مرآة العقول - ج ١

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

ظاهره قبله ، وقد قال العالم عليه السلام : « إن الله عز وجل خلق النبيين على النبوة ، فلا يكونون إلا أنبياء ، وخلق الأوصياء على الوصية ، فلا يكونون إلا أوصياء ، وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم ، وأن شاء سلبهم إياه ، قال : وفيهم جرى قوله : « فمستقر ومستودع » (١).

وذكرت أن أمورا قد أشكلت عليك ، لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها وأنك تعلم أن اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها ، وأنك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممن تثق بعلمه فيها ، وقلت : إنك تحب أن يكون عندك كتاب كان يجمع [ فيه ] من جميع فنون علم الدين ، ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين

________________________________________________________

المتأمل ، وسيأتي تحقيق معنى التوفيق والخذلان على وجه يوافق أصول أهل العدل في كتاب الإيمان والكفر إنشاء الله تعالى.

قوله تعالى « فمستقر » : بفتح القاف وكسرها على اختلاف القراءة جار في النبي والوصي ، فبالفتح اسم مفعول يعني مثبت في الإيمان ، أو اسم مكان يعنى له موضع استقرار وثبات فيه ، وبالكسر اسم فاعل يعنى مستقر ثابت فيه ، « ومستودع » بفتح الدال اسم مفعول أو اسم مكان جار في المعار ، وقال البيضاوي في قوله تعالى : « وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع » أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض ، واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض ، وقرء ابن كثير والبصريان بكسر القاف ، على أنه فاعل ، والمستودع مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع.

قوله : بالآثار الصحيحة ، استدل به الأخباريون على جواز العمل بجميع اخبار الكافي وكون كلها صحيحة وإن الصحة عندهم غير الصحة باصطلاح المتأخرين ، وزعموا أن حكمهم بالصحة لا تقصر عن توثيق الشيخ أو النجاشي أو غيرهما رجال السند ، بل ادعى بعضهم أن الصحة عندهم بمعنى التواتر ، والكلام فيها طويل ، و

___________________

(١) سورة الانعام : ٩٨.

٢١

عليهم السلام والسنن القائمة التي عليها العمل ، وبها يؤدي فرض الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقلت : لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سببا يتدارك الله [ تعالى ] بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملتنا ويقبل بهم إلى مراشدهم.

فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شئ مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه ، إلا على ما أطلقه العالم بقوله عليهم السلام : « اعرضوها على كتاب الله فما وافي كتاب الله عز وجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه » وقوله عليه السلام : « دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم » وقوله عليه السلام « خذوا

________________________________________________________

قد فصلنا القول في ذلك في المجلد الآخر من كتاب بحار الأنوار ، وخلاصة القول في ذلك والحق عندي فيه : أن وجود الخبر في أمثال تلك الأصول المعتبرة مما يورث جواز العمل به ، لكن لابد من الرجوع إلى الأسانيد لترجيح تبعضها على بعض عند التعارض ، فان كون جميعها معتبرا لا ينافي كون بعضها أقوى ، وأما جزم بعض المجازفين بكون جميع الكافي معروضا على القائم عليه السلام لكونه في بلدة السفراء فلا يخفى ما فيه على ذي لب ، نعم عدم إنكار القائم وآبائه صلوات الله عليه وعليهم ، عليه وعلى أمثاله في تأليفاتهم ورواياتهم مما يورث الظن المتاخم للعلم بكونهم عليهم السلام راضين بفعلهم ومجوزين للعمل بأخبارهم.

قوله : بمعونته وتوفيقه ، قيل ، الضميران عائدان إلى السبب لا إلى الله تعالى ، لخلو الجملة الوصفية عن العائد ويمكن تقدير العائد.

قوله : مما اختلفت الرواية فيه ، قيل : المراد بالروايات المختلفة التي لا يحتمل الحمل على معنى يرتفع به الاختلاف بملاحظة جميعها ، وكون بعضها قرينة على المراد من البعض ، لا التي يتراءي فيها الاختلاف في بادي الرأي ، وطرق العمل في المختلفات الحقيقية كما ذكره بعد شهرتها واعتبارها العرض على كتاب الله والأخذ بموافقه دون مخالفه ، ثم الأخذ بمخالف القوم ، ثم الأخذ من باب التسليم بأيها تيسر « انتهى ».

٢٢

بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه » ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه السلام وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله عليه السلام : « بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم ».

وقد يسر الله ـ وله الحمد ـ تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخيت فمهما كان فيه من تقصير فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة ، إذ كان واجبة لإخواننا وأهل ملتنا ، مع ما رجونا أن تكون مشاركين لكل من اقتبس منه ، وعمل بما فيه في دهرنا هذا ، وفي غابره إلى انقضاء الدنيا ، إذ الرب جل وعز واحد والرسول محمد خاتم النبيين ـ صلوات الله وسلامه عليه وآله ـ واحد ، والشريعة واحدة وحلال محمد حلال وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، ووسعنا قليلا كتاب الحجة وإن لم نكمله على استحقاقه ، لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها.

