دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-61-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٠٨

الأصل أصلا ، إذ معه لا يكون هناك إطلاق ، كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.

وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل ، إلّا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدّمات الحكمة ، ومع انتفاء المقدمات لا يكاد ينعقد له

______________________________________________________

فلا سبيل أيضا من الالتزام برجوع القيد إلى المادة ، فإنّه لو كان القيد المحتمل رجوعه إلى الهيئة أو المادة متّصلا بالخطاب ـ كما هو ظاهر الفرض ـ فالأمر ظاهر ؛ لاحتفاف الكلام بما يصلح كونه قرينة على المراد من الهيئة وبما يصلح كونه قرينة على تقييد المتعلّق ، فإنّ ما يصلح للقرينة هو القيد لا المطلق ليقال لم ينعقد له إطلاق ، وكذا إذا ورد القيد في خطاب منفصل أو علم من الخارج بورود القيد على أحدهما ، لما ذكرنا في محلّه من أنّ تقديم العامّ على المطلق ينحصر بما إذا كان التعارض بينهما بالذات ، كما إذا ورد في خطاب «أكرم العالم» وفي خطاب آخر «لا تكرم أيّ فاسق» حيث لا يمكن أن يكون إكرام العالم الفاسق منهيا عنه ومأمورا به ، فيكون العموم الوضعي قرينة على التصرّف في الخطاب الآخر بحسب المتفاهم العرفي ، فإنّهم يجعلون الأقوى ظهورا قرينة على المراد من الخطاب الآخر ، وأمّا إذا لم يكن بين الخطابين تعارض بالذات ، بحيث يمكن تحقّق مضمونهما خارجا ولكن علم عدم إرادة عمومهما معا ، كما إذا ورد في خطاب «أكرم كلّ عالم» وورد في خطاب آخر ما يدلّ على كراهة إكرام الجاهل ، وعلم من الخارج بورود قيد لأحدهما فلا موجب في مثل ذلك لتقديم عموم أحدهما على الآخر وإرجاع القيد إلى الآخر ، ولو كان ظهوره أقوى من الآخر ، حيث لا يعدّ أحدهما قرينة على المراد من الآخر لعدم المنافاة بينهما ونسبة العلم الإجمالي بورود القيد إلى كلّ منهما على حدّ سواء ، ومن هذا القبيل العلم الإجمالي بورود قيد إمّا على المادة أو الهيئة.

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكر الماتن قدس‌سره في الجواب عن الوجه الثاني بأنّه يمكن إرجاع القيد إلى المادة وبقاء الهيئة على حاله من الإطلاق فيما لو كان القيد بخطاب منفصل ، أو علم من الخارج باعتبار القيد إمّا في ناحية الوجوب أو الواجب ، لا يمكن المساعدة عليه ، والوجه فيه هو أنّ نسبة العلم الإجمالي بورود قيد إمّا على مفاد الهيئة أو مفاد المادة على حدّ سواء.

لا يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ بالعلم التفصيلي بعدم بقاء الإطلاق في ناحية المادة يقينا إمّا بورود القيد على نفس المادة ، أو لبطلان إطلاقها بورود القيد على مفاد الهيئة ، وأمّا ورود القيد على مفاد الهيئة وبطلان إطلاقه غير معلوم ، بل هو محتمل ، فلا موجب لرفع اليد عنه.

فإنّه يقال : إنّ المعلوم تفصيلا ليس هو تقييد المادة ، بل لزوم الإتيان بمتعلّق الأمر في فرض وجود القيد ، وأمّا في فرض عدم حصوله فلا موجب للزوم الإتيان بالمتعلّق.

وإن شئت قلت إنّ العلم التفصيلي بعدم بقاء إطلاق المادة ينتقض بالعلم التفصيلي بورود قيد على مفاد الهيئة أيضا لا محالة للعلم الإجمالي بأنّ ذلك القيد إمّا التمكّن عليه ـ المفروض تردّده بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة ـ كما لو كان راجعا إلى المادة ، فإنّه قد تقدّم أنّ القدرة والتمكّن على قيد الواجب من شروط وجوب المقيد ، وإمّا حصول نفس ذلك القيد ، كما إذا كان القيد راجعا إلى نفس الهيئة ، وعليه فيتساقط العلمان التفصيليان ولم يبق متيقن تفصيلا ، بالإضافة إلى هذا العلم الإجمالي ، كما لا يخفى.

٦٢

هناك ظهور ، كان ذاك العمل المشارك مع التقييد في الأثر ، وبطلان العمل بإطلاق المطلق ، مشاركا معه في خلاف الأصل أيضا.

وكأنّه توهم : أنّ إطلاق المطلق كعموم العام ثابت ، ورفع اليد عن العمل به ، تارة لأجل التقييد ، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به ، وهو فاسد ، لأنّه لا يكون إطلاق إلّا فيما جرت هناك المقدمات.

نعم إذا كان التقييد بمنفصل ، ودار الأمر بين الرّجوع إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهّم مجال ، حيث انعقد للمطلق إطلاق ، وقد استقر له ظهور ولو بقرينة الحكمة ، فتأمّل.

