دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-61-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٠٨

الغيري لا شبهة في كونه توصليا ، وقد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة.

وأما الثاني : فالتحقيق أن يقال : إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة وعبادة ، وغاياتها إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات ، فلا بد أن يؤتى بها عبادة ،

______________________________________________________

بها ، ولو بغير داع قربي ؛ لأنّ الغرض من الأمر الغيري بالمقدّمة تمكّن المكلّف من ذي المقدّمة ووصول يده إلى ذيها ، وهذا الغرض يحصل بحصول المقدّمة كيف ما حصلت ، وعليه فما وجه اعتبار قصد التقرّب في سقوط الأمر بالطهارات وأنّه لا يسقط الأمر الغيري بها بمجرد الإتيان بها من غير قصد امتثال الأمر.

وحاصل ما ذكره قدس‌سره في دفع الوجهين من الإشكال هو أنّ الطهارات الثلاث ـ حتّى التيمم منها ـ مطلوبات نفسية بالأمر الاستحبابي التعبّدي ، فتكون مطلوبة كسائر المستحبّات النفسية والطهارات بما هي مستحبّات نفسية وذوات ملاكات مترتّبة عليها عند الإتيان بها قربيّا ، قد أخذت قيدا للصلاة ونحوها لدخالتها كذلك في صلاح الصلاة ونحوها.

وبتعبير آخر : أنّ عباديّتها ليست لأجل تعلّق الأمر الغيري بها ، بل لتعلّق الأمر الاستحبابي النفسي بها ، حيث لا يتحصل ملاكاتها النفسية بلا قصد التقرّب ، وقد أخذت بما هي عبادات قيودا للصلاة ونحوها ، ولا تحصل ـ بما هي قيد الصلاة ـ بلا قصد التقرّب ليسقط الأمر الغيري بها.

وبالجملة كون الطهارات الثلاث عبادة إنّما هو لتعلّق الأمر الاستحبابي النفسي بها ، حيث إنّ الأمر الاستحبابي تعبّدي لا يحصّل ملاكاتها إلّا إذا أتى بها بقصد التقرّب ، وبما أنّ المأخوذ قيدا للصلاة هي الطهارة المأتي بها عبادة ، فلا يسقط الأمر الغيري بها من غير أن تقع بنحو العبادة ، حيث إنّ الفاقد لقصد التقرّب ليس بقيد للصلاة.

٨١

وإلّا فلم يؤت بما هو مقدمة لها ، فقصد القربة فيها إنما هو لأجل كونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفسية ، لا لكونها مطلوبات غيرية والاكتفاء بقصد أمرها الغيري ، فإنما هو لأجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه حيث إنه لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة ، فافهم.

______________________________________________________

لا يقال : على ذلك يلزم أن يقصد عند الإتيان بها الأمر بها نفسيا ، لتقع بنحو العبادة ، مع أنّه يكفي في صحّتها وسقوط الأمر الغيري بها الإتيان بها بداعوية الوجوب الغيري المتعلّق بها.

فإنّه يقال : بعد فرض أنّ قيد الصلاة هي الطهارة بنحو العبادة ، فالأمر الغيري يدعو إليها كذلك ، حيث إنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى ما هو القيد والمقدّمة ، ولذا يكتفى في صحّتها بقصد امتثال الأمر الغيري بها.

أقول : المزبور في الإشكال أنّ المتوضئ مثلا يقصد غسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه بداعوية الأمر الغيري المتعلّق بنفس مجموع هذه الأفعال ، لا أنّ الأمر الغيري يدعوه إلى الإتيان بها بداعوية الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بها كي يكون داعويّة الأمر الغيري بنحو الداعي إلى الداعي كما ذكر ذلك في قصد التقرب من الأجير الذي يقضي ما على الميت من الصلاة والصوم.

ومن المعلوم أنّه تصحّ الطهارات ولو ممن لا يرى الاستحباب النفسي فيها بعد دخول وقت الصلاة وانحصار الأمر بها في الغيري ، بل ممن يعتقد عدم الاستحباب النفسي في التيمم وعدم ملاك نفسي فيه ، إلّا أنّه قدس‌سره التزم بأنّ موافقة الأمر الغيري وو قصدها لا يوجب التقرّب ، ومعه كيف يحصل التيمم بوجه قربي من المعتقد بعدم استحبابه النفسي؟

والمتعيّن في الجواب أن يقال : إنّ ما يتوقّف عليه الصلاة أو الطواف هو

٨٢

وقد تفصّي عن الإشكال بوجهين آخرين :

أحدهما ما ملخصه : إن الحركات الخاصة [١] ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود منها ، من العنوان الذي يكون بذاك العنوان مقدمة وموقوفا عليها ، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها ، لكونه لا يدعو إلا إلى ما هو الموقوف عليه ، فيكون عنوانا إجماليا ومرآة لها ، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها ليس لأجل أن أمرها المقدمي يقضي بالاتيان كذلك ، بل إنما كان لأجل إحراز نفس العنوان ، الذي يكون بذاك العنوان موقوفا عليها.

______________________________________________________

الوضوء أو الغسل أو التيمّم بوجه قربي ، بأن يضاف الإتيان بها إلى الله سبحانه ، فالأمر الغيري يتعلّق بها مع هذا القصد ، وبما أنّ الإتيان مع قصد امتثال الأمر الغيري أو قصد التوصل إلى الواجب النفسي إتيان بالفعل مضافا إلى الله سبحانه وموجب لوقوع الوضوء أو الغسل أو التيمّم بنحو العبادة فيصحّ ، نظير ما تقدّم في أخذ قصد التقرب في متعلّق الأمر النفسي في العبادات.

