دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-61-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٠٨

وأمّا على المختار لشيخنا العلّامة ـ أعلى الله مقامه ـ فلأنّه وإن كان من المقدمات الوجودية للواجب ، إلا أنّه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه ، فإنّه جعل الشيء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط ، فمعه كيف يترشح

______________________________________________________

وأمّا بناء على مسلك الشيخ قدس‌سره فقد تقدّم أنّ الوجوب يتعلق بالحجّ المقارن للاستطاعة الخارجية مثلا ، وأنّ الاستطاعة قد أخذت قيدا للحجّ بنحو لا يتعلّق بها وجوب ويكون المكلّف مطلق العنان بالإضافة إليها ، ولو تعلّق بها وجوب ففي فرض عدمها يلزم الخلف ، وفي فرض وجودها يلزم طلب الحاصل.

أقول : ظاهر كلامه قدس‌سره تعلق الوجوب فعلا على مسلك الشيخ قدس‌سره بالحجّ على تقدير استطاعته ولو بعد حين من عمره ؛ ولذا يجب عليه فعلا سائر مقدّماته الوجودية على تقدير تلك الاستطاعة ، وهذا يرجع إلى الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، كما يظهر ذلك أيضا من قوله : «فإنّه جعل الشيء ـ أي الحج مثلا ـ واجبا على تقدير حصول ذلك الشرط ، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل» (١) ، ولكن إنّ هذا الإرجاع لا يناسب استدلال الشيخ قدس‌سره على عدم كون الشرط قيدا للوجوب ، فإنّه لو أمكن كون الشرط قيدا للوجوب بنحو الشرط المتأخّر لأمكن كونه قيدا للوجوب بنحو الشرط المقارن بالأولوية.

والمناسب لكلامه واستدلاله هو أن يلتزم بأنّ التكليف في الواجبات المشروطة كالواجبات المطلقة مجعول في حقّ كلّ قابل للتكليف من البالغ العاقل المتمكّن على متعلّقه زمان العمل فيطلب منه الفعل المقيّد بحيث لا يسري الطلب إلى قيده ، ولو سرى الطلب إلى ذلك القيد لزم الخلف.

__________________

(١) الكفاية : ص ٩٩.

٢١

عليه الوجوب ويتعلق به الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟ نعم على مختاره قدس‌سره لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه ، لتعلّق بها الطلب في الحال على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال ، وذلك لان إيجاب ذي المقدمة على ذلك حالي ، والواجب إنما هو استقباليّ ، كما يأتي في الواجب المعلّق ، فإنّ الواجب المشروط على مختاره قدس‌سره ، هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلّق ، فلا تغفل.

______________________________________________________

ثمّ لا يخفى أنّ في الواجبات المشروطة وإن كان الشرط قيدا لنفس الوجوب أخذا بظاهر القضية الشرطية في الخطاب إلّا أنّ الوجوب في مقام الثبوت مجعول بمفاد القضية الحقيقية ، وأنّ كلّ شرط وقيد للتكليف يفرض في مقام الجعل ثبوتا قيدا للموضوع لذلك التكليف ، فالشارع يجعل وجوب صلاة الظهر مثلا على كلّ بالغ عاقل زالت عليه الشمس ، ووجوب الحجّ على كلّ بالغ عاقل يكون مستطيعا ، فكل قيود التكليف تفرض في مقام الجعل ثبوتا في ناحية الموضوع مفروضة الوجود ويجعل التكليف على الواجد لتلك القيود ، فاختلاف مفاد القضية الشرطية مع مفاد القضية الحقيقية ينحصر بمقام الإثبات ، وإلّا فالقضية الشرطية ترجع إلى مفاد القضية الحملية ثبوتا ، وعلى ذلك فليس لازم ما ذكرنا من رجوع الشرط قيدا للحكم أن يثبت حكم شرعي معلّق بعد جعله في أفراد موضوعه ، كما توهّم من ثبوت وجوب الحج المعلّق على الاستطاعة في حقّ جميع المكلّفين ، فإنّ ثبوت هذا النحو من الحكم المعلّق ثبوتا في حقّ كلّ بالغ عاقل لغو محض.

والعجب من الشيخ قدس‌سره حيث التزم بامتناع كون الشرط قيدا لنفس الوجوب ، والتزم برجوعه إلى تقييد متعلّق التكليف ، ولم يلتزم برجوعه إلى تقييد الموضوع للتكليف حتّى لا يرد عليه بأنّه كيف يكون العمل الاختياري قيدا لمتعلّق التكليف

٢٢

هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات ، وأمّا المعرفة ، فلا يبعد القول بوجوبها ، حتّى في الواجب المشروط ـ بالمعنى المختار [١] ـ قبل حصول

______________________________________________________

ومع ذلك لا يجب تحصيله كسائر مقدّمات ذلك المتعلّق ، وأخذه طورا لا يكاد يسري إليه الوجوب ، لا يعقل إلّا بفرض وجود الشرط في ناحية الموضوع لذلك الوجوب ، وممّا يترتب على ما ذكرنا بطلان القول باعتبار الاستصحاب التعليقي ، حيث إنّ المستصحب في موارد الاستصحاب هو الحكم في مقام الثبوت ، والحكم في مقام الثبوت له مرتبتان : مرتبة الجعل ومرتبة الفعلية ، وليس شيء منهما ممّا يتمّ فيه أركان الاستصحاب على ما سيأتي توضيحه في محلّه إن شاء الله تعالى.

