مرآة العقول - ج ١

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

يا هشام قد جعل الله ذلك دليلا على معرفته بأن لهم مدبرا فقال ( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١) وقال ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٢)

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : قد جعل الله ذلك دليلا ، أي كلا من الآيات المذكورة سابقا أو لا حقا وليس لفظ ذلك في التحف ، فالآيات اللاحقة أظهر ، وقوله تعالى ( وَسَخَّرَ لَكُمُ ) أي هيأها لمنافعكم ومسخرات بالنصب ، حال عن الجميع أي نفعكم بها حالكونها مسخرات الله ، خلقها ودبرها كيف شاء ، وقرأ حفص ( وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ ) على الابتداء والخبر ، فيكون تعميما للحكم بعد تخصيصه ، ورفع ابن عامر « الشمس والقمر » أيضا.

قوله تعالى ( خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ) : إذ خلق أول أفراد هذا النوع وأباهم منه ، أو لأن الغذاء الذي يتكون منه المني يحصل منه ، ويمكن أن يكون المراد التراب الذي يطرحه الملك في المني ، كما يشهد به بعض الأخبار وقوله تعالى ( ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) أي أطفالا ، والأفراد لإرادة الجنس أو على تأويل يخرج من كل واحد منكم ، أو لأنه في الأصل مصدر.

قوله تعالى ( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا ) اللام فيه متعلقة لمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا ، وكذا في قوله ( ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ) ويجوز عطفه على لتبلغوا.

قوله تعالى ( أَشُدَّكُمْ ) : أي كما لكم في القوة والعقل ، جمع شدة كأنعم جمع نعمة.

قوله تعالى ( مِنْ قَبْلُ ) : أي من الشيخوخة أو بلوغ الأشد.

قوله تعالى ( أَجَلاً مُسَمًّى ) : أي يفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى هو وقت الموت

__________________

(١) سورة النحل : ١٣.

(٢) سورة غافر : ٦٧.

٤١

وقال إن في ( اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١) وقال ـ ( يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٢) وقال ـ ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ

______________________________________________________

أو يوم القيمة.

قوله تعالى ( إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ ) : هذه الآية في سورة الجاثية ( وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) وقد مر الكلام في مثله والظاهر أن التغيير من النساخ أو الرواة أو نقل بالمعنى أو هكذا قراءتهم.

قوله ( مِنْ رِزْقٍ ) : هو الماء لأنه رزق أو سبب للرزق ، وربما يؤول الأرض بالقلب والرزق بالعلم تشبيها له بالماء ، لأنه سبب حياة الروح كما أن الماء سبب حياة البدن.

قوله تعالى ( وَجَنَّاتٌ ) : عطف على قوله تعالى « قطع » في قوله ( وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) وتوحيد الزرع لأنه مصدر في أصله ، وهو عطف على ( أَعْنابٍ ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص ( زَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) بالرفع عطفا على جنات وقوله ( صِنْوانٌ ) أي نخلات أصلها واحد ( وَغَيْرُ صِنْوانٍ ) أي متفرقات مختلفة الأصول.

قوله تعالى ( فِي الْأُكُلِ ) : أي في الثمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما ، ودلالتها على الصانع الحكيم ظاهر ، فإن اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار.

__________________

(١) سورة الجاثية : ٤. ٠

(٢) سورة الحديد : ١٧.

٤٢

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١) وقال ـ ( وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٢) وقال ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا

______________________________________________________

قوله تعالى ( يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ) : الفعل مصدر بتقدير أن أو صفة لمحذوف ، أي آية يريكم بها البرق ( خَوْفاً ) من الصاعقة أو تخريب المنازل والزروع ، أو للمسافر ( وَطَمَعاً ) أي في الغيث والنبات وسقي الزروع أو للمقيم ونصبهما على العلة لفعل لازم للفعل المذكور ، إذ إراءتهم تستلزم رؤيتهم أو للفعل المذكور بتقدير مضاف أي إراءة خوف وطمع ، أو بتأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع ، أو على الحال نحو كلمة : شفاها ، ويحتمل أن يكونا مفعولين مطلقين لفعلين محذوفين يكونان حالين ، أي تخافون خوفا وتطمعون طمعا.

قوله تعالى ( قُلْ تَعالَوْا ) : أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع بالتعميم.

قوله تعالى ( ما حَرَّمَ ) : كلمة « ما » تحتمل الخبرية والمصدرية والاستفهامية وقوله ( عَلَيْكُمْ ) متعلق باتل ، أو بحرم أو بهما على سبيل التنازع.

قوله تعالى ( أَلاَّ تُشْرِكُوا ) : قال البيضاوي أي لا تشركوا ليصح عطف الأمر عليه ، ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر بما حرم ، فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها ، ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم ، على أنه للإغراء أو بالبدل من « ما » أو من عائدة المحذوف ، على أن « لا » زائدة أو الجر بتقدير اللام ، أو الرفع على تقدير « المتلو أن لا تشركوا » أو المحرم أن تشركوا وقوله : ( شَيْئاً ) يحتمل المصدرية والمفعولية وعلى التقديرين يشمل الشرك الخفي.

