مرآة العقول - ج ١

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

٢٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد مرسلا قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام دعامة الإنسان العقل والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم وبالعقل يكمل وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما حافظا ذاكرا

______________________________________________________

التي لا يعرفه إلا الله العقل كما مر في الخبر ، قيل : ويحتمل أن يكون المراد أن حجة الله على العباد أي ما يقطع به عذرهم ، فيبكتهم اللطف بهم بإرسال النبي والمتوسط في الإيصال إلى معرفته تعالى ومعرفة الرسول ، والطريق إلى المعرفة بين العباد وبين الله هو العقل ويناسب هذا إيراد لفظة « على » أو لا وتركها ثانيا.

الحديث الثالث والعشرون مرسل.

قوله عليه‌السلام دعامة الإنسان : الدعامة بكسر الدال عماد البيت ، والمراد أن قيام أمر الإنسان ونظام حاله بالعقل ، ويحتمل أن يكون بالنظر إلى النوع ، فلو لا العقل لما بقي النوع ، لأن الغرض من إيجاد الإنسان المعرفة التي لا تحصل إلا بالعقل والعقل يحصل أو ينشأ منه الفطنة ، وهي سرعة إدراك الأمور على الاستقامة وهذا كالدليل السابق.

قوله عليه‌السلام وبالعقل : أي كاملة يكمل أي الإنسان وهو أي العقل الكامل دليله أي دليل الإنسان ، يدله على الحق ، ومبصره بصيغة اسم الفاعل على بناء الأفعال أو التفعيل ، أي جاعله بصيرا وموجب لبصيرته كقوله تعالى ( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً ) (١) أو بكسر الميم وفتح الصاد اسم آلة أي ما به بصيرته ، أو بفتح الميم والصاد اسم مكان ، أي ما فيه بصيرته وعلمه ، وفي القاموس : المبصر والمبصرة : الحجة ، ومفتاح أمره أي به يفتح ما أغلق عليه من الأمور الدينية والدنيوية والمسائل الغامضة.

قوله عليه‌السلام فإذا كان تأييد عقله من النور : اعلم أن النور لما كان سببا لظهور المحسوسات يطلق على كل ما يصير سببا لظهور الأشياء على الحس والعقل ، فيطلق

__________________

(١) سورة النمل : ١٣.

٨١

فطنا فهما فعلم بذلك كيف ولم وحيث وعرف من نصحه ومن غشه فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله

______________________________________________________

على العلم وعلى أرواح الأئمة عليه‌السلام ، وعلى رحمة الله سبحانه ، وعلى ما يلقيه في قلوب العارفين من صفاء وجلاء ، به يظهر عليهم حقائق الحكم ودقائق الأمور ، وعلى الرب تبارك وتعالى لأنه نور الأنوار ، ومنه يظهر جميع الأشياء في الوجود العيني ، والانكشاف العلمي ، وهنا يحتمل الجميع ، ومن قال بالعقول المجردة ربما يفسر النور هنا بها ، وتأييده بإشراقها عليه كما أومأنا سابقا إليه ، وقد عرفت ما فيه « كان عالما » ذاكرا لربه بحيث لا يشغله عنه شيء فطنا فهما في غاية الكمال فكان كاملا في القوتين النظرية والعملية وما يذكر بعد ذلك بعضه إشارة إلى الأولى وبعضه إلى الثانية كما سيظهر.

قوله عليه‌السلام فعلم بذلك كيف : أي كيفية الأعمال والأخلاق أو كيفية السلوك إلى الآخرة ، والوصول إلى الدرجات العالية أو حقائق الأشياء و « لم » أي علقة الأشياء السالفة وغايتها ، أو علل وجودها وما يؤدي إليها كعلة الأخلاق الحسنة فإنه إذا عرفها يجتنبها ، أو أنه يتفكر في علقة العلل ومبدء المبادئ وسائر العلل المتوسطة ، أو يتفكر في دلائل جميع الأمور ولا يأخذها بمحض التقليد و « حيث » أي يعلم مواضع الأمور فيضعها فيها ، كالإمامة في أهل بيت الرسالة والنصيحة فيمن يقبلها ، والحكمة فيمن هو أهل لها ، أو حيثيات الأشياء والأحكام واعتباراتها المختلفة الموجبة لاختلاف أحوالها و « عرف من نصحه » أي يقبل النصح منه وإن كان عدوه وعرف غش من غشه وإن كان صديقه ، أو عرف صديقه الواقعي من عدوه الواقعي ، بما يظهر منهم أو بنور الإيمان كما كان للأئمة عليه‌السلام يعرفون كلا بسيماهم.

قوله عليه‌السلام عرف مجراه ، اسم مكان أو مصدر ، أي سبيله الذي يجري فيه إلى الحق أو يعلم أنه متوجه إلى الآخرة ويعمل بمقتضى هذا العلم ولا يتشبث بالدنيا

٨٢

وأخلص الوحدانية لله والإقرار بالطاعة فإذا فعل ذلك كان مستدركا لما فات وواردا على ما هو آت يعرف ما هو فيه ولأي شيء هو هاهنا ومن أين يأتيه وإلى ما هو صائر وذلك كله من تأييد العقل

______________________________________________________

وشهواتها « وموصولة ومفعوله » كل منهما إما اسم مفعول أو مصدر أو اسم للمصدر ، أي ما ينبغي الوصل معه من الأشخاص والأعمال والأخلاق وما ينبغي أن يفصل عنه من جميع ذلك ، أو يعلم ما يبقى له في النشأة الآخرة ، ويصل إليه وما ينقطع عنه من أمور الدنيا الفانية ، وقيل : أي ما يوصل إلى المقصود الحقيقي وما يفصله عنه وهو بعيد.