نعم وجود ملاك الاستحباب النفسي في الطهارات يوجب أن تكون في نفسها عبادة صالحة للتقرّب بها مجرّدة عن قصد الصلاة ونحوها ، بخلاف سائر المقدّمات كما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

[١] توضيحه ان العنوان المنطبق على فعل يكون على نحوين :

أحدهما : أن يكون انطباقه عليه قهريا غير محتاج إلى قصد ذلك العنوان ، كالأكل والشرب والقتل ونحوها.

وثانيهما : أن يكون انطباقه على الفعل موقوفا على قصد ذلك العنوان زائدا على قصد نفس الفعل كعنوان التعظيم والإهانة وأداء الدين ونحوها. وحيث لم يكن الوضوء أو الغسل أو التيمّم قيدا للصلاة بنفسه ، بل القيد لها المعنون بعنوان خاصّ

٨٣

وفيه : مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الإتيان بها كذلك ، لا مكان الإشارة إلى عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر ، ولو بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا ، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها ، غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

قصديّ ، وأنّ ذلك العنوان القصدي غير معلوم عندنا ، فلا بدّ في الإتيان بها بذلك العنوان القصدي من قصد الأمر بها غيريّا لدعوته إلى متعلّقه ، فيكون ذلك العنوان مقصودا ولو بنحو الإجمال.

وأورد الماتن قدس‌سره على هذا الجواب بوجهين :

الأوّل : كون العنوان الموقوف عليه الصلاة قصديا وغير معلوم عندنا لا يقتضي الإتيان بالطهارات بداعوية الأمر الغيري بها ، بل يمكن قصد ذلك العنوان المجهول بوجه آخر ، وهو قصد الأمر الغيري بها وصفا لا جعله داعيا إلى الإتيان ، مثلا يقصد المكلّف العنوان الذي تعلّق الأمر الغيري به ، ويأتي بها موصوفا بأحد دواعيه النفسانيّة.

الثاني : أنّ الجواب المزبور لا يصحّح ترتّب الثواب على تلك الطهارات لأنّ امتثال الوجوب الغيري لا يترتّب عليه استحقاق المثوبة.

أقول : قد يدّعى أنّه يلزم على التوجيه المزبور أمر آخر ، وهو أن يحكم بفساد تيمّم من أتى به بداعوية الأمر الغيري معتقدا بأنّ التيمّم بنفسه شرط لصلاة فاقد الماء لا بالعنوان القصدي المنطبق عليه.

ولكن يمكن دفعه بأنّه لا يضرّ هذا الاعتقاد في حصول الطهارات بعنوانها القصدي ، فإنّ الاعتقاد كما ذكر من باب الاشتباه في التطبيق ، حيث إنّ قصد امتثال الوجوب الغيري مقتضاه القصد إلى الإتيان بمتعلّقه الواقعي ، وهذا العنوان مقصود

٨٤

ثانيهما : ما محصّله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة [١] ، إنما يكون لأجل أن الغرض من الأمر النفسي بغاياتها ، كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب بموافقته ، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك ، لا باقتضاء أمرها الغيري.

وبالجملة وجه لزوم إتيانها عبادة ، إنما هو لأجل أن الغرض في الغايات ، لا يحصل إلا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا ، بقصد الإطاعة.

______________________________________________________

ارتكازا وإن كان مغفولا عنه تفصيلا ، نظير ما إذا قصد امتثال الوجوب المتعلّق بالصوم الذي في حقيقته ليس إلّا الإمساك عن جميع المفطرات ، ولكن لا يعلم أنّ الارتماس مفطر ، بل كان يعتقد عدم كونه مفطرا فيكون صومه صحيحا.

نعم إذا قصد ارتكاب الارتماس ولو للاعتقاد بعدم كونه مفطرا ، يبطل صومه فإنّ قصد الإمساك الإجمالي لا يجتمع مع قصد الارتكاب ، ولا تتمّ دعوى الاشتباه في التطبيق فيما تقدّم في جواب الماتن قدس‌سره عن الإشكال ـ بأنّ صحّة الطهارات وعباديتها وحصول التقرّب بها لاستحبابها نفسا ، وإن قصد الأمر الغيري يكون من قبيل الداعي إلى الداعي ـ حيث أوردنا عليها بأنّ هذا لا يتمّ عند من يعتقد بعدم الاستحباب النفسي ويكون غافلا عن استحبابها نفسيا.

والوجه فيه هو أنّ الأمر بشيء لا يكون داعيا إليه مع الغفلة عن ذلك الأمر ، بخلاف قصد المعنون مع الغفلة عن عنوانه المتعلّق به الأمر ، فإنّ قصد امتثال ذلك الأمر يكون التفاتا ارتكازيا إلى ذلك العنوان فتأمّل.

[١] وحاصله أنّ الغرض من الأمر بالصلاة كما لا يحصل بدون الإتيان بها بداعي الأمر ، كذلك لا يحصل الغرض من الأمر بالصلاة بدون الإتيان بالطهارات بقصد الأمر بها غيريّا ، فالصلاة المقيّدة بالوجود القربي من الطهارات لا بمطلق وجودها ، وهذا الأمر الغيري المتعلّق بها توصلي ، لسقوطه بمجرّد الإتيان بمتعلّقه

٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو الوضوء أو الغسل أو التيمم القربي.

