مرآة العقول - ج ١

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

هذا خيشومه وقطع منه حيزومه وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطم فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره وصاحب الفقه

______________________________________________________

بالحلقوم من جانب الصدر : إفساد ما هو مناط الحياة والتعيش في الدنيا أو في الدارين والخب بالكسر : الخدعة ، والخبث والغش ، يقال رجل خب وخب بالفتح والكسر أي خداع ، والملق بالتحريك : المداهنة والملاينة باللسان والإعطاء باللسان ما ليس في القلب.

قوله عليه‌السلام على مثله : أي من يساويه في العز والمرتبة من أشباهه وهم أهل العلم وطلبته ، وقوله : من دونه أي من غيره يعني من غير صنفه وجنسه ، أو ممن هو دونه ، ومن هو خسيس بالنسبة إليه وهاتان الفقرتان كالتفسير والبيان لخبه وملقه.

قوله عليه‌السلام فهو لحلوانهم : في بعض النسخ بالنون وهو بضم الحاء المهملة وسكون اللام : أجرة الدلال والكاهن وما أعطي من نحو رشوة ، والمراد به ههنا ما يعطيه الأغنياء فكأنه أجرة لما يفعله بالنسبة إليه أو رشوة على ما يتوقع منه بالنسبة إليهم ، وفي بعض النسخ لحلوائهم بالهمزة أي لأطعمتهم اللذيذة ، والحطم : الكسر المؤدي إلى الفساد ، يعني يأكل من مطعوماتهم ويعطيهم من دينه فوق ما يأخذ من مالهم ، فلا جرم يحطم دينه ويهدم إيمانه ويقينه.

قوله عليه‌السلام خبره : بضم الخاء أي علمه ، أو بالتحريك دعاء عليه بالاستيصال والفناء بحيث لا يبقى له خبر بين الناس ، والأثر بالتحريك ما يبقى في الأرض عند المشي وقطع الأثر إما دعاء عليه بالزمانة كما ذكره الجزري ، أو بالموت فإن أثر المشي من لوازم الحياة ، أو المراد به ما يبقى من آثار علمه بين الناس ، فلا يذكر به والأوسط أظهر ، والكآبة بالتحريك والمد وبالتسكين : سوء الحال والانكسار من شدة الهم

١٦١

والعقل ذو كآبة وحزن وسهر قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا مقبلا على شأنه عارفا بأهل زمانه مستوحشا من أوثق إخوانه فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه.

وحدثني به محمد بن محمود أبو عبد الله القزويني ، عن عدة من أصحابنا منهم جعفر بن محمد الصيقل بقزوين ، عن أحمد بن عيسى العلوي ، عن عباد بن صهيب البصري

______________________________________________________

والحزن ، والمراد بها ههنا الحزن على فوت الفائت ، أو عدم حصول ما هو متوقع له من الدرجات العالية ، والسعادات الأخروية.

قوله عليه‌السلام قد تحنك في برنسه : وفي الكتابين قد انحنى في برنسه والبرنس بضم الباء وسكون الراء والنون المضمومة : قلنسوة طويلة كان يلبسها النساك والعباد في صدر الإسلام ، وعلى نسخة الكتاب يومئ إلى استحباب التحنك للصلاة ، والحندس بالحاء المهملة المكسورة والنون الساكنة والدال المكسورة : الليل المظلم أو ظلمة الليل ، وقوله : في حندسه بدل من الليل ، ويحتمل أن يكون « في » بمعنى « مع » ويكون حالا من الليل والضمير راجع إلى الليل ، وعلى الأول يحتمل إرجاعه إلى العالم.

قوله عليه‌السلام ويخشى : أي من لا يقبل منه وجلا أي خائفا من سوء عقابه داعيا إلى الله طالبا منه سبحانه التوفيق للهدي والثبات على الإيمان والتقوى ، مشفقا من الانتهاء إلى الضلال أو مشفقا على الناس ، متعطفا عليهم بهدايتهم والدعاء لهم ، « مقبلا على شأنه » أي على إصلاح نفسه ، وتهذيب باطنه « عارفا بأهل زمانه » فلا ينخدع منه « مستوحشا من أوثق إخوانه » لما يعرفه من أهل زمانه.

قوله عليه‌السلام : فشد الله من هذا أركانه ، أي أعضائه وجوارحه أو الأعم منها ومن عقله ودينه وأركان إيمانه ، والفرق بين الصنفين الأولين إما بأن الأول غرضه الجاه والتفوق بالعلم ، والثاني غرضه المال والترفع به أو بأن الأول غرضه إظهار الفضل

١٦٢

عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن يحيى ، عن طلحة بن زيد قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن رواة الكتاب كثير وإن رعاته قليل وكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية والجهال يحزنهم

______________________________________________________

على العوام ، وإقبالهم إليه ، والثاني مقصوده قرب السلاطين والظلمة والتسلط على الناس بالمناصب الدنيوية.

الحديث السادس ضعيف.

قوله عليه‌السلام إن رواة الكتاب : يحتمل أن يكون المراد بالكتاب القرآن في الموضعين ، فالمعنى أن الحافظين للقرآن بتصحيح ألفاظه وتجويد قراءته وصون حروفه عن اللحن والغلط كثير ، ورعاته بتفهمه وتدبر معانيه واستعلام ما أريد به من أهله ، ثم استعمال ذلك كله على ما يقتضيه قليل « وكم من مستنصح للحديث » برعاية فهم معانيه ، والتدبر فيه ، والعمل بما يقتضيه « مستغش للقرآن » بعدم رعاية موافقة الحديث له ، وتطبيقه عليه ، ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب ما يشمل الحديث أيضا ، فالمراد بمستنصح الحديث من يراعي لفظه وبمستغش الكتاب من لا يتدبر في الحديث ولا يعمل بمقتضاه ، فيكون من قبيل وضع المظهر موضع المضمر ، والأول أظهر يقال : استنصحه أي عده نصيحا خالصا عن الغش واستغشه أي عده غاشا غير ناصح ، فمن عمل بالحديث وترك القرآن فكأنه عد الحديث ناصحه ، والقرآن غاشا له.

