دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-61-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٠٨

فصل

إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ ، على بقاء الجواز بالمعنى الأعم ، ولا بالمعنى الأخص [١] ، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام ، ضرورة أن ثبوت كل واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن ، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ ـ بإحدى الدلالات ـ على تعيين واحد منها ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا بد للتعيين من دليل آخر ، ولا مجال لاستصحاب الجواز ، إلّا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وهو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، وقد حققنا في محله ، أنه لا يجري الاستصحاب فيه ، ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع ، بحيث عد عرفا ـ لو كان ـ أنه باق ، لا أنه أمر حادث غيره.

______________________________________________________

اقتضاء نسخ الوجوب للجواز وعدمه

[١] المراد من الجواز بالمعنى الأعم عدم حرمة الفعل ، فيحتمل كونه على وجه الاستحباب ، أو على وجه الكراهة ، أو على وجه الإباحة الخاصة ، ويعبّر عن الجواز بالمعنى الأعمّ ، بالإباحة بالمعنى الأعمّ أيضا في مقابل الإباحة بالمعنى الأخصّ ، والجواز بالمعنى الأخصّ عبارة عن الإباحة بالمعنى الأخصّ التي تعدّ من الأحكام الخمسة التكليفية.

وقد ذكر الماتن قدس‌سره تبعا لغيره أنّه إذا نسخ وجوب فعل فلا دلالة لدليل الناسخ ولا لخطاب الحكم المنسوخ على كون الفعل بعد ذلك جائزا بالمعنى الأعم ، كما لا يدلّ شيء منهما على كونه جائزا أي مباحا بالمعنى الأخصّ ، بل يدور أمر ذلك

٢٦١

ومن المعلوم أن كل واحد من الأحكام مع الآخر عقلا وعرفا ، من المباينات والمتضادات ، غير الوجوب والاستحباب ، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلا إلّا أنهما متباينان عرفا ، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر ، فإن حكم العرف ونظره يكون متبعا في هذا الباب.

______________________________________________________

الفعل بين الحرام والمكروه والمستحب والمباح بالمعنى الأخص.

نعم لو علم من الخارج أنّ الفعل المزبور لا يناسب الحرمة يحرز كونه جائزا بالمعنى الأعم ولكن هذا ليس من دلالة الدليل أي خطاب الناسخ أو خطاب المنسوخ في شيء.

ويمكن أن يقال : إنّ خطاب المنسوخ أو الناسخ لا يدلان على شيء من الأحكام الأربعة فيما كان الوجوب الثابت سابقا مدلولا وضعيا لخطاب المنسوخ بأن كان خطاب المنسوخ ، من قبيل قوله «إنّ الله فرض عليكم الفعل الفلاني» ثمّ ورد بعد مضي فترة من العمل به خطاب مفاده «لا فرض فيه بعد اليوم أو لا وجوب فيه بعد ذلك» ـ فيما لو اريد بالوجوب الطلب الذي لا ترخيص فيه ـ فنفس خطابي المنسوخ والناسخ لا يدلّان على حكم ذلك الفعل بعد النسخ بالدلالة اللفظية وإلّا فالإطلاق المقامي بعد بيان خطاب الناسخ مقتضاه عدم ثبوت التحريم في ذلك الفعل إذ لو كان الفعل محرّما لكان على الشارع بيانه عند رفع الزامه السابق بالفعل.

ولعل القائل بجواز الفعل بعد نسخ وجوبه أراد كون الجواز بالمعنى الأعم مقتضى الإطلاق المقامي ، وإن عبّر عن ذلك بوجه عليل من أنّ ثبوت الجواز في الفعل سابقا مع المنع من الترك ، وخطاب الناسخ يدلّ على ارتفاع الإلزام أي طلب الفعل بنحو لا يجوز تركه ولا يرفع جواز الفعل.

والوجه في كونه عليلا أنّ خطاب المنسوخ لم يكن دلالته على جواز الفعل

٢٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بدلالة مستقلة عن دلالته على إيجاب الفعل ، بل لأنّ ايجاب فعل يستلزم عقلا عدم المنع عن ذلك الفعل وبعد ارتفاع الوجوب عنه لا استلزام.

وأمّا لو كان دلالة خطاب المنسوخ على وجوب الفعل ـ أي عدم ثبوت الترخيص في تركه ـ بالإطلاق على ما مرّ في البحث عن صيغة الأمر من أنّ دلالتها على وجوب الفعل بالإطلاق ثمّ ورد خطاب بعد فترة من الزمان ما يكون مفاده ثبوت الترخيص في ترك ذلك الفعل بعده يحكم بكون الفعل بعد ذلك مطلوبا بنحو الاستحباب.