وأخلص الوحدانية لله : أي علم أنه الواحد الحقيقي الذي لا جزء له في الخارج ولا في العقل ولا في الوهم ، وصفاته عين ذاته ولا تكثر فيه بوجه من الوجوه ولا شريك له في الإلهية ، والإقرار بالطاعة : أي أقر بأنه لا يستحق الطاعة غيره سبحانه « فإذا فعل ذلك » أي إخلاص الوحدانية والطاعة ، ويحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى الرجل المؤيد ، أي إذا فعل فعلا كان مستدركا بذلك الفعل لما فات والأول أظهر.

« على ما هو آت » أي من الأعمال الحسنة أو المراتب العالية « يعرف ما هو فيه » أي النشأة الفانية وفناؤها ومعيبها أو من العقائد والأعمال والأخلاق ، فإن كانت حقة لزمها وإن كانت باطلة تركها.

قوله عليه‌السلام : ولأي شيء هو ههنا ، أي يعرف أنه تعالى إنما أنزله إلى الدنيا لمعرفته وعبادته وتحصيل السعادات الأخروية فيبذل همته فيها.

قوله عليه‌السلام : ومن أين يأتيه ، أي النعم والخيرات ويعلم مولاها فيشكره ويتوكل عليه ولا يتوسل بغيره تعالى في شيء منها ، أو الأعم منها ومن البلايا والآفات والشرور والمعاصي فيعلم أن المعاصي من نفسه الأمارة ومن الشيطان ، فيحترس منهما وكذا سائر الأمور وعللها.

قوله عليه‌السلام وإلى ما هو صائر ، أي إلى أي شيء هو صائر ، أي الموت وأحوال القبر وأهوال الآخرة ونعيمها وعذابها ، أو الأعم منها ومن درجات الكمال ، ودركات النقص والوبال ، وإضافة التأبيد إلى العقل إما إلى الفاعل أو إلى المفعول فتفطن.

٨٣

٢٤ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال العقل دليل المؤمن.

٢٥ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن حماد بن عثمان ، عن السري بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا علي لا فقر أشد من الجهل ولا مال أعود من العقل.

٢٦ ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن ابن أبي نجران ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك إياك آمر وإياك أنهى وإياك أثيب وإياك أعاقب.

٢٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الهيثم بن أبي مسروق النهدي ، عن الحسين بن خالد ، عن إسحاق بن عمار قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل آتيه وأكلمه ببعض كلامي فيعرفه كله ومنهم من آتيه فأكلمه بالكلام فيستوفي كلامي كله ثم يرده علي كما كلمته ومنهم من آتيه فأكلمه فيقول أعد علي فقال يا إسحاق وما تدري لم هذا قلت لا قال الذي تكلمه ببعض كلامك فيعرفه كله

______________________________________________________

الحديث الرابع والعشرون ضعيف.

الحديث الخامس والعشرون ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : أعود ، أي أنفع.

الحديث السادس والعشرون ضعيف في المشهور وقد مر الكلام فيه.

الحديث السابع والعشرون مجهول وفي بعض النسخ الحسن بن خالد وهو أيضا مجهول والظاهر الحسين كما في العلل.

قوله : ثم يرده علي : أي أصل الكلام كما سمعه أو يجيب على ما كلمته والثاني أظهر.

قوله عليه‌السلام : وما تدري لم هذا؟ قيل : إنما قال عليه‌السلام ذلك تتمة لسؤاله ولذا

٨٤

فذاك من عجنت نطفته بعقله وأما الذي تكلمه فيستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك فذاك الذي ركب عقله فيه في بطن أمه وأما الذي تكلمه بالكلام فيقول أعد علي فذاك الذي ركب عقله فيه بعد ما كبر فهو يقول لك أعد علي.

٢٨ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن بعض من رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا رأيتم الرجل كثير الصلاة كثير الصيام فلا تباهوا به حتى تنظروا كيف عقله.

٢٩ ـ بعض أصحابنا رفعه ، عن مفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال يا مفضل لا يفلح من لا يعقل.

______________________________________________________

أتى بالعاطف فصدقه السائل بقوله « لا » أي لا أدري ويحتمل أن يكون قوله : وما تدري استفهاما أي أو ما تدري لكن لا يحسن الواو فإنه لا وجه للعطف حينئذ والأحسن الاستئناف « انتهى » ثم اعلم أنه يحتمل أن يكون كلامه عليه‌السلام في الجواب جاريا على وجه المجاز ، لبيان اختلاف الأنفس في الاستعدادات الذاتية أي كأنه عجنت نطفته بعقله مثلا ، وأن يكون المراد أن بعض الناس يستكمل نفسه الناطقة بالعقل واستعداد فهم الأشياء وإدراك الخير والشر ، عند كونه نطفة ، وبعضهم عند كونه في البطن ، وبعضهم بعد كبر الشخص واستعمال الحواس وحصول البديهيات وتجربة الأمور ، وأن يكون المراد الإشارة إلى أن اختلاف المواد البدنية له مدخل في اختلاف العقل.

الحديث الثامن والعشرون مرسل.