________________________________________________________

قوله : إلا أقله ، أي أقل ذلك الجميع ، والمعنى إنا لا نعرف من أفراد التمييز الحاصل من جهة تلك القوانين المذكورة إلا الأقل ، أولا نعرف من جميع ذلك المذكور من القوانين الثلاثة إلا الأقل ، والحاصل أن الاطلاع على تلك الأمور والتوسل بها في رفع الاختلاف بين الاخبار مشكل ، إذا لعرض على الكتاب موقوف على معرفته وفهمه ، ودونه خرط القتاد ، وأيضا أكثر الاحكام لا يستنبط ظاهرا منه ، وأما أقوال المخالفين فان الاطلاع عليها مشكل لأكثر المحصلين ومع الاطلاع عليها قل ما يوجد مسئلة لم يختلفوا فيها ، ومع اختلافهم لا يعرف ما يخالفهم إلا أن يعلم ما كان أشهر وأقوى عند القضاة والحكام في زمان من صدر عنه الخبر عليه السلام وهذا يتوقف على تتبع تام لكتب المخالفين وأقوالهم ، ولا يتسر لكل أحد ، وأما الأخذ بالمجمع عليه فإن كان المراد به ما أجمع على الإفتاء به كما فهمه أكثر المتأخرين ، فالاطلاع عليه متعسر بال متعذر ، إلا أن يحمل على الشهرة فإنها وإن لم تكن حجة في نفسها يمكن كونها مرجحة لبعض الأخبار المتعارضة ، لكن يرد عليه أن الفتوى لم تكن شايعا في تلك الأزمنة السالفة ، بل كان مدارهم على نقل الأخبار ، وكانت تصانيفهم

٢٣

وأرجو أن يسهل الله جل وعز إمضاء ما قدمنا من النية ، إن تأخر الأجل صنفا كتابا أوسع وأكمل منه ، نوفيه حقوقه كلها إن شاء الله تعالى وبه الحول والقوة وإليه الرغبة في الزيادة في المعونة والتوفيق. والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين الأخيار.

وأول ما أبدأ به وأفتتح به كتابي هذا : كتاب العقل ، وفضائل العلم ، وارتفاع درجة أهله ، وعلو قدرهم ، ونقص الجهل ، وخساسة أهله ، وسقوط منزلتهم ، إذ كان العقل هو القطب الذي عليه المدار وبه يحتج وله الثواب ؛ وعليه العقاب،[ والله الموفق ].

________________________________________________________

مقصورة على جمع الأخبار وروايتها وتدوينها ، وإن كان المراد به الإجماع في النقل والرواية ، وتكرره في الأصول المعتبرة كما هو الظاهر من دأبهم ، فهذا أيضا مما يعسر الاطلاع عليه ، ويتوقف على تتبع كل الأصول المعتبرة ، فظهر ان ما ذكره (ره) من قلة ما يعرف من ذلك حق ، لكن كلامه يحتمل وجهين :

الأول : انه لما كان الاطلاع عليها عسرا ، والانتفاع بها نزرا فينبغي تركها والأخذ بالتخيير ، وهذا هو الظاهر من كلامه ، فيرد عليه ان ذلك لا يصير سببا لتركها فيما يمكن الرجوع إليها مع ورودها في الاخبار المعتبرة.

والثاني : أن يكون المراد أن الانتفاع بقاعدة التخيير أكثر ، والانتفاع بغيرها أقل ، ولا بد من العمل بها جميعا في مواردها ، وهذا صحيح لكنه بعيد من العبارة ، ويؤيد الأول ترك المصنف (ره) إيراد الاخبار المتعارضة ، واختبار ما هو أقوى عنده وفيه ما فيه ، ولذا وجه بعض المعاصرين ذلك بأنه إنما فعل ذلك برخصة الإمام عليه السلام ، وقد عرفت ما فيه ، وأما سند خبر التخيير وطريق الجمع بينه وبين مقبولة عمر بن حنظلة ، فسيأتي بعض القول فيهما في باب اختلاف الحديث إنشاء الله تعالى ، وتمام القول فيهما موكول إلى كتابنا الكبير.

٢٤

كتاب العقل والجهل

١ ـ أخبرنا أبو جعفر محمد بن يعقوب قال حدثني عدة من أصحابنا منهم محمد

______________________________________________________

كتاب العقل والجهل

كذا في النسخ والأظهر باب العقل أو ذكر الباب بعد الكتاب كما يظهر من فهرست الشيخ (ره).

الحديث الأول صحيح.

والظاهر أن قائل أخبرنا أحد رواة الكافي من النعماني والصفواني وغيرهما ، ويحتمل أن يكون القائل هو المصنف (ره) كما هو دأب القدماء ، ثم اعلم أن فهم أخبار أبواب العقل يتوقف على بيان ماهية العقل واختلاف الآراء والمصطلحات فيه.

فنقول : إن العقل هو تعقل الأشياء وفهمها في أصل اللغة ، واصطلح إطلاقه على أمور :

الأول : هو قوة إدراك الخير والشر والتميز بينهما ، والتمكن من معرفة أسباب الأمور ذوات الأسباب ، وما يؤدي إليها وما يمنع منها ، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.

الثاني : ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع ، واجتناب الشرور والمضار ، وبها تقوى النفس على زجر الدواعي الشهوانية والغضبية ، والوساوس الشيطانية ، وهل هذا هو الكامل من الأول أم هو صفة أخرى وحالة مغايرة للأولى ، كل منهما محتمل ، وما يشاهد في أكثر الناس من حكمهم بخيرية بعض الأمور ، مع عدم إتيانهم بها ، وبشرية بعض الأمور مع كونهم مولعين بها ، يدل على أن هذه الحالة غير العلم بالخير والشر ، والذي ظهر لنا من تتبع الأخبار المنتهية إلى الأئمة الأبرار سلام الله عليهم ، هو أن الله خلق في كل شخص من أشخاص