وبتعبير آخر : لا يقتضي هذا الأمر الغيري إلّا الإتيان بمتعلّقه كسائر الأوامر التوصليّة ، ولكن متعلّقه هو الوضوء بقصد قربي لا مطلق الوضوء.

وأورد قدس‌سره على هذا الجواب بأنّه لا يصحّح إلّا اعتبار الإتيان بالطهارات على وجه قربي وأمّا استحقاق المثوبة على الإتيان بها فلا يثبت ؛ لأنّ المزبور في الجواب أنّ تعلّق الأمر الغيري مقيّد بقصد التوصّل ، فلا يوجب استحقاق المثوبة على الإتيان بها ، غاية الأمر يكون القصد المزبور موجبا لكون الصلاة من أفضل الأعمال وأشقّها.

أقول : الصحيح في الجواب أن يقال : المأخوذ شرطا للصلاة هو الوضوء على وجه قربي ؛ لأنّ الدخيل في ملاك الصلاة هو هذا الوضوء ، ويكون التقرّب المعتبر في الوضوء الإتيان بداعي الأمر الاستحبابي به ، فيما إذا كان الوضوء قبل وقت الصلاة أو بداعي الملاك الموجود فيه ، أو للتوصّل به إلى الصلاة ، أو بداعوية وجوبه الغيري ، وفي جميع ذلك يقع الوضوء بوجه قربي ويحصل التقرّب به. وبما أنّه في نفسه ذا ملاك نفسيّ يستحقّ الثواب عليه مطلقا ، بخلاف ما إذا لم يكن فيه ملاك الأمر النفسي فإنّ الإتيان به إنّما يوجب استحقاق المثوبة عليه إذا كان الإتيان به للتوصّل إلى الواجب النفسي لا مطلقا ، حيث إنّ داعوية الأمر الغيري إلى متعلّقه تابعة لداعوية الأمر النفسي إلى متعلّقه ، ومع عدم قصد التوصّل ، لا داعوية للأمر الغيري ، ولذا لا يستحق المثوبة على مجرد موافقة الأمر الغيري فيها.

ثمّ إنّه قد ذكر المحقّق النائيني قدس‌سره وجها آخر لتصحيح عباديّة الطهارات الثلاث ، وهو اعتبار الإتيان بها بداعي الأمر النفسي الضمني المتعلّق بها ، بدعوى أنّ الأمر النفسي بالصلاة كما يكون مقسطا على الأجزاء ويأخذ كلّ منها حصّة من الأمر

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

النفسي ، كذلك الشرط للصلاة يأخذ حصّة من الأمر.

وكما لا يكون الغرض من الأمر بالجزء حاصلا إلّا بالإتيان به بداعي الأمر الضمنى النفسي ، كذلك الشرط ربّما لا يحصل الغرض من الأمر به إلّا بالإتيان به بداعي ذلك الأمر الضمني النفسى.

ولا وجه للمناقشة بأنّه ما الفرق بين الطهارات وغيرها من شرائط الصلاة مما لا يعتبر الإتيان به بنحو العبادة مع تعلّق الأمر الضمني بجميعها ، وذلك لأنّ الفرق بينهما هو عدم توقّف الغرض في غير الطهارات على الإتيان بمتعلّق الأمر الضمني بداعويته ، بخلافه في الطهارات.

أقول : لا يخفى ما فيه ، فإن أجزاء الصلاة وإن كان يأخذ كلّ منهما حصّة من الأمر بها ، كما هو مقتضى كون الكلّ عين الأجزاء خارجا إلّا أنّ الشرائط لا يتعلق بها الأمر النفسي أصلا ، إذ لو تعلّق بها ذلك الأمر النفسي لانقلبت إلى الأجزاء ، إذ لا فرق بين الجزء والشرط ، إلّا أنّ الأمر النفسي الضمني يتعلّق بالأوّل دون الثاني.

وبالجملة الأمر النفسي يتعلّق بالمشروط (أي الحصّة) ، وتلك الحصّة تنحّل بالتحليل العقلي إلى الطبيعي والتقيّد بالشرط ، فيعتبر في وقوع الحصّة عبادة وقوع التقيّد به على نحو العبادة لا نفس القيد ، فمثلا لا يعتبر التقرّب في غسل الثوب من تنجّسه ، بل يعتبر التقرّب في الصلاة التي هي مقيدة بطهارة الثوب.

ولا يخفى أنّه كما لا يتعلّق بالجزء الوجوب الغيري ، كذلك لا يتعلق بنفس ما يطلق عليه الشرط الوجوب النفسي الضمني.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما هو قيد للصلاة هو الوضوء أو الغسل أو التيمم المأتي بنحو قربيّ ، والوجوب الغيري يتعلّق بهذا النحو والتقرّب في كلّ منها ،

٨٧

وفيه أيضا : إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها ، وأما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات ، من الالتزام بأمرين [١] : أحدهما كان متعلقا بذات العمل ، والثاني بإتيانه بداعي امتثال الأول ، لا يكاد يجزي في تصحيح اعتبارها في الطهارات ، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها ، لا يكاد يتعلق بها أمر

______________________________________________________

كما يحصل بالإتيان بداعوية الأمر الاستحبابي أو المحبوبية النفسانية ، كذلك يحصل بالإتيان بداعوية الوجوب الغيري ـ التابعة لداعوية الوجوب النفسي المتعلّق بالصلاة ـ الملازم لقصد التوصّل بكلّ منها إلى الصلاة.