وبتعبير آخر أنّه إذا ورد الأمر بفعل متعلق بموضوع انحلالي بأن قال مثلا : «جهزوا الموتى» وورد في خطاب آخر : «أنّه لا الزام في تجهيز غير المسلم» يكون مقتضى الجمع العرفي جواز تجهيز الميّت الكافر بل استحبابه ، كذلك الحال بالإضافة إلى تعلق الأمر بفعل انحلالي بحسب الأزمنة لخطاب المنسوخ فإنّه يدلّ على طلب الفعل في جميع الأزمنة بنحو لا ترخيص فيه ، وإذا ورد خطاب بعد فترة من الزمن بأنّه لا إلزام في ذلك الفعل بعد ذلك ، يثبت الطلب الذي فيه ترخيص بالإضافة إلى الأزمنة المتأخرة إذ الساقط بعد ورود هذا الخطاب الإطلاق الثابت في طلب الفعل لا أصل طلبه فتدبّر.

وممّا ذكر ظهر أنّه لو فرض وصول النوبة إلى الأصل العملي كان مقتضى الاستصحاب بقاء الجواز بالمعنى الأعم أي عدم الحرمة الثابتة للفعل المزبور عند وجوبه ، وكذا عدم استحبابه أي عدم تعلق الطلب الاستحبابي الثابت له عند وجوبه ، وكذا عدم كراهته أي عدم طلب تركه ، ونتيجة الاستصحابات هي الإباحة الخاصة ، ولذا لا يجرى الاستصحاب في ناحيه عدم ثبوت الإباحة الخاصة كما لا يخفى.

٢٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وما ذكر الماتن قدس‌سره في ناحية عدم جريان الاستصحاب في ناحية طلب الفعل فهو صحيح ، لكن لا لما ذكره قدس‌سره من أنّ اختلاف الاستحباب والوجوب بضعف الطلب وشدته وبذلك لا يكون استصحاب أصل الطلب من الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي ، بل يدخل المشكوك في المرتبة الضعيفة المتصلة بالمرتبة المرتفعة القوية ومعه يكون الاستصحاب في الشخص لا في ناحية الكلي إلّا أنّه لا يجرى الاستصحاب في المقام لكون الاستحباب والوجوب بنظر العرف متباينان والمتبع في جريان الاستصحاب النظر العرفي لا العقلي.

والوجه في عدم كون هذا الوجه صحيحا هو ما تقدم من أنّ اختلاف الوجوب والاستحباب وإن كان بالوصف إلّا أنّ الوصف ليس هو شدة الطلب وضعفه ، بل هما أمران اعتباريان كسائر الأحكام فالوجوب هو الطلب الذي يوصف بأنّه لا ترخيص فيه بخلاف الاستحباب فانّه الطلب الموصوف بأنّ فيه ترخيص ، ولذا يكونان متباينين عرفا كتباين الكراهة والحرمة وليس المراد أنّ المنع من الترك جزء للوجوب والترخيص فيه جزء للاستحباب كما في كلمات القدماء فانّ عدم صحته واضح إذ معنى كل من الوجوب والاستحباب بسيط لا مركب كما أشرنا ولكن لكل منهما وصف خاصّ فوصف الوجوب عدمي بخلاف وصف الاستحباب.

وما في كلام الماتن قدس‌سره من أنّ كل واحد من الأحكام الخمسة مع غيره من المتباينات عقلا وعرفا إلّا الاستحباب والوجوب فعجيب لأنّه لا فرق بين الإيجاب والاستحباب وبين الحرمة والكراهة من هذه الجهة كما هو ظاهر.

٢٦٤

فصل

إذا تعلق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء ، ففي وجوب كل واحد على التخيير [١] ، بمعنى عدم جواز تركه إلّا إلى بدل ، أو وجوب الواحد لا بعينه ، أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعين عند الله ، أقوال.

والتحقيق أن يقال : إنه إن كان الأمر بأحد الشيئين ، بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما ، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ، ولذا يسقط به الأمر ، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا ، وذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ، ما لم يكن بينهما جامع في البين ، لاعتبار نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول.

______________________________________________________

في الواجب التخييري

[١] لا ينبغي التأمّل في أنّ الواجب يوصف بأنّه تعييني كما يوصف بأنّه تخييري وكذا يتصف الوجوب بأنّه تعييني كما يتصف بأنّه تخييري.

وقد وقع الكلام في أنّ هذا الاختلاف في الواجب أو الوجوب في ناحية الوصف هل هو ناش من ناحية الوجوب أو من ناحية متعلّقه المعبّر عنه بالواجب ، كما أنّه وقع الخلاف على تقدير كونه من ناحية الوجوب في أنّه ذاتي بمعنى أنّ الوجوب التعييني سنخ من الوجوب المطلق والتخييري سنخ آخر منه ، أو أنّه عرضي نشأ من إطلاق الوجوب في التعييني والاشتراط والتقييد الخاص في ناحية الوجوب في التخييري ، وما في عبارة الماتن من وجوب كل منهما على التخيير بمعنى عدم جواز تركه إلّا إلى بدل ، إشارة إلى القول بالاختلاف الذاتي بين الوجوب التعييني

٢٦٥

وعليه : فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي ، لبيان أن الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.

وإن كان بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض ، لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه ، كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب ، يستكشف عنه تبعاته ، من عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما ، والعقاب على تركهما ، فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقا ولا مفهوما ، كما هو واضح ، إلّا أن يرجع إلى ما ذكرنا فيما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأول ، من أنّ الواجب هو الواحد الجامع بينهما ، ولا أحدهما معيّنا ، مع كون كل منهما مثل الآخر في أنه واف بالغرض [ولا كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما ، بداهة عدم السقوط مع إمكان استيفاء ما في كل منهما من الغرض ، وعدم جواز الإيجاب كذلك مع عدم إمكانه] فتدبر.