______________________________________________________

بقي في المقام أمر ، وهو أنّ ما حكي عن الشيخ قدس‌سره من أنّه إذا دار الأمر بين التصرّف في الإطلاق الشمولي أو الإطلاق البدلي يتعيّن التصرّف في الإطلاق البدلي ، قد التزم به المحقّق النائيني قدس‌سره ، لكن لا في مثل المقام بل فيما كان التنافي بين الإطلاقين بالذات كما في قوله «أكرم عالما» وقوله «لا تكرم الفاسق» لا في مثل قوله سبحانه (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) ممّا كان الإطلاقان شموليين أو بدليين ، وذكر في وجه التقديم أنّ الإطلاق البدلي يحتاج إلى مقدّمة زائدة على المقدمات التي يحتاج إليها انعقاد الإطلاق الشمولي ، وذلك أنّ النهي عن طبيعة بحيث يعمّ النهي جميع أفراد تلك الطبيعة لا يحتاج إلى تساوي أفرادها في ملاك النهي ، بل يمكن أن يختلف أفرادها في ملاك الحكم ، كالنهي عن هدم المسجد وتخريبه ، فإنّه يعمّ تخريب كلّ مسجد ، من المسجد الحرام ومسجد الجامع بالكوفة ومسجد القرية ومسجد المحلّة ، مع اختلافها في ملاك التحريم من حيث الشدّة والضعف.

وهذا بخلاف الإطلاق البدلي ، فإنّ الحكم بالاكتفاء بأيّ فرد يحتاج إلى إحراز

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تساويه مع سائر الأفراد في الملاك الملزم وأنّه يشتمل على الملاك الملحوظ في الطبيعي المأمور به ، وعليه فإذا ورد في خطاب الأمر بإكرام عالم ، وفي خطاب آخر النهي عن إكرام الفاسق ، فبشمول النهي لإكرام العالم الفاسق لا يحرز تساوي إكرامه مع إكرام العالم غير الفاسق ، بل يحرز عدم حصول ملاك الطبعية المأمور بها فيه ، ولذا يتقدّم خطاب النهي عن التصرّف في مال الغير بلا إذنه على خطاب الأمر بالصلاة في مورد الصلاة في الدار المغصوبة.

وبالجملة فبتماميّة مقدّمات الإطلاق في ناحية النهي عن الطبيعة تنتفي مقدّمات الإطلاق في ناحية الإطلاق البدلي (١).

ولكن لا يخفى ما فيه فإنّه يكفي في الحكم بالاجزاء بكلّ فرد من الطبيعي المتعلّق للأمر عدم ورود القيد وعدم ذكره في ناحية ذلك المتعلّق أو الموضوع ، ولا يحتاج ـ بعد إحراز عدم ورود القيد ـ إلى شيء آخر في إحراز تساوى الأفراد في الملاك الملزم ؛ ولذا ذكرنا أنّ الإطلاق في متعلّق الأمر يستلزم الترخيص في تطبيقه على كلّ فرد منه في مقام الامتثال ، ولو كان ذلك موقوفا إلى إحراز التساوي زائدا على عدم ذكر القيد للمتعلّق والموضوع في مقام البيان ، وما كان يمكن إحراز التساوي من عدم ذكر القيد ، فما فائدة هذا الإطلاق.

وبتعبير آخر : اللازم على المولى هو ذكر القيد لمتعلّق التكليف أو الموضوع مع اختلاف أفراده في الملاك ، ومع عدم ذكره في مقام البيان يعلم بعدم اختلافها فيه ، ولذا لا يكون وجود القدر المتيقّن في البين بحسب الملاك مانعا من التمسّك

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ١٦١.

٦٤

ومنها : تقسيمه إلى النفسي والغيري [١] ، وحيث كان طلب شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داع ، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب ، لا يكاد التوصّل بدونه إليه ، لتوقفه عليه ، فالواجب غيريّ ، وإلّا فهو نفسيّ ، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه ، كالمعرفة بالله ، أو محبوبيّته بما له من فائدة مترتبة عليه ، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات.

______________________________________________________

بالإطلاق في العموم البدلي كالشمولي.

الواجب النفسي والغيري :

[١] قد ذكر قدس‌سره ما حاصله أنّه حيث لا يكون طلب شيء وإيجابه بلا داع ، لأنّهما من الأفعال الاختياريّة وعليه فإن كان الداعي للمولى في إيجاب شيء التوصّل به الى واجب آخر ، بحيث لا يحصل بدونه ، يكون وجوبه غيريّا ، وإن لم يكن إيجابه للتوصّل إلى واجب آخر كذلك ، يكون وجوبه نفسيّا ، سواء كان الداعي إلى إيجابه محبوبيّته في نفسه كالمعرفة بالله ، أو محبوبيّته بلحاظ ترتّب أثر عليه ووجود ملاك ومصلحة فيه ، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليّات.

ثم أورد على ما ذكره بأنّه يلزم أن يكون الواجب في موارد محبوبيّة الفعل بلحاظ وجود الملاك وترتّب الأثر غيريّا ، فإنّ الواجب في الحقيقة ذلك الملاك ، والمصلحة المترتّبة على الفعل ، فذلك الملاك واجب نفسي ، والفعل واجب غيري ، ويكشف عن كون الملاك واجبا نفسيا أنّه لو لم يكن ترتّبه على الفعل لما كان له داع إلى إيجابه.

