دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-61-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا ينافي ذلك وجوب الوضوء إلّا على أحدهما (١).

أقول : في الفرع فروض ، أحدها : سبق أحدهما بحيازة ذلك الماء قبل أن يتمكن الآخر من حيازته ففي هذا الفرض لا موجب للقول ببطلان تيمّم غير السابق.

وثانيهما : سبق أحدهما ولكن الآخر كان متمكنا من السبق في الحيازة وفي هذا الفرض يبطل تيمم كل منهما إمّا من حازه فعلا لحيازته الماء وإمّا الآخر لتمكنه من الماء قبل حيازة الآخر.

وثالثها : سبق كل منهما ولكن وقع حيازتهما الماء في زمان واحد وفي هذا الفرض لا يبطل تيمّم واحد منهما بل يبطل تيمّم من ترك حقه إلى الآخر.

بقى في المقام شيء وهو أن من يلتزم في موارد الواجبات الكفائية بوجوب واحد متعلق على صرف وجود المكلف أو على عنوان واحد ممّن يكون بالغا عاقلا قادرا على الفعل على النحو المتقدّم يلتزم في بعض الموارد بأنّ ظاهر الأدلة تعدّد الوجوب مع كون الغرض ممّا يحصل بفعل البعض كما فيما إذا طلب من شهود الواقعة الحضور إلى أداء الشهادة فإنّ مقتضى حرمة كتمان الشهادة على كل من الشهود الحضور إلى أداء الشهادة إلّا أنّه إذا حضر من الشهود ما يكون شهادتهم مثبتا للواقعة يسقط الوجوب عن باقي الشهود ، ولكن القائل المزبور يدعي أنّ هذا غير الواجب الكفائي بل واجب عيني ولكن يسقط لحصول الغرض من الواجب وأمّا بناء على ما تقدم من تعدّد التكليف في موارد الواجبات الكفائية فيدخل مثل هذا المثال فيها كما لا يخفى.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ١٨٩.

٢٨١
٢٨٢

فصل

لا يخفى أنه وإن كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب ، إلّا أنه تارة مما له دخل فيه شرعا فيكون موقتا [١] ، وأخرى لا دخل له فيه أصلا فهو غير موقت ، والموقت إما أن يكون الزمان المأخوذ فيه بقدره فمضيّق ، وإما أن يكون أوسع منه فموسّع.

ولا يذهب عليك أن الموسع كلّي ، كما كان له أفراد دفعيّة ، كان له أفراد تدريجية ، يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها الدفعية عقليا.

ولا وجه لتوهم أن يكون التخيير بينها شرعيا ، ضرورة أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها ، كما لا يخفى ، ووقوع الموسّع فضلا عن إمكانه ، مما لا ريب فيه ، ولا شبهة تعتريه ، ولا اعتناء ببعض التسويلات كما يظهر من المطوّلات.

______________________________________________________

الواجب الموسّع والمضيّق

[١] لا بدّ لوقوع الفعل من الزمان حيث إنّه زمانيّ وكل زمانيّ لا بدّ أن يقع في الزمان إلّا أنّ الشارع قد يحدّد للفعل زمانا خاصا لدخالته في ملاكه فيكون موقتا ويكون ذلك الزمان بمقدار الفعل تارة فيسمّى الواجب مضيقا ويكون أوسع منه فيسمّى واجبا موسعا ، وفيما لا يحدّد له زمانا فإن كان الأمر به في خصوص أزمنة إمكان الفعل فيسمى واجبا فوريا ، فإن أمر به ثانيا على تقدير تركه في أوّل أزمنة إمكانه يسمّى واجبا فوريا ففوريا ، وإن كان الأمر به مطلقا يسمّي واجبا غير فوري.

ولا ينبغي التأمّل في إمكان كلا القسمين من الموقت ووقوعهما في الشرع وإن

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

توهم عدم إمكان الموسّع تارة وعدم إمكان المضيق أخرى.

أمّا الأوّل : فلما قيل أولا أنّه يجوز ترك الموسع إلى آخر زمان يكون ذلك الزمان مساويا للفعل ومقتضى جواز تركه إلى ذلك الزمان استحبابه إلى ذلك الحدّ وصيرورته واجبا في حق من تركه قبل ذلك.

وقيل ثانيا أنّ ما يسمّى واجبا موسعا فهو في الحقيقة واجب تخييري بين الابدال الطولية بحسب الزمان.