[١] المراد معرفة الواجب من حيث أجزائه وشرائطه ممّا يعتبر فيه من ترتيب الأجزاء وغيره كحدود الصلاة والحج والصوم وغيرها ، ولا ينبغي التأمّل في لزوم معرفة الواجب فيما إذا كان وجوبه فعليّا سواء كان ظرف الإتيان به أيضا فعليّا أو كان ظرفه أمرا استقباليا ، كما في الواجبات المشروطة على مسلك الشيخ قدس‌سره.

ولكن ربّما يناقش في وجوب تعلّم الواجب قبل حصول شرط وجوبه وفعلية وجوبه كما في الواجبات المشروطة والمؤقتة على مسلك المشهور فيما إذا علم المكلّف أو احتمل حصول شرطها فيما بعد ، وأنّه إذا لم يتعلّمها قبل فعلية وجوبها لم يتمكّن بعد فعلية الشرط أو دخول الوقت من الإتيان بذلك الواجب بتمام أجزائه وشرائطه للغفلة أو العجز.

ووجه المناقشة أنّه قبل حصول الشرط أو دخول الوقت لا يكون الوجوب في ذلك الواجب فعليّا ليجب عليه المعرفة كسائر مقدّمات الواجب ، وكما أنّ سائر مقدّمات الواجب لا يكون وجوبها فعليا قبل فعلية وجوب ذيها ـ كما تقدّم ـ فكيف تجب معرفته قبل وجوبه؟

٢٣

شرطه ، لكنه لا بالملازمة ، بل من باب استقلال العقل بتنجز الأحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها ، إلّا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف ، فيستقل بعده بالبراءة ، وإن العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان ، والمؤاخذة عليها بلا برهان ، فافهم.

______________________________________________________

وقد ذكر المصنف قدس‌سره أنّ وجوب المعرفة ليس وجوبا غيريا كسائر المقدّمات الوجودية للواجب حتّى يناقش في وجوبها قبل فعلية وجوب الواجب ، بل معرفته تدخل فيما يستقلّ به العقل من تنجّز الأحكام والتكاليف في الوقائع على المكلّف بمجرد احتمالها ، ولا يكون مخالفتها من حيث الجهل بها عذرا إلّا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف ، فيستقلّ العقل بعده بالبراءة وأنّ العقاب على المخالفة بلا حجّة وبيان.

أقول ما ذكره قدس‌سره من أنّ المعرفة وجوبها ليس من الوجوب الغيري كالمقدمات الوجودية للواجب أمر صحيح ، ولكنّ استقلال العقل بما ذكره ـ فيما إذا كان التعلّم من تحصيل القدرة على الواجب قبل فعلية وجوبه ـ غير معلوم ، وإنّما الثابت عدم المعذورية في مخالفة التكليف المحتمل فعليته ، مع التمكّن على موافقته على تقديره بالاحتياط أو بالاجتهاد والتقليد ، وأمّا عدم المعذورية مع عدم التمكّن من موافقته ولو بترك التعلّم قبل زمان حصول فعليّة الوجوب وحصول شرطه ، فهذا لا يستقلّ به العقل ؛ لعدم القدرة على الفعل بعد فعلية شرط الوجوب.

وقد يجاب عن ذلك بأنّ الغفلة أو العجز لم يؤخذ عدمها شرطا في ناحية التكليف ، بل التكليف المجعول يصير فعليّا بحصول شرطه ودخول وقته. نعم تكون الغفلة أو العجز مانعا عن تنجّز التكليف في الموارد التي يحكم العقل بالعذر ، والعقل لا يحكم بالمعذورية مع ترك التعلّم.

٢٤

تذنيب : لا يخفى أنّ إطلاق الواجب [١] على الواجب المشروط ، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقا ، وأمّا بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك على الحقيقة على مختاره قدس‌سره في الواجب المشروط ، لأن الواجب وإن كان أمرا استقباليا عليه ، إلا أن تلبّسه بالوجوب في الحال ، ومجاز على المختار ، حيث

______________________________________________________

وفيه : أنّ من شرط التكليف القدرة على متعلّقه في ظرف الواجب ، والغافل كالعاجز غير متمكّن عليه.

ولكن مع ذلك ، الصحيح وجوب المعرفة ؛ وذلك فإنّ الأخبار الواردة في وجوب تعلّم الأحكام والواجبات بإطلاقها تعمّ المشروطة والموقتة ، ممّا يحتمل المكلّف الابتلاء بها فضلا عمّا يعلم ، وتكون دالّة على أنّ العجز الناشئ عن ترك التعلّم ـ ولو كان الترك قبل حصول الشرط أو الوقت ـ يوجب تفويت ملاك الواجب ، نظير ما تقدّم في الأمر بالاغتسال في الليل على الجنب الذي عليه صوم الغد عند طلوع الفجر.

وبالجملة وجوب التعلّم طريقيّ يقطع العذر في مخالفة التكليف أو في تفويت الملاك الملزم الموجود في مورده.

[١] قد تقدّم في بحث المشتق أنّ معناه ضيّق لا ينطبق إلّا على المتلبس بالمبدإ ، وعليه فإن كان إطلاق الواجب على الحجّ ـ مثلا ـ بلحاظ حال الاستطاعة ، يكون الإطلاق حقيقيا ، بلا فرق بين مسلك المشهور ومسلك الشيخ قدس‌سره ، وإن كان الإطلاق بلحاظ قبل الاستطاعة يكون الإطلاق حقيقيا بناء على مسلكه قدس‌سره بخلاف مسلك المشهور ، فإنّ الإطلاق يكون بالعناية ، كما صرّح به الشيخ البهائي قدس‌سره ، والشاهد لكون الإطلاق مع العنائية أنّ إطلاق المستحبّ على الحجّ حال عدم الاستطاعة صحيح لا عناية فيه.