قوله تعالى ( وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) : أي وأحسنوا بهما إحسانا وضعه موضع النهي على الإساءة إليهما للمبالغة والدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف

__________________

(١) سورة الرعد : ٥.

(٢) سورة الروم : ٢٤.

٤٣

أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (١) ـ وقال ( هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٢).

يا هشام ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال

______________________________________________________

بخلاف غيرهما ، وقوله ( مِنْ إِمْلاقٍ ) أي من أجل فقر ومن خشيته.

قوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ) : أي الزنا والكبائر أو جميع المعاصي ، وقوله ( ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ) بدل منه أي سرا وعلانية والفسوق الظاهرة والباطنة ، أو ما ظهر تحريمه من ظهر القرآن وما ظهر تحريمه من بطنه كما ورد في بعض الأخبار.

قوله تعالى ( إِلاَّ بِالْحَقِ ) : كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن ( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ) أي بحفظه ( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي تتبعون مقتضى عقولكم الكاملة في الاجتناب عن المحارم ، وقيل أي ترشدون فإن الرشد كمال العقل.

قوله تعالى ( مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) : صدر الآية هكذا ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) أي من مماليككم ومن للتبعيض وفي قوله ( مِنْ شُرَكاءَ ) مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي ( فِي ما رَزَقْناكُمْ ) أي من الأموال وغيرها ( فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) أي فتكونون سواء أنتم وهم فيه شركاء يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم وأنها معارة لكم ، و ( تَخافُونَهُمْ ) حال عن « أنتم » أو عن ضمير المخاطبين في « رزقناكم » أي والحال أنكم تخافون من شركة مماليككم في أموالكم واستبدادهم بالتصرف فيها كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض ، والغرض من التمثيل تنبيه المشركين على أن هؤلاء المشركين إذا لم يرضوا بشركة مماليكهم معهم في التعظيم والتكريم والتصرف والتدبير ، كيف يرضون بمشاركة الآلهة مع رب الأرباب

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٥٢.

(٢) سورة الروم : ٢٨.

٤٤

( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١)

يا هشام ثم خوف الذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى ( ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (٢). ـ وقال ( إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ

______________________________________________________

مع عدم مشاركتهم إياه في شيء من الكمالات في التعظيم والتكريم والتذلل والعبادة تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، ( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ ) أي نبينها فإن التمثيل فيما دل عليه البرهان مما يكشف المعاني ، ويدفع المشاغبات والمعارضات الوهمية ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) أي يستعملون عقولهم الكاملة في تدبر الأمثال.

قوله تعالى ( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ) : أي أعمالها ( إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) لقلة نفعها وانقطاعها أو لأنها تلهي الناس وتشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ( وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ ) لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها ( لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) فيه تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو ( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أو ليس لكم عقل كامل حيث تركتم الأعلى للأدنى مع العلم بالتفاوت بينهما.

قوله : عقابه ، إما مفعول لقوله خوف أو يعقلون أو لهما على التنازع ، والتدمير : الإهلاك ، أي بعد ما نجينا لوطا وأهله أهلكنا قومه « وإنكم » يا أهل مكة ( لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ ) أي على منازلهم في متاجركم إلى الشام ، فإن سدوم في طريقه ( مُصْبِحِينَ ) أي داخلين في الصباح ( وَبِاللَّيْلِ ) أي ومساء أو نهارا وليلا فليس فيكم عقل تعتبرون به.

قوله تعالى ( عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ ) أي قرية قوم لوط ( رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ) أي عذابا منها ، واختلفوا فيه فقيل : إنه كان حجارة من سجيل ، وقيل : كان نارا وقيل هو تقليب الأرض ، وقد يوجه هذا بأن المراد إنزال مبدئه والقضاء به من السماء لا عينه وهو تكلف مستغنى عنه ( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) أي بسبب استمرارهم على الفسق.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٣٢.

(٢) سورة الصافات : ١٣٧ ـ ١٣٩.

٤٥

وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١)

يا هشام إن العقل مع العلم فقال ( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ ) (٢) يا هشام ثم ذم الذين لا يعقلون فقال ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) (٣) ـ وقال ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ

______________________________________________________

قوله تعالى ( وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً ) : أي من القرية آية بينة دالة على سوء حالهم وعاقبتهم ، فقيل : هي قصتها الشائعة وقيل : هي آثار الديار الخربة ، وقيل : هي الحجارة الممطورة بعد تقليب الأرض ، فإنها كانت باقية بعده ، وقيل : هي الماء الأسود فإن أنهارها صارت مسودة ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) أي يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار ، وهو متعلق بتركنا أو « آية ».

قوله عليه‌السلام : إن العقل في التحف ثم بين إن العقل ، والظاهر أن المراد بالعقل هنا التدبر في خلق الله وصنعه ، والاستدلال به على وجوده وصفاته الكاملة ، ويمكن إرجاعه إلى بعض ما ذكرنا من المعاني في الحديث الأول.