______________________________________________________

والتخييري حيث إنّ الوجوب التعييني يتعلق بفعل أو أفعال ويقتضي عدم جواز ترك متعلّقه مطلقا ولكن الوجوب التخييري يتعلّق بكل من الفعلين أو الأفعال ويقتضي عدم جواز تركه إلّا إلى بدل.

وقد يقال : إنّ الوجوب التعييني المتعلّق بفعل أو أفعال وإن كان يقتضي ما ذكر والوجوب التخييري المتعلق بكل من الفعلين أو الأفعال أيضا يقتضي ما تقدم إلّا أنّ هذا الاختلاف ليس ذاتيا لنفس الوجوبين بل عرضي ناش من إطلاق الوجوب في ناحية الوجوب التعييني ، ومن التقييد الطاري على الوجوب في التخييري ، بمعنى أنّ الوجوب في الواجب التخييري وإن تعلّق بكل من الفعلين أو الأفعال إلّا أنّ هذا الوجوب يبقى ما دام لم يؤت بواحد من الفعلين أو الأفعال ، ومع الإتيان به يسقط الوجوب من كل منهما أو منها وإلى ذلك أشار قدس‌سره بقوله (أو وجوب كل منهما مع

٢٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

السقوط بفعل أحدهما).

وأمّا القائل بالاختلاف بين الواجب التعييني والواجب التخييري في ناحية المتعلّق.

فمنهم من يقول : بأنّ في الواجب التعييني والتخييري وجوب واحد ولكن الوجوب في التخييري يتعلّق بأحد الفعلين أو الأفعال بنحو النكرة الواقعة في تلو الأوامر وإلى ذلك أشار بقوله (أو وجوب الواحد لا بعينه).

ومنهم من يقول بالاختلاف في ناحية المتعلق بأنّ الوجوب في الواجب التخييري يتعلّق بواحد معين من الفعلين أو الأفعال عند الله ، فإنّ الله يعلم ما يختاره المكلف فهو الواجب في حقّه.

ويقول ثالث : بأنّ الوجوب تعلّق بالواحد المعين مطلقا وما يختاره المكلف إمّا هو أو غيره فإن كان غيره يكون مسقطا للواجب وقد أشار الماتن إلى ذلك بقوله (أو وجوب المعين عند الله).

ولكنّه قدس‌سره قد اختار التفصيل في الواجب التخييري والتزم بأنّ الواجب التخييري على قسمين ، فالقسم الأوّل لا فرق بينه وبين الواجب التعييني لا في ناحية الوجوب ولا في ناحية المتعلّق ، وهو ما إذا كان للمولى غرض واحد وملاك ومصلحة واحدة تحصل تلك المصلحة بكل من الفعلين أو الأفعال وفي مثل ذلك يكون ما يحصل منه الملاك هو الجامع بينهما أو بينها بقاعدة : «أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن واحد» فذلك الجامع متعلق الوجوب الواحد ، كما هو الحال في الواجب التعييني المتعلق بالطبيعي حيث يكون صرف وجوده محصّلا للغرض ، غاية الأمر بما أنّ

٢٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الجامع في موارد الوجوب التخييري غير معروف عند المكلفين يتعلّق الطلب بالأمر في مقام الإثبات بكل من الفعلين أو الأفعال بذكر أحدهما أو أحدها أوّلا وعطف الباقي عليه بأو ونحوها. والقسم الآخر يختلف مع الوجوب التعييني سنخا كما أشار إليه أوّلا ، وهو ما يكون في خصوص كل من الفعلين أو الأفعال غرض ملزم ولكن لا يمكن حصول الغرض من كل منهما أو من كل منها مع إيجادهما أو إيجادها بل يكون الحاصل غرض وملاك واحد ولو تركهما أو تركها المكلف يفوت ذلك الملاك الواحد أيضا ففي مثل ذلك يكون الوجوب تابعا لحصول الغرض فيتعلّق بكل من الفعلين أو الأفعال سنخ وجوب يقتضي عدم جواز ترك متعلّقه إلّا إلى البدل ولا يتوهم أنّه إذا لم يمكن حصول الغرضين أو الاغراض فلا موجب للآمر إيجاب كل منهما أو منها كما ذكر بل يأمر بواحد معين منها وذلك لأنّ في الأمر بكل منهما أو منها تخييرا توسعة للمكلف ورعاية لغرضه حيث قد يصعب على المكلف الإتيان بذلك المعين أو لا يقدر عليه.