قوله عليه‌السلام فالعلماء يحزنهم ترك الرعاية : يعني أن العلماء العاملين يحزنهم ترك رعاية الكتاب والحديث ، والتفكر فيهما والعمل بهما ، لما يعلمون في تركهما من سوء العقاب عاجلا وآجلا والجهال يهمهم حفظ روايته ويغمهم عدم قدرتهم عليه ، لما يزعمونه كمالا وفوزا ، ويمكن تقدير مضاف أي يحزنهم ترك حفظ الرواية ، وقيل : المراد حفظ الرواية فقط ، أي يصير ذلك سبب حزنهم في الآخرة ، ومنهم من

١٦٣

حفظ الرواية فراع يرعى حياته وراع يرعى هلكته فعند ذلك اختلف الراعيان

______________________________________________________

قرأها يخزيهم من الخزي أي يصير هذا العلم سببا لخزيهم في الدارين ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالعلماء أهل بيت النبوة سلام الله عليهم ، ومن يحذو حذوهم ممن تعلم منهم ، ويكون المراد أنهم عليه‌السلام يحزنهم ترك رعاية القرآن من التاركين لها ، الحافظين للحروف فإنهم لو رعوه لاهتدوا به ، وأقروا بالحق ، والجهال وهم الذين لم ينتفعوا من القرآن بشيء لا رواية ولا دراية ويحزنهم حفظ الرواية من الحافظين لها التاركين للرعاية لما رأوا أنفسهم قاصرين عن رتبة أولئك ، ويحسبون أنهم على شيء وأنهم مهتدون ، فتغبطهم نفوسهم ، ويؤيد هذا المعنى ما يأتي في الروضة من قول أبي جعفر عليه‌السلام في رسالته إلى سعد الخير ، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ، فإن في قوله عليه‌السلام : يعجبهم هناك بدل يحزنهم هنا ، دلالة على ما قلنا ، ويحتمل أن يكون المراد بالجهال هناك الحافظين للحروف فإنهم جهال في الحقيقة ، ولا يجوز إرادته هيهنا لأنه لا يلائم الحزن « انتهى » والأظهر أن المراد بالعلماء الذين يستحقون هذا الاسم على الحقيقة ، وهم الذين يتعلمون لوجه الله تعالى ويعملون به ، وبالجهال الذين يطلبون العلم للأغراض الدنية الدنيوية ولا يعملون به ، كما مر بيان حالهم ، فالعلماء الربانيون يحزنون إذا فاتهم رعاية الكتاب والعمل به لفوت مقصودهم ، وغيرهم من علماء السوء لا يحزنون بترك الرعاية ، إذ مقصودهم حفظ الرواية فقط ، وقد تيسر لهم ، لكن ذلك يصير سببا لحزنهم في الدنيا لأن الله تعالى يذلهم ويسلب عنهم علمهم ، ويكلهم إلى أنفسهم ، وفي الآخرة للحسرات التي تلحقهم لفوت ما هو ثمرة العلم والمقصود منه.

والحاصل أن مطلوب العلماء ما هو تركه يوجب حزنهم ومطلوب الجهال ما هو فعله يورث حزنهم وخزيهم ، ولا يبعد أن يكون الترك في قوله ترك الرعاية زيد من النساخ ، فتكون الفقرتان على نسق واحد ، ويؤيده ما رواه ابن إدريس في كتاب

١٦٤

وتغاير الفريقان.

٧ ـ الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن جمهور ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من حفظ من أحاديثنا أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة عالما فقيها

______________________________________________________

السرائر مما استطرفه من كتاب أنس العالم للصفواني عن طلحة بن زيد قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : رواة الكتاب كثير ، ورعاته قليل ، فكم من مستنصح للحديث مستغش للكتاب ، والعلماء يحزنهم الدراية ، والجهال يحزنهم الرواية.

قوله عليه‌السلام فراع يرعى حياته : أي حياة نفسه أبدا ونجاته من المهالك وهو الذي يراعي الكتاب ويطلب علمه لله ويعمل به ، وراع يرعى هلكته بالتحريك أي هلاك نفسه وعقابه الأخروي ، وهو الذي ليس مقصوده إلا حفظ لفظ القرآن والحديث وروايتهما من غير تدبر في معانيهما ، أو عمل بهما ، وأما قوله : فعند ذلك أي عند النظر إلى قلوبهم وضمائرهم ، والاطلاع على نياتهم وسرائرهم كما قيل ، أو عند ظهور الحياة والهلاك في الآخرة اختلف الراعيان أي راع الحياة وراعي الهلكة ، أو راعي اللفظ وراعي العمل [ به ] وتغاير الفريقان بعد أن كانا متحدين بحسب الظاهر أو في الدنيا ممدوحين عند جهال الناس.

الحديث السابع ضعيف.