قوله عليه‌السلام فلا تباهوا به : من المباهاة بمعنى المفاخرة ، وقال بعض الأفاضل : يحتمل أن يكون من المهموز فخفف ، أي لا تؤانسوا به حتى تنظروا كيف عقله ، قال الجوهري بهات بالرجل وبهئت به بالفتح والكسر بهاء وبهوءا : أنست به.

الحديث التاسع والعشرون ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : لا يفلح من لا يعقل ، الفلاح : الفوز والنجاة ، والمراد بمن لا يعقل

٨٥

ولا يعقل من لا يعلم وسوف ينجب من يفهم ويظفر من يحلم والعلم جنة والصدق عز والجهل ذل والفهم مجد والجود نجح وحسن الخلق مجلبة للمودة

______________________________________________________

من لا يتبع حكم العقل ، ولا يكون عقله مستوليا على هوى نفسه ، أو من لا يكون عقله كاملا ، أو يتعقل ويتفكر فيما ينفعه ولا يعقل ولا يستولي عقله ، أو لا يكون عقله كاملا أو يتعقل من لا يحصل العلم ليصير ذا علم ، أو من لا يكون عالما بما يجب عليه وما ينبغي تعقله والتدبر فيه.

قوله عليه‌السلام : وسوف ينجب ، النجيب : الفاضل النفيس في نوعه ، والمراد أنه من يكون ذا فهم فهو قريب من أن يصير عالما ، ومن صار عالما فقريب من أن يستولي عقله على هوى نفسه.

قوله عليه‌السلام ويظفر : أي الحلم سبب للظفر على العدو أو الظفر بالمقصود ، أو الاستيلاء على النفس والشيطان.

قوله عليه‌السلام والعلم جنة : أي وقاية من غلبة القوي الشهوانية والغضبية والدواعي النفسانية ومن أن يلتبس عليه الأمر وتدخل عليه الشبهة أو سبب للاحتراز عن شر الأعادي كالجنة إذ بالعلم يمكن الظفر على الأعادي الظاهرة والباطنة.

قوله عليه‌السلام والصدق عز : أي شرف أو قوة وغلبة ، وقيل : المراد بالصدق هنا الصدق في الاعتقاد ولذا قابله بالجهل ، فإن الاعتقاد الكاذب جهل ، كما أن الاعتقاد الصادق علم.

قوله عليه‌السلام والفهم مجد : المجد نيل الشرف والكرم.

قوله عليه‌السلام والجود نجح ، النجح بالضم : الظفر بالحوائج.

قوله عليه‌السلام مجلبة : هي إما مصدر ميمي حمل مبالغة ، أو اسم مكان أو اسم آلة والأول أوفق بنظائره.

٨٦

والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس والحزم مساءة الظن وبين المرء والحكمة نعمة

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام لا تهجم عليه اللوابس : الهجوم الإتيان بغتة ، واللوابس الأمور المشتبهة ، والحاصل أن من عرف أهل زمانه وميز بين حقهم وباطلهم ، وعالمهم وجاهلهم ، ومن يتبع الحق ومن يتبع الأهواء منهم ، لا يشتبه عليه الأمور ، ويتبع المحقين ويترك المبطلين ، ولا تعرض له شبهة ، بكثرة أهل الباطل وقلة أهل الحق وغلبة المبطلين وضعف المحقين.

قوله : والحزم مساءة الظن ، الحزم إحكام الأمر وضبطه والأخذ فيه بالثقة ، والمساءة مصدر ميمي ، والمراد أن إحكام الأمر وضبطه والأخذ فيه بالثقة يوجب سوء الظن ، أو يترتب على سوء الظن بأهل الزمان بعدم الاعتماد عليهم في الدين والدنيا وهذا مما يؤكد الفقرة السابقة ، « فإن قيل » : قد ورد في الأخبار أنه يجب حسن الظن بالإخوان وحمل أقوالهم وأفعالهم على المحامل الصحيحة وهذا ينافيه؟ « قلت » يحتمل الجمع بينهما بوجهين ، الأول : أن تلك الأخبار محمولة على ما إذا ظهر كونهم من المؤمنين ، وهذا على عدمه ، الثاني : أن يقال حمل أفعالهم وأقوالهم على المحامل الصحيحة لا ينافي عدم الاعتماد عليهم في أمور الدين والدنيا ، حتى يظهر منهم ما يوجب اطمئنان النفس بهم ، والوثوق عليهم ، وسيأتي بعض القول في ذلك في كتاب الإيمان والكفر.

قوله عليه‌السلام بين المرء والحكمة : أقول : يحتمل هذا الكلام وجوها من التأويل إذ يمكن أن يقرأ العالم بكسر اللام وبفتحها ، ومجرورا بالإضافة ومرفوعا ، وعلى كل من التقادير يحتمل وجوها : « الأول » : ما ذكره بعض أفاضل المحشين قد سقى الله روحه ، حيث قال : لعل المراد بكون الشيء بين المرء والحكمة كونه موصلا للمرء إليها ، وواسطة في حصولها له ، كما ورد في رواية جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين العبد والكفر ترك الصلاة ، أي تركها موصل للعبد إلى الكفر ، والغرض أن ما أنعم الله به على العالم من العلم والفهم والصدق على الله ، واسطة للمرء توصله إلى

٨٧

العالم والجاهل شقي بينهما.