٢٥

لا تلبّس بالوجوب عليه قبله ، كما عن البهائي رحمه‌الله تصريحه بأن لفظ الواجب مجاز في المشروط ، بعلاقة الأول أو المشارفة.

وأمّا الصيغة مع الشرط ، فهي حقيقة على كل حال لاستعمالها على مختاره قدس‌سره في الطلب المطلق ، وعلى المختار في الطلب المقيد ، على نحو تعدد الدالّ والمدلول ، كما هو الحال فيما إذا أريد منها المطلق المقابل للمقيد ، لا المبهم المقسم ، فافهم.

______________________________________________________

وأمّا صيغة الأمر فهي موضوعة لإنشاء البعث والطلب الجامع بين مطلقه ومشروطه المعبّر عن ذلك الجامع بالمبهم المقسم فيكون استعمالها في إنشاء الطلب على نحو حصل الحقيقة سواء بها الطلب المطلق أو المشروط ، فإنّها في كلتا الصورتين تستعمل في معناها الموضوع له ، ويكون إنشاء أصل الطلب بها وخصوصية الإطلاق أو الاشتراط بدال آخر ، وهي القرينة العامّة يعني مقدمات الحكمة فيما كانت الخصوصية هي الإطلاق المقابل للاشتراط ، والقرينة الخاصّة فيما كانت الخصوصية هي الاشتراط.

والمراد من الطلب المطلق على مسلك الشيخ قدس‌سره الإطلاق الذاتي الذي لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة ، حيث إنّ الاحتياج إليها في إثبات الإطلاق العرضي الذي يكون في فرض إمكان تقييده ، وقد التزم قدس‌سره بعدم إمكان تقييد الوجوب بوجه ثبوتا أو إثباتا.

أقول : إطلاق الواجب على الفعل يكون باعتبارين.

أحدهما : بحسب مقام الإنشاء والجعل ، كما يقال : الصلوات الخمس واجبة ، وغسل الميت واجب ، وغسل الجمعة مستحب ، ولا فرق بين المسلكين في هذا الإطلاق ، فإنّه عليهما حقيقي لا جازي لفعلية الإنشاء وتحقّقه حتّى على المسلك المشهور.

٢٦

ومنها : تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز [١] ، قال في الفصول : إنّه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ، ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له ، كالمعرفة ، وليسمّ منجّزا ، وإلى ما يتعلّق وجوبه به ، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له ، وليسمّ معلّقا كالحج ، فإن وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن

______________________________________________________

والثاني : الإطلاق بحسب فعلية الوجوب المنشأ والطلب ، فالوجوب قبل حصول شرطه غير فعلي ، فلا يكون الفعل حينئذ واجبا ، ليكون الإطلاق بلحاظه حقيقيا وهذا على مسلك المشهور.

وأمّا بناء على مسلك الشيخ قدس‌سره فالفعل الاستقبالي واجب حقيقة ؛ لعدم الاشتراط في وجوبه.

الواجب المعلق والمنجز :

[١] حاصل ما ذكره في الفصول أنّه إن لم يتوقّف متعلّق الوجوب على أمر غير مقدور كالمعرفة بالله (سبحانه) يكون الواجب منجّزا وإن توقّف عليه كالحجّ بالإضافة إلى مجيء زمانه بناء على حصول وجوبه بحصول الاستطاعة أو خروج الرفقة يكون الواجب معلّقا ، والفرق بين المعلّق والمشروط أنّ نفس الوجوب في المشروط معلّق على حصول الشرط بخلافه في المعلّق فإنّه لا يتوقّف على حصول الشرط ، بل المتوقّف على حصوله هو الواجب.

وذكر الماتن في ذيله : بما أنّ الواجب المعلّق عند صاحب الفصول بعينه هو ما التزم به الشيخ قدس‌سره في الواجب المشروط حيث ذكر امتناع رجوع القيد إلى نفس الوجوب ثبوتا وإثباتا وأنّ القيود كلّها ترجع إلى متعلّق الوجوب أنكر على صاحب الفصول هذا التقسيم ، وقد عرفت أنّ إنكاره يرجع في الحقيقة إلى الواجب المشروط

٢٧

الاستطاعة ، أو خروج الرفقة ، ويتوقف فعله على مجيء وقته ، وهو غير مقدور له ، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أن التوقف هناك للوجوب ، وهنا للفعل. انتهى كلامه رفع مقامه.

لا يخفى أنّ شيخنا العلّامة ـ أعلى الله مقامه ـ حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى ، وجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا وإثباتا ، حيث ادعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك ، أي إثباتا وثبوتا ، على خلاف القواعد العربية وظاهر المشهور ، كما يشهد به ما تقدم آنفا عن البهائي ، أنكر على الفصول هذا التقسيم ، ضرورة أنّ المعلّق بما فسّره ، يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك ، كما هو واضح ، حيث لا يكون حينئذ هناك معنى آخر معقول ، كان هو المعلق المقابل للمشروط.

______________________________________________________

باصطلاح المشهور لا إلى الواجب المنجّز والمعلّق.

نعم يرد على الفصول أنّ تقسيم الواجب إلى المنجّز والمعلّق بلا موجب ، فإنّ الوجوب الغيري للمقدّمة من لوازم حاليّة وجوب ذيها سواء كان متعلّقه منجّزا أو معلّقا ، ولو أريد تقسيم الواجب من غير دخله في المهمّ لكثرة تقسيماته.