٢٥

بن يحيى العطار عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين

______________________________________________________

المكلفين قوة واستعدادا لإدراك الأمور من المضار والمنافع وغيرها على اختلاف كثير بينهم فيها ، وأقل درجاتها مناط التكاليف وبها يتميز عن المجانين وباختلاف درجاتها تتفاوت التكاليف ، فكلما كانت هذه القوة أكمل ، كانت التكاليف أشق وأكثر ، وتكمل هذه القوة في كل شخص بحسب استعداده بالعلم والعمل ، فكلما سعى في تحصيل ما ينفعه من العلوم الحقة ، وعمل بها تقوى تلك القوة ، ثم العلوم تتفاوت في مراتب النقص والكمال ، وكلما ازدادت قوة تكثر آثارها ، وتحت صاحبها بحسب قوتها على العمل بها ، فأكثر الناس علمهم بالمبدء والمعاد وسائر أركان الإيمان علم تصوري يسمونه تصديقا ، وفي بعضهم تصديق ظني ، وفي بعضهم تصديق اضطراري ، فلذا لا يعملون بما يدعون ، فإذا كمل العلم وبلغ درجة اليقين تظهر آثاره على صاحبه كل حين ، وسيأتي تمام تحقيق ذلك في كتاب الإيمان والكفر إن شاء الله تعالى.

الثالث : القوة التي يستعملها الناس في نظام أمور معاشهم ، فإن وافقت قانون الشرع ، واستعملت فيما استحسنه الشارع تسمى بعقل المعاش ، وهو ممدوح في الأخبار ومغايرته لما قد مر بنوع من الاعتبار وإذا استعملت في الأمور الباطلة والحيل الفاسدة تسمى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع ، ومنهم من ثبتوا لذلك قوة أخرى وهو غير معلوم.

الرابع : مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريات وقربها وبعدها من ذلك وأثبتوا لها مراتب أربعا سموها بالعقل الهيولاني والعقل بالملكة ، والعقل بالفعل ، والعقل المستفاد ، وقد تطلق هذه الأسامي على النفس في تلك المراتب ، وتفصيلها مذكور في مظانها ويرجع إلى ما ذكرنا أو لا ، فإن الظاهر أنها قوة واحدة ، تختلف أسماؤها بحسب متعلقاتها وما تستعمل فيه.

الخامس : النفس الناطقة الإنسانية التي بها يتميز عن سائر البهائم.

٢٦

عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له

______________________________________________________

السادس : ما ذهب إليه الفلاسفة وأثبتوه بزعمهم من جوهر مجرد قديم لا تعلق له بالمادة ذاتا ولا فعلا ، والقول به كما ذكروه مستلزم لإنكار كثير من ضروريات الدين من حدوث العالم وغيره ، مما لا يسع المقام ذكره ، وبعض المنتحلين منهم للإسلام أثبتوا عقولا حادثة وهي أيضا على ما أثبتوها مستلزمة لإنكار كثير من الأصول المقررة الإسلامية ، مع أنه لا يظهر من الأخبار وجود مجرد سوى الله تعالى ، وقال بعض محققيهم : إن نسبة العقل العاشر الذي يسمونه بالعقل الفعال إلى النفس كنسبة النفس إلى البدن ، فكما أن النفس صورة للبدن ، والبدن مادتها ، فكذلك العقل صورة للنفس والنفس مادته ، وهو مشرق عليها ، وعلومها مقتبسة منه ، ويكمل هذا الارتباط إلى حد تطالع العلوم فيه ، وتتصل به ، وليس لهم على هذه الأمور دليل إلا مموهات شبهات ، أو خيالات غريبة ، زينوها بلطائف عبارات.

فإذا عرفت ما مهدنا فاعلم أن الأخبار الواردة في هذه الأبواب أكثرها ظاهرة في المعنيين الأولين ، الذي مالهما إلى واحد ، وفي الثاني منهما أكثر وأظهر ، وبعض الأخبار يحتمل بعض المعاني الأخرى ، وفي بعض الأخبار يطلق العقل على نفس العلم النافع المورث للنجاة ، المستلزم لحصول السعادات ، فأما أخبار استنطاق العقل وإقباله وإدباره ، فيمكن حملها على أحد المعاني الأربعة المذكورة أولا ، أو ما يشملها جميعا وحينئذ يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير كما ورد في اللغة ، أو يكون المراد بالخلق الخلق في النفس واتصاف النفس بها ، ويكون سائر ما ذكر فيها من الاستنطاق والإقبال والأدبار وغيرها استعارة تمثيلية لبيان أن مدار التكاليف والكمالات والترقيات على العقل ، ويحتمل أن يكون المراد بالاستنطاق جعله قابلا لأن يدرك به العلوم ، ويكون الأمر بالإقبال والأدبار أمرا تكوينيا بجعله قابلا لكونه وسيلة لتحصيل الدنيا والآخرة والسعادة والشقاوة معا ، وآلة للاستعمال في تعرف حقائق الأمور والتفكر في دقائق الحيل أيضا ، وفي بعض الأخبار : بك آمر وبك

٢٧

أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب

______________________________________________________

أنهى وبك أعاقب وبك أثيب ، وهو منطبق على هذا المعنى لأن أقل درجاته مناط صحة أصل التكليف ، وكل درجة من درجاته مناط صحة بعض التكاليف وفي بعض الأخبار « إياك » مكان « بك » في كل المواضع ، وفي بعضها في بعضها ، فالمراد المبالغة في اشتراط التكليف به ، فكأنه هو المكلف حقيقة ، وما في بعض الأخبار : من أنه أول خلق من الروحانيين فيحتمل أن يكون المراد أول مقدر من الصفات المتعلقة بالروح ، وأول غريزة تطبع عليه النفس ، وتودع فيها ، أو يكون أوليته باعتبار أولية ما يتعلق به من النفوس ، وأما إذا حملت على المعنى الخامس ، فيحتمل أن يكون أيضا على التمثيل كما مر وكونها مخلوقة ظاهر ، وكونها أول مخلوق إما باعتبار أن النفوس خلقت قبل الأجساد كما ورد في الأخبار المستفيضة ، فيحتمل أن يكون خلق الأرواح مقدما على خلق جميع المخلوقات غيرها ، لكن خبر : « أول ما خلق العقل » لم أجده في الأخبار المعتبرة ، وإنما هو مأخوذ من أخبار العامة ، وظاهر أكثر أخبارنا أن أول المخلوقات الماء أو الهواء كما بيناه في كتاب السماء والعالم من كتابنا الكبير.

