وهذا لا يكون إلاّ إذا بلغ العبدُ أرقى مراتب الإنسانيّة التي تلحقه بعالم البساطة ، وتنتهي به إلى صقع التجرّد ، فتؤهّله لأنْ يتّصل بالمبدأ الأعلى ، فلو فقد الإنسانُ تلك المُلاءمة ، دَحرَهُ عن حضيرةِ القداسةِ انقطاعُ النّسبةِ ، وبُعدُ المرمى ، وشسوعُ المسافة.
ولا نعني بهذه المرتبة أنْ يكون العبدُ مُواظباً على العبادات البسيطة المُسقطة للخطاب ، والرافعة للتعزير فحسب ، وإنّما نقصدُ منه ما إذا عبدَ اللّهَ سبحانه حقَّ عبادته النّاشئة عن فقهٍ وبصيرةٍ ، ومعرفةٍ بالمعبود الذي يجبُ أنْ يُعبد ، من دون لحاظ مثوبةٍ أو عقوبةٍ حتّى يكون المولى هو الذي يُسمّيهِ عبداً له ، ويصافقه على تصديق دعواه بالعبوديّة له.
وما أسعد العبد حيث يُبصر ما بيده من سلك الطاعة ، ويعرف أنّ مولاه قابضٌ على طرفه الآخر ، تُزلِّفه إليه جاذبة الصلة ، وأشعة القرب.
وعلى ما قلناه كانت هذه المرتبة عند الأنبياء عليهمالسلام أرقى مراتبهم ، وأرفع منصّاتهم ; لأنّ طرف عبوديَّتهم أمنع وأشرف من طرف رسالتهم ، فالطرف الأعلى في العبوديّة (مبدأ الحقّ سُبحانه وتعالى) ، والطرف الأسفل منَّتُه إلى شخص النّبيِّ صلىاللهعليهوآله ، وأمّا النّبوّة فمبدؤها الرسول ومنتهاها الاُمّة (١).
ولولا أنّ هذه الصفة أسمى الصفات التي يتّصف بها العبدُ لما
__________________
(١) لكن حقيقة الرّسالة راجعة إلى العبوديّة وداخلة في ضمنها ، فهي منها وبها وإليها.
نعم ، مانعيّةُ الرسالة من جهة اشتغال الرسول بتبليغ الرسالة ، والدخول في عالم الكثرة ، وهذا فيه نوعُ حُجبٍ على النّور الصافي فيما لو انقطع مع اللّه ، ولكنّه بالتالي عبادة أقلّ من غيره ، فتدبّر.