مرآة العقول - ج ١

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

أَحَدٌ ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله ( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ذلك فقد هلك.

٤ ـ محمد بن أبي عبد الله رفعه ، عن عبد العزيز بن المهتدي قال سألت الرضا عليه‌السلام عن التوحيد فقال كل من قرأ ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) وآمن بها فقد عرف التوحيد قلت كيف يقرأها قال كما يقرأها الناس وزاد فيه كذلك الله ربي كذلك الله ربي.

باب النهي عن الكلام في الكيفية

١ ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب

______________________________________________________

غير مدرك بالحواس والعقول ، وبقوله ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) على عموم علمه ثم بقوله : ( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) على استواء نسبته سبحانه إلى المعلولات فلا يختلف بالقرب والبعد ، وظهور الشيء وخفائه وبقوله ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) على إحاطة علمه بجميع الأشخاص والأمكنة ، فلا يعزب عنه سبحانه شيء منها ، وبقوله ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ) إلخ على أنه يأتي بآيات الظهور والخفاء والكشف والسر ، وأنه لا يفوت شيئا من مصالح العباد ، وأن الموجودات بالوجود العلمي ومخزونات النفوس والصدور التي هي أخفى الأشياء ظاهرة عليه أعلى مراتب الكشف والظهور.

الحديث الرابع : مرفوع.

قوله عليه‌السلام وآمن بها ، أي بقدر فهمه وحوصلته وإدراكه ، فلكل من العوام والخواص وأخص الخواص حظ من هذه السورة ، ويجب عليه الإيمان بها بحسب حاله ، فيقول بعد قراءتها قولا وعقدا « كذلك الله ربي » مرتين ، وفي سائر الأخبار ثلاثا في الصلاة وغيرها ، إظهارا للإيمان واستكمالا له.

باب النهي عن الكلام في الكيفية

الحديث الأول : ضعيف وآخره مرسل.

٣٢١

عن أبي بصير قال قال أبو جعفر عليه‌السلام تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيرا.

وفي رواية أخرى ، عن حريز تكلموا في كل شيء ولا تتكلموا في ذات الله.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن سليمان بن خالد قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن الله عز وجل يقول ـ ( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) (١) فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام يا محمد إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله فإذا سمعتم ذلك فقولوا لا إله إلا الله الواحد الذي ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام تكلموا في خلق الله : هو أمر إباحة ، والنهي في « لا تتكلموا » للتحريم ، فإن الكلام في الله أي في كنه ذاته وصفاته وكيفيتهما أو المراد المجادلة في إثبات الواجب لمن لم يكن أهلا له ، والأول أظهر ، وأما الكلام فيه سبحانه لا على الوجهين بل بأن يذكره بما وصف به نفسه فغير منهي عنه لأحد.

الحديث الثاني : صحيح.

قوله تعالى ( وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) المنتهى مصدر ميمي بمعنى الانتهاء ، فالمشهور بين المفسرين أن المعنى أن انتهاء الخلائق ورجوعهم إليه تعالى ، وعلى تفسيره عليه‌السلام المراد انتهاء التفكر والتكلم إليه تعالى.

الحديث الثالث : حسن.

قوله عليه‌السلام : بهم المنطق : أي لهم أو معهم ، وعلى الأخير الضمير للمخالفين.

قوله عليه‌السلام : فقولوا ، أي إذا سمعتم الكلام في الله فاقتصروا على التوحيد ، ونفي الشريك منبها على أنه لا يجوز الكلام فيه ، وتبيين معرفته إلا بسلب التشارك بينه وبين غيره ، وأنه إحدى الذات ، ليس أجزاء في ذاته ، ولا ذا كيفية في صفاته ، ولا مثل لذاته ولا شبه لصفاته ، فلا يمكن لأحد معرفتهما بشيء من الأشياء.

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣.

٣٢٢

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن حمران ، عن أبي عبيدة الحذاء قال قال أبو جعفر عليه‌السلام يا زياد إياك والخصومات فإنها تورث الشك وتهبط العمل وتردي صاحبها وعسى أن يتكلم بالشيء فلا يغفر له إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به وطلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله فتحيروا حتى إن كان الرجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه وفي رواية أخرى حتى تاهوا في الأرض.

______________________________________________________

الحديث الرابع : مجهول كالصحيح.

قوله عليه‌السلام : إياك والخصومات ، أي المجادلات الكلامية والمناظرات التعصبية قصدا للغلبة ، فإنها منبع أكثر الأخلاق الذميمة ، قيل : أن نسبتها إلى الفواحش الباطنة كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة فإنها تورث الشك لأنها تؤدي إلى ميل النفس إلى أحد الطرفين فيشك فيما لا ينبغي أن يشك فيه ، ويلحقه بهذه الخطيئة من لا يسلم معه أجر عمله ، أو يكون عمله حينئذ مقارنا للشك فلا يؤجر عليه لاشتراطه بالإيمان ، وعسى أن يتكلم بالشيء في أثناء المناظرة لميل نفسه إلى المدافعة فلا يغفر له لكونه كفرا « ما وكلوا به » بالتشديد على المجهول أي أمروا بتحصيله وأقدروا عليه كمعرفة الحلال والحرام ، « وطلبوا علم ما كفوه » أي ما أسقط عنهم وكفوا مؤنته ، كمعرفة حقائق الأشياء « حتى انتهى كلامهم إلى الله » فتكلموا في حقيقة ذاته أو حقيقة صفاته الحقيقية « فتحيروا » وذلك لأن اشتغال القوة الدراكة بما تعجز عنه يزيدها حيرة وعجزا عن الدرك ، كما أن حمل القوة الباصرة على رؤية الشمس يزيدها عجزا عن الرؤية ، بل ربما يؤدي إلى العمى « فيجيب من خلفه » بفتح الميم أو كسرها ، وكذا الفقرة الثانية.