نعم ورد في أخبارنا أن العقل أول خلق من الروحانيين ، وهو لا ينافي تقدم خلق بعض الأجسام على خلقه ، وحينئذ فالمراد بإقبالها بناء أعلى ما ذهب إليه جماعة من تجرد النفس : إقبالها إلى عالم المجردات ، وبإدبارها تعلقها بالبدن والماديات ، أو المراد بإقبالها إقبالها إلى المقامات العالية والدرجات الرفيعة ، وبإدبارها هبوطها عن تلك المقامات ، وتوجهها إلى تحصيل الأمور الدنية الدنيوية ، وتشبهها بالبهائم والحيوانات ، فعلى ما ذكرنا من التمثيل يكون الغرض بيان أن لها هذه الاستعدادات المختلفة ، وهذه الشؤون المتباعدة ، وإن لم نحمل على التمثيل يمكن أن يكون الاستنطاق حقيقيا وأن يكون كناية عن جعلها مدركة للكليات ، وكذا الأمر بالإقبال والأدبار يمكن أن يكون حقيقيا لظهور انقيادها لما يريده تعالى منها ، وأن يكون أمرا تكوينيا لتكون قابلة للأمرين أي الصعود إلى الكمال و

٢٨

إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب أما إني إياك آمر وإياك أنهى وإياك

______________________________________________________

القرب والوصال ، والهبوط إلى النفس وما يوجب الوبال أو لتكون في درجة متوسطة من التجرد لتعلقها بالماديات لكن تجرد النفس لم يثبت لنا من الأخبار ، بل الظاهر منها ماديتها كما بيناه في مظانه.

وربما يقال : المراد بالإقبال ، الإقبال إلى عالم الملك بتعلقه بالبدن ، لاستكمال القوة النظرية والعملية ، وبالإدبار : الأدبار عن هذا العالم ، وقطع التعلق عن البدن ، والرجوع إلى عالم الملكوت.

وقيل : يحتمل أن يكون قوله « استنطقه » محمولا على معناه اللغوي إشارة إلى ما وقع في يوم الميثاق ، وإن كان كيفيته غير معلوم لنا ، والمراد بالإقبال الإقبال إلى الحق من التصديق بالألوهية والتوحيد والعدل وغير ذلك مما يجب تصديقه ، وبالإدبار الأدبار عن الباطل بأن يقولوا على الله بغير علم ، وأمثاله وحينئذ لا حاجة في الحديث إلى تأويل.

وأما المعنى السادس فلو قال أحد بجوهر مجرد لا يقول بقدمه ، ولا بتوقف تأثير الواجب في الممكنات عليه ، ولا بتأثيره في خلق الأشياء ، ويسميه العقل ، ويجعل بعض تلك الأخبار منطبقا على ما سماه عقلا ، فيمكنه أن يقول : إن إقباله عبارة عن توجهه إلى المبدأ وإدباره عبارة عن توجهه إلى النفوس لإشراقه عليها واستكمالها به.

فإذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك من الحق الحقيق بالبيان ، وبأن لا يبالي بما يشمئز عنه من نواقص الأذهان ، فاعلم أن أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبي والأئمة عليه‌السلام في أخبارنا المتواترة على وجه آخر ، فإنهم أثبتوا القدم للعقل ، وقد ثبت التقدم في الخلق لأرواحهم إما على جميع المخلوقات ، أو على سائر الروحانيين في أخبار متواترة ، وأيضا أثبتوا لها التوسط في الإيجاد أو الاشتراط في التأثير ، وقد ثبت في الأخبار كونهم علة غائية لجميع المخلوقات ، وأنه لولاهم لما

٢٩

أعاقب وإياك أثيب.

______________________________________________________

خلق الله الأفلاك وغيرها ، وأثبتوا لها كونها وسائط من إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح ، وقد ثبت في الأخبار أن جميع العلوم والحقائق في المعارف بتوسطهم يفيض على سائر الخلق حتى الملائكة والأنبياء ، والحاصل أنه قد ثبت بالأخبار المستفيضة : أنهم عليه‌السلام الوسائل بين الخلق وبين الحق في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق ، فكلما يكون التوسل بهم والإذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من الله تعالى أكثر ، ولما سلكوا سبيل الرياضات والتفكرات مستبدين بآرائهم على غير قانون الشريعة المقدسة ، ظهرت عليهم حقيقة هذا الأمر ملبسا مشبها فأخطأوا في ذلك وأثبتوا عقولا وتكلموا في ذلك فضولا ، فعلى قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبي صلوات الله عليه وآله الذي انشعبت منه أنوار الأئمة عليه‌السلام واستنطاقه على الحقيقة ، أو بجعله محلا للمعارف الغير المتناهية ، والمراد بالأمر بالإقبال ترقيه على مراتب الكمال وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوصال ، وبإدباره إما إنزاله إلى البدن أو الأمر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال ، فإنه يلزم التنزل عن غاية مراتب القرب ، بسبب معاشرة الخلق ويومئ إليه قوله تعالى ( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً ) (١) وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة.

ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال الإقبال إلى الخلق ، وبالإدبار الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ ، ويؤيده ما في بعض الأخبار من تقديم الأدبار على الإقبال.

وعلى التقادير فالمراد بقوله تعالى « ولا أكملتك » يمكن أن يكون المراد ولا أكملت محبتك والارتباط بك ، وكونك واسطة بينه وبيني إلا فيمن أحبه أو يكون الخطاب مع روحهم ونورهم عليهم‌السلام ، والمراد بالإكمال إكماله في أبدانهم الشريفة ،

__________________

(١) سورة الطلاق : ١٠.

٣٠

______________________________________________________

أي هذا النور بعد تشعبه ، بأي بدن تعلق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحب الخلق إلى الله تعالى ، وقوله : « إياك آمر » التخصيص إما لكونهم صلوات الله عليهم مكلفين بما لم يكلف به غيرهم ، ويتأتى منهم من حق عبادته تعالى ما لا يتأتى من غيرهم ، أو لاشتراط صحة أعمال العباد بولايتهم ، والإقرار بفضلهم بنحو ما مر من التجوز ، وبهذا التحقيق يمكن الجمع بين ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن أول ما خلق الله نوري ، وبين ما روي : أن أول ما خلق الله العقل ، وما روي أن أول ما خلق الله النور ، إن صحت أسانيدها ، وتحقيق هذا الكلام على ما ينبغي يحتاج إلى نوع من البسط والإطناب ولو وفينا حقه ، لكنا أخلفنا ما وعدناه في صدر الكتاب.

وأما ما رواه الصدوق في كتاب علل الشرائع بإسناده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل مما خلق الله عز وجل العقل؟ قال : خلقة ملك له رؤوس بعدد الخلائق ، من خلق ومن يخلق إلى يوم القيامة ، ولكل رأس وجه ولكل آدمي رأس من رؤوس العقل ، واسم ذلك الإنسان على وجه ذلك الرأس مكتوب ، وعلى كل وجه ستر ملقى لا يكشف ذلك الستر من ذلك الوجه حتى يولد هذا المولود ، ويبلغ حد الرجال أو حد النساء ، فإذا بلغ كشف ذلك الستر فيقع في قلب هذا الإنسان نور ، فيفهم الفريضة والسنة والجيد والرديء ، ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت.

فهو من غوامض الأخبار ، والظاهر أن الكلام فيه مسوق على نحو الرموز والأسرار ، ويحتمل أن يكون كناية عن تعلقه بكل مكلف وأن لذلك التعلق وقتا خاصا وقبل ذلك الوقت موانع عن تعلق العقل من الأغشية الظلمانية ، والكدورات الهيولانية ، كستر مسدول على وجه العقل ، ويمكن حمله على ظاهر حقيقته على بعض الاحتمالات السالفة ، وقوله : خلقة ملك ، لعله بالإضافة أي خلقته كخلقة الملائكة في لطافته وروحانيته ، ويحتمل أن يكون خلقه مضافا إلى الضمير مبتدأ ، وملك خبره ، أي خلقته خلقة ملك ، أو هو ملك حقيقة والله يعلم.

٣١

٢ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن عمرو بن عثمان ، عن مفضل بن صالح ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي عليه‌السلام قال هبط جبرئيل على آدم عليه‌السلام فقال يا آدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين فقال له آدم يا جبرئيل وما الثلاث فقال العقل والحياء والدين فقال آدم إني قد اخترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدين انصرفا ودعاه فقالا يا جبرئيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان قال فشأنكما وعرج.

٣ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له ما العقل قال ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان

______________________________________________________

الحديث الثاني : ضعيف.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هبط جبرئيل ، الظاهر أن آدم عليه‌السلام حين هبوط جبرئيل عليه كان ذا حياء وعقل ودين ، والأمر باختيار واحدة لا ينافي حصولها على أنه يحتمل أن يكون المراد كمال تلك الخلال بحسب قابلية آدم عليه‌السلام وقول جبريل عليه‌السلام للحياء والدين بعد اختيار العقل : انصرفا لإظهار ملازمتها للعقل بقولهما : إنا أمرنا أن نكون مع العقل ، ولعل الغرض من ذلك أن ينبه آدم عليه‌السلام على عظمة نعمة العقل ، ويحثه على شكر الله على إنعامه.

قوله : « فشأنكما » الشأن بالهمزة : الأمر والحال ، أي ألزما شأنكما أو شأنكما معكما ، ثم إنه يحتمل أن يكون ذلك استعارة تمثيلية كما مر أو أن الله تعالى خلق صورة مناسبة لكل واحد منها ، وبعثها مع جبرئيل عليه‌السلام والحياء صفة تنبعث عنها ترك القبيح عقلا مخافة الذم ، والمراد بالدين التصديق بما يجب التصديق به والعمل بالشرائع ، والنواميس الإلهية ، والمراد بالعقل ، هنا ما يشمل الثلاثة الأول.

الحديث الثالث : مرسل.

قوله عليه‌السلام : ما عبد به الرحمن ، الظاهر أن المراد بالعقل هنا المعنى الثاني من المعاني التي أسلفنا ، ويحتمل بعض المعاني الأخر كما لا يخفى ، وقيل : يراد به هنا

٣٢

قال قلت فالذي كان في معاوية فقال تلك النكراء تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن الحسن بن الجهم قال سمعت الرضا عليه‌السلام يقول صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله.