وربّما يجاب عن الإشكال بأنّ الملاك المترتّب على الفعل في نفسه غير مقدور ، فلا يتعلّق به الإيجاب ، وإنّما يتعلّق بما هو مقدور للمكلّف وتحت سلطانه وهو الفعل.

٦٥

هذا ، لكنه لا يخفى أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك ـ أي بما له من الفائدة المترتبة عليه ـ كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريا ، فإنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما ، لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة.

فإن قلت : نعم وإن كان وجودها محبوبا لزوما ، إلا أنه حيث كانت من الخواصّ

______________________________________________________

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه يكفي في التمكّن المعتبر في التكليف وخروجه عن اللغويّة ، التمكّن على الواجب ولو بالتمكّن على سببه ؛ ولذا يتعلّق التكليف بالمسبّب ، نظير الأمر بالطهارة الحاصلة من الوضوء أو الغسل ، وبالتمليك والتزويج والطلاق والعتاق وغيرها من المسبّبات الحاصلة بالعقد أو الإيقاع.

وأجاب قدس‌سره عن أصل الإشكال بأنّ الفعل بلحاظ ترتّب الأثر عليه ووجود المصلحة فيه يتّصف بالعنوان الحسن ، فيستحقّ فاعله المدح ويذمّ تاركه ، وإذا تعلّق الأمر به بهذا الاعتبار يكون وجوبه نفسيا ، بخلاف الواجب الغيري ، فإنّه لا يترتّب عليه الملاك ولا الأثر المحسّن له ، بل يوجب أن يحصل ذلك العنوان الحسن لفعل آخر ، فيكون إيجاب ذلك الآخر نفسيا ، وإيجاب هذا الفعل غيريّا.

نعم قد يكون فيما يتعلّق به الأمر الغيري جهتان ، فيتّصف بالحسن بإحدى الجهتين ، فيكون إيجابه نفسيّا ، كصلاة الظهر ، فإنّها واجب نفسي ، ومع ذلك توجب حصول الملاك لصلاة العصر ، فيكون وجوبها غيريا بالإضافة إلى التوصّل إلى صلاة العصر.

أقول : الأمر في الواجبات التوصليّة بلحاظ الأثر المترتّب عليها لا بلحاظ حسنها ، كالأمر بدفن المتوفى ، وأداء الدّين وغيرهما ، ولذا يسقط الأمر بها ولو أتى بها بغير قصد القربة أو بنحو محرّم ، ولو في بعض الموارد.

وذهب المحقّق النائيني قدس‌سره في المقام إلى أنّه لو كان الأثر مترتّبا على الفعل

٦٦

المترتبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف ، لما كاد يتعلق بها الإيجاب.

قلت : بل هي داخلة تحت القدرة ، لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على السبب قدرة على المسبب ، وهو واضح ، وإلا لما صحّ وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق .. إلى غير ذلك من المسببات ، موردا لحكم من الأحكام التكليفية.

______________________________________________________

بلا توسيط أمر غير اختياري ، كترتّب زهوق الروح على ذبح الحيوان ، صحّ ما ذكر من أنّه لا بأس بالأمر بالمسبّب باعتبار كون سببه تحت الاختيار ، فيكون الواجب النفسي هو المسبّب والأمر بالسبب يكون أمرا غيريّا.

وأمّا إذا كان ترتّب الأثر على الفعل بتوسيط أمر غير اختياري كترتّب نبات الأرض على الزرع ، فلا يصحّ تعلّق الوجوب بالأثر ليكون الأمر بالزرع من الأمر الغيري ، فإنّ تعلّق القدرة ببعض مبادئ الشيء مع خروج بعضها الآخر عن الاختيار لا يصحّح الأمر إلّا بذلك البعض الاختياري من المبادئ ، ولا يخفى أنّ الآثار المترتّبة على الواجبات في الشرع من قبيل الثاني ، وأنّها مترتّبة عليها بتوسيط أمور خارجة عن اختيار المكلّف ، وإلّا كان المتعيّن تعلّق الأوامر في الخطابات بتلك الآثار والمصالح ، ويشهد لما ذكر أيضا ما ورد في تجسّم الأعمال يوم القيامة (١).

أقول : يرد عليه أوّلا : بأنّه لا سبيل لنا إلى إحراز كون الآثار المترتّبة على الواجبات في الشرع من قبيل القسم الثاني ، ودعوى أنّها لو كانت من القسم الأوّل تعيّن تعلّق الأمر في الخطابات بنفس المصالح والآثار ، مدفوعة بصحّة تعلّق الأمر

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٣٨ و ١٦٧.

٦٧

فالأولى أن يقال : إن الأثر المترتب عليه وإن كان لازما ، إلا أن ذا الأثر لما كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله ، بل وبذم تاركه ، صار متعلقا للإيجاب بما هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا ، بخلاف الواجب الغيري ، لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي ، وهذا أيضا لا ينافي أن

______________________________________________________

بالسبب في الخطاب كصحّة تعلّقه بالمسبّب ، ولو كان ترتّب المسبّب على السبب موجبا لتعيّن تعلّق التكليف بالمسبب لما تعلّق الأمر بالذبح والنحر وغيرهما من الأسباب.