قوله عليه‌السلام حتى تاهوا في الأرض : أي تحيروا ولم يهتدوا إلى الطريق الواضح في المحسوسات والمبصرات فضلا عن الخفايا من المعقولات.

٣٢٣

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابه ، عن الحسين بن المياح ، عن أبيه قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول من نظر في الله كيف هو هلك.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن زرارة بن أعين ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن ملكا عظيم الشأن كان في مجلس له فتناول الرب تبارك وتعالى ففقد فما يدرى أين هو.

٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إياكم والتفكر في الله ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه.

٨ ـ محمد بن أبي عبد الله رفعه قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام يا ابن آدم لو أكل قلبك

______________________________________________________

الحديث الخامس : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : من نظر في الله كيف هو : أي أثبت له الكيفية الجسمانية ونظر فيها أو رام أن يعرف كنه صفاته الحقيقية وتأمل فيها « هلك » لاعتقاده فيه ما ليس فيه.

الحديث السادس : موثق كالصحيح.

قوله عليه‌السلام : إن ملكا : بكسر اللام ، والفتح بعيد.

قوله عليه‌السلام فتناول الرب : أي تكلم أو تفكر في كنه الذات والصفات « ففقد » أي من مكانه بغضب الله أو تحير في الأرض وسار فلم يعرف له خبرا. وبالمعلوم أي ففقد ما كان يعرف وكان لا يدري هو في أي مكان من الحيرة.

الحديث السابع : صحيح.

قوله عليه‌السلام إلى عظم خلقه : أي لتستدلوا به على عظمته وأن عظمته أجل من أن يشبه عظمة خلقه ، وكذا سائر الصفات فذكرها على المثال.

الحديث الثامن : مرفوع ، ويمكن أن يكون المراد التنبيه بصغر الأعضاء

٣٢٤

طائر لم يشبعه وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطاه تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض إن كنت صادقا فهذه الشمس خلق من خلق الله فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول.

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن علي ، عن اليعقوبي ، عن بعض أصحابنا ، عن عبد الأعلى مولى آل سام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن يهوديا يقال له ـ سبخت جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله جئت أسألك عن ربك فإن أنت أجبتني عما أسألك عنه وإلا رجعت قال سل عما شئت قال أين ربك قال هو في كل مكان وليس في شيء من المكان المحدود قال وكيف هو قال وكيف

______________________________________________________

وحقارة القوى الظاهرة على ضعف قوي الباطنة أي كما لا يقدر بصرك الظاهر على تحديق النظر إلى الشمس فكيف يقدر عين قلبك على مطالعة شمس ذاته وأنوار جلاله ، أو المراد أن العين يعجز عن رؤية بعض المحسوسات فكيف ما لا يدركه حس ولا يحيط به جهة ، فيكون تنبيها على عجز القوي الجسمانية عن إدراكه سبحانه ، فالمراد بالملكوت مالك الملكوت أي إذا لم تقدر على رؤية سائر الملكوت فكيف المالك ، قال بعض المحققين : نبه بصغر الأعضاء وحقارة القوي الجسمانية وعجزها عن إدراك الإضواء والأنوار على عجزها عن إدراك ملكوت السماوات والأرض ، والمراد بملكوت السماوات والأرض آثار عظمة الله سبحانه وملكه وسلطانه ، وما يظهر به عزه وعظمته ومعظمها النفوس والأرواح ، ولا يحيط بها القوي الجسمانية ولا يقوى على إدراكها.

الحديث التاسع : مرسل.

قوله عليه‌السلام من المكان المحدود : أي المعين أو المحدود ، مع أنه تعالى غير محدود ، والحاصل أن القرب والحضور على قسمين قرب المفارقات والمجردات وحضورها بالإحاطة العلمية بالأشياء ، وقرب المقارنات وذوات الأوضاع وحضورها بالحصول الأيني والمقارنة الوضعية في الأمكنة ، ومع المتمكنات والمتحيزات ، وحضور الحق تعالى من الأول دون الثاني.

٣٢٥

أصف ربي بالكيف والكيف مخلوق والله لا يوصف بخلقه قال فمن أين يعلم أنك نبي الله قال فما بقي حوله حجر ولا غير ذلك إلا تكلم بلسان عربي مبين يا سبخت إنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال سبخت ما رأيت كاليوم أمرا أبين من هذا ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

١٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن يحيى الخثعمي ، عن عبد الرحمن بن عتيك القصير قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن شيء من الصفة فرفع يده إلى السماء ثم قال تعالى الجبار تعالى الجبار من تعاطى ما ثم هلك.

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : كيف أصف ربي بالكيف؟ أي بصفة زائدة على ذاته ، وكل ما يغاير ذاته مخلوق ، والله لا يوصف بخلقه ، لأنه لا يجوز حلول غيره فيه ، لأنه يوجب استكماله بغيره وكونه في مرتبة إيجاده ناقصا ، وأيضا لا يتحقق الحلول إلا بقوة في المحل وفعلية الحال ، وهو سبحانه لا يصح عليه قوة الوجود ، لأن قوة الوجود عدم ، وهو بريء في ذاته من كل وجه من العدم.