ويندفع كلا الوهمين بأنّ حال الافراد الطولية كحال الافراد العرضية من الطبيعي وكما أنّه لا غرض ملزم في شيء من خصوصيات الافراد العرضية في أمر الشارع بالطبيعي ، بل غرضه حصول ذلك الطبيعي على ما مرّ في بيان تعلّق الأوامر بالطبائع ولذا يجوز ترك بعض افراده والإتيان بالبعض الآخر من غير أن يكون التخيير بين الافراد العرضية تخييرا شرعيا كذلك الحال في الافراد الطولية للطبيعي فإنّ مع تساويها في الغرض الملزم الملحوظ للشارع يكون تخصيص الوجوب بالفرد الآخر بلا موجب كما أنّ دخول خصوصيات الافراد في متعلق الأمر ولو بعنوان أحدها بلا موجب فلا يكون الوجوب المتعلق بالطبيعي منها وجوبا تخييريا ولا الطلب المتعلق به منحلا إلى الاستحباب بالإضافة إلى ما في غير آخر الوقت وإلى الوجوب بالإضافة إلى ما في آخره.

أمّا الثاني : فقد قيل بامتناعه لأنّه لا بدّ من حصول التكليف قبل زمان الفعل ليكون ذلك التكليف داعيا للمكلّف إلى الفعل في أوّل الوقت ، مثلا لا بدّ أن يحصل التكليف بالصوم قبل طلوع الفجر ليكون داعيا إلى الإمساك عند طلوعه فيكون زمان

٢٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التكليف بالفعل أوسع من زمان الفعل لا محالة.

وأجاب المحقق النائيني قدس‌سره أنّ التكليف وان كان فعليا قبل الفعل لا محالة إلّا أنّ هذا التقدم ليس بالزمان حيث إنّ الانبعاث بالإضافة إلى التكليف الفعلي من قبيل المعلول بالإضافة إلى علّته فيكون تأخره عن التكليف وتقدم التكليف عليه رتبيّا. نعم لا بدّ من حصول العلم بالتكليف قبل ذلك الزمان ليكون التكليف بإحرازه داعيا للمكلف إلى الفعل في أوّل زمانه ، وسبق العلم بالتكليف بالزمان على الفعل غير سبق فعلية التكليف على زمان الفعل بالزمان وسبق العلم كذلك يكون بوصول الخطاب المتضمن للتكليف بنحو الواجب المشروط من قبل (١).

أقول : العلم بالتكليف الفعلي يكون سبقه على زمان الفعل أيضا بالرتبة ولا يلزم سبقه عليه بالزمان فإنّ الموضوع لحكم العقل بانبعاث العلم بالتكليف الفعلي فيكون هذا العلم مقارنا لفعلية التكليف ووصول خطاب التكليف الذي مفاده مفاد القضية الشرطية أو القضية الحقيقية يوجب العلم بالجعل ومع إحراز تحقق الشرط والموضوع خارجا يحصل العلم بالتكليف الفعلي هذا أوّلا.

وثانيا تقدم العلم بالتكليف الفعلي أو تقدم التكليف الفعلي على زمان الفعل لا يخرج الواجب عن كونه واجبا مضيقا فإنّ الواجب المضيق هو الّذي يكون ما يقتضيه ذلك الفعل ، بمقدار الزمان المعيّن له ، لا أنّ التكليف به ، زمانه بمقدار زمان الفعل ، ولذا لو بنى على أنّ وجوب صوم نهار شهر رمضان في كل يوم من قبيل الواجب المعلق يحدث وجوبه وفعليته من الليل فهذا لا يخرج الصوم عن كونه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ١٩٠.

٢٨٥

ثم إنه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه على الأمر به في خارج الوقت ، بعد فوته في الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به [١].

نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل ، لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت ، وكان لدليل الواجب إطلاق ، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.

وبالجملة : التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب ، كذلك ربما يكون بنحو تعدد المطلوب ، بحيث كان أصل الفعل ، ولو في خارج الوقت مطلوبا في الجملة ، وإن لم يكن بتمام المطلوب ، إلّا أنه لا بد في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة ، ولا يكفي الدليل على الوقت إلّا فيما عرفت ، ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

واجبا مضيقا.