أقول : ما ذكره قدس‌سره في موارد ترتب الغرض الملزم على كل واحد من الخصال مع عدم حصول ذلك الغرض عند الإتيان بها إلّا من واحد منها ـ من أنّه في هذا الفرض يتعلّق بكل منها سنخ وجوب يقتضي عدم جواز ترك متعلّقه إلّا إلى بدل ـ لا يمكن المساعدة عليه ، فانّ الوجوب على المختار كما تقدم في بحث الأوامر وفي الفصل السابق وصف لإطلاق الطلب بعدم ورود الترخيص في ترك متعلّقه ، ومع هذا الإطلاق يحكم العقل بعدم جواز ترك متعلقه بالمعنى المتقدم ، وإذا كان الطلب بحيث يلزم منه عدم جواز ترك متعلّقه إلّا إلى بدل ، فلا بدّ من فرض نوع من التقييد في الطلب المتعلّق بالخصال أو نحو خصوصية في متعلق ذلك الطلب ، فإن كان

٢٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

التقييد في ناحية نفس الطلب المتعلق بكل من الخصال كالترخيص في ترك متعلق كل واحد من الوجوبات ، على فرض الإتيان بمتعلق الآخر فلازم ذلك كون المكلف مؤاخذا بكل طلب مع ترك جميع الخصال ، مع أنّ العقاب لا يتعدّد في موارد الوجوب التخييري بترك الخصال كما لا يخفى.

وبالجملة لا نتعقّل سنخين للوجوب بحيث يوجب التعدّد في ناحية الوجوب في موارد التخيير كي يقتضي كل من الوجوب عدم جواز ترك متعلّقه إلّا إلى البدل ، وبما أنّ الاختلاف بين الوجوب التخييري والتعييني ـ بتقييد الطلب بالترخيص الخاص في التخييري وإطلاق الطلب في الوجوب التعييني ـ غير ممكن ؛ لاستلزامه تعدد العقاب في صورة ترك الجميع فلا بدّ من الالتزام بأنّ الاختلاف بين الوجوب التعييني وبين الوجوب التخييري في ناحية المتعلّق هذا هو المختار. أضف إلى ذلك أنّه لا موجب للمولى لطلب كل من الخصال بإنشاء وجوبات مولوية متعدّدة بعدد الخصال بل يعتبر وجوب واحد متعلّق بالجامع بينها ولو كان ذلك الجامع أمرا اعتباريا كعنوان أحد الأفعال أو أحد الفعلين حيث إنّ المفروض عدم حصول الغرض من كل منها أو منهما عند الإتيان بها دفعة أو تدريجا ، هذا مع الإغماض عن أنّ فرض تضادّ الخصال في حصول الملاك والغرض منها ، يلحق بأنياب الأغوال.

والمتحصّل بما أنّ الطلب والبعث أمر اعتباري ، يمكن أن يتعلّق بإيجاد الواحد من المتعدّد بلحاظ عنوان انتزاعي ينطبق على كل من الأفعال المتعدّدة ـ سواء حصلت كلّها أو بعضها حتى واحدا منها ـ كعنوان أحدهما أو أحدها ، بل وكذا الأمر الواقعي الخارجي كالعلم والإرادة أيضا يمكن أن يتعلق بالواحد من المتعدد بلحاظ هذا النحو من الجامع كالعلم بوقوع النجس في أحد الإناءين أو إرادة أحد الفعلين ،

٢٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث بيّنا أنّ المتعلق لا يكون من قبيل المعروض والطلب والإرادة من قبيل العرض لذلك المعروض ، بل المتعلّق طرف الإضافة في الشيء المضاف لا غير ، كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في موارد حصول الغرض الواحد من كل من الأفعال المتعدّدة من أنّ في هذا الفرض يتعلّق الوجوب بالجامع الذاتي بينها المستكشف بقاعدة : «الواحد لا يصدر إلّا عن واحد» التي هي عكس القاعدة المعروفة (١) التي أسّسها أهل المعقول لإثبات أنّ الصادر الأوّل من المبدأ الأعلى واحد ، فقد ذكرنا في البحث عن موضوعات العلوم أنّ القاعدة على فرض تماميتها تصدق في الواحد الشخصي أمّا الواحد النوعي أو العنواني ممّا يكون له حصص فيمكن استناد واحد منها إلى شيء والآخر منها إلى شيء آخر من غير أن يكون بين الشيئين جامع ذاتي كخروج العرق من بدن الإنسان حيث يستند تارة إلى حرارة الهواء وأخرى إلى الخجل والحياء مع أنّ كلا منهما من مقولة ، والجامع الذاتي على ما ذكروا بين المقولات غير معقول.

ومع الإغماض عن ذلك فإنّ اعتبار الطلب والبعث انّما هو لترتّب إمكان الانبعاث به مع وصوله إلى المكلف وإذا كان الجامع الذاتي على نحو يستكشف بالبرهان فاعتبار الطلب وجعل ذلك الجامع متعلقا له عبث لغو حتى في مقام الثبوت بل على المولى الحكيم أن يجعل متعلق طلبه وبعثه أمرا إذا ألقاه إلى المكلف لتوجه المكلّف إلى ما تعلق به إرادته ثبوتا وقد حدّدنا ذلك الأمر بالعنوان الانتزاعي الممكن إلقائه إلى المكلف وهو عنوان أحدهما أو أحدها أو ما يرادفها بتعلّق الأمر في

__________________

(١) والأصل هي (لا يصدر عن الواحد إلّا واحد).