أقول : قد ذكر صاحب الفصول قدس‌سره هذا التقسيم لتصحيح وجوب المقدّمة في بعض الواجبات قبل مجيء زمانها ، كاغتسال الجنب والحائض في الليل لصوم يوم الغد ، وكالخروج إلى السفر قبل زمان مجيء أشهر الحجّ للنائي.

وذكر المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في ذيل ما أورده الماتن على الفصول : انّه لا يخفى أنّ انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب (أي تأخّر زمان الواجب) هو المصحّح لوجوب مقدّمته قبل زمان الواجب ، وإلّا فلو كان زمان الوجوب متّحدا مع زمان الواجب لما وجبت مقدّمته قبل زمان الواجب ، ولعله قدس‌سره أشار إلى ذلك بقوله

٢٨

ومن هنا انقدح أنّه في الحقيقة إنّما أنكر الواجب المشروط ، بالمعنى الذي يكون هو ظاهر المشهور ، والقواعد العربية ، لا الواجب المعلّق بالتفسير المذكور.

وحيث قد عرفت ـ بما لا مزيد عليه ـ امكان رجوع الشرط إلى الهيئة ، كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد ، فلا يكون مجال لإنكاره عليه.

نعم يمكن أن يقال : إنّه لا وقع لهذا التقسيم ، لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط وخصوصية كونه حاليّا أو استقباليّا لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم ، وإلا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات ، ولا اختلاف فيه ، فإن ما رتّبه عليه من وجوب المقدمة فعلا ـ كما يأتي ـ إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليّته ، لا من استقباليّة الواجب ، فافهم.

______________________________________________________

«فافهم» ، فوجوب المقدّمة حينئذ وإن كان معلولا لوجوب ذيها لكن وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها لتقدّم زمان وجوب ذيها على زمان ذيها ، بحيث لو لا هذا التقدم والتأخر لما وجبت المقدّمة قبل زمان ذيها (١).

أقول : ما ذكره قدس‌سره لا يزيد أمرا ولا يوجب خللا فيما ذكر الماتن قدس‌سره من أنّ وجوب المقدّمة في مورد لفعليّة زمان ذيها ، سواء كان نفس الواجب مقيّدا بقيد متأخّر أم لا.

والذي ينبغي أن يقال في المقام هو أنّ نفس فعلية وجوب ذي المقدّمة ـ مع كونه مقيّدا بقيد استقبالي ـ لا يوجب وجوب مقدّمته بأن يؤتى بالمقدّمة قبل مجيء زمان ذيها ولو بنحو الواجب الغيري الموسّع ، بل يختصّ ذلك بما إذا لم يؤخذ المتأخّر قيدا لنفس المقدّمة أيضا بأن لم تكن المقدّمة من قبيل الاغسال للمستحاضة

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٧٢.

٢٩

ثمّ إنّه ربّما حكي عن بعض أهل النظر [١] من أهل العصر إشكال في الواجب المعلّق ، وهو أن الطلب والإيجاب ، إنّما يكون بإزاء الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد ، فكما لا تكاد تكون الإرادة منفكة عن المراد ، فليكن الإيجاب غير منفك عما يتعلق به ، فكيف يتعلّق بأمر استقبالي؟ فلا يكاد يصح الطلب والبعث فعلا نحو أمر متأخر.

______________________________________________________

الكثيرة أو المتوسّطة بالإضافة إلى صومها في الغد.

وعليه ، فلا يكون مجرّد انفكاك زمان فعلية وجوب فعل عن زمان الإتيان بنفس الفعل مجديا في تعيّن أو جواز الإتيان بمقدّمته قبل مجيء ذلك الزمان وإنّما يكون ذلك فيما إذا كان المتأخّر مأخوذا في ناحية نفس الواجب النفسي خاصّة لا في ناحية وجوبه ولا في ناحية مقدّمته.

الإشكالات على الواجب المعلّق :

[١] قيل هو المحقّق النهاوندي قدس‌سره ، وحاصله أنّ الإيجاب يقابل الإرادة ، وكما لا تنفك إرادة الفاعل عن مراده ، بل تحريك العضلات نحو المراد بفعليّة الإرادة ، فليكن الحال في الإيجاب الفعلي كذلك ، بأن يكون تحريك العبد نحو المتعلّق تابعا لحدوث الطلب الفعلي ، فإنّ الايجاب أيضا إرادة ، غاية الأمر تتعلّق الإرادة في الأول بفعل الغير وفي الثاني بالفعل المباشري ، وعلى ذلك فلا يمكن تصوير الواجب المعلّق ، حيث إنّ لازمه الفصل بين تحقّق الطلب الفعلي والمطلوب بزمان.

وأجاب المصنّف قدس‌سره عن المناقشة بوجوه ثلاثة : الأوّل والثاني راجعان إلى الإرادة التكوينية المتعلّقة بالفعل المباشري ، والثالث إلى الإيجاب والإرادة التشريعيّة.