قوله : ما رأيت كاليوم ، قوله كاليوم ظرف للرؤية وأمرا مفعوله الأول ، وأبين مفعوله الثاني أي ما رأيت في يوم مثل هذا اليوم أمرا أوضح من هذا الأمر ، وأبين صفة لأمرا أو كاليوم مفعول الرؤية وأمرا بدله ، أو أمرا مفعول لمقدر أي أطلب أمرا أوضح من هذا.

الحديث العاشر : مجهول.

قوله عليه‌السلام فرفع يده : إما على سبيل الامتناع والإباء أو الدعاء أو للإشارة إلى ملكوت السماء فإنها محل ظهور قدرته تعالى.

قوله عليه‌السلام تعالى الجبار : أي عن أن يوصف بصفة زائدة على ذاته ، وعن أن يكون لصفته الحقيقية بيان حقيقي.

قوله من تعاطى : أي تناول بيان ما ثم من صفاته الحقيقية العينية « هلك » وضل ضلالا بعيدا ، وفي القاموس : التعاطي : التناول ، وتناول ما لا يحق ، والتنازع في الأخذ ، وركوب الأمر.

٣٢٦

باب في إبطال الرؤية

١ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن علي بن أبي القاسم ، عن يعقوب بن إسحاق قال كتبت إلى أبي محمد ع أسأله كيف يعبد العبد ربه وهو لا يراه فوقع ع يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي والمنعم علي وعلى آبائي أن يرى قال وسألته هل رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ربه فوقع ع إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور

______________________________________________________

باب في إبطال الرؤية

الحديث الأول : مجهول أو صحيح.

وظن أصحاب الرجال أن يعقوب بن إسحاق هو ابن سكيت ، والظاهر أنه غيره لأن ابن سكيت قتله المتوكل في زمان الهادي عليه‌السلام ولم يلحق أبا محمد عليه‌السلام.

قوله عليه‌السلام والمنعم علي وعلى آبائي : أي بما أنعم عليهم من كمال العلم والمعرفة فهو في أعلى مراتب التجرد ، وكل ما يكون في أعلى مراتب التجرد لا يدرك بحاسة البصر ، إذ لا صورة مادية له ولا أبصار إلا بحصول صورة مادية للمبصر ، فكمال معرفته أن يعرف بأنه لا يمكن أن يدرك بالبصر.

قوله عليه‌السلام أرى رسوله بقلبه : أي كان رؤيته بالقلب بأن أراه الله وعرفه من سمات كماله وصفات جلاله وعظمة آياته ما أحب أن يعرفه ، والمراد أن رؤيته له معرفته بالقلب لا بحقيقته بل بصفاته وأسمائه وآياته ، واعلم أن الأمة اختلفوا في رؤية الله سبحانه على أقوال ، فذهبت الإمامية والمعتزلة إلى امتناعها مطلقا ، وذهبت المشبهة والكرامية إلى جواز رؤيته تعالى في الجهة والمكان ، لكونه تعالى عندهم جسما ، وذهبت الأشاعرة إلى جواز رؤيته تعالى منزها عن المقابلة والجهة والمكان ، وقال الآبي في إكمال الإكمال نقلا عن بعض علمائهم : أن رؤية الله تعالى جائزة في الدنيا عقلا ، واختلف في وقوعها وفي أنه هل رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الأسرى أم لا

٣٢٧

عظمته ما أحب.

٢ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى قال سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية فقال أبو الحسن عليه‌السلام فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) و ( لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) أليس محمد قال بلى قال كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) و ( لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ثم

______________________________________________________

فأنكرته عائشة وجماعة من الصحابة والتابعين والمتكلمين ، وأثبت ذلك ابن عباس ، وقال : إن الله اختصه بالرؤية ، وموسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلة ، وأخذ به جماعة من السلف والأشعري في جماعة من أصحابه ، وابن حنبل والحسن ، وتوقف فيه جماعة ، هذا حال رؤيته في الدنيا ، وأما في الآخرة فجائزة عقلا ، وأجمع على وقوعها أهل السنة وأحالها المعتزلة والمرجئة والخوارج ، والفرق بين الدنيا والآخرة أن القوي والإدراكات ضعيفة في الدنيا حتى إذا كانوا في الآخرة وخلقهم للبقاء قوي إدراكهم فأطاقوا رؤيته « انتهى » وقد دلت الآيات الكريمة والبراهين المتينة وإجماع الشيعة والأخبار المتواترة عن أهل بيت العصمة سلام الله عليهم على امتناعها في الدنيا والآخرة ، وستعرف بعضها فيما سيأتي.

الحديث الثاني : صحيح.

قوله : ولا يحيطون : وجه الدلالة أن الإبصار إحاطة علمية ، قوله « و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) » وجه الدلالة أن الإبصار إنما يكون بصورة للمرئي وهو شيء يماثله ويشابهه وإلا لم يكن صورة له ، أو أن الرؤية تستلزم الجهة والمكان وكونه جسما أو جسمانيا فيكون مثل الممكنات.