وثانيا : لو فرض أنّ المصالح والآثار تترتّب بتوسيط أمور خارجة عن الاختيار ، فهذا بالإضافة إلى الأثر الأقصى ، وأمّا الأثر القريب فيترتب على الفعل لا محالة ، مثلا يكون الواجب النفسي إعداد الحبّ للنبات الحاصل بجعله في الأرض الصالحة للزرع ، فيكون بثّ الحبّ في تلك الأرض واجبا غيريّا. وأمّا تجسّم الأعمال ، فلو كان غرضا فهو من الغرض الأقصى.

والحاصل أنّه لا يبعد أن يقال : كلّما كان البعث إليه بالأمر به لداعي التوصّل به إلى واجب آخر فوجوبه غيري ، وإلّا يكون وجوبه نفسيا ، حتّى مع فرض أنّ الموجب لتعلّق الطلب به هو الصلاح المترتّب عليه ؛ لأنّ مع عدم وقوع ذلك الصلاح مورد الخطاب والبعث إليه يكون طلب الفعل نفسيّا.

والوجه في عدم تعلّق التكليف في الخطاب بذلك الصلاح إمّا عدم معروفيّة موجبه وسببه للمكلّف ـ لئلّا يتعيّن في سبب خاصّ ولا يكن معروفا عنده ـ فمثلا تذكّر الجوع في القيامة وعطشها يحتمل أن يكون هو الملاك في الأمر بصوم شهر رمضان ، إلّا أنّه لم يبيّن للمكلّف وإمّا أنّ الصلاح المترتّب على الفعل ليس من قبيل المعلول بالإضافة إلى علّته ، بل من الحكمة التي لا يدور وجوب الفعل مدار

٦٨

يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه ، إلا أنّه لا دخل له في إيجابه الغيري ، ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه ، وما أمر به لأجل غيره ، فلا يتوجه عليه بأنّ جلّ الواجبات ـ لو لا الكل ـ يلزم أن يكون من الواجبات الغيريّة ، فإن المطلوب النفسي قلّما يوجد في الأوامر ، فإن جلها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها ، فتأمل.

______________________________________________________

حصولها.

والفرق بين كون الصلاح من قبيل الحكمة وبين عدم معروفية سببه عند المكلّف ، هو إمكان أن يكون الواجب ثبوتا تحصيل الملاك والأثر في الثاني ، بخلاف موارد كون الملاك بنحو الحكمة ، كما لا يخفى.

وذكر المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في توجيه الواجبات النفسية وافتراقها عن الواجبات الغيرية أنّ الشوق الحيواني للإنسان ـ بمقتضى قاعدة كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ـ ينتهي إلى شوق بقاء الذات الحيواني للانسان كما أنّ الشوق العقلاني له ينتهي بمقتضى تلك القاعدة إلى الشوق إلى إلى طاعة ربّه والتخلق بأخلاقه وحيث إنّ غاية الغايات في الشوق الحيواني والعقلاني صارت كالطبيعة الثانية ، فلا تحتاج إلى التفات تفصيلي ورويّة وفكر ، هذا بالإضافة إلى الإرادة التكوينيّة.

وأمّا بالإضافة إلى الإرادة التشريعيّة ـ وهي إرادة الفعل من الغير ـ فلا ينتهي المطلوب من الغير إلى ما بالذات بالإضافة إلى ذلك الغير ، فمثلا شراء اللحم مطلوب من زيد ، وطبخه مطلوب من عمرو ، وإحضاره مطلوب من بكر ، فالصلاح في شراء اللحم غير مطلوب من زيد ، بل يراد من عمرو ، والأمر في الواجبات الشرعية كذلك ، فالصلاح الكامن في الصلاة غير مراد من المكلّف إتيانه ؛ إذ لا يكون الصلاح فيها مرادا من المكلّف لا بالذات ولا بالعرض ، بل المراد منه نفس الصلاة ، فتكون

٦٩

ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين ، وأما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري [١] ، فالتحقيق أن الهيئة ، وإن كانت موضوعة لما يعمّهما ، إلا أن

______________________________________________________

الصلاة واجبة نفسيا (١).

أقول : لو غضّ النظر عمّا ذكره في الإرادة التكوينية ، أنّ ذكره في الإرادة التشريعية غير صحيح ، فإنّ الغرض المترتّب على شراء اللحم من زيد ليس الطبخ ، بل تمكين زيد عمروا على طبخه ، وهذا هو المطلوب من زيد ، وأمّا الطبخ فهو ـ بالإضافة إلى شراء اللحم ـ من الغرض الأقصى ، وكذا الحال في طلب طبخه من عمرو بالإضافة إلى إحضار المطبوخ المطلوب من بكر ، وهذا ظاهر.

وبالجملة طلب الغرض الأقصى من شخص آخر لا يوجب أن لا يكون طلب الشراء من زيد طلبا نفسيّا ، وهكذا الحال في الواجبات الشرعية بالإضافة إلى المصالح المترتّبة عليها.

الشكّ في النفسية والغيرية :

[١] يقع الكلام في فرضين : أحدهما ما إذا ورد في الخطاب الأمر بفعل في مقام البيان ، وشكّ في أنّ الأمر به نفسي أو غيري. والثاني ما إذا لم يكن في البين خطاب أصلا ، وعلم من الخارج وجوب فعل إمّا نفسيا أو غيريا ، أو كان الخطاب في مقام الإهمال.