قوله تعالى ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ) : أي للناس الذين سبق ذكرهم ( بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا ) أي وجدنا.

قوله تعالى ( أَوَلَوْ كانَ ) : الواو للحال أو للعطف ، والهمزة للرد أو التعجب ، وجواب لو محذوف ، أي لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم.

قوله تعالى ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) للناظرين في هذه الآية اختلاف في حلها ، فمنهم من قدر مضافا ومنهم من حملها على ظاهرها ، فأما الذين قدروا مضافا ، فمنهم من قدره في جانب المشية ، وقال : تقديره ومثل داعي الذين كفروا وهو الرسول و

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٣٥.

(٢) سورة العنكبوت : ٤٣.

(٣) سورة البقرة : ١٧٠.

٤٦

عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (١) وقال ـ ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) ... ـ ( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ) (٢) وقال ـ ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ

______________________________________________________

من يحذو حذوه في إلقاء الخطاب إليهم ، كمثل راعي البهائم الذي ينعق بها وهي لا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تقف على شيء آخر فقد شبه الكفرة في عدم فهمهم لما يسمعون بها ، ومنهم من قدر المضاف في جانب المشبه به وقال تقديره : كمثل بهائم الذي ينعق بما لا يسمع في عدم فهم ما ألقي إليهم من الخطاب أو معناه : ومثلهم في اتباعهم آبائهم كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت ، ولا تفهم ما تحته ، ولا يتفكرون في أن صلاحهم فيه أم لا ، وأما الذين حملوها على ظاهرها فقال بعضهم : معناها مثل الذين كفروا في دعائهم أصنامهم التي لا شعور لها بدعائهم كمثل الناعق ، فقد شبه الأصنام بالبهائم في عدم الفهم ، وتحققه فيهما وإن لم يكن متوقفا على قوله : إلا دعاء ونداء ، لكن الغرض زيادة المبالغة في التوبيخ إذ لا شبهة في أن راعي البهيمة يعد جاهلا ضعيف العقل ، فمن دعا صنما لا يسمع أصلا كان أولى بالذم ، وقال آخرون : معناه أن مثلهم في اتباع آبائهم والتقليد لهم كمثل الراعي الذي ينعق بالبهائم ، فكما أن الكلام مع البهائم عديم الفائدة كذلك التقليد ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) أي الكفار صم بكم عمي عن الحق ( فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ، للإخلال بالنظر الموجب للعلم.

قوله تعالى ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) : وفي القرآن ومنهم من يستمعون إليك ، أي إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكن لا يطيعونك فيها كالأصم الذي لا يسمع أصلا ، ( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ ) وتقدر على إسماعه ، ولو انضم على صممه عدم تعقله شيئا من الحق لقساوة قلبه.

قوله تعالى ( أَمْ تَحْسَبُ ) : أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون سماعا ينتفعون به أو يعقلون ، أي يتدبرون فيما تلوت عليهم ( إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ ) لعدم انتفاعهم

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧١.

(٢) سورة يونس : ٤١.

٤٧

بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) (١) وقال ( لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً ـ إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) (٢) و

______________________________________________________

بما قرع آذانهم ( بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) وجه الأضلية إن البهائم معذورة لعدم القابلية والشعور ، وكانت لهم تلك القابلية فضيعوها ونزلوا أنفسهم منزلة البهائم أو أن الأنعام ألهمت منافعها ومضارها ، وهي لا تفعل ما يضرها ، وهؤلاء عرفوا طريق الهلاك والنجاة وسعوا في هلاك أنفسهم ، وأيضا تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ، ولأنها إن لم تعتقد حقا ولم تكتسب خيرا لم تعتقد باطلا ، ولم تكتسب شرا ، بخلاف هؤلاء ، ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تؤدي إلى هيج الفتن ، وصد الناس عن الحق.

أقول : أو لأنها تعرف ربها ولها تسبيح وتقديس كما ورد به الأخبار ، وقيل : المراد إن شئت شبهتهم بالأنعام فلك ذلك ، بل لك أن تشبههم بأضل منها كالسباع.

قوله تعالى ( لا يُقاتِلُونَكُمْ ) نزلت في بني النضير من اليهود والذين وافقوهم وراسلوهم من منافقي المدينة ( جَمِيعاً ) أي مجتمعين ( إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ ) أي بالدروب والخنادق ، ( أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ ) أي لفرط رهبتهم ( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) أي ليس ذلك لضعفهم وجبنهم فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا بل لقذف الله الرعب في قلوبهم ، ولأن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ) أي مجتمعين متفقين [ غير متفرقين ] ( وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) أي متفرقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) أي ما فيه صلاحهم وإن تشتت القلوب يوهن قواهم.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٤٤.

(٢) سورة الحشر : ١٤.