٣٠

قلت : فيه أنّ الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي ، كما تتعلق بأمر حالي ، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلا عن فاضل ، ضرورة أن تحمّل المشاق في تحصيل المقدمات ـ فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المئونة ـ ليس إلا لأجل تعلق إرادته به ، وكونه مريدا له قاصدا إيّاه ، لا يكاد يحمله على التحمل إلّا ذلك ، ولعلّ الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد المحرّك للعضلات نحو المراد ، وتوهم أنّ تحريكها نحو المتأخر ممّا لا يكاد ، وقد غفل عن أن كونه محركا نحوه يختلف حسب اختلافه ، في كونه مما لا مئونة له كحركة نفس العضلات ، أو ممّا له مئونة ومقدمات قليلة أو كثيرة ، فحركة العضلات

______________________________________________________

وحاصل الوجه الأوّل : أنّ الإرادة التكوينية أيضا تتعلّق بأمر استقبالي وتنفكّ عن المراد بحسب الزمان ، كما إذا تعلّقت بأمر يكون موقوفا على مقدّمات يحتاج في تحصيلها إلى طول الزمان ، كإرادة الوصول إلى مرتبة الاجتهاد واستنباط الأحكام من مداركها ، فإنّ الشوق إليه الحادث للنفس يدعو إلى تحمّل المشاقّ في تحصيل مقدّماته ليحصل له الغرض بعد سنين ، ولو كان حدوث الشوق إلى الاجتهاد بعد حصول مقدّماته لما كان كلّ مريد للاجتهاد متحمّلا للمشاقّ من تحصيل المقدّمات ، فحركة العضلات المعتبرة في الإرادة التكوينية نحو المراد أعمّ من أن تكون نحو نفس المراد أو نحو مقدّماته.

وحاصل الوجه الثاني أنّه يمكن انفكاك إرادة الفاعل عن مراده بأن لا تتحرّك عضلاته نحو المراد ولا نحو مقدّماته لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مقدّمة ، فيكون غرضهم من توصيف الإرادة والشوق المؤكّد بكونها محرّكة للعضلات بيان المرتبة من الشوق الذي تسمّى إرادة ، ضرورة إمكان كون اشتياق الإنسان إلى أمر استقبالي أقوى وآكد من الشوق المحرّك فعلا نحو

٣١

تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له ، والجامع أن يكون نحو المقصود ، بل مرادهم من هذا الوصف ـ في تعريف الإرادة ـ بيان مرتبة الشوق الذي يكون هو الإرادة ، وإن لم يكن هناك فعلا تحريك ، لكون المراد

______________________________________________________

مراد حالي أو استقبالي يحتاج إلى مقدّمة أو مقدّمات.

وحاصل الوجه الثالث : منع قياس الايجاب بالارادة التكوينية وذلك فإنّ البعث والطلب لإيجاد الداعي إلى الفعل في نفس العبد وحركته نحو الفعل تتوقّف على علمه بالبعث وتصوّره ما يترتب على موافقته ومخالفته والتصديق بما هو صلاح له وبعد ذلك ينقدح الداعي في نفسه فتتحرّك عضلاته نحو الفعل. فيكون تخلل زمان بين زمان الإيجاب وبين الفعل خارجا ممّا لا بدّ منه. وإذا أمكن الانفكاك بينهما بزمان قصير أمكن الفصل بالطويل أيضا.

وعن المحقّق الاصفهاني قدس‌سره ما حاصله أنّ ما ذكر المصنف قدس‌سره في ناحية كلّ من الإرادة التكوينية والتشريعية غير تام ، أمّا الإرادة التكوينية فالأمر فيها كما ذكر النهاوندي من أنّ الإرادة (أي الشوق المؤكّد) علّة تامّة لحركة العضلات نحو الفعل.

وبيانه : أنّ النفس في وحدتها كلّ القوى لها منازل ومراتب ، ولها في كلّ مرتبة ومنزل من تلك المراتب والمنازل شأن وحركة فتدرك في مرتبة العاقلة أنّ في الفعل فائدة عائدة إلى جوهر ذاتها أو إلى قوة من قواها ويحصل لها في مرتبة القوة الشوقية شوق إلى ذلك الفعل ، وإذا لم تجد مانعا ومزاحما يخرج الشوق المنبعث من حدّ النقصان إلى الكمال المعبّر عن ذلك الكمال بالإجماع تارة ، وبتصميم العزم أخرى ، وبالقصد والإرادة ثالثة ، وينبعث من هذه المرتبة من الشوق البالغة كماله وحدّ نصابه ، حركة وهيجان في مرتبة القوّة العاملة في العضلات.

وعلى ذلك فلا يكون الشوق في مرتبة ضعفه إرادة وقوة فاعلة ، لتعلّق الشوق

٣٢

وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مئونة أو تمهيد مقدمة ، ضرورة أن شوقه إليه ربّما يكون أشد من الشوق المحرّك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي ، محتاج إلى ذلك.

______________________________________________________

بما هو خارج عن اختيارها ، بل إنّما يكون إرادة في مرتبة كماله وهيجانه للقوّة العاملة في العضلات ، ففاعلية النفس محركيّتها بالإرادة التي تنبعث منها القوى العاملة في العضلات ، وإذا لم تنبعث تلك القوى فلا يكون عدم الانبعاث إلّا بعد خروج الشوق عن نقصانه وعدم وصوله إلى كماله.

ولا منافاة بين بقاء النفس في مرتبة النقص من الشوق بالإضافة إلى الفعل المراد وبين خروج الشوق إلى مقدّمته ـ المتولّد من الشوق إلى ذلك الفعل ـ إلى مرتبه كماله ، وينبعث من الشوق الواصل إلى كماله القوى العاملة في العضلات بالإضافة إلى تلك المقدمة فلا يكون التصدي لمقدمات المطلوب والمراد كاشفا عن وصول الشوق إلى ذى المقدمة إلى كماله.

وبتعبير آخر : عدم المانع والمزاحم بالاضافة إلى مقدمة فعل ، الموجب لخروج الشوق بها إلى الارادة الناشي من الشوق بذى المقدمة لا ينافي بقاء الشوق إلى ذى المقدمة لوجود المزاحم والمانع في مرتبة نقصانه.

والحاصل تكون الارادة المتعلّقة بشيء الجزء الأخير من العلّة التامّة لذلك الشيء ، فلا يعقل انفكاك انبعاث القوى العاملة في العضلات عن إرادة ذلك الشيء وإلّا لزم تخلّف المعلول عن علّته التامة ، هذا بالإضافة إلى الارادة التكوينية.