بقي في المقام أمر ، وهو أنّه بناء على عدم إمكان أخذ قصد التقرّب في متعلّق الأمر كما عليه الماتن قدس‌سره ، يكون متعلّق الأمر النفسي الاستحبابي نفس الوضوء أو الغسل أو التيمم ، ويتعلّق الأمر الغيري بالوضوء بداعوية ذلك الأمر الاستحبابي النفسي ، فيختلف متعلّق الأمر النفسي مع متعلّق الأمر الغيري ، فلا يتعلّق الأمر النفسي والغيري بشيء واحد ، حتّى يناقش فيه ـ بناء على عدم صحّة اجتماع الحكمين في شيء واحد ـ ببطلان اجتماع الحكمين في شيء واحد ، ولو كانا بعنوانين ، وذلك لأنّ متعلّقهما ليس شيئا واحدا ، ومع التنزل فليس في المقام عنوانان حتّى لا يمتنع اجتماعهما بناء على القول بجواز الاجتماع فان عنوان المقدّمة جهة تعليليّة لا يتعلّق به الأمر الغيري.

نعم بناء على عدم الامتناع في الحكمين المتماثلين واندكاك أحد الحكمين في الآخر ، يسقط الترخيص في الترك بعد وجوب ذي المقدّمة ، فإنّ اقتضاء الترخيص في الترك بلحاظ الاستحباب النفسي وذلك في ما إذا كان الطلب النفسي غير متّحد مع الطلب الإلزامي ـ ولو كان غيريا ـ كما لا يخفى ، دون ما إذا اتّحدا ، كما في المقام.

[١] هذا لا يرتبط بالوجه السابق ، بل إيراد على من يلتزم بأمرين في اعتبار قصد

٨٨

من قبل الأمر بالغايات ، فمن أين يجئ طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها ، ليتمكن به من المقدمة في الخارج. هذا مع أن في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصلا سابقا ، فتذكّر.

الثاني : إنه قد انقدح مما هو التحقيق ، في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات [١] صحتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها ،

______________________________________________________

التقرّب في العبادة بأن يتعلّق أحد الأمرين بنفس الفعل ، والآخر بالإتيان به بداعي الأمر الأوّل ، فإنّه لو فرض تصحيح قصد التقرّب بذلك في الواجبات النفسية ، فلا يمكن هذا التصحيح في الوجوب الغيري.

لأنّه لو غضّ النظر عن الاستحباب النفسي في الطهارات ، فلا يمكن الالتزام بتعلّق الوجوب الغيري بنفس الوضوء ، ثمّ تعلّق وجوب غيري آخر بالإتيان بالوضوء بداعي الوجوب الأوّل ، وذلك فإنّه ما لم يكن شيء مقدّمة لا يتعلّق به الوجوب الغيري ، والمفروض أنّ نفس غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ليس بمقدّمة للصلاة ليتعلّق به الأمر الغيري ، بل المقدّمة الحصّة الخاصّة منه ، يعني الوضوء القربي.

[١] وحاصله أنّه قد تقدّم صحة وقوع الوضوء والغسل أو التيمّم بنحو العبادة فيما إذا أتى بها بداعي الأمر الاستحبابي النفسي المتعلّق بها وإن لم يقصد المكلّف عند الإتيان بإحداها التوصّل بها إلى الصلاة أو غيرها مما هو مشروط بها.

وأمّا بناء على عدم الاستحباب النفسي وتصحيح القربة المعتبرة فيها بالأمر الغيري ، فلا بدّ في وقوعها عبادة من قصد الغاية بها ، والمراد بقصد الغاية قصد التوصّل بها إلى ذيها ، وذلك لأنّ الأمر الغيري لا يكاد يمتثل ، ولا يمكن أن يكون الإتيان بمتعلّقه امتثالا موجبا للقرب إلّا عند حصول هذا القصد ، حيث معه يكون

٨٩

نعم لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها امرها الغيري ، لكان قصد الغاية مما لا بد منه في وقوعها صحيحة ، فإنّ الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلا إذا قصد التوصل إلى الغير ، حيث لا يكاد يصير داعيا إلا مع هذا القصد ، بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة ، ولو لم يقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا.

______________________________________________________

الأمر الغيري داعيا إلى متعلّقه بمقتضى تبعيّته لداعوية الأمر النفسي إلى متعلّقه.

بل قصد الغاية في الحقيقة هو الموجب لوقوعها عبادة ، ولو لم يقصد الأمر الغيري المتعلّق بها أو لم نقل بتعلّق الأمر الغيري بالمقدّمة أصلا ، وهذا هو السّر في اعتبار قصد الغاية في الإتيان بها الذي ورد في كلماتهم قدس‌سره ، لا ما قيل من أنّ الوجوب الغيرى يتعلّق بالمقدّمة بعنوانها ، فلا بدّ في الإتيان بها من قصد عنوان المقدّمة الذي لا يحصل بدون قصد التوصّل بها إلى غاياتها.

والوجه في فساد هذا التوجيه هو أنّ الأمر الغيري يتعلّق بنفس المقدّمة لا بعنوانها ، فإنّ عنوانها لا يتوقّف عليه ذيها وإنّما يكون عنوانها موجبا لتعلّق الوجوب الغيري بما ينطبق عليه ذلك العنوان.