٤٨

قال ـ ( وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (١)

يا هشام ثم ذم الله الكثرة فقال ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (٢) وقال ـ ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٣) وقال ـ ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ

______________________________________________________

قوله تعالى ( وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) : صدر الآية ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) والمراد بالكتاب القرآن على تقدير أن يكون الخطاب لطائفة من المسلمين ، فإن فيه الوعيد على ترك البر والصلاح ومخالفة القول العمل ، مثل قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) أو التوراة على تقدير أن يكون الخطاب لأحبار اليهود ، فإن الوعيد المذكور موجود في التوراة أيضا كما قيل.

قوله عليه‌السلام : ثم ذم الله الكثرة ، أي الكثير إطلاقا للمبدء على المشتق ، وإنما ذكر عليه‌السلام ذلك ردا مما يتوهم أكثر الخلق من أن كثرة من يذهب إلى مذهب من شواهد حقيته ، أو لأنه عليه‌السلام لما بين أن العقلاء الكاملين يتبعون الحق فربما يتوهم منه أنه إذا ذهب أكثر الناس إلى مذهب فيكون ذلك المذهب حقا ، لوجود العقلاء فيهم ويلزم من ذلك بطلان ما ذهب إليه الأقل كالفرقة الناجية ، فأزال عليه‌السلام ذلك التوهم بأنه لا يلزم من الكثرة وجود العقلاء فيهم ، فإن أكثر الناس لا يعقلون.

قوله تعالى ( عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) أي عن دينه وشرعه في الأصول والفروع.

قوله تعالى ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) : الضمير راجع إلى كفار قريش وهم كانوا قائلين بأن خالق السماوات والأرض هو الله تعالى لكنهم كانوا يشركون الأصنام معه تعالى في العبادة.

قوله تعالى ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) : أي على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم ، إذ لا يستحق العبادة إلا الموجد المنعم بأصول النعم وفروعها

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٤.

(٢) سورة الأنعام : ١١٦.

(٣) سورة لقمان : ٢٥.

٤٩

الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (١)

يا هشام ثم مدح القلة فقال ـ ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) (٢) وقال ( وَقَلِيلٌ ما هُمْ ) (٣) وقال ( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً

______________________________________________________

قوله تعالى ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) : ليس في قرآننا هكذا إذ هذه الآية في سورة لقمان وفيه مكان ( لا يَعْقِلُونَ ) لا يَعْلَمُونَ ولعله كان في مصحفهم هكذا ، أو يكون التصحيف من الرواة ، ويحتمل أن يكون عليه‌السلام نقل بالمعنى (٤) إشارة إلى ما مر من استلزام العقل للعلم ، فالمعنى أنهم لا يعلمون أنه يلزمهم من القول بالتوحيد في العبادة ، أو لا يعلمون ما اعترفوا به ببرهان عقلي ودليل قطعي ، لأن كونه تعالى خالق السماوات والأرض نظري لا يعلم إلا ببرهان ، وهم معزولون عن إدراكه وإنما اعترفوا به اضطرارا ، أو لا علم لهم أصلا حتى يقروا بالتوحيد بعد ما أقروا بموجبه ، وهذه الوجوه جارية في الآية التالية.

قوله عليه‌السلام : ثم مدح القلة ، أي الموصوفين بها أو وصف الممدوحين بالقلة.

قوله تعالى ( وَقَلِيلٌ ما هُمْ ) : الضمير راجع إلى الموصول في قوله تعالى ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) وما مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم.

قوله تعالى ( أَتَقْتُلُونَ ) : الهمزة للإنكار إما للتوبيخ ، أو للتعجب.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦١.

(٢) سورة سبأ : ١٣.

(٣) سورة ص : ٢٤.

(٤) الظاهر أنه قد سقط من النسخة الموجودة عند الشارح (ره) من كتاب أصول الكافي شطرا من الحديث يعني ذيل الآية الأولى وصدر الثانية فالجأه ذلك إلى ذكر هذه الاحتمالات ، مع أنك ترى أن ههنا آيتان : الأولى في سورة لقمان ، الآية : ٢٥. والثانية في سورة عنكبوت الآية : ٦١. وفي الأولى ( بل أكثرهم لا يعلمون ) وفي الثانية ( بل أكثرهم لا يعقلون ) ، والشاهد على ما ذكرنا أنه ( قده ) لم يذكر توضيحا للآية الثانية مع أنه خلاف دأبه في مثل هذا الموضع من أوائل الكتاب.

٥٠

أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ) (١) وقال ـ ( وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (٢) وقال ـ ( وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) وقال ( وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) وقال ـ وأكثرهم لا يشعرون.

يا هشام ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وحلاهم بأحسن الحلية فقال ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ

______________________________________________________

قوله تعالى ( أَنْ يَقُولَ ) : أي لأن يقول أو وقت أن يقول.

قوله تعالى ( وَمَنْ آمَنَ ) : عطف على « أهلك » في قوله تعالى ( قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ).