٣٢٨

يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر أما تستحون ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر قال أبو قرة فإنه يقول ـ ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) فقال أبو الحسن عليه‌السلام

______________________________________________________

قوله : أن ترميه أي الرسول « بهذا » أي بالنقيضين وتبليغ المتنافيين ، وأن يكون « إلخ » بدل لهذا ، وإرجاع الضمير إلى الله بعيد جدا ، واعلم أن المفسرين اختلفوا في تفسير تلك الآيات. قوله تعالى ( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) يحتمل كون ضمير الفاعل في « رأي » راجعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلى الفؤاد ، قال البيضاوي ( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) ببصره من صورة جبرئيل أو الله ، أي ما كذب الفؤاد بصره بما حكاه له ، فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب ، ثم ينتقل منه إلى البصر ، أو ما قال فؤاده لما رأى لم أعرفك ولو قال ذلك كان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره ، أو ما رآه بقلبه ، والمعنى لم يكن تخيلا كاذبا ، ويدل عليه أنه سئل عليه‌السلام هل رأيت ربك؟ فقال : رأيته بفؤادي وقرئ ما كذب ، أي صدقه ولم يشك فيه ( أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ) أفتجادلونه عليه من المراء وهو المجادلة « انتهى ».

قوله تعالى ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) (١) قال الرازي يحتمل الكلام وجوها ثلاثة الأول : الرب تعالى ، والثاني : جبرئيل عليه‌السلام ، والثالث : الآيات العجيبة الإلهية « انتهى » ولقد رءاه نازلا نزلة أخرى ، فيحتمل نزوله عليه‌السلام ونزول مرئيه ، فإذا عرفت محتملات تلك الآية عرفت سخافة استدلالهم بها على جواز الرؤية ووقوعها بوجوه :

« الأول » [ أنه ] يحتمل أن يكون المرئي جبرئيل ، إذا المرئي غير مذكور في اللفظ ، وقد أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى هذا الوجه في جواب الزنديق المدعي للتناقض في القرآن على ما رواه الطبرسي (ره) في الاحتجاج ، حيث قال عليه‌السلام : وأما قوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق الله عز وجل ، وقوله في آخر الآية ( ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) رأى جبرئيل عليه‌السلام في صورته مرتين

__________________

(١) كذا في النسخ.

٣٢٩

إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال ( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) يقول ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأى فقال ( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) فآيات الله غير الله وقد قال الله ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة فقال أبو قرة فتكذب بالروايات فقال أبو الحسن عليه‌السلام إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به

______________________________________________________

هذه المرة ومرة أخرى ، وذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم وصورتهم ، وفي بعض النسخ وصفتهم إلا رب العالمين ، وروى مسلم في صحيحه بإسناده عن ذر عن عبد الله : ( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) قال : رأى جبرئيل عليه‌السلام له ستمائة جناح ، وروي أيضا بإسناده عن أبي هريرة ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) قال : رأى جبرئيل عليه‌السلام بصورته التي له في الخلقة الأصلية.

« الثاني » ما ذكره عليه‌السلام في هذا الخبر وهو قريب من الأول ، لكنه أعم منه.

« الثالث » أن يكون ضمير الرؤية راجعا إلى الفؤاد فعلى تقدير إرجاع الضمير إلى الله تعالى أيضا لا فساد فيه.

« الرابع » أن يكون على تقدير إرجاع الضمير إليه عليه‌السلام ، وكون المرئي هو الله تعالى ، المراد بالرؤية غاية مرتبة المعرفة ونهاية الانكشاف.

قوله : حيث قال ، أي أو لا قبل هذه الآية ، وإنما ذكر عليه‌السلام ذلك لبيان أن المرئي قبل هذه الآية غير مفسر أيضا ، بل إنما يفسره ما سيأتي بعدها.

قوله عليه‌السلام : وما أجمع المسلمون عليه : أي اتفق المسلمون على حقيقة مدلول ما في الكتاب مجملا ، والحاصل أن الكتاب قطعي السند متفق عليه بين جميع الفرق فلا يعارضه الأخبار المختلفة المتخالفة التي تفردتم بروايتها ، ثم اعلم أنه عليه‌السلام أشار في هذا الخبر إلى دقيقة غفل عنها الأكثر ، وهي أن الأشاعرة وافقونا في أن كنهه تعالى يستحيل أن يتمثل في قوة عقلية ، حتى أن المحقق الدواني نسبه إلى الأشاعرة موهما اتفاقهم عليه ، وجوزوا ارتسامه وتمثله في قوة جسمانية وتجويز إدراك القوة

٣٣٠

علما و ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ).

٣ ـ أحمد بن إدريس ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن سيف ، عن محمد بن عبيد قال كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أسأله عن الرؤية وما ترويه العامة والخاصة ـ وسألته أن يشرح لي ذلك فكتب بخطه اتفق الجميع لا تمانع بينهم أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة فإذا جاز أن يرى الله بالعين وقعت المعرفة ضرورة ـ ثم

______________________________________________________

الجسمانية ، لها دون العقلية بعيد عن العقل مستغرب وأشار عليه‌السلام إلى أن كل ما ينفى العلم بكنهه تعالى من السمع ينفى الرؤية أيضا ، فإن الكلام ليس في رؤية عرض من إعراضه تعالى بل في رؤية ذاته وهو نوع من العلم بكنهه تعالى.

الحديث الثالث : مجهول.