أقول : التوجيه المزبور فاسد ، حتّى ولو قيل بتعلّق الأمر الغيري بالمقدّمة بعنوانها ، فإنّ عنوان المقدّمة ليس عنوانا قصديا ، بل عنوان قهري ينطبق على نفس الوضوء والغسل والتيمّم ، كما ينطبق على سائر قيود الصلاة من تطهير الثوب والبدن.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّ الأمر الغيري لا يدعو إلى متعلّقه إلّا مع قصد الإتيان بمتعلّق الأمر النفسي. بمقتضى التبعية في الداعوية ـ كما تقدّم ـ فهى أيضا قابلة للمناقشة ، فإنّه ربّما يكون الأمر الغيري داعيا إلى متعلّقه من غير داعوية الأمر النفسي ، كما إذا توضّأ المكلّف أو طهّر بدنه لاحتماله انقداح إرادة الإتيان بالصلاة فيما بعد ، مع أنّه لم يرد إتيان الصلاة بالفعل ، فلم يدعوه الأمر النفسي إليها حتّى

٩٠

وهذا هو السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة ، لا ما توهم من أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية ، فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان ، وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها ، فإنه فاسد جدا ، ضرورة أن عنوان المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب [١] ، ولا بالحمل الشائع مقدمة له ، وإنما كان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأولية ، والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها.

______________________________________________________

يستتبع دعوة الأمر الغيري إلى الوضوء ، بل توضّأ بمجرّد احتمال إتيان الصلاة فيما بعد ، وهذا لا مانع من صحّته ، إذن فيكفي في داعوية الأمر الغيري احتمال انقداح إرادة الإتيان بمتعلّق الأمر النفسي بعد ذلك.

[١] يعني بناء على الملازمة يثبت الوجوب الغيري لما يكون معنونا بعنوان المقدّمة ، وأمّا عنوانها فلا يكون موقوفا عليه إذ ليس بالحمل الشائع مقدّمة. نعم يكون توقّف فعل الواجب على شيء موجبا لتعلّق الوجوب الغيري بذلك الشيء. وبتعبير آخر : عنوان المقدّمة جهة تعليليّة لا تقييدية.

وقد يقال بأنّ وجوب المقدّمة إذا كان بحكم العقل ، فيكون الواجب عنوان المقدّمة لا نفس المعنون ، وذلك لأنّ الجهات التعليليّة في الأحكام العقلية تكون جهات تقييدية ، فحكم العقل بامتناع شيء لاستلزامه الدور يكون في الحقيقة حكما منه بامتناع الدور ، وحكمه بحسن ضرب اليتيم تأديبا فهو حكم منه بحسن التأديب والإحسان إليه ، وعلى ذلك فالحكم بوجوب فعل لكونه مقدّمة لواجب ، يرجع إلى الحكم بتحقيق عنوان المقدّمة.

وفيه أنّ الوجوب الغيري على تقديره شرعي ، وإنّما العقل يدرك الملازمة بين الإيجابين ، والوجوب الشرعي المولوي يتعلّق بما ينطبق عليه عنوان المقدّمة لذيها ،

٩١

الأمر الرابع : لا شبهة في أن وجوب المقدمة بناء على الملازمة ، يتبع في

______________________________________________________

لتوقّف ذيها عليه ، فالملاك في هذا الوجوب توقّف الواجب عليه. والحاصل أنّ عنوان المقدّمة للصلاة مثلا ، عنوان انتزاعي ليس في الخارج إلّا الوضوء ونحوه ، مما يتوقّف عليه الصلاة كسائر العناوين الانتزاعية التي ليس لها في الخارج إلّا منشأ الانتزاع والوجوب الغيري لا يمكن أن يتعلّق بنفس الصلاة ، لأنّ وجوبها نفسي ، كما لا يمكن أن يتعلّق بتوقّف الصلاة على الوضوء ، لأنّه خارج عن فعل المكلّف واختياره ، فيتعيّن تعلّقه بنفس الوضوء.

ثمّ ذكر هذا القائل في وجه لزوم قصد التوصّل أنّه بعد ما ثبت حكم العقل بوجوب عنوان المقدّمة لرجوع الجهة التعليلية إلى التقييدية ، فلا بدّ من كون عنوان المقدّمة مقصودا في وقوعها على صفة الوجوب ، لاستحالة تعلّق الأمر بشيء غير مقدور ، وعنوان المقدّمة في الحقيقة قصد التوصّل إلى الواجب النفسي.

أقول : بما أنّ عنوان المقدّمة من العناوين القهرية دون القصدية ، فاللازم في وجوبها الالتفات إليه وإلى معنونه ، ومن المعلوم أنّ الالتفات إلى كون شيء ممّا يتوقّف الواجب عليه لا يكون ملازما للإتيان به بقصد التوصّل به إلى ذلك الواجب ، والموجب لخروج الفعل عن وقوعه خطأ وغفلة هو الالتفات إلى العنوان المنطبق عليه لا أكثر ، فمثلا الوضوء مع الالتفات بأنّه مقدّمة للصلاة لا يلازم الإتيان به للتوصّل به إلى الصلاة ، بل يمكن أن يكون الداعي إلى الإتيان به غير الإتيان بالصلاة ، وإن كان الداعي قربيّا ثمّ انقدح بعد ذلك إرادة الصلاة ، كفى ذلك الوضوء للدخول في الصلاة المشروطة به كما تقدّم ، ولو وقع صحيحا حتّى مع فرض تعلّق الأمر بعنوان المقدّمة لا بذاتها ، كما لا يخفى.

٩٢

الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة [١] ، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا ، ولا يكون مشروطا بإرادته ، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم رحمه‌الله في بحث الضد ، قال : وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما تنهض دليلا على الوجوب ، في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر.