[١] يعني لو كان توقيت الواجب بتقييد الفعل بالوقت ، في خطاب الأمر به فلا سبيل إلى إثبات وجوب ذلك الفعل بعد الوقت في حق من تركه فيه بذلك الخطاب ، بل يمكن القول بدلالته على عدم وجوبه بعد ذلك الوقت كما هو مقتضى قول من التزم بمفهوم الوصف ، فإنّ المراد بالوصف كما يأتي في باب المفاهيم ، القيد فيدخل فيه الزمان المأخوذ في ناحية متعلّق الوجوب ، نعم بناء على عدم المفهوم كما هو الصحيح فلا يكون مقتضى التقييد نفي القضاء.

نعم إذا كان التقييد بخطاب منفصل فتارة يكون لمفاد الخطاب المنفصل إطلاق بمعنى أنّه يكون دالّا على دخل الوقت في متعلّق التكليف المنكشف بالخطاب الأوّل كدخل سائر قيوده فيه بمعنى أنّ المتعلق مطلوبيته وقوام الملاك فيه

٢٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بالقيد ، وبتعبير آخر يكون مدلول الخطاب المنفصل أنّ الزمان دخيل في أصل مطلوبية الفعل وفي مثله لا يمكن إثبات وجود الفعل بعد ذلك الزمان بالخطاب الأوّل الذي تعلّق فيه الوجوب بنفس الفعل.

وأخرى لا يكون لخطاب التقييد هذه الدلالة بل يكون مقتضاه أنّ الفعل في الوقت مطلوب ويكون مقتضى الخطاب الأوّل أنّ نفس الفعل مطلوب بحيث يكون مقتضى الجمع بين الخطابين الالتزام بتعدّد المطلوبية في الفعل وفي الوقت وفي مثله لا بأس بالأخذ بإطلاق الخطاب الأوّل وإثبات مطلوبية الفعل ممّن تركه في الوقت.

وأمّا لو لم يكن هذا النحو من الدلالة في خطاب التقييد أو لم يكن للخطاب الأوّل اطلاق ، كان مقتضى البراءة عدم وجوب الفعل بعد الوقت. ولا يمكن إثبات وجوبه بعده بالاستصحاب لأنّ ما علم وجوبه وهو الفعل في الوقت قد سقط وجوبه بانقضاء الوقت ويشك في ثبوت الوجوب لنفس الفعل من الأوّل فالأصل عدم حدوثه كما هو الشأن في القسم الثالث من استصحاب الكلّي حيث لا فرق في عدم جريانه في ناحية الكلي بين احتمال حدوث الفرد الآخر من الأوّل أو عند ارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه.

أقول : تحقق ملاك ملزم في نفس الفعل وتحقق ملاك ملزم في حصته زائدا على ملاك ذات الفعل وإن كان أمرا ممكنا كالفعل في وقت خاص ، الّذي يكون فيه ملاك ذات الفعل وملاك زائد لخصوصيّته ، ولكن في هذا الفرض لا يمكن تعلق وجوبين بالفعل المزبور في ذلك الوقت كما فرض قدس‌سره أن بالإتيان به في ذلك الزمان

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

يتدارك الملاكان ، لأنّ الفعل في الوقت ليس بفعلين حتى يتعلّق بأحدهما وجوب وبالآخر وجوب آخر ، بل المتعيّن في هذا الفرض أن يتعلق في ذلك الوقت بالفعل وجوب واحد ، وأن يتعلّق وجوب آخر بعد خروج الوقت بذلك الفعل في حق من لم يأت بالفعل في ذلك الوقت الخاص عذرا أو عصيانا ، حيث إن بعد فرض تدارك الملاكين بالإتيان بالفعل في الوقت يكشف خطاب المقيد أنّ الوجوب ثبوتا تعلّق بالفعل في ذلك الزمان ويحمل الأمر بذات الفعل في خطاب المطلق عليه ، كما هو مقتضى حكاية كل منهما عن وجوب واحد ثبوتا ، فلا يبقى في البين دلالة على حكم الفعل بعد ذلك الزمان في حق من تركه في الزمان المفروض عصيانا أو عذرا.

وبالجملة انّما يصح التعدد في الوجوب ثبوتا فيما إذا كان متعلق أحدهما في الخارج غير متعلق الآخر ، أو كانت النسبة بين العنوان الذي تعلق به أحد الوجوبين والعنوان الذي تعلق به الآخر عموما من وجه ، أو كان يقتضي كل منهما وجودا من الطبيعة غير الوجود الآخر منها كما في صورة تعدد الشرط واتحاد الجزاء كما لا يخفى.