واعلم أن الناظرين في هذا الخبر قد سلكوا مسالك شتى في حلها ولنذكر بعضها : « الأول » هو الأقرب إلى الأفهام وإن كان أبعد من سياق الكلام ، وكان الوالد العلامة قدس الله روحه يرويه عن المشايخ الأعلام وتقريره على ما حرره بعض الأفاضل الكرام هو أن المراد أنه اتفق الجميع أي جميع العقلاء من مجوزي الرؤية ومحيلها لا تمانع وتنازع بينهم على أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة ، أي كل ما يرى يعرف بأنه على ما يرى وأنه متصف بالصفات التي يرى عليها ضرورة فحصول معرفة المرئي بالصفات التي يرى عليها ضروري وهذا الكلام يحتمل وجهين : أحدهما كون قوله من جهة الرؤية خبرا أي إن المعرفة بالمراد يحصل من جهة الرؤية ضرورة ، وثانيهما : تعلق الظرف بالمعرفة وكون قوله ضرورة خبرا أي المعرفة الناشئة من جهة الرؤية ضرورة ، أي ضرورية ، والضرورة على الاحتمالين يحتمل الوجوب والبداهة ، وتقرير الدليل : أن حصول المعرفة من جهة الرؤية ضروري ، فلو جاز أن يرى الله سبحانه بالعين وقعت المعرفة من جهة الرؤية عند الرؤية ضروري ، فلو جاز أن يرى الله سبحانه بالعين وقعت المعرفة من جهة الرؤية عند الرؤية ضرورة ، فتلك المعرفة لا تخلو من أن يكون إيمانا أو لا يكون إيمانا وهما باطلان ، لأنه إن كانت إيمانا لم تكن المعرفة الحاصلة في الدنيا من جهة الاكتساب إيمانا لأنهما متضادان فإن المعرفة الحاصلة بالاكتساب أنه ليس بجسم وليس في مكان و

٣٣١

لم تخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا أو ليست بإيمان فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا فالمعرفة التي في دار الدنيا من جهة الاكتساب ليست بإيمان لأنها

______________________________________________________

بمتكمم ولا متكيف ، والرؤية بالعين لا يكون إلا بإدراك صورة متحيزة من شأنها الانطباع في مادة جسمانية ، والمعرفة الحاصلة من جهتها معرفة بالمرئي بأنه متصف بالصفات المدركة في الصورة ، فهما متضادتان لا يجتمعان في المطابقة للواقع ، فإن كانت هذه إيمانا لم تكن تلك إيمانا فلا يكون في الدنيا مؤمن ، وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا ، أي اعتقادا مطابقا للواقع ، وكانت المعرفة الاكتسابية إيمانا لم تخل هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب من أن تزول عند المعرفة من جهة الرؤية لتضادهما ، ولا تزول لامتناع زوال الإيمان في الآخرة ، وهذه العبارة تحتمل ثلاثة أوجه « أحدها » لم تخل هذه المعرفة من الزوال عند الرؤية والمعرفة من جهتها لتضادهما والزوال مستحيل ، لا يقع لامتناع زوال الإيمان في الآخرة « وثانيها » لم تخل هذه المعرفة من الزوال وعدم الزوال ، ويكون متصفا بكليهما في المعاد ، والمستلزم لاجتماع النقيضين مستحيل « وثالثها » لم تخل هذه المعرفة من الزوال وعدم الزوال ولا بد من أحدهما وكل منهما محال ، وأما بيان أن الإيمان لا يزول في المعاد بعد الاتفاق والاجتماع عليه أن الاعتقاد الثابت المطابق للواقع الحاصل بالبرهان مع معارضة الوساوس الحاصلة في الدنيا ، يمتنع زوالها عند ارتفاع الوساوس والموانع ، على أن الرؤية عند مجوزيها إنما تقع للخواص من المؤمنين والكمل منهم في الجنة ، فلو زال إيمانهم لزم كون غير المؤمن أعلى درجة من المؤمن ، وكون الأحط مرتبة أكمل من الأعلى درجة ، وفساده ظاهر.

أقول : الاحتمالات الثلاثة إنما هي على ما في هذه النسخة من الواو ، وأما على ما في التوحيد من كلمة أو فالأخير متعين.

ثم اعلم أنه يرد على هذا الحل أن من لم يسلم امتناع الرؤية كيف يسلم كون الإيمان المكتسب منافيا لها وإن ادعى الضرورة في كون الرؤية مستلزمة لما اتفقوا

٣٣٢

ضده فلا يكون في الدنيا مؤمن لأنهم لم يروا الله عز ذكره وإن لم تكن تلك المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا لم تخل هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب أن تزول

______________________________________________________

على امتناعه فهو كاف في إثبات المطلوب إلا أن يقال : إنما أورد هكذا تكثيرا للفساد وإيضاحا للمراد ، أو يقال لعله عليه‌السلام كان بين للسائل امتناع الرؤية بالدلائل ، فلما ذكر السائل ما ترويه العامة في ذلك ، بين امتناع وقوع ما ثبت لنا بالبراهين امتناعه وآمنا به بهذا الوجه.

الثاني : أن حاصل الدليل أن المعرفة من جهة الرؤية غير متوقفة على الكسب والنظر ، والمعرفة في دار الدنيا متوقفة عليه ، ضعيفة بالنسبة إلى الأولى فتخالفتا ، مثل الحرارة القوية والحرارة الضعيفة ، فإن كانت المعرفة من جهة الرؤية إيمانا لم تكن المعرفة من جهة الكسب إيمانا كاملا لأن المعرفة من جهة الرؤية أكمل منها ، وإن لم يكن إيمانا يلزم سلب الإيمان عن الرائين لامتناع اجتماع المعرفتين في زمان واحد في قلب واحد ، يعني قيام تصديقين أحدهما أقوى من الآخر بذهن واحد ، وأحدهما حاصل من جهة الرؤية والآخر حاصل من جهة الدليل ، كما يمتنع قيام حرارتين بماء واحد في زمان واحد ، ويرد عليه النقض بكثير من المعارف التي تعرف في الدنيا بالدليل ، وتصير في الآخرة بالمعاينة ضرورية ويمكن بيان الفرق بتكلف.