______________________________________________________

الحكمة ، فإن المرء إذا عرف حال العالم أتبعه وأخذ منه ، فيحصل له الحكمة ومعرفة الحق والإقرار به والعمل على وفقه ، وكذا بمعرفة حال الجاهل ، وأنه غير عالم فهم صادق على الله يترك متابعته ، والأخذ منه ويسعى في طلب العالم ، فيطلع عليه ويأخذ منه ، فالجاهل باعتبار سوء حاله باعث بعيد لوصول المرء إلى الحكمة ، وهو شقي محروم يوصل معرفة حاله المرء إلى سعادة الحكمة ، وهذا الكلام كالتفسير والتأكيد لما سبقه ، ويحتمل أن يحمل البينية في الأول على التوسط في الإيصال ، وفي الثاني على كون الشيء حاجزا مانعا من الوصول ، فالجاهل شقي مانع من الوصول إلى الحكمة ، ثم قال : ولا يبعد أن يقال : المراد بنعمة العالم ، العالم نفسه ، والإضافة بيانية أو يكون العالم بدلا من قوله : نعمة ، فإن العالم أشرف ما أنعم الله بوجوده على عباده.

الثاني ما ذكره بعض أفاضل الشارحين أيضا حيث قال : لعل المراد به أن الرجل الحكيم من لدن عقله وتميزه إلى بلوغه حد الحكمة متنعم بنعمة العلم ونعيم العلماء فإنه لا يزال في نعمة من أغذية العلوم وفواكه المعارف ، فإن معرفة الحضرة الإلهية لروضة فيها عين جارية وأشجار مثمرة قطوفها دانية ، بل جنة عرضها كعرض السماء والأرض ، والجاهل بين مبدء أمره ومنتهى عمره في شقاوة عريضة ، وطول أمل طويل ، ومعيشة ضنك وضيق صدر وظلمة قلب ، إلى قيام ساعته ، وكشف غطائه ، وفي الآخرة عذاب شديد « انتهى كلامه » وهو مبني على الإضافة.

الثالث ما ذكره الوالد العلامة نقلا عن مشايخه العظام قدس الله أرواحهم : وهو أن يقرأ نعمة بالتنوين ويكون العالم مبتدأ والجاهل معطوفا عليه ، وشقي خبر كل منهما ، والضمير في بينهما راجع إلى المرء والحكمة ، والحاصل أن الذي يوصل المرء إلى الحكمة هو توفيق الله تعالى وهو من أعظم نعمه على العباد ، والعالم والجاهل يشقيان ويتعبان بينهما ، فمع توفيقه تعالى لا يحتاج إلى سعي العالم ولا يضر منع

٨٨

______________________________________________________

الجاهل ، ومع خذلانه تعالى لا ينفع سعي العالم ويؤيد هذا ما في بعض النسخ من قوله يسعى مكان شقي.

الرابع : أن يقرأ العالم بالفتح إما مجرورا بالإضافة البيانية أو مرفوعا بالبدلية أي بين المرء والحكمة نعمة هي العالم ، فإن بالتفكر فيه وفي غرائب صنعه تعالى يصل إلى الحكمة ، والجاهل شقي محروم بين الحكمة وتلك النعمة.

الخامس : أن يقرأ العالم بالكسر مرفوعا على البدلية ويكون الضمير في بينهما راجعا إلى الجاهل والحكمة ، والمعنى أن بين المرء ووصوله إلى الحكمة نعمة هي العالم ، فإن بهدايته وإرشاده وتعليمه يصل إلى الحكمة ، والجاهل يتوسط بينه وبين الحكمة شقي يمنعه عن الوصول إليها.

السادس : أن يقرأ العالم بالكسر والجر بالإضافة اللامية ، وضمير بينهما راجعا إلى الحكمة ، ونعمة العالم أي يتوسط بين المرء والحكمة نعمة العالم ، وهي إرشاده وتعليمه ، والجاهل محروم بين الحكمة وتلك النعمة أي منهما جميعا.

السابع ما ذكره بعض الشارحين أيضا : وهو أن يكون البين مرفوعا بالابتدائية ونعمة خبره مضافا إلى [ العالم بكسر اللام والجاهل أيضا مرفوعا بالابتدائية وشقي خبره مضافا إلى ] بينهما ، وضمير بينهما راجعا إلى المرء والحكمة ، وقال : المراد بالعالم إمام الحق وبالجاهل إمام الجور ، وحاصل المعنى : أن وصل المرء مع الحكمة نعمة للإمام تصير سببا لسروره ، لأن بالهداية يفرح الإمام وإمام الجور يتعب ويحزن بالوصل بين المرء والحكمة ، ولا يخفى ما فيه.

الثامن : قرأ بعضهم نعمة العالم بفتح النون يعني أن الموصل للمرء إلى الحكمة تنعم العالم بعلمه ، فإذا رآه المرء انبعث نفسه إلى تحصيل الحكمة ، والجاهل له شقاوة حاصلة من بين المرء والحكمة ، أو المتعلم والعالم ، وذلك لأنه لا يزال يتعب نفسه إما بالحسد أو الحسرة على الفوت ، أو السعي في التحصيل مع عدم القابلية.

٨٩

والله ولي من عرفه وعدو من تكلفه والعاقل غفور والجاهل ختور وإن شئت أن تكرم فلن وإن شئت أن تهان فاخشن ومن كرم أصله لان قلبه.

______________________________________________________

أقول : والكلام يحتمل وجوها آخر ذكرها يوجب الإطناب ، ويمكن فهم بعضها مما أومأنا إليه من المحتملات والله تعالى وحججه عليه‌السلام أعلم بحقائق كلامهم.

قوله عليه‌السلام ولي من عرفه : أي محبة أو ناصره ، أو المتولي لأموره حتى يبلغ به حد الكمال.