أمّا الفرض الأوّل ، كما إذا ورد الأمر بالاغتسال من مسّ الميت بعد برده وقبل تغسيله ، وشكّ في أنّ الغسل على من مسّ الميت واجب نفسي ، أو أنّه واجب غيري ، لكونه شرطا للصلاة كالاغتسال من الجنابة ، ففي مثل ذلك يمكن إثبات

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ / ١٠١.

٧٠

إطلاقها يقتضي كونه نفسيا ، فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم.

وأما ما قيل من أنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة ، لدفع الشك المذكور ، بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد ، نعم لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب ، صح القول بالإطلاق ، لكنه بمراحل من الواقع ، إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب ، فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقيقتها ، لا بواسطة مفهومها ، وذلك واضح لا يعتريه ريب.

______________________________________________________

النفسية بالتمسّك بإطلاق الأمر به فيما لم يكن في البين قرينة على غيرية وجوبه ، كما هو المفروض ، بتقريب : أنّ الشكّ في المقام يرجع إلى الشكّ في كونه واجبا مطلقا أو واجبا مشروطا.

وقد تقدّم أنّه يثبت بإطلاق الهيئة كون وجوب الفعل مطلقا لا مشروطا ، والوجه في رجوع الشكّ إلى ذلك ، هو أنّ الوجوب في الواجب الغيري يتقيّد بما تقيّد به وجوب الواجب النفسي ، كما هو مقتضى تبعيّة الوجوب الغيري للوجوب النفسى في إطلاقه واشتراطه ، ولو كان الاغتسال على من مسّ الميت واجبا غيريا لتقيّد وجوبه بدخول وقت الصلاة المشروط وجوبها بدخوله ، ومقتضى الإطلاق في ناحية الأمر بالاغتسال على من مسّ الميت ، سواء أنشئ بصيغة الأمر أو بغيرها هو كون وجوبه غير مشروط بدخول وقت الصلاة ، فيكون وجوبه نفسيا.

ولكن حكي عن الشيخ قدس‌سره في تقريرات بعض تلامذته أنّه لا يمكن إثبات نفسية الوجوب بالاستناد إلى إطلاق الهيئة ونحوها ، وذلك لأنّ مفاد الهيئة فرد من الطلب الذي لا يعقل فيه الإطلاق والتقييد ، فإنّ الجزئي لا يقبل الإطلاق والتقييد والقابل

٧١

ففيه : إن مفاد الهيئة ـ كما مرت الإشارة إليه ـ ليس الافراد ، بل هو مفهوم الطلب ، كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف ، ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي ، والذي يكون بالحمل الشائع طلبا ، وإلا لما صح إنشاؤه بها ، ضرورة أنه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة.

نعم ربما يكون هو السبب لإنشائه ، كما يكون غيره أحيانا.

______________________________________________________

لهما مفهوم الطلب ، ومفهومه ليس هو معنى الهيئة ، فإنّ الفعل يتّصف بالمطلوبية بتعلّق الأمر به ، ولا يتّصف مفهوم الطلب بها ، وهذا شاهد على أنّ المطلوبية توجد بتعلق واقع الطلب بالفعل ، وهو جزئي لا يقبل الإطلاق والتقييد دون مفهومه ، فإنّه كلّي وقابل لهما إلّا أنّه ليس بمدلول للصيغة.

وبتعبير آخر : يصير الفعل مطلوبا ومرادا بتعلّق واقع الإرادة وحقيقتها به ، لا بلحاظ مفهوم الطلب.

وأجاب الماتن قدس‌سره بأنّه ليس مفاد الهيئة والمنشأ بها إلّا معنى لفظ الطلب ، والإنشاء يرد على هذا المعنى ، وهو كلّي قابل للتقييد ، ولو قبل إنشائه فينشأ الطلب مطلقا أو مقيّدا ، وأمّا الإرادة الحقيقية فهي أجنبية عن مفادها ، بل هي صفة نفسانيّة يحمل عليها الطلب بالحمل الشائع ، وغير قابلة للإنشاء والإيجاد باللفظ.

نعم تكون تلك الصفة من الدواعي إلى إنشاء الطلب بالفعل ، فيكون الفعل متّصفا بالمطلوبية الحقيقية ، كما أنّه قد يكون الداعي إلى إنشاء الطلب بالفعل غيرها ، فيكون الفعل متّصفا بالمطلوبية الإنشائية فقط ، وعلى ذلك فالتمسّك بإطلاق الهيئة لكشف حال وجوب الفعل وكون طلبه مطلقا غير مشروط بما يجب به الفعل الآخر ، أمر صحيح ، وأنّه لا ملازمة بين عدم إمكان تقييد الإرادة الحقيقية وعدم إمكانه في الطلب الإنشائي.

٧٢

واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية والإرادة الحقيقية ـ الداعية إلى إيقاع طلبه ، وإنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكا إلى مراده الواقعي ـ لا ينافي اتصافه بالطلب الإنشائي أيضا ، والوجود الإنشائي لكل شيء ليس إلا قصد حصول مفهومه بلفظه ، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن ، بل كان إنشاؤه بسبب آخر.