٢٧٠

بقي الكلام في أنه هل يمكن التخيير عقلا أو شرعا بين الأقل والأكثر [١] ، أولا؟

______________________________________________________

الخطاب بأحد الخصال وعطف الباقي عليه بأو أو ما يرادفها أو ذكر الأفعال المتعددة ولو بواو الجمع ثمّ الأمر بإتيان أحدهما كما لا يخفى.

وأمّا القول بأنّ الواجب في موارد الوجوب التخييري أحدهما المعيّن عند الله تعالى وهو ما يختاره المكلف وعليه فيختلف الواجب المعين عند الله تعالى بحسب اختيار المكلفين ، وهو الذي رمى كلّ من المعتزلة والأشاعرة القول به إلى الآخر ، ففساده واضح فإنّه يوجب عدم وجوب شيء من الابدال في حق المكلف عند صورة تركها جميعا ، وأن يكون أمره بواحد منها معلّقا على اختياره.

وأمّا كون الواحد المعيّن عند الله تعالى واجبا في حقّ الجميع ، والباقي مسقط للتكليف بالواحد المعين فهو وإن كان ممكنا ثبوتا إلّا أنّه خلاف خطابات الواجب التخييري ، ولا موجب لرفع اليد عن ظواهرها بعد بيان تصوير الواجب التخييري ثبوتا.

في التخيير بين الأقل والأكثر

[١] حاصل ما ذكره قدس‌سره في التخيير بين الأقل والأكثر هو أنّ الغرض الواحد مع ترتبه على الأقل بحدّه وعلى الأكثر بحدّه كما في قصر الصلاة وتمامها يقتضي أن يكون الوجوب فيهما تخييريا حيث إنّ اختصاص الوجوب بالأقل بلا موجب ، ولا فرق في ذلك بين استقلال الأقلّ في الوجود كالتسبيحة أو عدم استقلاله كما في الخط الطويل ، فإنّه إذا كان الغرض مترتبا على التسبيحة بشرط عدم لحوق تسبيحة أخرى بها وعليها على تقدير لحوق تسبيحتين أخريين يكون الوجوب تخييريا بين

٢٧١

ربما يقال ، بأنه محال ، فإن الأقل إذا وجد كان هو الواجب لا محالة ، ولو كان في ضمن الأكثر ، لحصول الغرض به ، وكان الزائد عليه من أجزاء الأكثر زائدا على الواجب ، لكنه ليس كذلك ، فإنه إذا فرض أن المحصّل للغرض فيما إذا وجد الأكثر ، هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمنه ، بمعنى أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله ، وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا ، فلا محيص عن التخيير بينهما ، إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص ، فإن الأكثر بحده يكون مثله على الفرض ، مثل أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتبا على الطويل إذا رسم بماله من الحد ، لا على القصير في ضمنه ، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا يعمه؟ ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الإمكان.

______________________________________________________

الواحدة والثلاث.

وبالجملة إذا كان غرض واحد مترتبا على الأقل بحدّه بحيث لو كان الأقل في ضمن الأكثر لا يترتب ذلك الغرض على الأقل الذي في ضمن الأكثر بل يترتب على نفس الأكثر يكون الواجب هو الجامع بينهما ويكون التخيير بينهما عقليا وإذا كان في البين غرضان يترتّب أحدهما على الأقل والآخر على الأكثر ولم يمكن الجمع بين الغرضين في الاستيفاء ، كان كل من الأقل والأكثر واجبا بوجوب تخييري شرعي على النحو الذي تقدم بيانه.

نعم إذا كان الغرض الواحد يترتب على الأقل من دون دخل الزائد فيه وجودا وعدما لما كان الأكثر عدلا له بل كان في الأكثر اجتماع الوجوب وغيره من الاستحباب والاباحة بمعنى أنّ الأقل المتحقق ولو في ضمن الأكثر واجب ، والزائد عليه مستحب أو مباح.

أقول : ما ذكره قدس‌سره من ترتب الغرض الواحد على الأقلّ بحدّه وعلى الأكثر بحدّه

٢٧٢

إن قلت : هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد ، لم يكن للأقل في ضمنه وجود على حدة ، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلّل سكون في البين ، لكنه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود ، كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث ، أو خط طويل رسم مع تخلّل العدم في رسمه ، فإن الأقل قد وجد بحده ، وبه يحصل الغرض على الفرض ، ومعه لا محالة يكون الزائد عليه مما لا دخل له في حصوله ، فيكون زائدا على الواجب ، لا من أجزائه.

قلت : لا يكاد يختلف الحال بذاك ، فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر ، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام ، ومعه كان مترتبا على الأكثر بالتمام.

______________________________________________________

بحيث يكون الواجب هو الجامع ويكون التخيير بينهما عقليا ، فالظاهر أنّه من فرض الممتنع عنده ، حيث إنّ دخالة خصوصية كل واحد تمنع عن استناد ذلك الغرض إلى الجامع ومقتضى استناد الغرض إلى الجامع عدم دخالة خصوصيّة كل منهما مع اختلافهما في الخصوصية ، وبتعبير آخر : مقتضى قانون السنخيّة بين المعلول وعلّته أن لا تكون لخصوصية كل منهما دخل في حصول ذلك الغرض ولكن فرض قدس‌سره أنّ كلا منهما بحدّه دخيل فيه.