وقد يفسّر كلام الماتن قدس‌سره بوجه آخر وهو أنّه إذا كان التقييد بالوقت واردا في خطاب التكليف بالفعل فلا يمكن إثبات وجوبه بعد ذلك الوقت بذلك الخطاب وأمّا إذا لم يرد التقييد بالوقت في ذلك الخطاب بل تعلّق الوجوب في ذلك الخطاب بنفس الفعل بحيث كان مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الوقت المزبور وخارجه في التكليف به ، فإن قام دليل خارجي على تقييد متعلّق ذلك الوجوب بوقت خاص ، فإن كان لذلك الدليل أيضا إطلاق في دخالة ذلك الوقت في مطلوبية الفعل بلا فرق بين حالة وحالة أخرى فلا يمكن أيضا إثبات وجوب الفعل خارج الوقت ولو على

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المعذور في ترك الفعل في الوقت ، بالخطاب المطلق.

وأمّا إذا لم يكن لدليل التقييد بالوقت اطلاق بأن كان مدلوله دخالة الوقت في طلب الفعل في الجملة كما إذا ورد خطاب بوجوب صلاة الآيات بكسوف الشمس أو خسوف القمر وفرض تحقق الإجماع على وجوبها قبل الانجلاء ، فلا مانع من التمسك باطلاق الخطاب الأوّل والحكم بوجوبها على من فاتته قبل الانجلاء لعذر حيث إنّ المتيقن من مورد الإجماع على التقييد بالوقت صورة عدم العذر فيكون تكليف المعذور الإتيان بالفعل خارج الوقت ، بخلاف غير المعذور فانّه مكلّف بالفعل قبل الانجلاء ، ويجري هذا النحو من التفصيل في غير الوقت من سائر قيود الواجب أيضا.

أقول : ظاهر كلام الماتن قدس‌سره ثبوت تكليفين بالإضافة إلى مكلف واحد وأنّ الفعل مطلوب منه ولو خارج الوقت والإتيان به في الوقت مطلوب آخر ، ولو ترك موافقة التكليف الثاني يبقى عليه التكليف الأوّل ، ويترتب على ذلك تفرع القضاء على الأداء وقد صرّح في كلامه بتعدّد المطلوب ، وما فسّر به كلامه يرجع إلى تعدّد التكليف المجعول واختلافه بحسب اختلاف المكلّفين.

ويشهد لما ذكرنا قوله قدس‌سره : «أنّه لو لم يتم الإطلاق المثبت لوجوب الفعل خارج الوقت يكون المرجع البراءة لا استصحاب وجوب الفعل فإنّه من الاستصحاب في الكلي القسم الثالث».

ووجهه الشهادة أنّ هذا هو استصحاب الكلّي من القسم الثالث ، بالإضافة إلى مكلف واحد ، وأمّا بالإضافة إلى المعذور في الوقت فلا حالة سابقة للتكليف ولو بنحو القسم الثالث من الكلي حتّى يستصحب كما لا يخفى.

٢٨٩
٢٩٠

فصل

الأمر بالأمر بشيء ، أمر به لو كان الغرض حصوله ، ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلّا تبليغ أمره به [١] ، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر أو النهي. وأما لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشيء ، من دون تعلق غرضه به ، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقا ، بل بعد تعلق أمره به ، فلا يكون أمرا بذاك الشيء ، كما لا يخفى.

وقد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر ، على كونه أمرا به ، ولا بد في الدلالة عليه من قرينة عليه.

______________________________________________________

الأمر بالأمر

[١] وحاصله إذا أمر المولى غيره أن يأمر الآخر بفعل فهل يعتبر نفس أمر المولى غيره بأمر الآخر ، أمرا من المولى الغير بذلك الفعل ، كأمره من دون توسيط حتى يلزم على الآخر الإتيان بذلك الفعل أم لا؟ ذهب قدس‌سره إلى أنّه يختلف الحال بحسب غرض المولى فيكون أمر المولى بأمر غيره ، أمرا على الآخر بذلك الفعل إذا كان غرضه من أمره بالأمر مجرّد توسّطه في التبليغ كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر أو النهي.

وبتعبير آخر في مثل هذا المقام لا فرق بين أن يقول الله سبحانه وتعالى لنبيّه الأكرم إنّ الله أمر المؤمنين بغضّ أبصارهم وبين قوله سبحانه وتعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ.)(١)

__________________

(١) سورة النور : الآية ٣٠.