قوله عليه‌السلام من تكلفه : أي تكلف معرفته وأظهر من معرفته ما ليس له ، أو طلب من معرفته تعالى ما ليس في وسعه وطاقته.

قوله عليه‌السلام غفور : أي يعفو عن زلات الناس ، أو يستر عيوبهم ، أو يصلح نفسه وغيره ، من غفر الأمر بمعنى أصلحه.

قوله عليه‌السلام ختور : هو من الختر بمعنى المكر والخديعة ، وقيل : بمعنى خباثة النفس وفسادها ، قال الفيروزآبادي : الختر : الغدر والخديعة ، وخترت نفسه خبثت وفسدت.

قوله عليه‌السلام تهن : الظاهر تهان كما في بعض النسخ ، وعلى ما في أكثر النسخ يمكن أن يقرأ على المعلوم من وهن يهن بمعنى ضعف.

قوله عليه‌السلام ومن كرم أصله : لعل المراد بكرم الأصل كون النفس فاضلة شريفة أو كون طينته طيبة كما يدل عليه قوله : خشن عنصره وإنما نسب اللين إلى القلب والغلظة إلى الكبد ، لأنهما من صفات النفس ولكل منهما مدخلية في التعطف والغلظة ، وسرعة قبول الحق وعدمها ، فنسب في كل من الفرقتين إلى أحدهما ليظهر مدخليتهما في ذلك ، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى سرعة الانقياد للحق وقبوله ، والثاني إلى عدم الشفقة والتعطف على العباد ، ويمكن أن يكون النكتة في العدول عن القلب إلى الكبد التنبيه على أن الجاهل لا قلب له ، فإن القلب يطلق على محل المعرفة

٩٠

ومن خشن عنصره غلظ كبده ومن فرط تورط ومن خاف العاقبة تثبت عن التوغل فيما لا يعلم ومن هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه ومن لم يعلم لم يفهم ومن لم يفهم لم يسلم ومن لم يسلم لم يكرم ومن لم يكرم يهضم ومن

______________________________________________________

والإيمان ، قال سبحانه : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) (١) وربما يجعل لين القلب إشارة إلى عدم المبالغة في القهر والغلبة والتسلط ، وغلظة الكبد إلى قوة القوي الشهوانية ، لأن الكبد آله للنفس البهيمية ، والقوة الشهوية لأنه آلة للتغذية وتوزيع بدل ما يتحلل على الأعضاء ، فيوجب قوة الرغبة في المشتهيات.

قوله عليه‌السلام ومن فرط : بالتشديد أو التخفيف بمعنى قصر ، أي من قصر في طلب الحق وفعل الطاعات أوقع نفسه في ورطات المهالك ، أو بالتخفيف بمعنى سبق أي من استعجل في ارتكاب الأمور وبادر إليها من غير تفكر للعواقب أوقع نفسه في المهالك ، قال الجوهري : فرط في الأمر يفرطه أي قصر فيه ، وضيقه حتى فات ، وكذلك التفريط وفرط عليه أي عجل وعدا ومنه قوله تعالى ( إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا ) (٢) وفرط إليه مني قول ، أي سبق ، وقال : الورطة الهلاك ، والتورط الوقوع فيها ، والتوغل : الدخول في الأمر بالاستعجال من غير روية.

قوله عليه‌السلام جدع أنف نفسه : أي جعل نفسه ذليلا غاية الذل ، والجدع قطع الأنف.

قوله عليه‌السلام ومن لم يعلم ... أي من لم يكن عالما بشيء لم يميز بين الحق والباطل فيه ، ومن لم يميز بين الحق والباطل لم يسلم من ارتكاب الباطل ، بل لا يسلم في شيء أصلا ، أما في ارتكاب الباطل فظاهر ، وأما في ارتكاب الحق إن اتفق فلأن القول به بلا علم هلاك وضلالة ، ومن لم يسلم لم يكرم على البناء للمفعول أي لم يعامل معه معاملة الكرام بل يخذل ، أو على النبإ للفاعل أي لم يكن شريفا فاضلا ومن لم يكرم يهضم على البناء للمفعول أي يكسر عزه وبهاؤه ، ويهان أو يترك مع نفسه ويوكل أمره إليه ، أو يظلم ومن يهضم كان ألوم أي أشد ملامة وأكثر استحقاقا

__________________

(١) سورة ق : ٣٧.

(٢) سورة طه : ٤٥.

٩١

يهضم كان ألوم ومن كان كذلك كان أحرى أن يندم.

٣٠ ـ محمد بن يحيى رفعه قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام من استحكمت لي فيه خصلة من خصال الخير احتملته عليها واغتفرت فقد ما سواها ولا أغتفر فقد عقل ولا دين لأن مفارقة الدين مفارقة الأمن فلا يتهنأ بحياة مع مخافة وفقد العقل فقد الحياة ولا يقاس إلا بالأموات.

______________________________________________________

لأن يلام ، ومن كان كذلك كان أجدر بالندامة على ما ساقه إلى نفسه من الملامة بسبب التوغل فيما لا يعلم.

الحديث الثلاثون مرسل.