______________________________________________________

ولعلّ التعبير عن مفاد الهيئة بالطلب وعدم ذكر كونه إنشائيا أوجب اشتباه مفهوم الطلب المزبور كونه مدلول الهيئة بمصداقه الحقيقي.

أقول : قد تقدّم في الواجب المشروط أن تقييد مفاد الهيئة عبارة عن تعليق الطلب المنشأ ، كتعليق المنشأ في المعاملات كالوصية أو تعليق النسبة الطلبية ، فالأوّل كقوله «أطلب منك إكرام زيد إذا جاءك» ، والثاني كقوله «إن جاءك زيد فأكرمه» والوجوب الغيري سواء كان إنشائه بمادة الطلب أو بصيغة الأمر ، عبارة أخرى عن تعليق وجوب الفعل بما إذا وجب فعل آخر ، ولا محذور في هذا التعليق حتّى بناء على كون مفاد الهيئة والمعنى الحرفي لا يقبل التوسعة والتضيّق بمعنى الصدق على كثيرين بدعوى أنّ الإطلاق والتقييد بهذا المعنى يختصّان بالمفاهيم الاسمية ، ولا يجريان في معاني الحروف والهيئات ، وقد ذكرنا أنّ معانيهما أيضا يتّصفان بذلك ، ولكن بتبع معنى المدخول والمتعلّقات.

ثم إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وبنينا على أنّ معاني الحروف والهيئات لا تقبل التعليق أيضا ، فيمكن استظهار كون وجوب الفعل نفسيا لا غيريا من إطلاق المادة ، فمثلا إذا ورد في الخطاب الأمر بالاغتسال على من مسّ الميت وشك في كون وجوبه نفسيا أو غيريّا ، كالاغتسال من الجنابة ، يثبت كون وجوبه نفسيا بإطلاق الاغتسال وعدم تقييده بقصد التوصل إلى الصلاة ، وذلك لأنّ متعلّق الأمر الغيري على مسلك الشيخ قدس‌سره مقيّد بالقصد المذكور كما يأتي ، فيكون إطلاق الاغتسال في خطاب وجوبه

٧٣

ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق ، فتوهّم منه أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا ، يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع ، ولعمري إنه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق ، فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلا له ، وإن تعارف تسميته بالطلب أيضا ، وعدم تقييده بالإنشائي لوضوح إرادة خصوصه ، وإن الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها ، كما لا يخفى.

فانقدح بذلك صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط ، كما مرّ هاهنا بعض الكلام ، وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي في المقام.

______________________________________________________

كاشفا عن كونه واجبا نفسيا.

وقد يوجّه بطريق آخر في إثبات كون الفعل واجبا نفسيا ، وهو التمسّك بإطلاق متعلّق الأمر النفسي الآخر المحتمل كون الفعل المشكوك في نفسيّة وجوبه أو غيريّته قيدا له ، كإطلاق الصلاة في مثل قوله سبحانه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فإنّه لو كان الاغتسال على من مسّ الميت واجبا غيريا كانت الصلاة متقيّدة به ، بخلاف ما إذا كان واجبا نفسيا ، وبما أنّ دلالة الخطاب معتبرة في مدلوله الالتزامي ، فيثبت بإطلاق المتعلّق لوجوب الصلاة كون وجوب الاغتسال نفسيا وأنّ الصلاة غير مقيّدة به.

لكن لا يخفى أنّ هذا يصحّ على مسلك الأعمى فيما إذا فرض تمامية الإطلاق في ناحية المتعلّق في خطاب (أَقِيمُوا الصَّلاةَ ،) وقد تقدّم في بحث الصحيحي والأعمى عدم كون مثل الخطاب المذكور في مقام بيان المتعلّق ، بل إنّما هو وارد في بيان أصل التشريع.

٧٤

هذا إذا كان هناك إطلاق ، وأما إذا لم يكن ، فلا بد من الإتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا [١] ، للعلم بوجوبه فعلا ، وإن لم يعلم جهة وجوبه ، وإلا فلا ، لصيرورة الشك فيه بدويا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

[١] هذا هو الفرض الثاني من الفرضين ، وهو بيان مقتضى الأصل العملي عند دوران أمر الواجب بين كونه نفسيا أو غيريا ، وللشكّ في ذلك صور ثلاث :

الصورة الأولى : ما إذا أحرز أنّ وجوبه مع وجوب الفعل الآخر من المتماثلين في الإطلاق والاشتراط ، ولكنّه على تقدير كونه غيريّا يعتبر الإتيان به بنحو خاصّ ، لتقيّد الفعل الآخر بسبقه أو لحوقه أو مقارنته كالاغتسال على من مسّ الميت فيما إذا فرض العلم بعدم وجوبه قبل دخول وقت الصلاة ، ولكن دار أمره بين كونه واجبا نفسيا فيجوز الاغتسال من المسّ ولو بعد الصلاة ، أو كونه واجبا غيريّا فيتعيّن عليه الاغتسال قبل الصلاة ، ففي مثل ذلك لا بأس بجريان البراءة في ناحية تقيّد الصلاة به ، فإنّ رعاية الاشتراط ضيّق على المكلّف ، والأصل عدم تعلّق الوجوب بالصلاة المتقيّدة به على ما هو المقرّر في بحث دوران أمر الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، ولا يعارضها أصالة البراءة عن وجوب الاغتسال نفسيا ، للعلم بأصل الوجوب وترتّب العقاب على تركه أو بتركه ، وكذا الحال في استصحاب ناحية عدم جعل الوجوب النفسي له للعلم المفروض.