الثالث : ما حققه بعض الأفاضل بعد ما مهد من أن نور العلم والإيمان يشتد حتى ينتهي إلى المشاهدة والعيان ، لكن العلم إذا صار عينا لم يصر عينا محسوسا ، والمعرفة إذا انقلبت مشاهدة لم تنقلب مشاهدة بصرية حسية ، لأن الحس والمحسوس نوع مضاد للعقل والمعقول ، ليس نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة النقص إلى الكمال والضعف إلى الشدة ، بل لكل منهما في حدود نوعه مراتب في الكمال والنقص ، لا يمكن لشيء من أفراد أحد النوعين المتضادين أن ينتهي في مراتب استكمالاته واشتداده إلى شيء من أفراد النوع الآخر ، فالإبصار إذا اشتد لا يصير تخيلا مثلا ، ولا التخيل إذا اشتد يصير تعقلا ولا بالعكس ، نعم إذا اشتد التخيل تصير مشاهدة ورؤية

٣٣٣

ولا تزول في المعاد فهذا دليل على أن الله عز وجل لا يرى بالعين إذ العين تؤدي إلى ما وصفناه.

٤ ـ وعنه ، عن أحمد بن إسحاق قال كتبت إلى أبي الحسن الثالث ع أسأله

______________________________________________________

بعين الخيال لا بعين الحس ، وكثيرا ما يقع الغلط من صاحبه أنه رأى بعين الخيال أم بعين الحس الظاهر كما يقع للمبرسمين والمجانين وكذا التعقل إذا اشتد يصير مشاهدة قلبية ورؤية عقلية لا خيالية ولا حسية ، وبالجملة الإحساس والتخيل والتعقل أنواع متقابلة من المدارك كل منها في عالم آخر من العوالم الثلاثة ويكون تأكد كل منها حجابا مانعا عن الوصول إلى الآخر.

فإذا تمهد هذا فنقول : اتفق الجميع على أن المعرفة من جهة الرؤية أمر ضروري ، وأن رؤية الشيء متضمنة لمعرفته بالضرورة ، بل الرؤية بالحس نوع من المعرفة فإن من رأى شيئا فقد عرفه بالضرورة ، فإن كان الإيمان بعينه هو هذه المعرفة التي مرجعها الإدراك البصري والرؤية الحسية فلم تكن المعرفة العلمية التي حصلت للإنسان من جهة الاكتساب بطريق الفكر والنظر إيمانا ، لأنها ضده ، لأنك قد علمت أن الإحساس ضد التخيل ، وأن الصورة الحسية ضد الصورة العقلية ، فإذا لم يكن الإيمان بالحقيقة مشتركا بينهما ولا أمرا جامعا لهما لثبوت التضاد وغاية الخلاف بينهما ، ولا جنسا مبهما بينهما غير تام الحقيقة المتحصلة كجنس المتضادين مثل اللونية بين نوعي السواد والبياض ، لأن الإيمان أمر محصل وحقيقة معينة فهو إما هذا وإما ذاك ، فإذا كان ذاك لم يكن هذا ، وإن كان هذا لم يكن ذاك ، ثم ساق الدليل إلى آخره كما مر.

ولا يخفى أن شيئا من الوجوه لا يخلو من تكلفات إما لفظية وإما معنوية ، ولعله عليه‌السلام بنى ذلك على بعض المقدمات المقررة بين الخصوم في ذلك الزمان إلزاما عليهم كما صدر عنهم كثير من الأخبار كذلك ، والله تعالى يعلم.

الحديث الرابع : صحيح.

٣٣٤

عن الرؤية وما اختلف فيه الناس فكتب لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء لم ينفذه البصر فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية وكان في ذلك الاشتباه لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام لم ينفذه البصر : كلمة « لم » في بعض النسخ موجودة وليست في بعضها ، فعلى الأول يكون قوله لا تجوز للرؤية بيانا للمدعي ، وقوله « ما لم يكن » ابتداء الدليل ، وعلى الثاني : قوله « لا يجوز » ابتداء الدليل ، وعلى التقديرين حاصل الكلام أنه عليه‌السلام استدل على عدم جواز الرؤية بأنها تستلزم كون المرئي جسمانيا ذا جهة وحيز ، وبين ذلك بأنه لا بد أن يكون بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر وظاهره كون الرؤية بخروج الشعاع وإن أمكن أن يكون كناية عن تحقق الإبصار بذلك وتوقفه عليه ، فإذا لم يكن بينهما هواء وانقطع الهواء وعدم الضياء الذي هو أيضا من شرائط الرؤية عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية بالبصر « وكان في ذلك » أي في كون الهواء بين الرائي والمرئي « الاشتباه » يعني شبه كل منهما بالآخر ، يقال : اشتبها إذا أشبه كل منهما الآخر ، لأن الرائي متى ساوى المرئي وماثله في النسبة إلى السبب الذي أوجب بينهما في الرؤية ، وجب الاشتباه ومشابهة أحدهما الآخر في توسط الهواء بينهما ، وكان في ذلك التشبيه أي كون الرائي والمرئي في طرف الهواء الواقع بينهما يستلزم الحكم بمشابهة المرئي بالرائي ، من الوقوع في جهة ليصح كون الهواء بينهما فيكون متحيزا ذا صورة وضعية ، فإن كون الشيء في طرف مخصوص من طرفي الهواء وتوسط الهواء بينه وبين شيء آخر سبب عقلي للحكم بكونه في جهة ، ومتحيزا وذا وضع ، وهو المراد بقوله « لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات » ويحتمل أن يكون ذلك تعليلا لجميع ما ذكر من كون الرؤية متوقفة على الهواء إلى آخر ما ذكر وحاصله يرجع إلى ما ادعاه جماعة من أهل الحق من العلم الضروري بأن الإدراك المخصوص المعلم بالوجه الممتاز عن غيره لا يمكن أن يتعلق بما ليس في جهة ، وإلا لم يكن للبصر مدخل فيه ، ولا كسب لرؤيته ، بل المدخل في ذلك للعقل فلا وجه حينئذ