ومع الإغماض عن ذلك فما ذكر لا يكون من التخيير بين الأقل والأكثر بل من قبيل التخيير بين المتباينين فإنّ الشيء المأخوذ بشرط خصوصيّته وحدّه يباين الشيء الآخر المأخوذ بخصوصيته وحدّه غاية الأمر يكون تباينهما بالاعتبار لا بالذات ولذا لا يحمل الشيء المأخوذ بشرط لا بالإضافة إلى قيد ، على الشيء المأخوذ بشرط ذلك القيد. وأمّا التخيير بين الأقل والأكثر فيما إذا كان متعلّق الأمر ، الأقلّ لا بشرط ، بحيث يترتب عليه الغرض وكان ذلك الشيء بشرط ذلك القيد أيضا

٢٧٣

وبالجملة إذا كان كل واحد من الأقل والأكثر بحدّه مما يترتب عليه الغرض ، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد ، وتخييرا شرعيا فيما كان هناك غرضان ، على ما عرفت.

نعم لو كان الغرض مترتبا على الأقل ، من دون دخل للزائد ، لما كان الأكثر مثل الأقل وعدلا له ، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره ، مستحبا كان أو غيره ، حسب اختلاف الموارد ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

موضوعا لذلك الغرض ، فهو أمر لا يمكن تسلّمه وعلى ذلك فلا مناص من الالتزام في مثل هذه الموارد بوجوب الأقلّ واستحباب ضمّ الزائد أو اباحته.

ولا يخفى أنّ هذا إنّما هو فيما كانت القلة أو الكثرة وصفا لنفس الفعل بلا فرق بين كون الكثير من قبيل فعلين أو زائدا على مسمّى طبيعي الفعل المتعلق به الطلب فانّ الفعل الثاني أو المقدار الزائد على صدق المسمّى يكون مستحبا أو مباحا وعليه فإذا أمر برسم الخط فالمقدار الواجب ما يصدق عليه مسمّى رسمه والزائد على المسمّى لا يدخل تحت هذا الطلب لا محالة فيكون الزائد راجحا أو مباحا.

وأمّا إذا كانت الزيادة لا في نفس الفعل بل في متعلق الفعل فهو خارج عن مورد الكلام كما إذا طلب منه إعطاء عصا فاعطاه العصا الطويلة فلا تغفل.

٢٧٤

فصل

في الوجوب الكفائي :

والتحقيق أنه سنخ من الوجوب ، وله تعلق بكل واحد ، بحيث لو أخلّ بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته [١] جميعا ، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم ، وذلك لأنه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد ، حصل بفعل واحد ، صادر عن الكل أو البعض.

كما أن الظاهر هو امتثال الجميع لو أتوا به دفعة ، واستحقاقهم للمثوبة ، وسقوط الغرض بفعل الكل ، كما هو قضية توارد العلل المتعددة على معلول واحد.

______________________________________________________

الواجب الكفائي والعيني

[١] الكلام في الواجب الكفائى كالكلام في الواجب التخييري يقع في اختلاف الواجب الكفائي عن الواجب العيني بحسب مقام الثبوت غاية الأمر كان الكلام في الواجب التخييري أنّ اختلافه عن الواجب التعييني ينشأ من ناحية نفس الوجوب أو من ناحية متعلق الوجوب وفي المقام الكلام في أنّ اختلاف الكفائي عن العيني ينشأ من ناحية نفس الوجوب أو من ناحية الموضوع للوجوب يعني المكلف ، وإذا كان اختلافه عن العيني ناشئا من اختلاف الوجوب ، فهل اختلاف الوجوب العيني عن الكفائي ذاتي للوجوبين أو أنّه ناش عن أمر عارضي وهو إطلاق الوجوب في العيني والاشتراط في الوجوب الكفائي؟

وظاهر الماتن قدس‌سره في المقام أنّ اختلاف الكفائي عن العيني ناش عن أمر ذاتي للوجوبين بمعنى أنّ الوجوب الكفائي سنخ من الوجوب يتوجّه إلى كلّ مكلف ولكن بحيث يسقط عنهم بفعل البعض ولو اخلّوا بالامتثال لعوقبوا على مخالفته ، بخلاف

٢٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجوب العيني فانّه سنخ يقتضي أن يأتي كلّ واحد ممّا وجب عليه ولا يسقط الوجوب عنه إلّا بذلك ، والمصحّح لكون الوجوب الكفائي سنخا والعيني سنخا آخر هو الغرض الملحوظ في ايجاب الفعل ، فقد يكون الغرض من التكليف حصول أمر واحد ويحصل ذلك بفعل أي مكلّف ، وقد يكون الغرض انحلاليّا ويترتب على فعل كل مكلف ذلك الغرض المطلوب حصوله من فعله فيكون الوجوب عينيا ، وذكر قدس‌سره أنه لو فرض حصول الفعل من كلّ من كان مكلفا بالفعل المزبور دفعة حصل الامتثال من الجميع واستحق كل منهم المثوبة ويستند حصول الغرض إلى فعل الجميع كما هو مقتضى توارد العلل المتعددة على معلول واحد.