قوله عليه‌السلام من استحكمت : الخصلة تستعمل في الصفات فضائلها ورذائلها ، ولكن استعمالها في الفضائل أكثر ، ويقال : أحكمتها فاستحكمت أي صارت محكمة ، والمراد بصيرورتها محكمة صيرورتها ملكة ، وقوله : لي ، باعتبار تضمين معنى الثبوت أو ما يشابهه ، كذا قيل ، ويمكن أن يقال : لما كان الإمام راعيا للناس رقيبا عليهم ، لكان تحصيل هذه الصفات له ولرضاه ، فلذا أضافها إلى نفسه ، وتتمة الخبر يؤيده ، وقوله : احتملته عليها أي قبلته كائنا على هذه الخصلة ، وتجاوزت عن فقد ما سواها من خصال الخير ، وارتضيت حاله هذه له ، والحاصل تجويز نجاته بسبب الخصلة الواحدة ، ثم استثنى عليه‌السلام من تلك الخصال العقل والدين ، فإنه لا يمكن الاكتفاء بأحدهما عن الآخر ، ولا بغيرهما عنهما ، ثم استدل عليه‌السلام على ذلك بقوله لأن مفارقة الدين مفارقة الأمن ، لأن من لا يكون له دين لا يأمن في الدنيا من القتل وأخذ الأموال والذل والصغار وفي الآخرة من عذاب النار ، ويحتمل أن يكون المراد بالدين كماله وأخذه من أئمة الدين ، فبفقد ذلك لا يؤمن عليه أن يخرج من الدين بوساوس الشياطين ، وعلى هذا يحتمل أن يكون المراد بالحياة الحياة المعنوية الحاصلة بالعقل والعلم فإنه مع خوف زوالها لا يتهنأ بها ، ثم بين عليه‌السلام أن فقد العقل فقد الحياة فإن حياة النفس بالعقل والمعرفة ، كما أن حياة البدن بالنفس.

٩٢

٣١ ـ علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن موسى بن إبراهيم المحاربي ، عن الحسن بن موسى ، عن موسى بن عبد الله ، عن ميمون بن علي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله.

٣٢ ـ أبو عبد الله العاصمي ، عن علي بن الحسن ، عن علي بن أسباط ، عن الحسن بن الجهم ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال ذكر عنده أصحابنا وذكر العقل قال فقال عليه‌السلام لا يعبأ بأهل الدين ممن لا عقل له ـ قلت جعلت فداك إن ممن يصف هذا الأمر قوما لا بأس بهم عندنا وليست لهم تلك العقول فقال ليس هؤلاء ممن خاطب الله إن الله خلق العقل فقال له أقبل فأقبل وقال له أدبر فأدبر

______________________________________________________

الحديث الحادي والثلاثون مجهول.

قوله عليه‌السلام إعجاب المرء : الإعجاب مصدر مبني للمفعول ، أضيف إلى المفعول يقال : فلان معجب برأيه على بناء المفعول إذا أعجبه رأيه واستحسنه ، والعجب أن يظن الإنسان بنفسه منزلة لا يستحقها ويصدق نفسه في هذا الظن ، وذلك إنما يحصل من قلة التميز والمعرفة ، وعدم معرفة قبائح النفس ونقائصها ، فهو دليل على ضعف العقل.

الحديث الثاني والثلاثون موثق.

قوله عليه‌السلام لا يعبأ : أي لا يبالي بمن لا عقل له من أهل الدين ، ولم يعد شريفا ولا يلتفت إليه ، ولا يثاب على أعماله ثوابا جزيلا.

قوله عليه‌السلام ممن يصف هذا الأمر : أي ممن يقول بقول الإمامية قوما لا بأس بهم في الاعتقاد والعمل عندنا أي في بلادنا أو باعتقادنا ، وليست لهم تلك العقول دل بإتيان لفظة تلك ـ وهي للإشارة إلى البعيد ـ على علو درجة العقول المسلوبة عنهم إشارة إلى أن لهم قدرا من العقل اهتدوا به إلى ما اهتدوا إليه ، وغرضه السؤال عن حالهم أيعبأ بهم أم لا؟ فقال عليه‌السلام : ليس هؤلاء ممن خاطب الله وكلفهم بالتكاليف الشاقة ، وعرضهم للوصول إلى الدرجات الرفيعة ، ولا يعتنى بشأنهم ، وفي قوله : بك

٩٣

فقال وعزتي وجلالي ما خلقت شيئا أحسن منك أو أحب إلي منك بك آخذ وبك أعطي.

٣٣ ـ علي بن محمد ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ليس بين الإيمان والكفر إلا قلة العقل قيل وكيف ذاك يا ابن رسول الله قال إن العبد يرفع رغبته إلى مخلوق فلو أخلص نيته لله لأتاه

______________________________________________________

آخذ وبك أعطي ، دلالة على أن المؤاخذة بالمعاصي والإعطاء بالطاعة بالعقل ، وهو مناطهما ، فكلما كمل كثرت المؤاخذة والإعطاء ، وكلما نقص قلت المؤاخذة والإعطاء ، فيصل إلى مرتبة لا يبالي بهم ولا يهتم بأمرهم ، ولا يشدد ولا يضيق عليهم.

الحديث الثالث والثلاثون مرسل.