وأمّا الإرادة التشريعيّة فالأمر فيها أيضا كذلك ، فإنّ شوق المولى بفعل العبد لا يمكن أن يصل إلى مرتبة الإرادة ؛ لأنّ فعل العبد خارج عن اختياره بما هو مولى ، فيتولّد من اشتياقه إلى فعل العبد المنقاد شوق إلى بعثه نحو ذلك الفعل ، ويصل هذا

٣٣

هذا مع أنّه لا يكاد يتعلّق البعث إلّا بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة أن البعث إنما يكون لإحداث الداعي للمكلّف إلى المكلف به ، بأن يتصوره بما يترتب

______________________________________________________

الشوق إلى مرتبة الإرادة ، فإرادة المولى تتعلّق ببعثه ، وهذا البعث لا يترتّب عليه انبعاث العبد إلى الفعل بنحو القهر والغلبة ، فإنّه خلاف الفرض ، بل لا بدّ من أن يكون بنحو يترتّب عليه إمكان انبعاثه.

وبتعبير آخر ما تعلّق به شوق المولى وميله هو الفعل الاختياري للعبد ، ولو كان بعث المولى إلى فعله بنحو القهر والإجبار لكان ذلك بعث إلى غير ما اشتاق إليه ، فلا بدّ من أن يكون بعثه على نحو يترتّب عليه إمكان انبعاث العبد فيما لو كان منقادا ، والمفروض في الواجب المعلّق عدم ترتّب الانبعاث عند تحقّق البعث مع فرض انقياد العبد ، فلا يكون بعث المولى بعثا حقيقة ولو إمكانا (١).

أقول قد تقدّم سابقا وكرارا أنّ إرادة المولى لا تتعلّق بالبعث الخارجي الحقيقي ، فإنّ البعث الخارجي الحقيقي قهر على الغير لا ينفكّ عن الانبعاث الخارجي ولا يتحقّق بدونه ، كما لا يتحقّق الكسر بلا انكسار ، وإنمّا تتعلّق إرادته بالبعث الخارجي الاعتباري ، وإذا كان البعث اعتباريا فيمكن أن ينشأ البعث معلقا على أمر استقبالي بنحو الشرط المقارن أو غيره نظير الوصية التمليكية ويمكن أن ينشأ البعث مطلقا ويقيّد المبعوث إليه بأمر استقبالي ، فإنّ الاعتبار غير التكوين ، غاية الأمر فاللازم في موارد إطلاق البعث هو أن يكون لإطلاقه أثر حتّى لا يلحق إطلاقه بأنياب الأغوال ولئلّا يكون الاعتبار فيه لغوا ومجرّد فرض وخيال ، والمفروض في موارد إطلاقه واستقبالية متعلّق البعث والطلب حصول الأثر ، ولو كان الأثر تهيّؤ

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٧٣.

٣٤

عليه من المثوبة ، وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا إلّا بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره ،

______________________________________________________

المكلّف بالاشتغال ببعض مقدّماته ، نظير الاغتسال في الليل لصوم يوم الغد والتحفّظة بمال الاستطاعة لسفر الحج وإلى غير ذلك.

وقد ذكرنا في بحث الطلب والإرادة أنّ الشوق بأي مرتبة فرض لا يكون إرادة ، إذ قد تتحقّق إرادة الفعل من غير اشتياق إليه أصلا ، فلا نعيد.

وقد يجاب عن المحقّق الاصفهاني قدس‌سره بأنّ للفاعل في موارد الفعل بالمباشرة إرادتين تتعلّق كلّ منهما بمراد ، إذ تعيّن الإرادة للنفس في النفس إنّما يكون بالمراد ، ومع تعدّد المراد لا يعقل وحدة الإرادة ، فإنّ المتعدّد بما هو متعدّد لا يتعلّق به إرادة واحدة ، فالعطشان الذي يريد رفع عطشه أو شرب الماء تكون إرادته متعلّقة برفع عطشه أو شرب الماء ، ومع الالتفات بأنّ شرب الماء (أي إيجاده) لا يكون إلّا بحركة عضلاته تكون حركة عضلاته بإرادة ثانية ، ولو كانت تبعيّة ؛ ومصحّح اختيارية الأفعال هذه الإرادة الثانية ، إذ لو لم تكن حركتها بإرادة ثانية لا يكون الفعل اختياريا ، والإرادة التي لا تنفكّ عن المراد هي هذه الإرادة لا الاولى ، حيث لا يعقل تحقّق الإرادة بالحركة الفعلية من غير تحرّك العضلات فعلا ، وأمّا الإرادة الأولى فيمكن تعلّقها بما يكون أمرا استقباليا ، وهذا ليس من التخصيص في حكم العقل ، بل لأنّ تحقّق حركة العضلات يكشف عن بروز الإرادة للنفس بلا مزاحم ، وأمّا الإرادة الأولى فهي تابعة لكيفيّة تعلّقها ، فإن تعلّقت بالفعل فورا يحصل للنفس إرادة ثانية التي لا تنفك عن حركة العضلات ، وإن تعلّقت بالفعل استقبالا فلا تحصل الإرادة الثانية إلّا مع بقاء الإرادة الأولى إلى وصول زمان الفعل في المستقبل ، ففي ذلك الزمان تحصل الإرادة الثانية ، فالّتي يترتّب عليها حركة العضلات هي الإرادة الثانية المترتّبة

٣٥

فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب ، ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه ، والإطناب إنّما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب.