قوله تعالى « وأكثرهم لا يشعرون » : ليست هذه الآية في قرآننا ، ويحتمل الوجوه السابقة ، ثم اعلم أنه كان الأنسب ذكر هذه القرائن في سياق آيات ذم الكثرة ، كما هو في رواية تحف العقول فهي إما رجوع إلى أول الكلام ، أو ذكرت هيهنا لاستلزام ذم الكثرة مدح القلة ، وإنما كرر بعض تلك الفقرات مع ذكرها سابقا لتكرر ذكرها في القرآن في مواضع عديدة.

قوله عليه‌السلام « أولوا الألباب » : هو على الحكاية ، وفي التحف : أولي الألباب ، واللب : العقل وأريد به هنا ذوي العقول الكاملة.

قوله تعالى ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ) : الحكمة تحقيق العلم وإتقان العمل ، وروي عن الصادق عليه‌السلام : أنها طاعة الله ومعرفة الإمام ، وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام أنها معرفة الإمام واجتناب الكبائر التي أوجب الله تعالى عليها النار ، وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام : أنها المعرفة والفقه في الدين ، فمن فقه منكم فهو حكيم ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأس الحكمة مخافة الله ، وسيأتي تفسيرها في هذا الخبر بالفهم والعقل ، وكل ذلك داخل فيما ذكرنا أولا فلا تنافي بينهما.

وقال في المغرب : الحكمة ما يمنع من الجهل ، وقال ابن دريد : كل ما يؤدي

__________________

(١) سورة غافر : ٢٨.

(٢) سورة هود : ٤٠ والتاليتين في كثير من السور.

٥١

إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (١) وقال ـ ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (٢) وقال ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) (٣) وقال ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (٤)

______________________________________________________

إلى مكرمة أو يمنع من قبيح ، وقال الشيخ البهائي قدس‌سره الحكمة ما يتضمن صلاح النشأتين أو صلاح النشأة الأخرى ، وأما ما تضمن صلاح الحال في الدنيا فقط ، فليس من الحكمة في شيء ( فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) أي يدخر له خير كثير في الدارين ( وَما يَذَّكَّرُ ) أي وما يتعظ بما قص من الآيات أو ما يتفكر ، فإن المتفكر كالمتذكر لما أودع الله في قلبه من العلوم بالقوة ، أو ما يتنبه للفرق بين من أوتي الحكمة ومن لم يؤت ، إلا أولوا العقول الخالصة عن شوائب الوهم ومتابعة الهوى.

قوله تعالى ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) : أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ، من قولهم : رسخ الشيء رسوخا : ثبت والمراد بهم النبي والأئمة عليه‌السلام كما سيأتي في كتاب الحجة ، وهم داخلون في الاستثناء ، ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) استئناف موضح لحال الراسخين أو حال منهم ، أي هؤلاء الراسخون العالمون بالتأويل يقولون آمنا بالمتشابه أو بكل القرآن محكمه ومتشابهه على التفصيل لعلمهم بمعانيه ، وغيرهم إنما يؤمنون به إجمالا ، وفي بعض الروايات أن القائلين هم الشيعة المؤمنون بالأئمة عليه‌السلام المسلمون لهم ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) تأكيد للسابق ، أي كل من المحكم والمتشابه من عنده تعالى ( وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي وما يعلم المتشابه ، أو لا يتدبر في القرآن إلا الكاملون في العقول ، أو ما يعرف الراسخين في العلم يعني النبي والأئمة عليه‌السلام وما يذكر حالهم إلا أولو الألباب يعني شيعتهم ، وقد ورد منهم عليه‌السلام أن شيعتنا أولوا الألباب ، وسيأتي تمام القول فيها في كتاب الحجة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى ( كَمَنْ هُوَ أَعْمى ) : أي أعمى القلب ، فاقد البصيرة ، لا يهتدي إلى الحق.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦٩.

(٢) سورة آل عمران : ٧.

(٣) سورة آل عمران : ١٩٠.

(٤) سورة الرعد : ٢٠.

٥٢

وقال ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (١) ـ وقال ( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (٢)

______________________________________________________

قوله تعالى ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ ) : أي قائم بوظائف الطاعات من القنوت وهو الطاعة ( آناءَ اللَّيْلِ ) أي ساعاته ، وأم متصلة بمحذوف ، تقديره : الكافر خير أمن هو قانت ، أو منقطعة والمعنى بل أمن هو قانت كمن هو بضده ، وقرأ أمن بالتخفيف بمعنى أمن هو قانت كمن جعل له أندادا ( ساجِداً وَقائِماً ) حالان من ضمير قانت ، والواو للجمع بين الصفتين ( يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) في موضع الحال أو الاستئناف للتعليل ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ) نفي لاستواء الفريقين باعتبار القوة العلمية بعد نفيه باعتبار القوة العملية على وجه أبلغ لمزيد فضل العلم ، وقيل : تقرير للأول على سبيل التشبيه ، أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون.( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي إنما يعلم كل الشريعة والمعارف الإلهية ، ومعارف القرآن كما هي أولوا العقول الكاملة البالغة إلى أعلى درجات الكمال ، وهم الأئمة عليه‌السلام أو إنما يتذكر ويعلم الفرق بين العالم المذكور والجاهل ذوو العقول الصافية ، وهم شيعتهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الأخبار الكثيرة : أن الأئمة عليه‌السلام هم الذين يعلمون ، وأعداءهم الذين لا يعلمون ، وشيعتهم أولوا الألباب.