قوله عليه‌السلام أربعين حديثا : هذا المضمون مشهور مستفيض بين الخاصة والعامة بل قيل : إنه متواتر ، واختلف فيما أريد بالحفظ ، فقيل : المراد الحفظ عن ظهر القلب فإنه هو المتعارف المعهود في الصدر السالف ، فإن مدارهم كان على النقش على الخواطر لا على الرسم في الدفاتر ، حتى منع بعضهم من الاحتجاج بما لم يحفظه الراوي عن ظهر القلب ، وقد قيل : إن تدوين الحديث من المستحدثات في المائة الثانية من الهجرة ، وقيل : المراد الحراسة عن الاندراس بما يعم الحفظ عن ظهر القلب والكتابة والنقل بين الناس ولو من كتاب وأمثال ذلك ، وقيل : المراد تحمله

١٦٥

______________________________________________________

على أحد الوجوه المقررة التي سيأتي ذكرها في باب رواية الكتب ، والحق أن للحفظ مراتب يختلف الثواب بحسبها ، فأحدها : حفظ لفظها ، سواء كان في الخواطر أو في الدفاتر ، وتصحيحه واستجازتها وإجازتها وروايتها ، وثانيها : حفظ معانيها والتفكر في دقائقها واستنباط الحكم والمعارف منها ، وثالثها : حفظها بالعمل بها والاعتناء بشأنها والاتعاظ بمودعها ، ويومئ إليه بعض الأخبار ، وفي بعض الروايات هكذا : من حفظ على أمتي أربعين حديثا ، فالظاهر أن على بمعنى اللام أي حفظ لأجلهم كما قالوه في قوله تعالى ( وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ ) (١) أي لأجل هدايته إياكم ، ويحتمل أن يكون بمعنى « من » كما قيل في قوله تعالى ( إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ) (٢) ويؤيده روايات ، ويحتمل تضمين معنى الاشتقاق أو العطف أو التحنن أو أضرابها.

والحديث في اللغة يرادف الكلام ، سمي به لأنه يحدث شيئا فشيئا ، وفي اصطلاح عامة المحدثين كلام خاص منقول عن النبي أو الإمام أو الصحابي أو التابعي أو من من يحذو حذوه ، يحكى قولهم أو فعلهم أو تقريرهم ، وعند أكثر محدثي الإمامية لا يطلق اسم الحديث إلا على ما كان عن المعصوم عليه‌السلام ، وظاهر أكثر الأخبار تخصيص الأربعين بما يتعلق بأمور الدين من أصول العقائد والعبادات القلبية والبدنية ، لا ما يعمها وسائر المسائل من المعاملات والأحكام ، بل يظهر من بعضها كون تلك الأربعين جامعة لأمهات العقائد والعبادات والخصال الكريمة ، والأفعال الحسنة ، وعلى التقادير فالمراد ببعثه فقيها عالما أن يوفقه الله لأن يصير من الفقهاء العالمين العاملين ، أو المراد بعثه في القيامة في زمرتهم لتشبهه بهم ، وإن لم يكن منهم ، وعلى بعض المحتملات الأول أظهر ، وعلى بعضها الثاني كما لا يخفى.

ثم اعلم أن الفقيه يطلق غالبا في الأخبار على العالم العامل الخبير بعيوب النفس وآفاتها ، التارك للدنيا ، الزاهد فيها ، الراغب إلى ما عنده تعالى من نعيمه وقربه ووصاله واستدل بعض الأفاضل بهذا الخبر على حجية خبر الواحد وتوجيهه ظاهر.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٥.

(٢) سورة المطففين : ٢.

١٦٦

٨ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه عمن ذكره ، عن زيد الشحام ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عز وجل ـ ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ) (١) قال قلت ما طعامه قال علمه الذي يأخذه عمن يأخذه.

______________________________________________________

الحديث الثامن مرسل.

قوله تعالى ( إِلى طَعامِهِ ) (٢) بعدها قوله تعالى : ( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً ، وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) (٣).

قوله عليه‌السلام علمه : أقول هذا بطن الآية ولا ينافي كون المراد من ظهرها طعام البدن ، فإنه لما كان ظاهرا لم يتعرض له ، وكما أن البدن محتاج إلى الطعام والشراب لبقائه وقوامه واستمرار حياته كذلك الروح يحتاج في حياته المعنوي بالإيمان إلى العلم والمعارف والأعمال الصالحة ليحيي حياة طيبة ويكون داخلا في قوله تعالى ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) ولا يكون من الذين وصفهم الله تعالى في كلامه العزيز في مواضع شتى بأنهم موتي ، ثم إن الغذاء الجسماني لما كان وجوده ونموه بنزول المطر من السماء إلى الأراضي القابلة لتنشق وتنبت منها أنواع الحبوب والثمار ، وألوان الأزهار والأنوار والأشجار والحشائش ، فيتمتع بها الناس والأنعام فكذلك الغذاء الروحاني يعني العلم الحقيقي إنما يحصل بأن تفيض أمطار العلم والحكمة من سماء الرحمة ـ وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث سماه الله تعالى سماء وأقسم به في مواضع من القرآن ، وبه فسر قوله تعالى ( وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ) وفسر البروج بالأئمة عليه‌السلام على أراضي القلوب القابلة للعلم والحكمة ، فينبت الله تعالى فيها أنواع ثمرات العلم والحكمة أو على قلوب الأئمة عليه‌السلام ، فإنهم شجرة النبوة ليثمروا أنواع ثمرات العلم والحكمة

__________________

(١) سورة عبس : ٢٤.

(٢) سورة الأنعام : ١٢٢.

(٣) سورة البروج : ١.

١٦٧

٩ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن النعمان ، عن عبد الله بن مسكان ، عن داود بن فرقد ، عن أبي سعيد الزهري ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه.

______________________________________________________

ليغتذي بها أرواح القابلين للتربية وينتفع بها غيرهم أيضا من الذين كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، فإنهم أيضا ينتفعون بالعلوم الحقة وإن كان في دنياهم ، كما قال تعالى ( مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) والحاصل على الوجهين أنه ينبغي له أن يأخذ علمه عن أهل بيت النبوة الذين هم مهابط الوحي ، وينابيع الحكمة الآخذين علومهم من رب العزة حتى يصلح أن يصير غذاء لروحه ويحييه حياة طيبة.