٥ ـ وعنه ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن الحسن بن الجهم قال قلت لأبي الحسن عليه‌السلام إن عندنا قوما لهم محبة وليست لهم تلك العزيمة يقولون بهذا القول فقال ليس أولئك ممن عاتب الله إنما قال الله ( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ )

______________________________________________________

ما يعد به المرء عاقلا عرفا وهو قوة التميز بين الباطل والحق ، والضار والنافع التي لا تكون منغمرة في جنود الجهل ، فعند غلبة جنوده لا يسمى الفطن المميز عاقلا ، حيث لا يعمل بمقتضى التميز والفطانة ، ويستعملها في مشتهيات جنود الجهل.

قوله : فالذي كان في معاوية ، أي ما هو؟ وفي بعض النسخ فما الذي؟ فلا يحتاج إلى تقدير.

قوله عليه‌السلام : تلك النكراء ، يعني الدهاء والفطنة ، وهي جودة الرأي وحسن الفهم ، وإذا استعملت في مشتهيات جنود الجهل يقال لها الشيطنة ونبه عليه‌السلام عليه بقوله : تلك الشيطنة بعد قوله : تلك النكراء.

الحديث الرابع : موثق ولا يقصر عن الصحيح.

والمراد بالعقل هنا كماله بأحد المعاني السابقة.

الحديث الخامس : مثل السابق سندا.

قوله : وليست لهم تلك العزيمة ، أي الرسوخ في الدين أو الاعتقاد الجازم بالإمامة ، اعتقادا ناشئا من الحجة والبرهان ، وعلى التقديرين المراد بهم المستضعفون الذين لا يمكنهم التميز التام بين الحق والباطل.

قوله : ممن عاتب الله ، أي عاتبه الله على ترك الاستدلال والعمل بالتقليد ،

٣٣

٦ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن حسان ، عن أبي محمد الرازي ، عن سيف بن عميرة ، عن إسحاق بن عمار قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام من كان عاقلا كان له دين ومن كان له دين دخل الجنة.

٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن الحسن بن علي بن يقطين ، عن محمد بن سنان ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إنما يداق الله العباد في الحساب ـ يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا.

٨ ـ علي بن محمد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر ، عن محمد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام فلان من عبادته ودينه وفضله فقال كيف عقله قلت لا أدري فقال إن الثواب على قدر العقل إن رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة

______________________________________________________

والمراد بالاعتبار الاستدلال ، وبالأبصار هنا العقول كما يظهر من كلامه عليه‌السلام.

الحديث السادس : ضعيف.

وأريد بالعقل هنا ما أريد به في الخبر الثالث ، والقياس ينتج أن من كان متصفا بالعقل بهذا المعنى يدخل الجنة.

الحديث السابع : ضعيف.

قوله : إنما يداق الله ، المداقة مفاعلة من الدقة ، يعني أن مناقشتهم في الحساب وأخذهم على جليلة ودقيقة على قدر عقولهم.

الحديث الثامن : ضعيف والظاهر أن علي بن محمد هو علي بن محمد بن عبد الله بن أذينة الذي ذكر العلامة أنه داخل في العدة التي تروي عن البرقي.

قوله : من عبادته ، بيان لقوله كذا وكذا ، خبر لقوله فلان ، ويحتمل أن يكون متعلقا بمقدر أي فذكرت من عبادته ، وأن يكون متعلقا بما عبر عنه بكذا كقوله فاضل كامل ، فكلمة « من » بمعنى « في » أو للسببية ، والنضارة : الحسن ، والطهارة هنا بمعناها اللغوي أي الصفا واللطافة ، وفي بعض النسخ بالظاء المعجمة أي كان جاريا

٣٤

الشجر ظاهرة الماء وإن ملكا من الملائكة مر به فقال يا رب أرني ثواب عبدك هذا فأراه الله تعالى ذلك فاستقله الملك فأوحى الله تعالى إليه أن اصحبه فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له من أنت قال أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك فكان معه يومه ذلك فلما أصبح قال له الملك إن مكانك لنزه وما يصلح إلا للعبادة فقال له العابد إن لمكاننا هذا عيبا فقال له وما هو قال ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع فإن هذا الحشيش يضيع فقال له ذلك الملك وما لربك حمار فقال لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش فأوحى الله إلى الملك إنما أثيبه على قدر عقله.

______________________________________________________

على وجه الأرض ، وفي الخبر إشكال من أن ظاهره كون العابد قائلا بالجسم ، وهو ينافي استحقاقه للثواب مطلقا وظاهر الخبر كونه مع هذه العقيدة الفاسدة مستحقا للثواب لقلة عقله وبلاهته ، فيمكن أن يكون اللام في قوله : لربنا بهيمة للملك لا للانتفاع ، ويكون مراده تمنى أن يكون في هذا المكان بهيمة من بهائم الرب لئلا يضيع الحشيش ، فيكون نقصان عقله باعتبار عدم معرفته بفوائد مصنوعات الله تعالى ، وبأنها غير مقصورة على أكل البهيمة ، لكن يأبى عنه جواب الملك إلا أن يكون لدفع ما يوهم كلامه ، أو يكون استفهاما إنكاريا أي خلق الله تعالى بهائم كثيرة ينتفعون بحشيش الأرض ، وهذه إحدى منافع خلق الحشيش ، وقد ترتبت بقدر المصلحة ، ولا يلزم أن يكون في هذا المكان حمار ، بل يكفي وجودك وانتفاعك ، ويحتمل أن يكون اللام للاختصاص لا على محض المالكية ، بل بأن يكون لهذه البهيمة اختصاص بالرب تعالى كاختصاص بيته به تعالى ، مع عدم حاجته إليه ، ويكون جواب الملك أنه لا فائدة في مثل هذا الخلق حتى يخلق الله تعالى حمارا وينسبه إلى مقدس جنابه تعالى كما في البيت ، فإن فيه حكما كثيرة ، وبالجملة لا بد إما من ارتكاب تكلف تام في الكلام ، أو التزام فساد بعض الأصول