قوله تعالى ( كِتابٌ ) : هو مبتدأ « و ( مُبارَكٌ ) » خبره أو هو خبر مبتدإ محذوف ، ومبارك خبر بعد خبر ( لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ) فيعرفوا معاني المحكمات ، ثم يعرفوا بدلالتها على أهل الذكر عليه‌السلام معاني المتشابهات بوساطتهم بالسماع منهم ، ( وَلِيَتَذَكَّرَ ) ويعلم جميع معانيه من محكماته ومتشابهاته بتوفيق الله تعالى ( أُولُوا الْأَلْبابِ ) وهم أهل البيت عليه‌السلام ، أو ليتذكر ويهتدي بأهل الذكر ذوو العقول الصافية وهم علماء الشيعة الذين أخذوا علوم القرآن عن أئمتهم عليه‌السلام.

__________________

(١) سورة زمر : ٩.

(٢) سورة ص : ٢٩.

٥٣

وقال ( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى ـ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) (١) وقال ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢).

يا هشام إن الله تعالى يقول في كتابه ـ ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) (٣) يعني عقل وقال ( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ) (٤) قال الفهم والعقل

______________________________________________________

قوله تعالى ( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ) أي ما يهتدى به في الدين من المعجزات والتوراة والشرائع ، ( وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ) أي وتركنا عليهم بعده التوراة ( هُدىً ) [ هو ] إما مفعول له لقوله ( أَوْرَثْنا ) أو حال عن فاعله أو عن الكتاب ، أي هاديا و ( ذِكْرى ) أي تذكرة أو مذكرا ( لِأُولِي الْأَلْبابِ ) أي لذوي العقول السليمة عن اتباع الهوى فإنهم المنتفعون به.

قوله تعالى ( تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) : أي الذين علم الله إنهم يؤمنون أو يصير سببا لمزيد هداية من آمن وبانضمام هذه الآية إلى الآيات السابقة يستفاد أن المؤمنين ليسوا إلا أولي الألباب.

قوله عليه‌السلام : يعني عقل ، اعلم أن القلب يطلق على الجسم الصنوبري الذي هو في الجوف ، وعلى الروح الحيواني المنبعث منه ، وعلى النفس الناطقة المتعلقة به أولا لشدة تعلقه بالعضو المخصوص ، أو لكونه متقلب الأحوال ، وعلى قوة إدراك الخير والشر والتميز بينهما القائمة بالنفس المسماة بالعقل ، ولعله عليه‌السلام فسره بهذا المعنى.

قوله عليه‌السلام : الفهم والعقل ، يعني أعطاه الله الفهم والعقل ، وعليها مدار الحكمة فكان إعطاؤهما إعطاءها.

__________________

(١) سورة المؤمن : ٥٣.

(٢) سورة الذاريات : ٥٥.

(٣) سورة ق : ٣٧.

(٤) سورة لقمان : ١٢.

٥٤

يا هشام إن لقمان قال لابنه تواضع للحق تكن أعقل الناس وإن الكيس لدى الحق يسير يا بني إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله وحشوها الإيمان وشراعها التوكل وقيمها العقل ودليلها العلم وسكانها الصبر.

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : تواضع للحق ، أي لله تعالى بالإقرار به والإطاعة والانقياد له ، أو للأمر الحق بأن تقر به وتذعن له ، إذا ظهر لك حقيقته عند المخاصمة وغيرها ، وكونهما من دلائل العقل ظاهر.

قوله عليه‌السلام : وإن الكيس لدى الحق يسير ، قال بعض الأفاضل في المصادر : الكيس والكياسة « زيرك شدن » والكيس « به زيركى غلبه كردن » فيحتمل أن يكون اليسير بمعنى القليل والكيس بأول المعنيين ، وأن يكون اليسير مقابل العسير ، والكيس بأحد المعنيين ، والمراد أن إدراك الحق ومعرفته لدى موافاته بالكياسة يسير ، أو أن الغلبة بالكياسة عند القول بالحق والإقرار به يسير ، ويحتمل أن يكون الكيس بالتشديد أي ذو الكياسة عند ظهور الحق بأعمال الكياسة ، والإقرار بالحق قليل ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

أقول : على تقدير أن يكون الكيس بالتشديد يحتمل أن يكون يسير فعلا بل على التقدير الآخر أيضا ، وقيل معناه على التقدير الآخر : إن كياسة الإنسان عند الحق سهل هين لا قدر له ، وإنما الذي له منزلة عند الله هو التواضع والمسكنة والخضوع ، وفي بعض النسخ أسير بدل يسير ، أي الكياسة أو صاحبها أسير عند الحق ، ولا يمكنه مخالفته ، وفي بعض النسخ لذي الحق بالذال المعجمة أي للمحق وهو بالنسخة الأخيرة أنسب.