٣٣٥

بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبيه قال حضرت أبا جعفر عليه‌السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له يا أبا جعفر أي شيء تعبد قال الله تعالى قال رأيته قال بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار

______________________________________________________

لتسميته إبصارا ، والحاصل أن الإبصار بهذه الحاسة يستحيل أن يتعلق بما ليس في جهة بديهة ، وإلا لم يكن لها مدخل فيه ، وهم قد جوزوا الإدراك بهذه الجارحة الحساسة وأيضا هذا النوع من الإدراك يستحيل ضرورة أن يتعلق بما ليس في جهة مع قطع النظر عن أن تعلق هذه الحاسة يستدعي الجهة والمقابلة.

وما ذكره الفخر الرازي : من أن الضروري لا يصير محلا للخلاف ، وإن الحكم المذكور مما يقتضيه الوهم ويعين عليه ، وهو ليس مأمونا لظهور خطائه في الحكم بتجسم الباري تعالى وتحيزه وما ظهر خطاؤه مرة فلا يؤمن بل يتهم ، ففاسد ، لأن خلاف بعض العقلاء في الضروريات جائز كالسوفسطائية والمعتزلة في قولهم بانفكاك الشيئية والوجود وثبوت الحال ، وأما قوله : بأنه حكم الوهم الغير المأمون فطريف جدا لأنه منقوض بجميع أحكام العقل لأنه أيضا مما ظهر خطاؤه مرارا وجميع الهندسيات والحسابيات ، وأيضا مدخلية الوهم في الحكم المذكور ممنوع ، وإنما هو عقلي صرف عندنا ، وكذلك ليس كون الباري تعالى متحيزا مما يحكم به ، ويجزم ، بل هو تخييل يجري مجرى سائر الأكاذيب ، في أن الوهم وإن صوره وخيله إلينا لكن العقل لا يكاد يجوزه بل يحيله ويجزم ببطلانه وكون ظهور الخطإ مرة سببا لعدم ائتمان المخطئ واتهامه ممنوع أيضا ، وإلا قدح في الحسيات وسائر الضروريات وقد تقرر بطلانه في موضعه في رد شبه القادحين في الضروريات.

الحديث الخامس : مجهول.

قوله عليه‌السلام : بمشاهدة الأبصار : بالفتح جمعا أو بالكسر مصدرا ، وفي التوحيد و

٣٣٦

و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان لا يعرف بالقياس ولا يدرك بالحواس ولا يشبه بالناس موصوف بالآيات معروف بالعلامات لا يجور في حكمه ذلك الله لا إله إلا هو قال فخرج الرجل وهو يقول ـ ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ).

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن أبي الحسن الموصلي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته قال فقال ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره قال وكيف رأيته قال ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

٧ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن عاصم

______________________________________________________

غيره : العيان بحقائق الإيمان ، أي بالعقائد التي هي حقائق أي عقائد عقلية ثابتة يقينية لا يتطرق إليها الزوال والتغير هي أركان الإيمان أو بالأنوار والآثار التي حصلت في القلب من الإيمان ، أو بالتصديقات والإذعانات التي تحق أن تسمى إيمانا أو المراد بحقائق الإيمان ما ينتمي إليه تلك العقائد من البراهين العقلية ، فإن الحقيقة ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه ، ذكره المطرزي في الغريبين.

« لا يعرف بالقياس » أي بالمقايسة بغيره ، وقوله عليه‌السلام : ولا يشبه بالناس : كالتعليل لقوله : لا يدرك بالحواس.

« موصوف بالآيات » أي إذا أريد أن يذكر ويوصف يوصف بأن له الآيات الصادرة عنه ، المنتهية إليه ، لا بصفة زائدة حاصلة فيه ، أو إنما يوصف بالصفات الكمالية بما يشاهد من آيات قدرته وعظمته وينزه عن مشابهتها ، لما يرى من العجز والنقص فيها « معروف بالعلامات » أي يعرف وجوده وصفاته العينية الكمالية بالعلامات الدالة عليه لا بالكنه.

الحديث السادس : مجهول.

الحديث السابع : ضعيف.

٣٣٧

ابن حميد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ذاكرت أبا عبد الله عليه‌السلام فيما يروون من الرؤية فقال الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش والعرش جزء من سبعين جزءا من نور الحجاب والحجاب جزء من سبعين جزءا من نور الستر فإن كانوا صادقين فليملئوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب.