أقول : ترتب الغرض على الفعل الصادر ولو عن مكلف وسقوط التكليف به عن الآخرين لا يوجب اختلاف الوجوب الكفائي عن العيني في سنخ الوجوب بأن يكون للوجوب نوعين مختلفين في ذاتهما ، بل يمكن أن يكون ذلك بإطلاق الوجوب في الواجب العيني وبالاشتراط وتقييد الوجوب في الكفائي ، فالوجوب الكفائي كالعيني وإن كان يتعلّق بكل مكلف ولا يكون في تعلّقه بهم اشتراط غير تحقق الموضوع إلّا أنّ الواجب الكفائي في ناحية بقاء وجوبه يقيّد بعدم صدور الفعل عن البعض الآخر بخلاف الوجوب العيني فإنّه لا تقييد فيه في ناحية سقوط التكليف عن المكلّف ، وغاية تكليفه به صدور الفعل عنه أو انتهاء أمد التكليف بحصول غايته كما في الموقّتات.

وبتعبير آخر إنّ ـ في موارد الوجوب الكفائي ـ للوجوب المجعول في حق كل مكلّف غاية أخرى وهو صدور الفعل ولو من مكلف آخر ، فيوجب مثلا تجهيز الميت ما دام لم يجهّز.

٢٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بل يتعيّن الاختلاف في ذلك لو قيل بأنّ اختلاف الوجوب الكفائي عن الوجوب العيني في ناحية الوجوب ، لما تقدم من أنّه لا معنى لاختلاف وجوب عن وجوب آخر إلّا بالإطلاق والتقييد ولذا يكون إطلاق وجوب الفعل على كل مكلّف في مقام الإثبات كاشفا عن كون الوجوب عينيّا في مقام الثبوت بمقتضى تطابق مقام الإثبات مع الثبوت.

وأيضا يقال إنّه تختلف الواجبات الكفائية عن الواجبات حسبة بأنّ الوجوب في الواجبات الكفائية يتوجّه إلى كل مكلّف بالنحو المتقدم بخلاف الواجب حسبة فانّ المعلوم فيه من الشارع تعيّن الإتيان بالفعل ولكن نعلم بعدم وجوبه بل عدم جوازه لكل مكلّف ، كالتصرّف في أموال القاصرين الذين لا وليّ لهم ، ولذا يكتفى فيمن يتصدى لذلك الفعل بالقدر المتيقن اقتصارا في رفع اليد عن القاعدة الأولية المقتضية لعدم جواز التصدّي له أو عدم نفوذه ، على القدر المتيقن.

نعم قد أورد المحقق النائيني قدس‌سره على الالتزام بالوجوبات المتعدّدة بأن يجب الفعل على كل مكلف مشروطا بترك الآخرين ، بأنّه لا موجب للوجوبات المتعدّدة المشروطة بعد كون الغرض المطلوب واحدا يحصل بفعل مكلف واحد وانّما يصحّ جعل الوجوبات المتعددة فيما كان في البين غرض مستقل يترتب على فعل هذا المكلف وغرض مستقل آخر يترتب على فعل مكلف آخر وهكذا ولكن لم يتمكنوا من الاجتماع على الفعل الواجب في حق كل واحد منهم ولم يمكن استيفاء جميعها فلا بأس في هذه الصورة بالالتزام بالوجوب المشروط في حق كل منهم بترك الآخرين.

وبتعبير آخر كما أنّ التزاحم بين الفعلين ـ الذين يجب كل منهما على المكلف ـ

٢٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

يقتضى إيجاب كل منهما في حقه مشروطا بترك الآخر على ما مرّ في بحث الترتب ، كذلك التزاحم بين مكلّفين أو أكثر في الفعل الواجب على كل منهما أو منهم مع عدم تمكنهم من الاجتماع في الواجب يقتضي ذلك ، كما إذا فرض كون كل من زيد وعمرو محدثا بالأكبر وأصابا ماء لا يكفي إلّا لاغتسال أحدهما ففي الفرض يكون كل منهما متمكنا من الصلاة بالغسل على تقدير ترك الآخر الاغتسال به والصلاة مع الغسل ذات ملاك من كل منهما كما هو مقتضى قوله سبحانه وتعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(١) فيكون وجوبها مع الغسل على كل منهما مشروطا بترك اغتسال الآخر به قبله وكذا فيما كانا محدثين بالأصغر وأصابا ماء يكفي لوضوء أحدهما.

نعم إذا كان أحدهما محدثا بالجنابة والآخر بالأصغر يغتسل الجنب ويتيمّم المحدث بالأصغر للرواية (٢) الواردة في اجتماعهما (٣).

وأورد أيضا على تصوير الواجب الكفائي بالوجوبات المتعددة المشروطة بأنّ الترك المأخوذ شرطا في وجوب الفعل على كل مكلف إن كان تركه ولو في بعض الوقت الصالح للفعل ، فلازمه عدم سقوط وجوب الفعل عن سائر المكلفين بفعل البعض لأنّه يحصل الترك في الجملة من كل مكلف في زمان ما وإن كان الشرط ترك الآخرين في تمام الوقت فلا يتصف الفعل بالوجوب فيما لو أتوا به دفعة لعدم حصول شرط الوجوب في حق واحد منهم (٤).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٦.