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وامّا إذا كان غرضه مجرّد أمر الغير الآخر بالفعل من غير أن يكون له غرض في نفس الفعل ، أو كان له غرض في الفعل ولكن لا مطلقا بل بعد أمر الغير الآخر بذلك الفعل فلا يحسب أمره الغير بالأمر ، أمرا للآخر بنفس الفعل ، ثمّ قال قدس‌سره بما أنّ الأمر بالأمر يمكن أن يقع على أحد وجوه ثلاثة فلا بدّ من الدلالة على أحدها بعينه من قرينة عليه.

أقول : الظاهر فيما كان غرضه في الفعل ولكن لا مطلقا ، بل بعد أمر الغير به ، يكون أمره بأمر الغير ، أمرا بذلك الفعل بعد توسيط أمر الغير ، ولذا يصحّ للمولى مؤاخذة الآخر بتركه الفعل بعد توسط أمر الغير ، وبتعبير آخر يكون أمر الغير بالفعل موضوعا لوجوب الفعل على الآخر من قبل المولى ولا يبعد أن يكون من هذا القبيل قوله سبحانه وتعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ)(١).

نعم هذا فيما كان للمولى الآمر على الغير ولاية على ذلك الآخر وإلّا فلا يحسب أمره الغير بأمر الآخر ، أمرا على الآخر حتى بعد توسيط الأمر من الغير بل يكون من الوجه الثاني الذي لا غرض للآمر من أمر الغير إلّا صدور الأمر عنه هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.

ولا يبعد أن يقال فيما إذا كان للآمر ولاية الأمر على الآخر أن يكون أمره بالأمر ظاهرا في التبليغ إن لم تقم قرينة خاصة أو عامة في مورد على دخل وساطة أمر المأمور بالأمر ، كما في الأمر بالقتال والخروج إلى الجهاد حيث إنّ حفظ النظام فيه والسعي في الوصول إلى النتيجة يقتضي أن يتصدى الجهاد من أوكل إليه الأمر

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ٦٥.

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ويصدر الأمر بالشروع في القتال أو الخروج إليه.

ويشهد لما ذكرنا من أنّ الأمر بالأمر ظاهره الواسطة في التبليغ ما إذا أمر المولى أحد عبيده أن يأمر عبده الآخر بالفعل الفلاني واطّلع عليه العبد الآخر من غير توسيط أمر المأمور وترك الفعل ، فإنّه مع اعترافه بالاطّلاع يؤاخذه المولى بتركه.

ويترتّب على ما ذكرنا القول بمشروعيّة عبادات الصبي أخذا بما ورد من أمر أولياء الصبيان بأمرهم بالصلاة والصوم.

وقد يقال بمشروعية عبادات الصبي بوجه آخر وهو أنّ خطابات الأحكام والتكاليف تعمّ البالغين والمميزين من الصبيان وأنّ ما ورد في رفع القلم عن الصبي ناظر إلى رفع قلم الجزاء والمؤاخذة على عدم رعاية تلك التكاليف والأحكام سواء كانت المؤاخذة من قبيل العقاب الأخروى أو من قبيل الحدود والتعزيرات من المؤاخذات الدنيويّة إذن فحديث رفع القلم يرفع الإلزام فقط دون أصل المحبوبية.

ولكن لا يمكن المساعدة على هذا الوجه لأنّ مفاد رفع القلم عن الصبي يتّحد مع مفاد رفع القلم عن النائم والمجنون والمرفوع في الكل التكليف وقلم التشريع لا الالزام فقط. وبالجملة مشروعيّة عبادات الصبي مستفادة ممّا ورد في تكليف الأولياء بأمرهم الصبيان بالصلاة والصيام.

٢٩٣
٢٩٤

فصل

إذا ورد أمر بشيء بعد الأمر به وقبل امتثاله فهل يوجب تكرار ذاك الشيء أو تأكيد الأمر الأوّل [١] والبعث الحاصل به؟ قضية إطلاق المادة هو التأكيد ، فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين ، من دون أن يجيء تقييد لها في البين ، ولو كان بمثل (مرّة أخرى) كي يكون متعلق كلّ منهما غير متعلق الآخر ، كما لا يخفى ، والمنساق من إطلاق الهيئة ، وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده ، إلّا أن الظاهر هو انسباق التأكيد عنها ، فيما كانت مسبوقة بمثلها ، ولم يذكر هناك سبب ، أو ذكر سبب واحد.