قوله عليه‌السلام إلا قلة العقل : أي من لم يكن قليل العقل فهو إما مؤمن وإما كافر وأما قليل العقل ، فهو غير متصف بهما ، إما أصلا إذا حمل على عدم حصول العقل الذي هو مناط التكليف ، أو كاملا كما في المرجئين لأمر الله أو المعنى : من كان كاملا في العقل فهو مؤمن كامل ، ومن كان عاريا عن العقل فهو كافر ، ومن كان قليل العقل فهو متوسط بينهما ، ومثل عليه‌السلام لقليل العقل مثلا يدل على أن أرباب المعاصي ليست معصيتهم إلا لقلة عقلهم وتدبرهم ، والأظهر أن المراد أنه ليست الواسطة بين الإيمان والكفر ، أي ما يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر إلا قلة العقل ومطابقة التمثيل حينئذ ظاهر ، فالمراد بالإيمان الإيمان الكامل الذي يخرج منه الإنسان بالتوسل بغيره تعالى والاعتماد عليه ، فإن مقتضى الإيمان الكامل بقدرة الله تعالى وكونه مالكا لضر العباد ونفعهم ، أن لا يتوكل إلا عليه ، ولا يرفع مطلوبه إلا إليه ، فمن توسل بغيره تعالى في شيء من أموره فقد خرج من هذا الإيمان ودخل في الكفر الذي يقابله.

قوله عليه‌السلام : رغبته ، أي مرغوبة ومطلوبه وحاجته.

قوله عليه‌السلام لأتاه : إما على بناء المجرد فالموصول فاعله ، أو على بناء الأفعال ففاعله الضمير الراجع إلى الله والموصول مفعوله.

٩٤

الذي يريد في أسرع من ذلك.

٣٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن عبيد الله الدهقان ، عن أحمد بن عمر الحلبي ، عن يحيى بن عمران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول بالعقل استخرج غور الحكمة وبالحكمة استخرج غور العقل وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح قال وكان يقول التفكر حياة قلب البصير كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلص وقلة التربص

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام من ذلك : أي من إتيانه ذلك المخلوق أو من وقت الرفع إليه ، أو من ذلك الوقت الذي يتوقع حصول مطلوبه عند المخلوق.

الحديث الرابع والثلاثون ضعيف.

قوله عليه‌السلام غور الحكمة : قيل أي قعر الحكمة والبالغ منها نهاية الخفاء والحكمة العلوم الحقة والمعارف اليقينية التي يدركها العقل ، فالوصول إلى أخفاها وحقيقة بواطنها بالعقل وبالحكمة استخرج غور العقل ، أي نهاية ما في قوته من الوصول إلى العلوم والمعارف ، فإن بالعلم والمعرفة يعرف نهاية مرتبة العقل ، أو يظهر نهاية مرتبته ويبلغ كماله.

أقول : في بعض النسخ « عوز » بالعين المهملة والزاي المعجمة ، وعوز كل شيء نقصه وقلته ، ولعله تصحيف ، ويمكن توجيهه بما يرجع إلى الأول.

قوله عليه‌السلام : وبحسن السياسة : أي بحسن الأمر والنهي أو بحسن التأديب من الإمام والمعلم والوالد والمالك وأضرابهم ، يحصل الآداب الصالحة الحسنة ، ويمكن أن يعم بحيث يشمل سياسة النفس ، وقيل : المراد بالسياسة المعاشرة مع الخلق.

قوله عليه‌السلام : حياة قلب البصير : أي قلب البصير الفهم يصير حيا عالما عارفا بالتفكر ، وهو الحركة النفسانية في المقدمات الموصلة إلى المطلوب ، ومنها إلى المطلوب فالفهم يمشي ويتحرك بتفكره في حال جهله بالمطلوب إلى المطلوب بحسن

٩٥

[ ألف (١) عدة من أصحابنا ، عن عبد الله البزاز ، عن محمد بن عبد الرحمن بن حماد ، عن الحسن بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل إن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع بشيء إلا به العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونورا لهم فبالعقل عرف العباد خالقهم وأنهم مخلوقون وأنه المدبر لهم وأنهم المدبرون وأنه الباقي وهم الفانون واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه من سمائه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره وبأن له ولهم خالقا ومدبرا لم يزل ولا يزول وعرفوا به الحسن من القبيح وأن الظلمة في الجهل وأن النور في العلم فهذا ما دلهم عليه العقل.

قيل له فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره قال إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته علم أن الله هو الحق وأنه هو ربه وعلم أن لخالقه محبة وأن له كراهية وأن له طاعة وأن له معصية فلم يجد عقله يدله على ذلك وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه وأنه لا ينتفع بعقله إن لم

______________________________________________________

التخلص والنجاة من الوقوع في الباطل وقلة التربص والانتظار في الوصول إلى الحق كذا ذكره بعض الأفاضل ويطلق التفكر غالبا في الأحاديث على التفكر والاعتبار بأحوال الدنيا وفنائها ودناءتها وزوال لذاتها ، وما يوجب الزهد في الدنيا وترك مشتهياتها والتوجه إلى تحصيل الآخرة وتحصيل سعاداتها ، وهذا التفكر يحيى قلب البصير ويزهده في الدنيا ، وينور له طريق الوصول إلى الآخرة ، فيتخلص من فتن الدنيا وآفاتها ومضلات الفتن ومشتبهاتها ، ويسعى بقدمي الإخلاص واليقين إلى أعلى منازل المقر بين ، وقوله : بحسن التخلص يحتمل تعلقه بيمشي أو بالتفكر أو بهما ، ويحتمل أن يكون حالا عن الماشي أو المتفكر أو عنهما ، وإن كان بعضها بعيدا لفظا وبعضها معنى فلا تغفل.

__________________

(١) من هنا إلى آخر الباب يعني رواية « الف » و « ب » مما لم يوجد في أكثر نسخ الكافي ويظهر من عدم تعرض الشارح لهما أيضا أنهما غير موجودان في نسخته فلا تغفل.

٩٦

يصب ذلك بعلمه فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلا به.