(٢) الوسائل : ج ٢ ، باب ١٨ من أبواب التيمم ، الحديث ٢.

(٣) أجود التقريرات ١ / ١٨٨.

(٤) المحاضرات ٤ / ٥٤.

٢٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن هذا الإيراد غير وارد على ما ذكرنا من أنّ وجوب الفعل عند حدوثه في حق كل مكلف ، غير مشروط بشيء ، وانما الاشتراط في ناحية سقوطه بمعنى أنّ الوجوب الحادث يسقط عن سائر المكلفين بحصول الفعل من البعض الآخر.

نعم يرد على الالتزام بالوجوبات المتعدّدة كما ذكر بأنّها من قبيل الأكل من القفا حيث إنّه إذا كان للمولى غرض واحد يحصل بفعل مكلّف ما ، لكفى أن يجعل التكليف به على صرف وجود المكلف لا كلّ واحد من المكلفين أو بعضهم بعينه.

وتوضيحه : كما أنّ الغرض ـ فيما إذا كان مترتبا على أحد الفعلين لا بعينه ـ يتعلّق التكليف بهما بعنوان أحدهما ولا يتعدّد التكليف بتعدّد الفعلين أو الأفعال كذلك فيما ترتب الغرض على فعل أحد المكلفين أو بعضهم ولذا يقول المولى في مثل هذه الموارد «فليأت واحد منكم بالماء» فالمطلوب منه هو صرف الوجود ممّن ينطبق عليه عنوان المكلف. ودعوى أنّه مع هذا النحو من التكليف لا يصح للمولى مؤاخذة الكلّ فيما إذا تركوا الفعل ، مدفوعة : بأنّه مع تمكّن كل منهم على موافقة التكليف وكون كل منهم داخلا في العنوان الذي خاطبهم به ، لا يرى العقل قبحا في مؤاخذة كلّ منهم ، كما أنّه لو كان الامتثال منهم دفعة واحدة لعدّوا جميعا مطيعين ، حيث إنّ تخصيص بعضهم بالطاعة دون الآخرين بلا معيّن.

لا يقال : البعث لا يكاد يتوجّه إلّا لآحاد المكلّفين فإنّهم قابلون للانبعاث وأمّا العنوان الجامع فهو وإن أمكن أن يكون موضوعا لحكم وضعي كما في ملكية الزكاة لطبيعي الفقير وملكية الخمس لطبيعي الهاشمي إلّا أنّ التكليف لا يكاد يتوجّه إلّا إلى الآحاد وصرف وجود المكلف ، أو عنوان أحدهم إن كان مشيرا إلى الخارج ، فالمكلف هو الآحاد فيكون التكليف انحلاليا لا العنوان فإنّه غير قابل للانبعاث.

٢٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّه يقال : كل واحد من الآحاد بعنوان صرف الوجود من المكلف يتوجّه إليه التكليف ، ولكن لا يكون التكليف المتوجّه إلى واحد بهذا اللحاظ إلّا نفس التكليف المجعول المتوجه إلى الآخر بهذا اللحاظ حيث إنّ صرف الوجود لا يتكرّر ولا يتعدّد ليحصل الانحلال في التكليف.

أقول : الالتزام في الواجبات الكفائية بتعلق الوجوب على صرف الوجود من المكلّف غير معقول ، لأنّ معنى أنّ صرف الوجود من الطبيعي لا يتكرّر ولا يتعدّد هو أنّ الكلي إذا تحقق ينطبق عليه صرف الوجود ولا ينطبق على الوجود الذي يكون ثانيا وثالثا وهكذا ولذا يقال إنّ صرف الوجود من الطبيعي ينطبق على الوجود الأوّل منه فقط.

وعليه لو كان وجوب التجهيز مثلا متوجها إلى صرف الوجود من المكلف توجه التكليف المزبور إلى أوّل متمكن على تجهيزه بعد موته ولا يكون في حق سائر المكلفين والمراد من سائر المكلفين كلّ من يتمكن على تجهيزه ثانيا وهذا لا يمكن الالتزام به ، وعلى ذلك فاللازم في موارد الوجوب الكفائي أن يلتزم بانحلال الوجوب بانحلال الموضوع ـ أي المكلفين ـ نظير الوجوب العيني غاية الأمر يفترق الوجوب الكفائي عن العيني في ناحية سقوط الوجوب على ما تقدم من التقريب أو يلتزم بأنّ وجوب فعل وتوجيهه إلى المكلفين بعنوان واحد منهم لا يوجب تعدد التكليف المجعول.

ذكر المحقق النائيني قدس‌سره : ثمّ أنّه لو وجد المتيممان ماء لا يكفى إلّا لوضوء أحدهما فهل يبطل تيمم كل منهما؟ أو لا يبطل تيمّمهما ، أو يبطل تيمّم أحدهما ، اختار الأوّل لأن تمكن كل منهما من حيازة ذلك الماء يوجب انتقاض تيمّم كل منهما

٢٨٠