______________________________________________________

على الإرادة الأولى فيما كان المراد به فعليّا ولو بفعلية القيد الاستقبالي (١).

أقول : ما ذكره قدس‌سره غريب ، وذلك فإنّ تحقّق الإرادتين إنّما يكون فيما لا ينطبق المراد على نفس حركة العضلات ، إذ من أراد شرب الماء وشربه ، فالصادر منه بما هو فعل ليس إلّا عبارة عن تحريك الحلق بنحو ينزل الماء في المعدة ، وعليه فلا تتعلّق مع إرادة شرب الماء إرادة أخرى متعلّقه بحركة الحلق بنحو يزدرد الماء.

نعم تهيئة الماء وإيصاله إلى فضاء الحلق يكون بإرادة أخرى ، حيث إنّ ذلك مقدّمة للشرب ، وهذا غير منكر في كلام المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ، وإنّما الكلام فيما إذا أراد ـ مثلا ـ مصافحة إنسان قد مدّ يده إليه ، فإنّ إرادة مصافحته عبارة أخرى عن تعلّق إرادته بمدّ يده ووضعها في اليد الممدودة إليه ، وليس في البين إرادتان إحداهما تتعلّق بمصافحته ، وأخرى بمدّ يده ووضعها في اليد الممدودة إليه ، وإذا لم يكن في مثل ذلك إرادتان ، فكيف تكون هذه الأفعال اختيارية بناء على ما أسّسه واختاره؟ وكيف تكون إرادتها علّة تامّة لحصول المراد ؛ إذن فلا معنى للقول بتصحيح اختيارية الأفعال بالالتزام بإرادة ثانية متعلّقة بحركة الأعضاء والجوارح ، تابعة للإرادة الأولى المتعلّقة بالمراد بالذات. ومع الإغماض عن ذلك والتسليم بأنّ للفاعل المريد إرادتين تتعلّق إحداهما بالمراد بالذات ، والأخرى بحركة العضلة ، فنقول : كما أنّ الإرادة بالإضافة إلى المراد بالذات تابعة لكيفية تعلّقها ، كذلك الإرادة

__________________

(١) تهذيب الأصول : ١ / ١٨٢.

٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بحركة العضلات ـ بشهادة الوجدان والبرهان ـ تابعة لكيفية تعلّق الإرادة الأولى ، فإن كانت الإرادة الأولى متعلّقه بفعل حالا تتعلّق الإرادة بحركة العضلات أيضا حالّا ، وإن تعلّقت بفعل مستقبلا ، تعلّقت الإرادة بحركة العضلات أيضا مستقبلا بأن يكون الاستقبال قيدا للحركة لا لإرادتها. ودعوى أنّ إرادة حركة العضلات في هذه الموارد لا تحصل من الأوّل وإنّما تحصل عند فعلية القيد الاستقبالي ، خلاف الوجدان وبرهان تبعية الإرادة الثانية.

ثمّ إنّه قد أنكر المحقّق النائيني قدس‌سره الواجب المعلّق والتزم بامتناع فعليّة الوجوب بدون فعليّة أمر يكون من القيد غير الاختياري المأخوذ في الواجب كالزمان ، واوضح ذلك بأنّ الإيجاب يعني الإرادة التشريعية تكون بإزاء الإرادة التكوينية ، وكما لا يصحّ من الإنسان إرادة فعل وعمل فعلا يكون ذلك الفعل مقيّدا بزمان الاستقبال أو أمر استقبالي غير مقدور إلّا بنحو التقدير والتعليق ، كذلك لا يصحّ الأمر به فعلا ، بل يصحّ على نحو الاشتراط والتقدير ، وهذا بخلاف عمل يتوقّف ذلك العمل على تهيئة مقدّمات مقدورة ، ولا يحصل إلّا بعد حصولها ، فإنّه يصحّ من الإنسان إرادة ذلك العمل كإرادة استنباط الأحكام ، حيث يتوقّف الاستنباط على مراجعة الأدلّة والنظر فيها ، فيكون الداعي إلى هذه المقدّمات نفس إرادة الاستنباط ، ففي مثل ذلك يصحّ للآمر الأمر بذلك العمل بلا محذور.

وإن شئت قلت : ما يكون من العمل موقوفا على مقدّمات مقدورة للفاعل ، ففي مثله لا بأس بالأمر فعليّا بذلك العمل وقبل حصول تلك المقدّمات ، فيكون الأمر به داعيا إلى الانبعاث إلى تلك المقدّمات ، وما يكون من العمل موقوفا على حصول أمر غير اختياري ، كالزمان المستقبل والزماني ، ففي مثل ذلك لا يصحّ الأمر

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الفعلي بذلك العمل ، بل يكون الأمر على تقدير مجيء ذلك الزمان أو الزماني كما هو الحال في الواجب المشروط ، وهذا مقتضى لحاظ الإرادة التشريعية بالإضافة إلى الإرادة التكوينية ، حيث لا تكون الإرادة التكوينية في هذا القسم إلّا بنحو التقدير والاشتراط ، فمثلا إرادة شرب الماء موجودة لكلّ ملتفت إلى صلاح شربه عند عطشه ، ولكن هذه الإرادة تقديريّة ، وتكون فعليّة عند فعليّة العطش ، ولو كان في هذا القسم مقدّمة مقدورة بحيث لو لم يأت بها المكلّف قبل فعليّة الإيجاب لما تمكّن منه بعد فعليّة العطش ، يكون إيجاب تلك المقدّمة بأمر نفسي تهيّئي لا بالالتزام بفعلية وجوب ذيها واستقبالية ذلك الواجب ، كما هو ظاهر الفصول (١).