٣٥

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله فإنما يجازى بعقله.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان قال ذكرت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل فقال أبو عبد الله وأي عقل له وهو يطيع الشيطان فقلت له وكيف يطيع الشيطان ـ فقال سله هذا الذي يأتيه من أي شيء هو فإنه يقول لك من عمل الشيطان.

١١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابه رفعه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل فنوم العاقل

______________________________________________________

المقررة في الكلام.

الحديث التاسع : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : فإنما يجازى بعقله ، أي على أعماله بقدر عقله فكل من كان عقله أكمل كان ثوابه أجزل.

الحديث العاشر : صحيح.

قوله : مبتلى بالوضوء والصلاة ، أي بالوسواس في نيتهما أو في فعلهما بالإبطال والتكرير على غير جهة الشرع ، أو بالمخاطرات التي تشتغل القلب عنهما ، وتوجب الشك فيهما ، والأوسط أظهر نظرا إلى عادة ذلك الزمان.

قوله : وهو يطيع الشيطان ، أي يفعل ما يأمره به من الوسواس ، أو يطيعه فيما يصير سببا لذلك ، فسأله السائل عن إبانة أنه يطيع بفعله الشيطان فنبه عليه‌السلام بأنه لو سئل عن مستنده لم يكن له بد من أن يسنده إلى الشيطان حيث لا شبهة أنه لا مستند له في الشرع ولا في العقل ، وعلى الأخير المراد أنه يعلم أن ما يعرض له من الخواطر والوساوس إنما هو بما أطاع الشيطان في سائر أفعاله.

الحديث الحادي عشر : مرسل.

قوله : فنوم العاقل ، إما لأنه لا ينام إلا بقدر الضرورة لتحصيل قوة العبادة

٣٦

أفضل من سهر الجاهل وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ولا بعث الله نبيا ولا رسولا حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته وما يضمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين وما أدى العبد فرائض الله حتى

______________________________________________________

فيكون نومه عبادة ، وسهر الجاهل للعبادة لما لم يكن موافقا للشرائط المعتبرة ومقرونا بالنيات الصحيحة تكون عبادة باطلة أو ناقصة ، فذاك النوم خير منه ، أو أن نوم العقلاء وكمل المؤمنين يوجب ارتباطهم بأرواح الأنبياء والمرسلين والملائكة المقر بين وما يضاهيهم من المقدسين ، واطلاعهم على الألواح السماوية ورجوعهم إلى عوالمهم القدسية التي كانوا فيها قبل نزولهم إلى الأبدان ، فهو معراج لهم وما يرون فيه بمنزلة الوحي ، فلذا عدت الرؤيا الصادقة من أجزاء النبوة ، وسنبسط القول في ذلك في شرح كتاب الروضة.

قوله عليه‌السلام : من شخوص الجاهل ، أي خروجه من بلده ومسافرته إلى البلاد طلبا لمرضاته تعالى كالجهاد والحج وغيرهما.

قوله : حتى يستكمل العقل ، أي يسعى في كماله بتوفيقه تعالى فإن أصل العقل موهبي ويكمل بالعلم والعمل وقراءته على بناء المفعول ، أو إرجاع الضمير إلى الله تعالى بعيد.

قوله : وما يضمر النبي في نفسه ، أي من النيات الصحيحة والتفكرات الكاملة والعقائد اليقينية.

قوله : وما أدى العبد ، أي لا يمكن للعبد أداء الفرائض كما ينبغي إلا بأن يعقل ويعلم من جهة مأخوذة عن الله تعالى بالوحي ، أو بأن يلهمه الله معرفته أو بأن يعطيه الله عقلا به يسلك سبيل النجاة ، وفي نسخ محاسن البرقي حتى عقل منه أي لا يعمل فريضة حتى يعقل من الله ويعلم أن الله أراد تلك منه ، ويعلم آداب إيقاعها ويحتمل أن يكون المراد أعم من ذلك ، أي يعقل ويعرف ما يلزمه معرفته ، فمن ابتدائية

٣٧

عقل عنه ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل والعقلاء هم أولو الألباب الذين قال الله تعالى ـ وما يتذكر ( إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (١).

١٢ ـ أبو عبد الله الأشعري ، عن بعض أصحابنا رفعه ، عن هشام بن الحكم قال قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام يا هشام إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال ( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (٢).

يا هشام إن الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيين

______________________________________________________

على التقديرين ، ويحتمل على بعد أن تكون تبعيضية ، أي عقل من صفاته وعظمته وجلاله ما يليق بفهمه ويناسب قابليته واستعداده.

الحديث الثاني عشر : مرسل وهو مختصر مما أورده الشيخ الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول وأوردته بطوله في كتاب بحار الأنوار مشروحا.