الحديث التاسع ضعيف.

قوله عليه‌السلام الوقوف عند الشبهة : أي التثبت عند اشتباه الحكم وعدم وضوحه وترك الحكم والفتوى خير من أن يلقي نفسه فجأه في الهلكة ، وهي بالتحريك الهلاك

قوله عليه‌السلام لم تروه : صفة لقوله حديثا كنظيره أو حال وهو إما على المجهول من باب الأفعال أو التفعيل أي لم تحمل على روايته ، يقال : رويته الشعر أي حملته على روايته ، وأرويته أيضا ، ويمكن أن يقرأ على المعلوم من أحد البابين أي لم تحمل من تروي له على روايته ، أو على بناء المجرد أي تركك حديثا لم تكن راويا له على حاله فلا ترويه خير من روايتك حديثا لم تحصه ، والإحصاء لغة العد ، ولما كان عد الشيء يلزمه الاطلاع على واحد واحد مما فيه ، استعمل في الاطلاع على جميع ما في شيء والإحاطة العلمية التامة بما فيه فإحصاء الحديث عبارة عن العلم بجميع أحواله متنا وسندا وانتهاء إلى المأخذ الشرعي ، وقوله : حديثا لم تحصه ، إظهار في موضع الإضمار ، لكثرة الاعتناء بشأنه لأنه عبارة أخرى عن معنى قوله : حديثا لم تروه.

١٦٨

١٠ ـ محمد ، عن أحمد ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن حمزة بن الطيار أنه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال له كف واسكت ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق قال الله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١).

١١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن سفيان بن عيينة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول وجدت علم الناس كله في أربع أولها

______________________________________________________

الحديث العاشر : حسن أو موثق.

قوله عليه‌السلام كف واسكت : الأمر بالكف عند بلوغ ذلك الموضع إما لأن من عرض الخطبة فسر هذا الموضع برأيه وأخطأ أو لأنه كان في هذا الموضع غموض ولم يتثبت عنده القاري ، ولم يطلب تفسيره منه عليه‌السلام ، أو لأنه عليه‌السلام أراد إنشاء ما أفاد وبيان ما أراد لشدة الاهتمام به ، فأمره بالكف ، ويحتمل أن يكون شرحا وبيانا لهذا الموضع من الخطبة ، والقصد استقامة الطريق أو الوسط بين الطرفين وهو العدل والطريق المستقيم ويحتمل على بعد أن يكون المراد بالقصد مقصود القائل.

قوله عليه‌السلام ويجلوا : أي يذهبوا عنكم فيه العمى أي عمى القلب ، والجهالة والضلالة.

الحديث الحادي عشر : ضعيف.

قوله عليه‌السلام في أربع : أي ما يحتاج الناس إلى معرفته من العلوم منحصر في أربع ، وتأنيث الأربع باعتبار المعرفة المفهومة من قوله عليه‌السلام : أن تعرف في المواضع الآتية ، وتذكير الأول وأخواتها باعتبار العلم ، أو المراد أول أقسامها. أولها : أن تعرف ربك ، بوجوده وصفاته الكمالية الذاتية والفعلية بحسب طاقتك ، وثانيها : معرفتك بما صنع بك من إعطاء العقل والحواس والقدرة ، واللطف بإرسال الرسل وإنزال الكتب

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٧.

١٦٩

أن تعرف ربك والثاني أن تعرف ما صنع بك والثالث أن تعرف ما أراد منك والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك.

١٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما حق الله على خلقه فقال أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه.

١٣ ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن ابن سنان ، عن محمد بن مروان العجلي ، عن علي بن حنظلة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا.

______________________________________________________

وسائر نعمه العظام ، وثالثها : معرفتك بما أراد منك وطلب فعله ، أو الكف عنه وبما أراد من طريق معرفته وأخذه من مأخذه المعلومة بالعقل والنقل ، ورابعها : أن تعرف ما يخرجك من دينك كاتباع أئمة الضلال ، والأخذ من غير المأخذ ، وإنكار ضروري الدين ، ويدخل في هذا القسم معرفة سائر أصول الدين سوى معرفة الله تعالى فإنها من ضروريات الدين ، والإعدام إنما تعرف بملكاتها ، وإن أمكن إدخالها في الأول لأنها من توابع معرفة الله وشرائطه ، ولذا وصف تاركها في الآيات والأخبار بالمشرك ، فعلى هذا يمكن أن يكون المراد بالرابع المعاصي ، ويكون الثالث مقصورا على الطاعات.

الحديث الثاني عشر حسن.

قوله عليه‌السلام أن تقولوا : يمكن تعميم القول بحيث يشمل اللساني والقلبي ، « فقد أدوا إلى الله حقه » اللازم عليهم في بيان العلم وتعليمه ، ومنهم من عمم وقال : لأنه إذا قال ما علمه قولا يدل على إقراره ولا يكذبه بفعله وكف عما لا يعلمه هداه الله إلى علم ما بعده ، وهكذا حتى يؤدي إلى أداء حقوقه.

الحديث الثالث عشر ضعيف.

قوله عليه‌السلام على قدر رواياتهم (١) عنا : أي كيفا أو كما أو الأعم منهما وهو أظهر

__________________

(١) كذا في النسخ وفي المتن « روايتهم ».