______________________________________________________

اعتبار قصد التوصّل في المقدّمة وعدمه

[١] الفرق بين ما ذكره في المعالم والمحكي عن الشيخ قدس‌سره هو أنّ قصد الإتيان بذي المقدّمة شرط لوجوب مقدّمته عند صاحب المعالم قدس‌سره ، وقيد للواجب الغيري على المحكي عن الشيخ قدس‌سره ، حيث قال في المعالم في مبحث الضد : «إنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها ، تثبت وجوبها في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها» (١).

وأورد عليه الماتن ١ بأنّ المقدّمة تتبع ذيها في إطلاق وجوبها واشتراطه ، وإذا لم يكن وجوب ذيها مشروطا بإرادته ، لم يكن وجوب مقدّمته أيضا مشروطا بإرادته بعين المحذور في اشتراط وجوب ذيها بإرادة متعلّقه ، وهو لزوم لغوية الوجوب ، إذ الغرض منه داعويته نحو إرادة الفعل ، فإذا كان مشروطا بإرادته لكان جعله لغوا. وبالجملة نهوض الدليل على التبعية واضح ، وإن كان نهوضه على أصل الملازمة بين الإيجابين ليس بهذه المثابة من الوضوح.

وربّما يقال : ظاهر كلام صاحب المعالم قدس‌سره يساعد على القضية الحينية ، لا اشتراط وجوب المقدّمة على إرادة ذيها بمفاد القضية الشرطية ، ليكون المعلّق

__________________

(١) معالم الأصول : ص ٧٤.

٩٣

وأنت خبير بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى ، وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة ، كما لا يخفى.

وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذي المقدمة؟ كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ بعض أفاضل مقرري بحثه ، أو ترتب ذي المقدمة عليها؟ بحيث لو لم يترتب عليها لكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب ، كما زعمه صاحب الفصول قدس‌سره أو لا يعتبر في وقوعها كذلك شيء منهما.

______________________________________________________

عليه في وجوب المقدّمة إرادة الإتيان بذيها ، ليخرج وجوبها عن التبعية.

أقول : إنّه لا فرق بين القضية الشرطية والقضية الحينية بحسب مقام الثبوت في أنه لا بدّ من تقدير الشرط أو الحين على كلّ منهما ، فيخرج وجوب المقدّمة عن تبعية وجوب ذيها ، حيث لا يمكن في وجوب ذيها فرض حين إرادته ، وإذا فرض في وجوب مقدّمته ذلك الحين ، فيكون وجوب مقدّمته مقيّدا لا محالة مع إطلاق وجوب ذيها.

وأورد على كلام الشيخ قدس‌سره بأنّه لا يمكن أن يتعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة بقصد التوصّل ؛ لأنّ الملاك في الوجوب الغيري التوقّف والمقدميّة ، وهذا الملاك قائم بنفس المقدّمة سواء أتى بها بقصد التوصّل أم لا ، ولذا اعترف الشيخ قدس‌سره في كلامه بالاكتفاء ـ فيما إذا أتى بالمقدّمة ـ بقصد آخر غير التوصّل بها إلى ذيها ، فيكون تخصيص الوجوب الغيري بما إذا قصد بمتعلّقه التوصل بلا موجب. نعم يعتبر قصد التوصّل في حصول الامتثال ، لما تقدّم من أنّ الآتي بالمقدّمة بداع آخر لا يكون ممتثلا لأمرها ولا آخذا في امتثال الأمر بذيها حتّى يثاب بثواب أشقّ الأعمال.

وبالجملة يقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب ، ولو مع عدم قصد التوصّل ، بل حتّى لو كان لذلك الفعل حكم قبل اتّصافه بالمقدميّة لارتفع ذلك الحكم ولتبدّل

٩٤

الظاهر عدم الاعتبار : أما عدم اعتبار قصد التوصل ، فلأجل أن الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لأجل المقدمية والتوقف ، وعدم دخل قصد التوصل فيه واضح ، ولذا اعترف بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية ، لحصول ذات الواجب ، فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص ، فافهم.

______________________________________________________

إلى الوجوب الغيري بعد إيجاب ما يتوقّف عليه ، فمثلا يقع الدخول في ملك الغير على صفة الوجوب فيما إذا كان مقدّمة لانقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي ولا يكون حراما ، وإن لم يلتفت الداخل إلى المقدمية والتوقّف حال الدخول فيه.

غاية الأمر يكون الداخل بلا التفات إلى المقدمية متجرّيا ، بالإضافة إلى دخوله ، كما أنّه لو لم يقصد بدخوله التوصّل مع الالتفات إلى المقدميّة ـ بأن لا يكون حين الدخول قاصدا للإنقاذ أو الإطفاء أصلا كان متجرّيا أيضا بالإضافة إلى ذي المقدّمة. وهذا بخلاف ما إذا كان في الدخول داع نفساني مستقلّ ، وقصد مع ذلك الإيصال أيضا ، فإنّه لا يكون متجريا بالإضافة إلى ذي المقدّمة ، بل يكون الداعي له إلى دخوله مؤكّدا لقصد الإيصال.

أقول : لعلّ مراده قدس‌سره من عدم الالتفات إلى التوقّف والمقدمية الغفلة عن المقدمية فقط ، مع عدم غفلته عن التكليف بإنقاذ الغريق أو إطفاء الحريق حين الدخول ، بأن كان يعلم بوجود الغريق أو الحريق ، ولكن كان يعتقد عدم توقّف الإنقاذ أو الإطفاء على الدخول ، وأنّه يمكن صبّ الماء على الحريق من الخارج أو الإنقاذ بإلقاء الحبل إلى الغريق من الخارج ، وبعد الدخول التفت إلى عدم إمكانهما إلّا مع الدخول ، ففي هذا الفرض يكون الداخل متجرّيا في دخوله.