______________________________________________________

الأمر عقيب الأمر

[١] إذا ورد الأمر بفعل بعد سقوط الأمر الأوّل به فلا ينبغي التأمّل في كون الأمر الثاني تأسيسا ، وانّما الكلام فيما إذا ورد الأمر به قبل امتثال الأمر الأوّل المتعلق به كما إذا استمع إلى آية السجدة وقبل أن يسجد استمع إليها ثانيا فهل ظاهر الأمر الثاني في التأسيس الموجب لتعدد الواجب فيرفع اليد عن إطلاق المادة وتقييدها في الأمر الثاني بمثل وجود آخر من تلك المادة ، أو أنّ إطلاق المادة وكونها بعينها ممّا ورد الأمر بها أوّلا يقتضي رفع اليد عن ظهور الأمر الثاني في التأسيس وحمله على التأكيد لأنّ صرف وجود الطبيعي لا يمكن أن يتعلق به وجوبان تأسيسيّان.

ذهب الماتن قدس‌سره إلى حمل الأمر الثاني على التأكيد في فرضين :

الأوّل : ما إذا لم يذكر في خطاب الأمر بالفعل سبب كما إذا أمر الوالد ولده بقراءة القرآن وقبل أن يقرأ الولد أمره ثانيا بقراءته.

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : ما إذا ذكر لكل من الأمرين سبب واحد.

وأمّا إذا ذكر لكل من الأمرين سبب مغاير للسبب في الأمر الآخر فظاهر الأمر الثاني كونه تأسيسا كما إذا ورد في خطاب «إذا لبس المحرم في إحرامه قميصا فعليه شاة» وورد في خطاب آخر «إذا ظلّل المحرم في إحرامه فعليه شاة» ، فإنّه إذا لبس في إحرامه قميصا وظلّل فيه يكون عليه شاتان يذبحهما بمكّة إذا كان في إحرام عمرته وبمنى إذا كان في إحرام حجّه.

أقول : الظاهر تعدّد أمر المولى بتعدد وجود الشرط فيما كان قابلا للانحلال ، حيث إنّ ظاهر القضية كون كل وجود من الشرط موضوعا مستقلا للأمر بالطبيعة فيرفع اليد بذلك عن إطلاق المادة.

نعم إذا لم يكن الشرط قابلا للانحلال فلا يتعدّد الأمر كما إذا ورد «من أفطر في نهار شهر رمضان فعليه عتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا أو صيام ستين يوما» فإنّه إذا تكرّر الأكل منه في يوم واحد أو تناول مفطرا آخر بعد الأكل فلا تتكرّر الكفارة لأنّ عنوان الإفطار يعني نقض الصوم بتناول المفطر ، غير قابل للتكرار بالإضافة إلى صوم يوم واحد وهذا بخلاف ما إذا جامع مرتين أو مرات في نهار شهر رمضان من يوم واحد فإنّه يتكرّر وجوب الكفارة بتكرّر الجماع حيث إنّ الموضوع لوجوب الكفارة فيه ليس عنوان الإفطار بل الموضوع نفس عنوان الجماع كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : «عليه من الكفارة مثل ما على الذي يجامع» (١) الدال على أنّ من جامع في نهار شهر رمضان فعليه كفارة افطار الصوم ، ويلزم على ما ذكر الماتن قدس‌سره عدم الفرق بين تكرار

__________________

(١) الوسائل : ج ٧ ، باب ٤ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

٢٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الأكل وتكرار الجماع ، وعلى الجملة التداخل فيما كان الشرط قابلا للانحلال خلاف ظهور الخطاب في أنّ كل وجود من الشرط موضوع مستقل للأمر بالطبيعي القابل للتكرار.

وإذا قام دليل خاص على عدم تكرار التكليف بتكرار الشرط يؤخذ به ويلتزم فيه بالتداخل كما إذا ظلّل المحرم في إحرام عمرته أو في إحرام حجّه عدّة مرّات فإنّه قام الدليل بعدم تكرار الكفارة بذلك ، بخلاف ما إذا ظلّل في إحرام عمرته وفي إحرام حجّه فانّ عليه كفارتين كما دلّ عليه الروايات (١) وهكذا الحال في تكرار سائر محظورات الإحرام ويأتي تمام الكلام في المقام في مسألة ما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء في باب المفاهيم إنشاء الله تعالى.

__________________

(١) الوسائل : ج ٩ ، باب ٧ من أبواب بقية كفارات الإحرام.

٢٩٧
٢٩٨

المقصد الثاني

(النواهي)

٢٩٩
٣٠٠