١٧٠

١٤ ـ الحسين بن الحسن ، عن محمد بن زكريا الغلابي ، عن ابن عائشة البصري رفعه أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في بعض خطبه أيها الناس اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه الناس

______________________________________________________

وهذا طريق إلى معرفة الرجال غير ما ذكره أرباب الرجال ، وهو أقوى وأنفع في هذا الباب فإن بعض الرواة نرى أخبارهم مضبوطة ليس فيها تشويش كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما وبعضهم ليسوا كذلك كعمار الساباطي ، وكذا نرى بعض الأصحاب أخبارهم خالية عن التقية كعلي بن جعفر ، وبعضهم أكثرها محمولة على التقية كالسكوني وأضرابه ، وكذا نرى بعض الأصحاب رووا مطالب عالية ومسائل غامضة وأسرار كثيرة كهشام بن الحكم ومفضل بن عمر ، ولم نر في أخبار غيرهم ذلك ، وبعضهم رووا أخبارا كثيرة ، وذلك يدل على شدة اعتنائهم بأمور الدين ، وبعضهم ليسوا كذلك وكل ذلك من مرجحات الرواة ويظهر الجميع بالتتبع التام فيها.

الحديث الرابع عشر مرسل والغلابي بالغين المعجمة والباء الموحدة ، نسبة إلى غلاب لأنه كان مولى بني غلاب وهم قبيلة بالبصرة.

قوله عليه‌السلام من انزعج : قال الجوهري أزعجه أي أقلعه من مكانه فانزعج « انتهى » أي أن العاقل لا يضطرب ولا ينقلع من مكانه بسبب سماع قول الزور والكذب والبهتان فيه ، لأنه لا يضره بل ينفعه والحكيم لا يرضى بثناء الجاهل بحاله ، ومعائبه عليه ، لأنه لا ينفعه بل يضره ، وقيل : لأن الحكيم عارف بأسباب الأشياء ومسبباتها ، وأن التخالف يوجب التنافر ، وأن الجاهل لا يميل إلا إلى مشاكلة فلا يثني إلا على الجاهل ، أو من يعتقد جهله أو مناسبته له ، أو يستهزئ به باعتقاده أو من يريد أن يخدعه ، والحكيم لا يرضى بشيء من ذلك ، ويمكن تفسيره بوجه آخر وهو أنه لما كان الجاهل عاجزا عن حق إدراك العلم والحكمة والصفات الكمالية التي يتصف الحكيم بها بل كل ما يتصوره من تلك الكمالات ، فإنما يتصوره على وجه هو في الواقع منقصة ، فثناؤه عليه إنما هو بالمعاني المذمومة التي تصورها من تلك الكمالات ، فبالحقيقة مدحه

١٧١

أبناء ما يحسنون وقدر كل امرئ ما يحسن فتكلموا في العلم تبين أقداركم.

١٥ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن أبان بن عثمان ، عن عبد الله بن سليمان قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول وعنده رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعمى وهو يقول إن الحسن البصري يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار فقال أبو جعفر عليه‌السلام فهلك إذن مؤمن آل فرعون

______________________________________________________

ذم وثناؤه هجاء ، فلذا قال العارفون بجنابة سبحانه : لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك فإنهم لا يقصدون من الأسماء التي يطلقونه عليه تعالى ما فهموه منها ، بل يقصدون المعاني التي أراده تعالى وهم عاجزون عن فهمها.

قوله عليه‌السلام أبناء ما يحسنون : من الإحسان بمعنى العلم ، يقال أحسن الشيء أي تعلمه فعلمه حسنا ، وقيل : ما يحسنون أي ما يأتون به حسنا من العلم والعمل والأول أظهر ، والمعنى أنه ليس شرف المرء وافتخاره بأبيه وأمه بل بعلمه ، أو المراد أنهم إن كانوا يعلمون علم الآخرة فهم أبناء الآخرة ، وإن كانوا يعلمون علم الدنيا فهم أبناؤها ، أو المراد أنه كما أن نظام حال الابن وصلاحه بالأب كذا نظام حال الناس وصلاحهم بما يعلمونه ، وقوله عليه‌السلام : وقدر كل امرء ما يحسن ، أي مرتبته في العز والشرف بقدر ما يعلمه.

الحديث الخامس عشر ضعيف.

قوله عليه‌السلام فهلك أذن : أي إن كان الكتمان مذموما يكون مؤمن آل فرعون هالكا حيث قال تعالى فيه ( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ) (١) ولما كان غرض الحسن إظهار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عنده علم سوى ما في أيدي الناس وتكذيبهم عليهم‌السلام فيما يدعون أن عندهم من علوم النبي وإسراره ما ليس في أيدي الناس ، وأنهم يظهرون من ذلك ما يشاءون ويكتمون ما يشاءون للتقية وغيرها من المصالح ، أبطل عليه‌السلام قوله بأن الكتمان عند التقية أو الحكمة المقتضية له طريقة مستمرة من

__________________

(١) سورة غافر : ٢٨.

١٧٢

ما زال العلم مكتوما منذ بعث الله نوحا ع فليذهب الحسن يمينا وشمالا فو الله ما يوجد العلم إلا هاهنا.

باب رواية الكتب والحديث

وفضل الكتابة والتمسك بالكتب

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن يونس ، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قول الله جل ثناؤه ـ ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (١) قال هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه لا يزيد فيه ولا ينقص منه.

______________________________________________________

زمن نوح عليه‌السلام إلى الآن ، فليذهب الحسن الذي يزعم انحصار العلم فيما في أيدي الناس يمينا وشمالا أي إلى كل جهة وجانب ليطلبه من الناس ، فإنه لا يوجد عندهم أكثر المعارف والشرائع.

قوله عليه‌السلام إلا هيهنا ، لعله أشار إلى صدره الشريف أو إلى مكانه المنيف أو إلى بيت النبوة والخلافة.

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب

الحديث الأول موثق.

