المضمر الذي في الخبر المحذوف صار التقدير : لا إله موجود في حال قيامه بالقسط إلّا هو ، فيصير النفي واقعا على الآلهة القائمين بالقسط دون غيرهم ، ويوهم هذا الكلام أنّ ثمّ إلها غير قائم بالقسط ، كما أنّك إذا قلت : لا رجل موجود سخيّا إلّا زيد ، فإنما نفيت الرجال الأسخياء خاصة دون غيرهم ، وهذا كفر ، فصحّ بجميع ما قدّمناه أنّ قائما لا يصحّ إلّا أن يكون حالا من اسم الله تعالى أو من هو ، فإن قال قائل : فكيف جاز لكم أن تجعلوه حالا من اسم الله تعالى أو من ضميره ، والحال منتقلة وفضلة في الكلام ، وهذه الصفة لم يزل الله تعالى موصوفا بها ولا يزال؟ فالجواب : أنّه ليس كلّ حال منتقلة ولا فضلة في الكلام كما زعم هذا الزاعم بل من الأحوال ما لا يصحّ انتقاله ولا يجوز أن يكون فضلة ، ألا ترى أن النحويين قد أطلقوا الحال على أشياء من القرآن وغيره لا يصح فيها الانتقال ، كقوله تعالى : (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [فاطر : ٣١] ، (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) [الأنعام : ١٥٣]؟ والحقّ لا يفارقه التّصديق ، وصراط الله تعالى لا تفارقه الاستقامة ، وقالوا في قوله تعالى : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً) [البقرة : ١٣٣] : إنّه منصوب على الحال من الله ، وقالوا في قوله تعالى : (الم ، اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [آل عمران : ١ ـ ٣] : إنّها جملة في موضع الحال من الله ، كأنّه قال : الله الحي القيوم نزل عليك الكتاب متوحّدا بالرّبوبيّة ، وأجازوا أيضا أن يكون في موضع الحال من الضمير في «نزّل» ، وكذلك قول العرب : «ضربي زيدا قائما» ، «وأكثر شربي السّويق ملتوتا» ، و «دعوت الله سميعا» ، ونحو ذلك إن تتبّعناه ، فإن قال قائل : فكيف صحّ أن تسمّي هذه الأشياء حالا وهي غير متنقلة والكلام محتاج إليها؟ فالجواب عن ذلك من وجوه كلها مقنع :
أحدها : أنّ الحال شبيهة بالصفة ، والصفة ضربان : ضرب يحتاج إليه الموصوف ولا بدّ له منه ، وذلك إذا التبس بغيره ، وضرب لا يحتاج إليه ، وإنّما يذكر للمدح أو الذّمّ أو التّرحّم ، فوجب أن تكون الحال كذلك.
ومنها : أنّ الشيء إذا وجد فيه بعض خواصّ نوعه ولم يوجد فيه بعضها لم يخرجه عن نوعه نقصان ما نقص منها ، ألا ترى أنّ الرسم له خواصّ تخصّه مثل : التنوين ودخول الألف واللام عليه والنعت والتصغير والنداء؟ ولم يلزم أن توجد هذه الخواصّ كلّها في جميع الأسماء ، ولكن حيثما وجدت كلّها أو بعضها حكم له بأنّه اسم ، وكذلك الأحوال في هذه المواضيع فيها أكثر خواصّ الحال وشروطها موجودة فيها ، فلا يخرجها عن حكم الحال نقصان ما نقص منها ، كما لا يخرج من وما نحوهما عن حكم الأسماء نقصان ما نقصها من خواصّ الأسماء.