قوله عليه‌السلام : عالم كثير ، يمكن أن يقرأ بفتح اللام وكسرها.

قوله عليه‌السلام : وحشوها ، أي ما يحشى فيها وتملأ منها ، والشراع ككتاب الملاءة الواسعة فوق خشبة يصفقها الريح فتمضي بالسفينة ، والقيم مدبر أمر السفينة ، و

٥٥

يا هشام إن لكل شيء دليلا ودليل العقل التفكر ودليل التفكر الصمت ولكل شيء مطية ومطية العقل التواضع وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة

______________________________________________________

الدليل : المعلم وقال في المغرب السكان ذنب السفينة لأنها به تقوم وتسكن ، والمناسبة بين المشبه والمشبه به في جميعها لا يخفى على الفطن اللبيب.

قوله عليه‌السلام : ودليل العقل ، أي التفكر في الإنسان يدل على عقله ، كما أن صمته يدل على تفكره ، أو أن التفكر يوصل العقل إلى مطلوبه ، وما يحصل له من المعارف والكمالات ، وكذا الصمت دليل للتفكر فإن التفكر به يتم ويكمل.

قوله عليه‌السلام : ومطية العقل التواضع ، أي التذلل والانقياد لله تعالى في أوامره ونواهيه أو الأعم من التواضع لله تعالى أو للخلق ، فإن من لم يتواضع يبقى عقله بلا مطية ، فيصير إلى الجهل أو لا يبلغ عقله إلى درجات الكمال ، والمطية : الدابة المركوبة التي تمطو في سيرها أي تسرع ، وفي تحف العقول مكان العقول في الموضعين العاقل ، ولا يخفى توجيهه ، والخطاب في قوله : كفى بك ، عام كقوله فيما سيأتي كيف يزكو عملك ، وأخواتها.

قوله عليه‌السلام : إلا ليعقلوا ، ضمير الجمع راجع إلى العباد ، وإرجاعه إلى الأنبياء بعيد ، أي ليعلموا علوم الدين أصولا وفروعا عنه تعالى بتوسط الأنبياء والأوصياء عليه‌السلام فالعقل هنا بمعنى العلم ، أو لتصير عقولهم كاملة بحسب الكسب بهداية الله تعالى ، والتفريع بالأول أنسب.

قوله عليه‌السلام : فأحسنهم استجابة ، لما كان غاية البعثة والإرسال حصول المعرفة ، فمن كان أحسن معرفة كان أحسن استجابة ، ومن كان أحسن عقلا كان أعلم بأمر الله وأعمل ، فالأكمل عقلا أرفع درجة حيث يتعلق رفع الدرجة بكمال ما هو الغاية.

٥٦

يا هشام إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم‌السلام وأما الباطنة فالعقول.

يا هشام إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام من سلط ثلاثا على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله من أظلم نور تفكره بطول أمله ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه فكأنما أعان هواه على هدم عقله ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام كيف يزكو عند الله عملك وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك و

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : وأما الباطنة فالعقول ، لعل المراد بها هيهنا أي التي مناط التكليف وبها يميز بين الحق والباطل والحسن والقبيح.

قوله عليه‌السلام : لا يشغل الحلال شكره ، أي لا يمنعه كثرة نعم الله عليه ، والاشتغال بها عن شكره لربه تعالى.

قوله عليه‌السلام : نور تفكره ، هو فاعل أظلم ، لأنه لازم ، وإضافته إلى التفكر إما بيانية أو لامية ، والسبب في ذلك أن بطول الأمل يقبل إلى الدنيا ولذاتها ، فيشغل عن التفكر ، أو يجعل مقتضى طول الأمل ماحيا بمقتضى فكره الصائب ، والطريف : الأمر الجديد المستغرب ، الذي فيه نفاسة ومحو الطرائف بالفضول ، إما لأنه إذا اشتغل بالفضول شغل عن الحكمة في زمان التكلم بالفضول ، أو لأنه لما سمع الناس منه الفضول لم يعبأوا بحكمته ، أو لأنه إذا اشتغل به محي الله عن قلبه الحكمة.

قوله عليه‌السلام : أفسد عليه ، أي أفسد على نفسه دينه ودنياه لما مر من قوله : أكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

قوله عليه‌السلام : كيف يزكو ، الزكاة تكون بمعنى النمو وبمعنى الطهارة وهنا يحتملها.

قوله عليه‌السلام : عن أمر ربك ، الأمر هنا إما مقابل النهي ، أو بمعنى مطلق

٥٧

أطعت هواك على غلبة عقلك.

يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوة العقل فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ورغب فيما عند الله وكان الله أنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة وغناه في العيلة ومعزه من غير عشيرة.