قوله عليه‌السلام فيحدث به كما سمعه ، لعله عليه‌السلام جعل الأحسن مكان المفعول المطلق والضمير راجع إلى الأتباع كما أومأنا إليه في حديث هشام ، فالمعنى أن أحسن الاتباع أن يرويه كما سمعه بلا زيادة ونقصان ويومئ إلى جواز النقل بالمعنى بمقتضى صيغة التفضيل ، وعلى ما ذكرنا سابقا من التفسير المشهور يكون تفسير المعنى الاتباع أي اتباع الأحسن لا يكون إلا بأن يتبعه قولا وفعلا من غير زيادة ونقص ، ويؤيد الأخير قوله تعالى ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢).

__________________

(١) سورة الزمر : ١٨.

(٢) سورة الزمر : ٥٥.

١٧٣

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن محمد بن مسلم قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص قال إن كنت تريد معانيه فلا بأس.

______________________________________________________

الحديث الثاني صحيح.

قوله عليه‌السلام إن كنت تريد معانيه : أي إن كنت تقصد حفظ معانيه فلا تختل بالزيادة والنقصان ، فلا بأس بأن تزيد وتنقص في العبارة ، وقيل : إن كنت تقصد وتطلب بالزيادة والنقصان إفادة معانيه فلا بأس ، وعلى التقديرين يدل على جواز نقل الحديث بالمعنى ، وتفصيل القول في ذلك أنه إذا لم يكن المحدث عالما بحقائق الألفاظ ومجازاتها ومنطوقها ومفهومها ومقاصدها لم تجز له الرواية ، وأما إذا كان ألما بذلك فقد قال طائفة من العلماء لا تجوز إلا باللفظ أيضا ، وجوز بعضهم في غير حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، قال : لأنه أفسح من نطق بالضاد ، وفي تراكيبه أسرار ودقائق لا يوقف عليها إلا بها كما هي ، لأن لكل تركيب معنى بحسب الوصل والفصل والتقديم والتأخير وغير ذلك لو لم يراع ذلك لذهبت مقاصدها ، بل لكل كلمة مع صاحبتها خاصية مستقلة كالتخصيص والاهتمام وغيرهما ، وكذا الألفاظ المشتركة والمترادفة ، ولو وضع كل موضع الآخر لفات المعنى المقصود ، ومن ثم قال النبي صلى الله وعليه وآله نصر الله عبدا سمع مقالتي وحفظها ووهاها وأداها كما سمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، وكفى هذا الحديث شاهدا بصدق ذلك ، وأكثر الأصحاب جوزوا ذلك مطلقا مع حصول الشرائط المذكورة ، وقالوا : كلما ذكرتم خارج عن موضوع البحث لأنا إنما جوزنا لمن يفهم الألفاظ ، ويعرف خواصها ومقاصدها ، ويعلم عدم اختلال المراد بها فيما أداه ، وقد ذهب جمهور السلف والخلف من الطوائف كلها ، إلى جواز الرواية بالمعنى إذا قطع بأداء المعنى بعينه ، لأنه من المعلوم أن الصحابة وأصحاب الأئمة عليه‌السلام لم يكونوا يكتبون الأحاديث

١٧٤

٣ ـ وعنه ، عن محمد بن الحسين ، عن ابن سنان ، عن داود بن فرقد قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إني أسمع الكلام منك فأريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجيء قال فتعمد ذلك قلت لا فقال تريد المعاني قلت نعم قال فلا بأس.

______________________________________________________

عند سماعها ، ويبعد بل يستحيل عادة حفظهم جميع الألفاظ على ما هي عليه ، وقد سمعوها مرة واحدة خصوصا في الأحاديث الطويلة مع تطاول الأزمنة ، ولهذا كثيرا ما يروى عنهم المعنى الواحد بألفاظ مختلفة ، ولم ينكر ذلك عليهم ، ولا يبقى لمن تتبع الأخبار في هذا شبهة ، نعم لا مرية في أن روايته بلفظه أولى على كل حال ، لا سيما في هذه الأزمان لبعد العهد وفوت القرائن وتغير المصطلحات ، وبالغ بعضهم فقال : لا يجوز تغيير « قال النبي » إلى « قال رسول الله » ولا عكسه وهو عنت بين بغير ثمرة ، وقال بعض الأفاضل : نقل المعنى إنما جوزوه في غير المصنفات ، أما المصنفات فقد قال أكثر الأصحاب لا يجوز حكايتها ونقلها بالمعنى ، ولا تغيير شيء منها على ما هو المتعارف وهو أحوط.

الحديث الثالث ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام فتعمد ذلك : بالتائين وفي بعض النسخ بحذف إحداهما للتخفيف والتعمد القصد يقال تعمدت الشيء أي قصدته ، يعني أتتعمد ترك حفظ الألفاظ وعدم المبالاة بضبطها ، أو أنت نسي يقع ذلك منك بغير تقصير ، أو المعنى أفتقصد وتريد أن ترويه كيف ما يجيء زائدا على إفادة المعنى المقصود أو ناقصا عنه « قال : تريد المعاني » أي أتريد رواية المعاني ونقلها بألفاظ غير مسموعة وعبارات مفيدة من غير زيادة ونقصان فيها ، ويمكن أن يقال : لما كان قول السائل يحتمل وجهين أحدهما عدم المجيء أصلا ، والآخر عدمه بسهولة استفهم عليه‌السلام وقال : أفتقصد عدم المجيء وتريده عمدا وتترك اللفظ المسموع لأجل الصعوبة فأجاب السائل بأن المراد الأمر الأول ، وما في بعض النسخ من قوله : فتعمد بالتاء الواحدة قيل : يجوز أن يكون من المجرد يقال : عمدت الشيء فانعمد ، أي أقمته بعماد معتمد عليه ، أو من باب الأفعال يقال أعمدته أي جعلت تحته عمادا ، والمعنى في الصورتين أفتضم إليه شيئا من عندك تقيمه وتصلحه به ، كما يقام الشيء بعماد يعتمد عليه.