وبالجملة فالفعلية في الواجب الآخر في هذه الصورة مسلّمة قطعية وإنّما غيرية هذا الواجب أو نفسيّته مشكوكة.

الصورة الثانية : ما إذا علم أنّ وجوب المشكوك في نفسيّته أو غيريّته مع وجوب الفعل الآخر من غير المتماثلين في الإطلاق والاشتراط على تقدير النفسية ، وعلى تقدير الغيرية في وجوبه يعتبر الإتيان به قبل الصلاة مثلا ، ففي مثل ذلك تكون

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أصالة البراءة عن اشتراط الصلاة به معارضة بأصالة عدم وجوبه قبل وقت الصلاة ، فيجب على المكلّف الجمع بين الاحتمالين بالاغتسال قبل الصلاة ، فتكون النتيجة نتيجة الواجب الغيري.

الصورة الثالثة : ما إذا دار أمر الفعل بين كونه واجبا نفسيا فيكون فعليا في حقّه ، أو غيريّا مقدّمة لواجب لا يعلم المكلّف بفعليّته في حقّه أصلا ولو مستقبلا ، كما إذا دار أمر الختان بين كونه واجبا نفسيا أو غيريّا من باب اشتراط الطواف به ، ويفرض عدم علم المكلّف بحصول الاستطاعة له مستقبلا ، ففي مثل ذلك لا بأس بالرجوع إلى أصالة البراءة بالإضافة إلى وجوبه النفسي.

ويلحق بهذه الصورة ما إذا علم بكونه واجبا غيريا وشرطا لواجب لا يعلم بفعلية وجوبه في حقّه ، ولكن يشكّ في وجوبه نفسا ، كما إذا علم بأنّ الختان شرط في طواف الحجّ ، ولكن يشكّ في وجوبه نفسا ، فإنّ أصالة البراءة عن وجوبه النفسي مع عدم العلم بحصول الاستطاعة له تجري بلا إشكال.

وعبارة الماتن قدس‌سره خالية عن التعرّض إلى البراءة عن الاشتراط في الصورة الأولى ، كما أنّها خالية عن التعرّض لتنجيز العلم الإجمالي في الصورة الثانية.

٧٦

تذنيبان

الأول : لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي [١] وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا ، وأما استحقاقهما على امتثال الغيري ومخالفته ، ففيه إشكال ، وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته

______________________________________________________

الثواب على الواجبات الغيرية :

[١] إن كان المراد بالاستحقاق ، اللزوم على الله (سبحانه) وفاء لوعده ، فهذا يجري في بعض الواجبات الغيرية التي ورد الوعد بالثواب عليها كالخروج إلى مثل الحجّ والجهاد.

وإن كان المراد من استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي اللزوم على الله (سبحانه) نظير استحقاق الأجير الأجرة على المستأجر والعامل على من أمره بعمل فيما إذا أتى الأجير أو العامل بالعمل المستأجر عليه أو المأمور به ، ففي ثبوت هذا (الاستحقاق على امتثال الأمر النفسي تأمّل ، بل منع ، إذا العقل لا يحكم على الله (سبحانه) بشيء إزاء طاعة العبد وعمله بوظيفته المقرّرة له من الله (سبحانه) بعد كونه ولي النعم والمنعم الحقيقي على العبد.

وإن أريد من استحقاق العبد أنّ قيامه بوظائفه ورعاية ولاية خالقه موجب لأن يقع مورد التفضّل منه تعالى من غير وجوب شيء عليه ، كتفضّله عليه بجعل توبة العبد كفّارة لذنبه ، فهذا صحيح إلّا أنّ نفي الاستحقاق بهذا المعنى في موارد امتثال الأمر الغيري محلّ تأمّل ؛ لاستقلال العقل بحسن التفضّل والإحسان إلى من يأتى بالمقدّمة قاصدا بها التوصّل إلى امتثال التكليف المتوجّه إليه وأن الإتيان بها كذلك يوجب تقرّب العبد إليه (سبحانه) فيما إذا لم يوفّق إلى إتيان الواجب النفسي لطروّ

٧٧

ومخالفته ، بما هو موافقة ومخالفة ، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد ، أو لثواب كذلك ، فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها ، أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات.

نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة ، وبزيادة

______________________________________________________

العجز بعد الإتيان بها لعارض آخر.

وعليه لا مجال في الفرض لدعوى أنّ زيادة الثواب من باب كون ذي المقدّمة من أشقّ الأعمال ، كما ورد في الثواب على بعض المقدّمات.

نعم ، يبقى في الفرض دعوى أنّ استحقاق المثوبة في الفرض من جهة الانقياد والقصد إلى الإتيان بالواجب النفسي ، ولذا لو لم يكن في البين قصد التوصل بل مجرّد الإتيان بمتعلّق الواجب الغيري لتعلّق الأمر الغيري به لما كان في البين حكم بالاستحقاق ، كما إذا أتى بالمقدّمة مع تردّده في عصيانه وطاعته ، بالإضافة إلى الواجب النفسي بعد ذلك.