يا هشام نصب الحق لطاعة الله ولا نجاة إلا بالطاعة والطاعة بالعلم والعلم بالتعلم والتعلم بالعقل يعتقد ولا علم إلا من عالم رباني ومعرفة العلم بالعقل

______________________________________________________

الشأن ، أي الأمور المتعلقة به تعالى.

قوله عليه‌السلام : عقل عن الله ، أي حصل له معرفة ذاته وصفاته وأحكامه وشرائعه ، أو أعطاه الله العقل ، أو علم الأمور بعلم ينتهي إلى الله بأن أخذه عن أنبيائه وحججه عليه‌السلام إما بلا واسطة أو بواسطة ، أو بلغ عقله إلى درجة يفيض الله علومه عليه بغير تعليم بشر.

قوله عليه‌السلام : وغناه ، أي مغنية ، أو كما أن أهل الدنيا غناهم بالمال ، هو غناه بالله وقربه ومناجاته ، والعيلة : الفقر ، والعشيرة : القبيلة والرهط الأدنون.

قوله : نصب الحق ، وفي تحف العقول نصب الخلق ، والنصب إما مصدر أو فعل مجهول ، وقراءته على المعلوم بحذف الفاعل أو المفعول كما توهم بعيد ، أي إنما نصب الله الحق والدين بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليطاع في أوامره ونواهيه.

قوله عليه‌السلام : والتعلم بالعقل يعتقد ، أي يشتد ويستحكم ، أو من الاعتقاد بمعنى التصديق والإذعان.

قوله عليه‌السلام : ومعرفة العلم ، وفي التحف ومعرفة العالم وهو أظهر ، والمراد هنا علم العالم ، والغرض أن احتياج العلم إلى العقل من جهتين لفهم ما يلقيه العالم ، والمعرفة العالم الذي ينبغي أخذ العلم عنه ، ويحتمل أن يكون المعنى أن العقل هو المميز الفارق بين العلم اليقيني ، وما يشبهه من الأوهام الفاسدة والدعاوي الكاذبة ، أو من الظن والجهل المركب والتقليد.

٥٨

يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا ـ فلذلك ( رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ).

يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة فطلب بالمشقة أبقاهما.

يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : من العالم ، في التحف من العاقل.

قوله عليه‌السلام بالدون ، أي القليل واليسير منها مع الحكمة الكثيرة ، ولم يرض بالقليل من الحكمة مع الدنيا الكثيرة.

قوله عليه‌السلام : فضول الدنيا ، أي الزائد عما يحتاج إليه ، وقوله : وترك الدنيا جملة حالية.

قوله عليه‌السلام : طالبة مطلوبة ، أي الدنيا طالبة للمرء لأن يوصل إليه ما عندها من الرزق المقدر ، ومطلوبة يطلبها الحريص طلبا للزيادة ، والآخرة طالبة تطلبه لتوصل إليه أجله المقدر ومطلوبة يطلبها الطالب للسعادات الأخروية بالأعمال الصالحة ، وقال بعض الأفاضل : لا يبعد أن يقال الإتيان بالعاطف في الآخرة بقوله : والآخرة طالبة ومطلوبة ، وتركه في قوله : الدنيا طالبة مطلوبة ، للتنبيه على أن الدنيا طالبة موصوفة بالمطلوبية ، فيكون الطالبة لكونها موصوفة بمنزلة الذات ، فدل على أن الدنيا من حقها في ذاتها أن تكون طالبة ، وتكون المطلوبة لكونها صفة لا حقة

٥٩

يستوفي منها رزقه ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله عز وجل في مسألته بأن يكمل عقله فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا.

يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا ( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (١) حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها.

إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا وسره لعلانيته موافقا

______________________________________________________

بالطالبة من الطواري التي ليس من حق الدنيا في ذاتها أن تكون موصوفة بها ، فلو أتى بالعاطف لفاتت تلك الدلالة ، وأما الآخرة فلما كانت الأمران أي الطالبية والمطلوبية كلاهما مما تستحقها وتتصف بها في ذاتها ، فأتى بالعاطف ، وإن حمل قوله : الدنيا طالبة مطلوبة ، على تعدد الخبر ففي ترك العاطف دلالة على عدم ارتباط طالبيتها بمطلوبيتها ، وفي الآخرة فالأمران فيها مرتبطان لا يفارق أحدهما الآخر ، ولذا أتى بالواو الدالة على المقارنة في أصل الثبوت لها.

قوله تعالى ( لا تُزِغْ ) الزيغ : الميل والعدول عن الحق ، والردى الهلاك والضلال.

قوله عليه‌السلام : من كان قوله لفعله مصدقا ، على صيغة اسم الفاعل أي ينبغي أن يأتي أولا بما يأمره ، ثم يأمر غيره ليكون قوله مصدقا لما يفعله ، وإذا فعل فعلا من أفعال الخير وسئل عن سببه أمكنه أن يبين حقيته بالبراهين العقلية والنقلية ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨.

٦٠