١٧٥

٤ ـ وعنه ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك قال سواء إلا أنك ترويه عن أبي أحب إلي وقال أبو عبد الله عليه‌السلام لجميل ما سمعت مني فاروه عن أبي.

٥ ـ وعنه ، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله

______________________________________________________

الحديث الرابع ضعيف.

قوله : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام أما كلام أبي بصير أو خبر آخر مرسل.

قوله عليه‌السلام : سواء : لأن علومهم كلهم من معدن واحد ، بل كلهم من نور واحد ، كما سيأتي ، وأما أحبية الرواية عن الأب فلعله للتقية ، فإن ذلك أبعد من الشهرة والإنكار ، وأيضا فإن قول الماضي أقرب إلى القبول من قول الشاهد عند الجماهير ، لأنه أبعد من أن يحسد ويبغض ، وقيل فيه وجه آخر ، وهو أن علو السند وقرب الإسناد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما له رجحان عند الناس في قبول الرواية ، خصوصا فيما يختلف فيه الأحكام ، وفيه وجه آخر وهو أن من الواقفية من توقف على الأب فلا يكون قول الابن حجة عليه فيما يناقض رأيه ، بخلاف العكس إذ القائل بإمامة الابن قائل بإمامة الأب من دون العكس كليا ، ووجه رابع أيضا وهو التحرز عن إيهام الكذب فيما إذا سمع من الأب من سماعه بخصوصه من الابن ، وذلك لأن كل مقول لأبي عبد الله عليه‌السلام مقول لأبيه لفظا ، فهو مسموع من أبيه ولو بالواسطة بخلاف العكس ، لأنه يجوز عدم تلفظه ببعض ما سمعه من أبيه بعد ، وإن كان موافقا لعلمه واعتقاده ، قيل : ويحتمل تعلقه بالأخيرة فقط ، أي رواية المسموع من أبي عنه أحب إلى من روايته عني للوجوه المذكورة لا سيما الرابع ، وقوله : ترويه مبتدأ بتقدير أن كقولك : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.

الحديث الخامس صحيح ، ويدل على جواز تحمل الحديث بالإجازة وحمل الأصحاب قراءة الأحاديث الثلاثة على الاستحباب ، والأحوط العمل به ، ولنذكر ما به

١٧٦

ابن سنان قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام يجيئني القوم فيستمعون مني حديثكم فأضجر

______________________________________________________

يتحقق تحمل الرواية والطرق التي تجوز بها رواية الأخبار.

اعلم أن لأخذ الحديث طرقا أعلاها سماع الراوي لفظ الشيخ ، أو إسماع الراوي لفظه إياه بقراءة الحديث عليه ، ويدخل فيه سماعه مع قراءة غيره على الشيخ ، ويسمى الأول بالإملاء والثاني بالعرض ، وقد يقيد الإملاء بما إذا كتب الراوي ما يسمع من شيخه ، وفي ترجيح أحدهما على الآخر والتسوية بينهما أوجه ، ومما يستدل به على ترجيح السماع من الشيخ على إسماعه هذا الخبر ، فلو لا ترجيح قراءة الشيخ على قراءة الراوي لأمره بترك القراءة عند التضجر ، وقراءة الراوي مع سماعه إياه ، ولا خلاف في أنه يجوز للسامع أن يقول في الأول حدثنا وأنبأنا ، وسمعته يقول ، وقال لنا ، وذكر لنا ، هذا كان في الصدر الأول ثم شاع تخصيص أخبرنا بالقراءة على الشيخ ، وأنبأنا ونبأنا بالإجازة ، وفي الثاني مشهور جواز قول أخبرني وحدثني مقيدين بالقراءة على الشيخ ، وما ينقل عن السيد ممن منعه مقيدا أيضا بعيد ، واختلف في الإطلاق فجوزه بعضهم ومنعه آخرون ، وفصل ثالث فجوز أخبرني ومنع حدثني ، واستند إلى أن الشائع في استعمال أخبرني هو قراءته على الشيخ ، وفي استعمال حدثني هو سماعه عنه ، وفي كون الشياع دليلا على المنع من غير شائع نظر.

ثم إن صيغة حدثني وشبهها فيما يكون الراوي متفردا في المجلس ، وحدثنا وأخبرنا فيما يكون مجتمعا مع غيره ، فهذان قسمان من أقسامها ، وبعدهما الإجازة ، سواء كان معينا لمعين كإجازة الكافي لشخص معين أو معينا لغير معين كإجازته لكل أحد ، أو غير معين لمعين كأجزتك مسموعاتي أو غير معين كأجزت كل أحد مسموعاتي ، كما حكي عن بعض أصحابنا أنه أجاز على هذا الوجه ، وفي إجازة المعدوم نظر إلا مع عطفه على الموجود ، وأما غير المميز كالأطفال الصغيرة فالمشهور الجواز ، وفي جواز إجازة المجاز وجهان للأصحاب ، والأصح الجواز وأفضل

١٧٧

ولا أقوى قال فاقرأ عليهم من أوله حديثا ومن وسطه حديثا ومن آخره حديثا

______________________________________________________

أقسامها ما كانت على وفق هذه الصحيحة بأن يقرأ عليه من أو له حديثا ومن وسطه حديثا ومن آخره حديثا ، ثم يجيزه ، بل الأولى الاقتصار عليه ، ويحتمل أن يكون المراد بالأول والأوسط والآخر الحقيقي منها أو الأعم منه ومن الإضافي ، والثاني أظهر وإن كان رعاية الأول أحوط وأولى ، وبعدها المناولة وهي مقرونة بالإجازة وغير مقرونة ، والأولى هي أن يناوله كتابا ويقول هذا روايتي فاروه عني أو شبهه ، والثانية أن يناوله إياه ويقول هذا سماعي ويقتصر عليه ، وفي جواز الرواية بالثاني قولان ، والأظهر الجواز لما سيأتي من خبر الحلال ، وهل يجوز إطلاق حدثنا وأخبرنا في الإجازة والمناولة؟ قولان ، وأما مع التقييد بمثل قولنا إجازة ومناولة فالأصح جوازه واصطلح بعضهم على قولنا أنبأنا وبعدها المكاتبة وهي أن يكتب مسموعة لغائب بخطه ويقرنه بالإجازة أو يعريه عنها ، والكلام فيه كالكلام في المناولة ، والظاهر عدم الفرق بين الكتابة التفصيلية والإجمالية كان يكتب الشيخ مشيرا إلى مجموع محدود إشارة يأمن معها اللبس والاشتباه : هذا مسموعي ومرويي فاروه عني.