وأمّا إذا كان مراده قدس‌سره من عدم الالتفات إلى المقدمية والتوقّف ، الغفلة من

٩٥

نعم انما اعتبر ذلك في الامتثال ، لما عرفت من انه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلا لأمرها ، وآخذا في امتثال الأمر بذيها ، فيثاب بثواب أشقّ الأعمال ، فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب ، ولو لم يقصد به التوصل ، كسائر الواجبات التوصلية ، لا على حكمه السابق الثابت له ، لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه ، فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعليّ لا حراما ، وإن لم يلتفت إلى التوقف والمقدمية ، غاية الأمر يكون حينئذ متجرّئا فيه ، كما أنّه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة ، فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا.

______________________________________________________

الحريق والغريق عند دخوله ، كان دخوله محرّما حتّى بناء على وجوب ذات المقدّمة ؛ وذلك لأنّ الغافل عن الغريق والحريق لا يكون مكلّفا بهما ما دام غافلا لتجب مقدّمتهما ، وبعد الدخول والالتفات تجب المقدّمة ، ولكن لا يتوقّفان على الدخول ليقال إنّ الداخل يكون متجرّيا بالإضافة إلى دخوله.

وأيضا الدخول في صورة علمه بوجود الغريق والحريق بلا قصد التوصّل لا يكون تجرّيا ، بالإضافة إلى وجوب الإنقاذ والاطفاء ، بل التجرّي يحصل بقصد عدم التوصّل وإرادة ترك الإنقاذ والإطفاء رأسا ، ولو فرض أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بذات المقدّمة ، ودخل في ملك الغير متردّدا في الإنقاذ والإطفاء بعد دخوله لا يكون الدخول بقصد التوصّل ، ولكن إذا جزم بالإنقاذ والإطفاء بعد الدخول ، لا يكون متجرّيا لا بالإضافة إلى الدخول ولا بالإضافة إلى ما يتوقّف عليه.

ثمّ إنّ الماتن قدس‌سره ، وإن التزم بتعلّق الوجوب الغيري بناء على الملازمة بذات المقدّمة ، ولكنه يظهر من قوله : «نعم إنّما اعتبر ذلك في الامتثال ... الخ» أنّ قصد التوصّل حين الإتيان بالمقدّمة يوجب حصول أمرين : أحدهما تحقّق امتثال الأمر

٩٦

وأمّا إذا قصده ، ولكنه لم يأت بها بهذا الداعي ، بل بداع آخر أكّده بقصد التوصل ، فلا يكون متجرّئا أصلا.

وبالجملة : يكون التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة ، لا أن يكون قصده قيدا وشرطا لوقوعها على صفة الوجوب ، لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلا ، وإلا لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به ، كما لا يخفى.

ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرّم [١] منها ، حيث يسقط به الوجوب ،

______________________________________________________

الغيري ، لأنّ الامتثال عبارة عن الإتيان بمتعلّق أمر بداعوية ذلك الأمر ، وقد تقدّم أنّ داعوية الأمر الغيري إلى متعلّقه تتبع داعوية الأمر النفسي إلى متعلّقه ، فما دام لم يقصد التوصّل لا يكون للأمر الغيري داعوية. وثانيهما أنّ المكلّف بقصد التوصّل يعدّ آخذا في امتثال الواجب النفسي فيستحقّ المزيد من المثوبة على الواجب النفسي ، لصيرورته بذلك القصد من أشقّ الأعمال ، على ما تقدّم.

وفيه : أنّ مجرّد غسل الثوب أو البدن مع قصد الصلاة بعد ذلك لا يعدّ شروعا في امتثال الأمر بالصلاة ، مع أنّ الصلاة أوّلها التكبير وآخرها التسليم ، وهذا يشبه القول بأنّ شراء اللحم من السوق بقصد أكله بعد الطبخ ، شروع في الطبخ أو الأكل ، كما لا يخفى. وأمّا دعوى داعوية الأمر الغيري تتبع لداعوية الأمر النفسي فقد تقدّم (١) ما فيها ، فلا نعيد.

[١] قد التزم الشيخ قدس‌سره بالإجزاء فيما إذا أتى بالمقدّمة من غير قصد التوصّل ولكنّه خصّص الوجوب الغيري بما إذا أتى بها بقصده ، وقاس الإتيان بذات المقدّمة

__________________

(١) تقدّم في ص ٥٤٦ من هذا الكتاب.

٩٧

مع أنه ليس بواجب ، وذلك لأن الفرد المحرم إنما يسقط به الوجوب ، لكونه كغيره في حصول الغرض به ، بلا تفاوت أصلا ، إلّا أنه لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا

______________________________________________________

من غير قصد التوصّل بما إذا أتى المكلّف بالفرد المحرّم من المقدّمة ، كما إذا غسل ثوبه أو بدنه من النجاسة بالماء المغصوب لأجل الصلاة ، فإنّه بعد الغسل تجوز الصلاة فيهما ، مع أنّ الوجوب الغيري لا يتعلّق بذلك الغسل ، وكذا الحال فيما إذا غسلهما بلا قصد التوصّل.

