذلك إلّا تفسير معنى وقد قدّر أداتين ، وهو من جهة بيان المعنى. وقوله : «وقع الاستثناء على الوقت والحال معا من جهة الصناعة ؛ لأنّ الاستثناء المفرّغ يعمل ما قبله فيما بعده ، والمستثنى في الحقيقة هو المصدر المتعلّق بالظّرف والحال ، فكأنّه قال : لا تدخلوا إلّا دخولا موصوفا بكذا ، ولست أقول بتقدير مصدر هو عامل فيهما ؛ فإنّ العمل للفعل المفرّغ ، وإنّما أردت شرح المعنى. ومثل هذا الإعراب هو الذي نختاره في مثل قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [آل عمران : ١٩]. فالجارّ والمجرور والحال ليسا مستثنيين ، بل يقع عليهما المستثنى ، وهو الاختلاف ، كما تقول : «ما قمت إلّا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في داره» فكلّها يعمل فيها الفعل المفرّغ من جهة الصناعة ، وهي من جهة المعنى كالشيء الواحد ، لأنّها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمّنه الفعل المنفيّ ؛ وهذا أحسن من أن يقدّر : «اختلفوا بغيا بينهم» ؛ لأنّه حينئذ لا يفيد الحصر ، وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) [آل عمران : ١٩] ، فهو حصر في شيئين ، ولكن بالطريق الذي قلناه ، لا أنّه استثناء شيئين بل شيء واحد صادق على شيئين. ويمكن حمل كلام الزّمخشريّ على ذلك ؛ فقوله : «وقع الاستثناء على الوقت والحال معا» صحيح ، وإن كان
__________________
(١) انظر الكشّاف (٣ / ٢٧٠).
(٢) انظر همع الهوامع (١ / ٢٢٦).