والحق أنه مع العلم بالخط والمقصود بالقرائن لا فرق يعتد به بينه وبين سائر الأقسام ككتابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كسرى وقيصر مع أنها كانت حجة عليهم ، وكتابة أئمتنا عليه‌السلام الأحكام إلى أصحابهم في الأعصار المتطاولة ، والظاهر أنه يكفي الظن الغالب أيضا في ذلك وبعدها الإعلام وهو أن يعلم الشيخ الطالب أن هذا الحديث أو الكتاب سماعه ، وفي جواز الرواية به قولان ، والأظهر الجواز لما سيأتي في خبر الحلال وابن أبي خالد ، ويقرب منه الوصية وهي أن يوصي عند سفره أو موته بكتاب يرويه فلان بعد موته ، وقد جوز بعض السلف للموصى له روايته ويدل عليه خبر ابن أبي خالد

والثامن : الوجادة وهي أن يقف الإنسان على أحاديث بخط راويها أو في كتابه المروي له معاصرا كان أو لا ، فله أن يقول : وجدت أو قرأت بخط فلان أو في كتابه حدثنا فلان يسوق الإسناد والمتن ، وهذا هو الذي استمر عليه العمل حديثا وقديما ، وهو من باب

١٧٨

٦ ـ عنه بإسناده ، عن أحمد بن عمر الحلال قال قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول اروه عني يجوز لي أن أرويه عنه قال فقال إذا علمت أن الكتاب له فاروه عنه.

٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعن أحمد بن محمد بن خالد ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا حدثتم بحديث فأسندوه إلى الذي حدثكم فإن كان حقا فلكم وإن كان كذبا فعليه.

٨ ـ علي بن محمد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد ، عن أبي أيوب المدني ، عن ابن

______________________________________________________

المنقطع ، وفيه شوب اتصال ويجوز العمل به وروايته عند كثير من المحققين عند حصول الثقة بأنه خط المذكور أو روايته وإلا قال بلغني عنه أو وجدت في كتاب أخبرني فلان أنه خط فلان أو روايته ، أو أظن أنه خطه أو روايته لوجود آثار روايته له بالبلاغ ونحوه ، يدل على جواز العمل بها خبر ابن أبي خالد ، وربما يلحق بهذا القسم ما إذا وجد كتابا بتصحيح الشيخ وضبطه ، والأظهر جواز العمل بالكتب المشهورة المعروفة التي يعلم انتسابها إلى مؤلفيها ، كالكتب الأربعة ، وسائر الكتب المشهورة ، وإن كان الأحوط تصحيح الإجازة والإسناد في جميعها.

الحديث السادس مرسل.

قوله عليه‌السلام فاروه عنه : أي إعطاء الكتاب لمن يعلم أنه من مروياته كاف في الرواية أو المراد أن العلم بأن الكتاب له ومن مروياته كاف للرواية عنه ، سواء أعطي الكتاب أم لا.

الحديث السابع ضعيف على المشهور ويدل على مطلوبية ترك الإرسال بل لزومه.

وقوله عليه‌السلام إذا حدثتم : يحتمل أن يكون على بناء المعلوم أو المجهول ، ولا يبعد تعميم الحديث بحيث يشمل أخبار الناس أيضا.

الحديث الثامن مجهول.

١٧٩

أبي عمير ، عن حسين الأحمسي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال القلب يتكل على الكتابة.

٩ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن ابن بكير ، عن عبيد بن زرارة قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها.

١١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي ، عن بعض أصحابه ، عن أبي سعيد الخيبري ، عن المفضل بن عمر قال قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام اكتب وبث علمك في إخوانك فإن مت فأورث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام يتكل على الكتابة : الاتكال الاعتماد ، أي إذا كتبتم ما سمعتم اطمأنت نفوسكم لتمكنكم من الرجوع إلى الكتاب إذا نسيتم ، وفيه حث على كتابة الحديث ، ويحتمل أن يكون المراد الترغيب على الحفظ بدون الكتابة ، فإن مع الكتابة يتكل القلب عليه ، ولا يسعى في حفظ الحديث والأول أظهر.

الحديث التاسع ضعيف على المشهور ويؤيد المعنى الأول للخبر السابق.

الحديث العاشر موثق كالصحيح.

قوله عليه‌السلام فإنكم سوف تحتاجون إليها : أي في زمان غيبة الإمام أو الأعم منه ومن زمان بعض الأئمة المستورين عن أكثر شيعتهم لخوف المخالفين.

الحديث الحادي عشر ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام فأورث كتبك : أي اجعلها بحيث يصل إليهم بعدك ، ويبقى في أيديهم أو علمهم علمها وحملهم روايتها ، والهرج : الفتنة والاختلاف ، وهو زمان الغيبة فإنه يكثر فيه الفتنة ، واختلاط الحق بالباطل ، ويدل على جواز الرجوع إلى الكتب في ذلك الزمان.

١٨٠