ب ـ علي بن محمد ، عن بعض أصحابه ، عن ابن أبي عمير ، عن النضر بن سويد ، عن حمران وصفوان بن مهران الجمال قالا سمعنا أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لا غنى أخصب من العقل ولا فقر أحط من الحمق ولا استظهار في أمر بأكثر من المشورة فيه].

وهذا آخر كتاب العقل [والجهل]

والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما

٩٧

كتاب فضل العلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه)

١ ـ أخبرنا محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن الحسن بن أبي الحسين الفارسي ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب العلم فريضة على كل مسلم ألا إن الله يحب بغاة العلم.

______________________________________________________

باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه

كذا في أكثر النسخ وفي بعضها قبل الباب : كتاب فضل العلم ويؤيد الأول أن الشيخ عد كتاب العقل وفضل العلم كتابا واحدا من كتب الكافي حيث عدها في الفهرست ، ويؤيد الثاني أن النجاشي عد كتاب فضل العلم بعد ما ذكر كتاب العقل من كتب الكافي.

الحديث الأول مجهول.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب العلم فريضة : المراد بالعلم العلم المتكفل بمعرفة الله وصفاته وما يتوقف عليه المعرفة والعلم المتعلق بمعرفة الشريعة القويمة.

والأول له مرتبتان : الأولى : مرتبة يحصل بها الاعتقاد الحق الجازم وإن لم يقدر على حل الشكوك والشبهات ، وطلب هذه المرتبة فرض عين ، والثانية : مرتبة يقدر بها على حل الشكوك ودفع الشبهات وطلب هذه المرتبة فرض كفاية.

والثاني أي العلم المتعلق بالشريعة القويمة أيضا له مرتبتان : إحداهما العلم بما يحتاج إلى عمله من العبادات وغيرها ولو تقليدا ، وطلبه فرض عين ، والثانية : العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، واصطلح في هذه الأعصار على التعبير

٩٨

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن عبد الله ، عن عيسى بن عبد الله العمري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال طلب العلم فريضة.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن بعض أصحابه قال سئل أبو الحسن عليه‌السلام هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه فقال لا.

٤ ـ علي بن محمد وغيره ، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاق السبيعي عمن حدثه قال سمعت أمير المؤمنين يقول أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إن

______________________________________________________

عنها بالاجتهاد وطلبها فرض كفاية في الأعصار التي لا يمكن الوصول فيها إلى الحجة ، وأما في العصر الذي كان الحجة ظاهرا ، والأخذ منه ميسرا ففيه كفاية عن الاجتهاد ، وكذا عن المرتبة الثانية من العلم المتكفل بمعرفة الله وصفاته وتوابعه ، ثم نقول : مراده ظاهرا فرض العين وبحسب ذلك الزمان فيكون المفترض المرتبتين الأوليين من العلمين ، ولما بين فرض العلم رغب في المرتبة الغير المفروضة وهو الاشتغال بتحصيل العلوم وضبطها واتخاذه حرفة بقوله : ألا إن الله يحب بغاة العلم أي طلبته ، فإن بغاة العلم وطلبة العلم ظاهر عرفا في من يكون اشتغاله به دائما ، وكان شغله الذي يعرف به ، ويعد من أحواله طلب العلم.

الحديث الثاني مجهول.

الحديث الثالث مرسل.

الحديث الرابع مرسل.

قوله عليه‌السلام : طلب العلم والعمل به : قيل المراد بهذا العلم العلم المتعلق بالعمل ، ولعله لا ضرورة في تخصيصه به ، فإن كل علم من العلوم الدينية يقتضي عملا لو لم يأت به كان ذلك العلم ناقصا ، كما أن العلم بوجوده تعالى وقدرته ولطفه وإحسانه يقتضي

٩٩

المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم والعلم مخزون عند أهله وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن يعقوب بن يزيد ، عن أبي عبد الله رجل من أصحابنا رفعه قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب العلم فريضة.

وفي حديث آخر قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب العلم فريضة على كل مسلم ألا وإن الله يحب بغاة العلم.

٦ ـ علي بن محمد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن علي بن أبي حمزة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول تفقهوا في الدين فإنه

______________________________________________________

إطاعته في أوامره ونواهيه ، والعلم بوجود الجنة يقتضي العمل لتحصيلها ، والعلم بوجود النار يقتضي العمل بما يوجب النجاة منها ، وهكذا قوله عليه‌السلام : أوجب عليكم المراد إما الوجوب الشرعي الكفائي ، أو الوجوب العقلي أي أحسن وأليق بأنفسكم والمراد بالمال : الرزق لا فضوله ، قد قسمه عادل بينكم ، لقوله سبحانه : ( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) (١) وضمنه لقوله تعالى : ( وَما مِنْ دَابَّةٍ ( فِي الْأَرْضِ ) إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها ) (٢) « عند أهله » أي الأنبياء والأئمة عليه‌السلام والذين أخذوا عنهم ، وقد أمرتم بطلبه بقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٣).

الحديث الخامس مرسل.

الحديث السادس ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام تفقهوا في الدين : حمله الأكثر على تعلم فروع الدين إما بالاجتهاد أو بالتقليد ، ويمكن حمله على الأعم من الأصول والفروع بتحصيل اليقين فيما يمكن تحصيله فيه وبالظن الشرعي في غيره.

__________________

(١) سورة زخرف : ٣٢.

(٢) سورة هود : ٦.

(٣) سورة النحل : ٤٣.

١٠٠