وأورد الماتن قدس‌سره على ذلك بأنّ عدم تعلّق الوجوب الغيري بالفرد المحرّم لأجل المانع عن تعلّقه به ، لا لعدم المقتضي والملاك ، فلو فرض عدم تعلّق الوجوب الغيري بشيء مع عدم المزاحم ، لكان عدم تعلّقه كاشفا عن عدم المقتضي للأمر في ذلك الشيء ، ولازم ذلك عدم اجزائه كما هو الحال في المقدّمة لا بقصد التوصّل فان عدم تعلّق الوجوب الغيري بها لا بدّ أن يكشف عن عدم المقتضي فيها ، ولازم ذلك عدم إجزائها ، مع أنّ الاجزاء فيها ممّا لا مناص عن الالتزام به ، فيكون متعلّق الوجوب الغيري ذات المقدّمة.

ثمّ إنّه ربّما ينسب إلى الشيخ قدس‌سره أنّ من الثمرة المترتّبة على اعتبار قصد التوصّل في الواجب الغيري الحكم ببطلان الصلاة فيما إذا اشتبهت القبلة بين جهتين أو أكثر ، فصلّى المكلّف إلى إحدى الجهات بانيا الاقتصار عليها ، حيث يحكم ببطلانها حتّى فيما إذا صادفت كونها إلى القبلة ، فإنّ المكلّف مع البناء على الاقتصار لا يكون قاصدا التوصّل إلى ما هو واجب واقعا ، فلا يجب المأتي بها غيريّا ومن باب المقدّمة ، ليكون مجزيا.

ولا يخفى ما فيه : فإنّ الصلاة إلى كلّ جهة من الجهات المشتبهة من باب المقدّمة العلميّة التي سبق استقلال العقل بها في مورد إحراز التكليف لإحراز الأمن

٩٨

يكاد يقع على صفة الوجوب ، وهذا بخلاف ما هاهنا ، فإنه إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض ، فلا بد أن يقع على صفة الوجوب مثله ، لثبوت المقتضي فيه بلا مانع ، وإلا لما كان يسقط به الوجوب ضرورة ، والتالي باطل بداهة ، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا ، وانتظر لذلك تتمة توضيح.

______________________________________________________

من عقاب مخالفته ، وليست لزومها من الوجوب الغيري للمقدّمة الوجودية للواجب ، ليتكلّم في اعتبار قصد التوصّل وعدمه.

وبالجملة إنّ الصلاة إلى إحدى الجهات من الامتثال الاحتمالي مع التمكّن على الامتثال العلمي ، فيحكم باجزائها إذا انكشف بعد ذلك كونها هي الصلاة إلى القبلة. نعم ربّما يستشكل في الصلاة إلى إحدى الجهات بانيا على الاقتصار بها من جهة المناقشة في قصد التقرّب المعتبر فيها الذي ينافيه التجرّي.

ونسب إلى الشيخ قدس‌سره أيضا أنّه بناء على اعتبار قصد التوصّل في الواجب الغيري يحكم ببطلان الصلاة فيما إذا توضّأ بعد دخول وقتها أو اغتسل بقصد غاية أخرى ، وصلّى بذلك الوضوء أو الغسل ، وذكر في وجه بطلانها أنّ اعتبار قصد التوصّل في الواجب الغيري مقتضاه كون الشرط للصلاة هو الوضوء بقصد الصلاة ، وإذا توضّأ لغاية أخرى ، تكون الصلاة فاقدة لشرطها ، وكذا الحال في الاغتسال.

ويحتمل التفصيل بين الوضوء والغسل ، بأنّ الوضوء طبيعة واحدة ، ومع حصولها تصحّ الصلاة ، بخلاف الاغسال فإنها طبائع مختلفة ، ولا يمكن حصول واحد منها إلّا بالقصد.

وفيه أنّ غاية ما يفرض في المقام اختصاص الوجوب الغيري بالوضوء المقصود به التوصّل ، لا اشتراط الصلاة بخصوص ذلك الوضوء.

٩٩

والعجب أنه شدّد النكير على القول بالمقدمة الموصلة ، واعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب ، على ما حرره بعض مقرري بحثه قدس‌سره بما يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك ، فراجع تمام كلامه (زيد في علو مقامه) ، وتأمّل في نقضه وإبرامه.

وأما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب [١] ،

______________________________________________________

وبتعبير آخر : الصلاة مشروطة بالوضوء بما هو طهارة ، كما هو مفاد قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) ، يعني بطهارة ، وكون الأغسال طبائع مختلفة إنّما هو من ناحية موجباتها ، لا من جهة التوصّل إلى غاية دون غاية ، فالاغتسال من الجنابة غير الغسل من مسّ الميّت ، ولكن الاغتسال من الجنابة للطواف لا يختلف عن الاغتسال من الجنابة للصلاة ، فكلّ منهما مشروط بالطهارة ، وطهارة الجنب اغتساله من جنابته.

المقدّمة الموصلة :

[١] شروع في إبطال ما التزم به صاحب الفصول قدس‌سره من أنّ الواجب بالوجوب الغيري ـ بناء على الملازمة ـ هو خصوص المقدّمة الموصلة فقط ، حيث ذكر الماتن قدس‌سره أنّ متعلّق الوجوب الغيري بناء على الملازمة نفس المقدّمة لا هي بقيد الإيصال ، فإنّ الآمر لا يأخذ في متعلّق أمره إلّا ما هو دخيل في غرضه الداعي إلى الأمر ، والغرض من الوجوب الغيري حصول ما لولاه لا يحصل الواجب النفسي ، وليس الغرض من الأمر بالمقدّمة ترتّب ذيها عليها ليؤخذ في متعلّق الأمر الغيري قيد الإيصال ، فإنّ الغرض من الشيء لا يكون إلّا فائدته وأثره المترتّب عليه. ومن الظاهر

__________________

(١) الوسائل : ١ ، باب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

١٠٠