أقول : لا يكون التقدير والتعليق في نفس الإرادة ـ يعني الشوق المؤكّد ـ بأن يكون للشوق وجود تقديري في مقابل وجوده التنجيزي ، بل هو كسائر الأمور الواقعية يتّصف بالوجود تارة وبالعدم أخرى ، وإنّما يكون القيد راجعا إلى المشتاق إليه باعتبار دخله في صلاحه ، بلا فرق بين كون القيد اختياريا أو غير اختياري.

ودعوى أنّه لا يكون للشوق فعليّة مع كون القيد أمرا غير اختياري بخلاف ما إذا كان القيد اختياريا غير تامّة ، فإنّه يكفي في فعليّة الشوق إحراز ذلك القيد في موطنه ، كما إذا أحرز أنّ الأمير يعطيه الجائزة الخطيرة غدا ، فإنّه يصبح باشتياق مفرط لأخذ تلك الجائزة من غير أن ينام في ليلته مهما طالت ، شوقا إليها.

والسرّ في ذلك أنّ الموجب للاشتياق ليس الوجود الخارجي بنفسه ، بل بإحراز حصوله في موطنه ، ويشهد لعدم الفرق بين كون القيد اختياريا أو غير اختياري أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ١٣٧.

٣٨

وربّما أشكل على المعلّق أيضا ، بعدم القدرة على المكلّف به في حال البعث [١] ، مع أنّها من الشرائط العامة.

______________________________________________________

الاشتياق إلى شرب الماء عند عطشه لا يوجب جعل نفسه عطشانا أو قطع المسافة ..

نعم لو كانت الإرادة هي الاختيار بمعنى إعمال النفس قدرتها في أحد طرفي الشيء ، فهذا لا يتعلّق بغير المقدور والمتأخر ، كما تقدّم التفصيل في بحث الطلب والإرادة.

وذكرنا أنّ الحاصل في المتأخّر القصد والبناء وأنّ صرف المولى قدرته يكون على فعله وهو إنشاء البعث والطلب ، والبعث والطلب بما أنّه أمر اعتباري لا يحتاج في تحقّقه إلى حصول القيد خارجا ، فيمكن للمولى لحاظ ذلك القيد في ناحية المتعلّق ، لا في ناحية نفس البعث ، فيكون واجبا معلّقا ، كما يمكن أن يلاحظ قيدا لنفس البعث ، فيكون واجبا مشروطا.

والحاصل لو كان المراد بالإرادة التشريعية البعث الاعتباري ، فهذا لا يقاس بالإرادة التكوينية ، وعلى تقدير القياس فالإرادة التكوينية أيضا ـ بمعنى الشوق والميل والبناء قلبا ـ تتعلّق بفعل استقبالي مع إحراز حصول قيدها في موطنه ، ولو كان المراد بالإرادة الاختيار وإعمال القدرة ، فصرف المولى قدرته يكون بفعله ، وهو إنشاء البعث لا بفعل العبد ، على ما تقدّم.

[١] وقد يقال : إنّ ما ذكره في الفصول من كون غير الاختياري قيدا للواجب ، وكون الوجوب بالإضافة إليه مطلقا ، غير صحيح ، بل الواجب المعلّق بعينه هو الواجب المشروط بنحو الشرط المتأخّر ، بحيث لو لم يحصل ذلك القيد غير الاختياري في موطنه أو لم يحصل التمكّن على الفعل في ذلك الظرف لما كان وجوب من الأوّل ، فيكون الوجوب من الاوّل مشروطا بحصول ذلك القيد غير

٣٩

وفيه : إنّ الشرط إنّما هو القدرة على الواجب في زمانه ، لا في زمان الإيجاب والتكليف ، غاية الأمر يكون من باب الشرط المتأخر ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّه كالمقارن ، من غير انخرام للقاعدة العقلية أصلا ، فراجع.

______________________________________________________

الاختياري في موطنه ، كما تقدّم بحث الواجب المشروط.

ودعى صاحب الفصول قدس‌سره إلى تصحيح الواجب المعلق تصحيح وجوب الإتيان ببعض مقدّمات الواجب قبل حصول ظرف نفس الواجب ، يترتّب على الوجوب المعلّق بذلك الفعل بنحو المشروط بالشرط المتأخّر أيضا ، فلا موجب لتصحيح وجوب الإتيان ببعض مقدّمات الواجب قبل وقت ذلك الواجب إلى الالتزام بالواجب المعلّق ، بل ما سمّاه واجبا معلقا فهو في الواقع من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر.

ويظهر من الماتن قدس‌سره في الجواب عن الإشكال الذي تعرّض له في المتن بقوله : «وربّما أشكل على المعلّق أيضا بعدم القدرة ... الخ» (١) أنّ في موارد الواجب المعلّق تكون القدرة على الفعل شرطا للتكليف بنحو الشرط المتأخّر ، ولكن نفس القيد غير الاختياري المتأخّر كالزمان لا يكون قيدا لنفس التكليف ، ولو بنحو الشرط المتأخّر ، بل ذلك القيد قيد للواجب فقط ، وبهذا يفترق الواجب المشروط بالشرط المتأخّر عن الواجب المعلّق ، فإنّه لو كان نفس القيد غير الاختياري قيدا للتكليف بنحو الشرط المتأخّر لكان الواجب من قبيل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر وأمّا إذا كان القيد المزبور قيدا للواجب فقط ولم يكن في ناحية الوجوب إلّا الاشتراط بالقدرة على ذلك الفعل في ظرفه فهو من الواجب المعلّق.

__________________

(١) الكفاية : ص ١٠٣.

٤٠