ولكن يمكن دفعها بوجدان الفرق بين المكلّف الذي يأتى بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذيها ولكن طرأ العجز عليه بعد الإتيان بها ، وبين المكلّف القاصد لإتيان المقدّمة توصّلا إلى ذيها ولكن طرأ العجز عليه قبل الإتيان بالمقدّمة بتحقّق الامتثال ولو ببعض مراتبه في الأوّل وعدمه في الثاني ، وإن كان الانقياد بقصد الطاعة فيهما على حدّ سواء ، اللهم إلّا أن يقال مع طريان العجز بذي المقدّمة لا يكون بينهما فرق إلّا في مراتب الانقياد ، والفرق بين مراتب الانقياد كالفرق بين مراتب التجرّي أمر ممكن غير منكر ، ومع ذلك كلّه فكون الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصّل بها أو بقصد امتثال الأمر بها غيريا موجبا لوقوع العبد موقع التفضّل عليه مما لا ينكر.

٧٨

المثوبة [١] على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له ، من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الأعمال ، حيث صار أشقّها ، وعليه ينزّل ما ورد في الأخبار من الثواب على المقدمات ، أو على التفضل فتأمل جيّدا ، وذلك لبداهة أن موافقة الأمر الغيري ـ بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي ـ لا توجب قربا ، ولا مخالفته ـ بما هو كذلك ـ بعدا ، والمثوبة والعقوبة إنما تكونان من تبعات القرب والبعد.

______________________________________________________

[١] يعني إنّ ترك الواجب الغيري يوجب استحقاق العقاب على المخالفة ، ـ أي مخالفة الأمر بالواجب النفسي ـ فإنّه بترك المقدّمة تحصل مخالفته ، كما يمكن دعوى أنّ مع الإتيان بالمقدّمة بقصد التوصل إلى ذيها يحكم باستحقاق مزيد الثواب على امتثال الواجب النفسي ، حيث يكون الإتيان بالواجب النفسي مع الإتيان بمقدمته بقصد التوصّل من أشقّ الأعمال وأحمزها ولا يخفى أنّ أشقّها أفضلها.

والوجه في صيرورة ذي المقدّمة من أشقّ الأعمال على ذلك التقدير ، شهادة الوجدان بأنّه لو كان للعبد داع نفساني إلى الإتيان بالمقدّمة لما كان يصعب عليه الإتيان بذيها كصعوبة ما إذا لم يكن له داع من المقدّمة غير التوصّل إلى ذيها.

ثمّ إنّه قدس‌سره قد حمل ما ورد في الثواب على بعض المقدّمات على ما ذكره من زيادة الثواب على الواجب الغيري أو على التفضّل ، وعلّل ذلك بأنّ موافقة الأمر الغيري ـ بما هو أمر وإيجاب لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي ـ لا يوجب قربا ، ومخالفته بما هو مخالفة الأمر الغيري لا يوجب بعدا ، والثواب والعقاب من تبعات القرب والبعد.

ولكن لا يخفى ما فيه : فإنّ وعد الثواب على امتثال الواجب النفسي أيضا عن الغير على نحو التفضّل كما تقدّم ، لا الاستحقاق ودعوى البداهة في أنّ الإتيان

٧٩

إشكال ودفع :

أما الأول : فهو أنه إذا كان الأمر الغيري [١] بما هو لا إطاعة له ، ولا قرب في موافقته ، ولا مثوبة على امتثاله ، فكيف حال بعض المقدمات؟ كالطهارات ، حيث لا شبهة في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها ، هذا مضافا إلى أن الأمر

______________________________________________________

بالواجب الغيري بداعوية الأمر الغيري لا يوجب قربا كما ترى.

وأمّا دعوى كون الإتيان به كذلك شروعا في امتثال الواجب النفسي ، فهي نظير دعوى كون شراء الطعام شروعا في الأكل وأنّ غسل الثوب أو البدن من النجاسة ـ باعتبار أنّ طهارتهما شرط في الصلاة ـ شروع في امتثال الأمر بالصلاة ، مع أنّ الصلاة أوّلها التكبير.

وبالجملة الإتيان بقيد الواجب النفسي بداعوية الأمر الغيري به أو لقصد التوصل به إلى الواجب في نفسه تقرّب فيما إذا كان الداعي إلى الإتيان بالواجب النفسي أمر الشارع به ، غاية الأمر لا يكون تقربا نفسيا ، بل تقرّبا تبعيا.

عبادية الطهارات الثلاث :

[١] أمّا الإشكال فمن وجهين :

أحدهما : أنّه إذا كان الإتيان بالمقدّمة ولو بقصد امتثال الأمر بها غيريا غير موجب لاستحقاق الثواب عليها ، فكيف حال الطهارات الثلاث؟ فإنّه لا ينبغى التأمّل في استحقاق المثوبة عليها وحصول التقرّب بها ، ولو فيما إذا أتى بها لمجرّد امتثال الأمر الغيري بها.

وثانيهما : ما أشار إليه بقوله «هذا مضافا إلى أنّ الأمر الغيري ... إلخ» وحاصله أنّه لا بدّ من كون وجوب المقدّمة توصليّا ، بمعنى سقوط الأمر الغيري بها بالإتيان

٨٠