٨ ـ محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه قط جبرئيل فكشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب

______________________________________________________

ولعله تمثيل وتنبيه على عجز القوي الجسمانية وبيان لأن لإدراكها حدا لا تتجاوزه ، ويحتمل أن يكون تنبيها بضعف القوي الظاهرة على ضعف القوى الباطنة أي كما لا يقدر بصرك في رأسك على تحديق النظر إلى الشمس فكذلك لا تقدر عين قلبك على مطالعة شمس ذاته وأنوار جلاله ، والأول أظهر ، وقيل : المراد بالأنوار الأربعة النور الخيالي ، والعقلي ، والنفسي والإلهي ، فالعقلي مظهره أبدان الحيوانات الأرضية ، وصدر الإنسان الصغير ، وأعظم المظاهر لأعظم أفراده هو الكرسي ، الذي هو صدر الإنسان الكبير ، ولهذا نسبه إلى الكرسي ، والنور النفسي هو الذي مظاهرة في هذا العالم قلوب بني آدم ، لمن كان له قلب ، وأعظم المظاهر لأعظم أفراده هو العرش الذي هو قلب العالم الكبير ، ولهذا نسبه إلى العرش وهو مظهر النور العقلي الذي نسبه إلى الحجاب ، لأن العقل حجاب للمشاهدة وهو مظهر النور الإلهي الذي نسبه إلى الستر لأنه مستور عن العقول.

الحديث الثامن : صحيح.

وقوله في قوله ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ )كلام محمد بن يعقوب ذكره عنوانا لما يأتي بعده من الأخبار ولم يفرد لها بابا لأنه داخل في المقصود من الباب الأول.

٣٣٨

في قوله تعالى :

( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ )

٩ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي نجران ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) قال إحاطة الوهم ألا ترى إلى قوله ـ ( قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ) ليس يعني بصر العيون ـ ( فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ) ليس يعني من البصر بعينه ـ ( وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها ) ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال فلان بصير بالشعر وفلان بصير بالفقه وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب الله أعظم من أن يرى بالعين.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن أبي هاشم الجعفري ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال سألته عن الله هل يوصف فقال أما تقرأ القرآن قلت بلى ـ قال أما تقرأ قوله تعالى ـ ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) قلت بلى

______________________________________________________

الحديث التاسع : صحيح.

قوله عليه‌السلام بصائر : جمع بصيرة.

قوله : الله أعظم : أي أعظم من أن يشك ويتوهم فيه أنه مدرك بالعين ، حتى يتعرض لنفيه ، ويمكن أن يكون بمنزلة النتيجة للسابق ، أي إذا لم يكن مدركا بالأوهام فيكون أعظم من أن يدرك بالعيون.

الحديث العاشر : صحيح.

قوله ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) هذه الآية إحدى الدلالات التي استدل بها النافون للرؤية ، وقرروها بوجهين ، « أحدهما » أن إدراك البصر عبارة شائعة في الإدراك بالبصر ، إسنادا للفعل إلى الآلة ، والإدراك بالبصر هو الرؤية بمعنى اتحاد المفهومين أو تلازمهما ، والجمع المعرف باللام عند عدم قرينة العهدية والبعضية للعموم والاستغراق بإجماع أهل العربية والأصول وأئمة التفسير ، وبشهادة استعمال الفصحاء وصحة الاستثناء فالله سبحانه قد أخبر بأنه لا يراه أحد في المستقبل ، فلو رآه المؤمنون في الجنة لزم كذبه

٣٣٩

قال فتعرفون الأبصار قلت بلى قال ما هي قلت أبصار العيون فقال

______________________________________________________

تعالى وهو محال.

واعترض عليه بأن اللام في الجمع لو كان للعموم والاستغراق كما ذكرتم كان قوله ( تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) موجبة كلية وقد دخل عليها النفي ، فرفعها هو رفع الإيجاب الكلي ، ورفع الإيجاب الكلبي سلب جزئي ، ولو لم يكن للعموم كان قوله ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) سالبة مهملة في قوة الجزئية فكان المعنى لا تدركه بعض الأبصار ، ونحن نقول بموجبه حيث لا يراه الكافرون ، ولو سلم فلا نسلم عمومه في الأحوال والأوقات فيحمل على نفي الرؤية في الدنيا جمعا بين الأدلة.

والجواب أنه قد تقرر في موضعه أن الجمع المحلى باللام عام نفيا وإثباتا في المنفي والمثبت كقوله تعالى ( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (١) و ( ما على المحسنين من سبيل ) (٢) حتى إنه لم يرد في سياق النفي في شيء من الكتاب الكريم إلا بمعنى عموم النفي ولم يرد لنفي العموم أصلا ، نعم قد اختلف في النفي الداخل على لفظه كل ، لكنه في القرآن المجيد أيضا بالمعنى الذي ذكرنا كقوله تعالى ( وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (٣) إلى غير ذلك ، وقد اعترف بما ذكرنا في شرح المقاصد وبالغ فيه.

وأما منع عموم الأحوال والأوقات فلا يخفى فساده فإن نفي المطلق الغير المقيد لا وجه لتخصيصه ببعض الأوقات إذ لا ترجيح لبعضها على بعض وهو أحد الأدلة على العموم عند علماء الأصول ، وأيضا صحة الاستثناء دليل عليه وهل يمنع أحد صحة قولنا ما كلمت زيدا إلا يوم الجمعة ولا أكلمه إلا يوم العيد ، وقال تعالى ( وَلا تَعْضُلُوهُنَ ) (٤) إلى قوله ( إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ ) وقال ( لا تُخْرِجُوهُنَ ) إلى قوله ( إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ ) (٥) و

__________________

(١) سورة غافر : ٣١.

(٢) سورة التوبة : ٩١.

(٣) سورة الحديد : ٣٣.

(٤) سورة النساء : ١٩.

(٥) سورة الطلاق : ١.

٣٤٠