قوله تعالى ( يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ) : المراد بالقول إما القرآن أو مطلق المواعظ ( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي إذا رد دوابين أمرين منها لا يمكن الجمع بينهما يختارون أحسنهما ، وعلى الأول يحتمل أن يكون المراد بالأحسن ، المحكمات أو غير المنسوخات ويمكن أن يحمل القول على مطلق الكلام ، إذ ما من قول حق إلا وله ضد باطل ، فإذا سمعها اختار الحق منهما ، وعلى تقدير أن يكون المراد بالقول القرآن أو مطلق المواعظ ، يمكن إرجاع الضمير إلى المصدر المذكور ضمنا أي يتبعونه أحسن اتباع.

قوله عليه‌السلام : الحجج ، أي البراهين أو الأنبياء والأوصياء عليه‌السلام أو الاحتجاج وقطع العذر أي أكمل حجته على الناس بما آتاهم من العقول ، ويمكن أن يكون المراد أن الله تعالى أكمل حجج الناس بعضهم على بعض ، بما آتاهم من العقل إذ غايته الانتهاء إلى البديهي ولو لا العقل لأنكره ، والأدلة ما بين في كتابه من دلائل الربوبية

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦٩. وفيها « وما يذكر .... اه ».

(٢) سورة زمر : ١٨.

٣٨

بالبيان ودلهم على ربوبيته بالأدلة فقال ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

______________________________________________________

والوحدانية أو ما أظهر من آثار صنعته وقدرته في الآفاق وفي أنفسهم ، والأول أنسب بالتفريع ، والمراد بالبيان أما الفصاحة أو المعجزات أو قدرتهم على إتمام كل حجة ، وجواب كل شبهة ، وإبانة كل حق على كل أحد بما يناسب حاله وعلمهم بكل شيء كما قال صلوات الله عليه « وأوتيت الحكمة وفصل الخطاب ».

قوله تعالى : ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) : أي المستحق لعبادتكم واحد حقيقي لا شريك له في استحقاق العبادة ، ولا في وجوب الوجود الذاتي ولا في صفاته ووحدته الحقيقية ، وقوله تعالى ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ) استئناف لبيان الوحدة أو تأكيد للفقرة السابقة ، أو تعميم بعد التخصيص دفعا لما يتوهم من جواز أن يكون المستحق لعبودية غيركم متعددا أو الإله في الأولى الخالق ، وفي الثانية المستحق للعبادة ، فتكون الثانية متفرعة على الأولى ، ويحتمل العكس ، فيكون من قبيل اتباع المدعى بالدليل ( الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ) خبران لمبتدء محذوف ، أو خبران آخران لقوله ( إِلهُكُمْ ) ولعل التوصيف بهما لبيان أنه تعالى يستحق العبادة لذاته الكاملة ونعمة الشاملة معا فتدبر.

ثم استدل سبحانه على تلك الدعاوي بقوله ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) أي إيجادهما من كتم العدم ( وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) أي تعاقبهما على هذا النظام المشاهد بأن يذهب أحدهما ويجيء الآخر خلفه ، وبه فسر قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً ) أو تفاوتهما في النور والظلمة ، أو في الزيادة والنقصان ، ودخول أحدهما في الآخر ، أو في الطول والقصر ، بحسب العروض أو اختلاف كل ساعة من ساعاتهما بالنظر إلى الأمكنة المختلفة ، فأية ساعة فرضت فهي صبح لموضع وظهر لآخر ، وهكذا ، والفلك يجيء مفردا وجمعا وهو السفينة ، وما في قوله تعالى

٣٩

وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١)

______________________________________________________

( بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ) إما مصدرية أي بنفعهم أو موصولة أي بالذي ينفعهم من المحمولات والمجلوبات ، ( وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ) من الأولى للابتداء ، والثانية للبيان والسماء يحتمل الفلك والسحاب ، وجهة العلو وإحياء الأرض بالنباتات والأزهار والثمرات ( وَبَثَّ فِيها ) عطف على « أنزل » أو على « أحيى » فإن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالمطر ، والبث : النشر والتفريق والمراد بتصريف الرياح إما تصريفها في مهابها قبولا ودبورا ، وجنوبا وشمالا أو في أحوالها حارة وباردة ، وعاصفة ولينة ، وعقيمة ولواقح ، أو جعلها تارة للرحمة وتارة للعذاب ( وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ ) أي لا ينزل ولا ينقشع ، مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله ، وقيل مسخر للرياح تقلبه في الجو بمشية الله تعالى ، أو سخره الله وهيأه لمصالحنا ( لَآياتٍ ) أي علامات ودلالات وبراهين تدل لإمكانها على صانع واجب الوجود بالذات ، ترفع الحاجة من الممكنات إذ الممكن لا يرفع حاجة الممكن ، ولإتقانها وكونها على وفق الحكم والمصالح التي تعجز جميع العقول عن الإحاطة بعشر أعشارها ، على كون صانعها حكيما عليما قادرا رحيما بعباده ، لا يفوت شيئا من مصالحهم ، وللجهتين جميعا على كونه مستحقا للعبادة ، إذ العقل يحكم بديهة بأن الكامل من جميع الجهات ، العاري من جميع النقائص والآفات ، القادر على إيصال جميع الخيرات والمضرات ، هو أحق بالمعبودية من غيره لجميع الجهات ، وأيضا لما دلت الأحكام والانتظام على وحدة المدبر كما سيأتي بيانه دل على وحدة المستحق للعبادة ، وكل ذلك ظاهر لقوم عقلهم في درجة الكمال ، وفي الآية دلالة على لزوم النظر في خواص مصنوعاته تعالى ، والاستدلال بها على وجوده ووحدته وعمله وقدرته وحكمته وسائر صفاته ، وعلى جواز ركوب البحر والتجارات والمسافرات لجلب الأقوات والأمتعة.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٦٣.

٤٠