دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-61-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

صيام شهر رمضان وتمكّن من صيام نصفه مثلا ، فانّ هذا ليس من موارد التزاحم بل عليه ما على سائر المكلفين من الصيام فى النصف الأوّل من الشهر لتعلّق التكليف المستقلّ بصوم كل يوم ، ومع تمكنه من صيام النصف الأوّل يجب عليه الصيام فيه ولو عصى وترك الصيام فيه يثبت التكليف بالإضافة إلى أيام النصف الثاني أيضا لا من جهة التّرتب بل لثبوت الموضوع للتكليف بصيام تلك الأيام وجدانا حتى عند القائلين بامتناع الترتب.

وما عن الماتن قدس‌سره بعد التزامه بامتناع ثبوت الأمرين بالضدين في زمان واحد من حمل ما وقع من طلب الضدين على ذلك كما ترى حيث قال قدس‌سره :

«إن قلت فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات.

قلت : لا يخلو إمّا ان يكون الأمر بغير الأهم بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة وإمّا أن يكون الأمر به إرشادا إلى محبوبيّته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة وأنّ الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بعض ما استحقّه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم لا أنّه أمر مولوىّ فعلي كالأمر به فافهم وتأمّل جيدا» (١).

أقول : قد ذكرنا انّ في بعض موارد التزاحم بين التكليفين يسقط الأمر بالمهم أيضا بسقوط الأمر بالأهم ، كما مثّلنا لذلك بوجوب صلاة العصر وصلاة الآيات فيما إذا حصل الكسوف للشمس قبل غروبها بزمان لا يكفي إلّا لإحدى الصلاتين ، فانّه تقدّم صلاة العصر لكونها أهم أو محتمل الأهمية وإذا انقضى وقتها يسقط وجوب

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٥.

٢٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

صلاة الآيات أيضا لحصول الانجلاء بغروبها مثلا ، وفي مثل ذلك لا مورد للقول بوجوب المهم بعد سقوط الأمر بالأهم ، كما لا مورد للأمر الإرشادي أيضا ، لأنّه ليس في البين إلّا خطاب الأمر بصلاة الآيات عند كسوف الشمس قبل انجلائها وليس لهذا الخطاب إطلاق بالنسبة إلى ما بعد الانجلاء حتى يشمل مورد التزاحم كما هو المفروض في الترتب فكيف يلتزم ببقاء صلاة الآيات على ملاكها الذي كان ، لو لا المزاحمة.

وبالجملة ، ما ذكرنا في مسألة عدم التمكن إلّا من صيام نصف شهر رمضان خارج عن موضوع التزاحم بين التكليفين ، نعم يعاقب المكلّف على ترك صيام النصف الأوّل فيما إذا صام النصف الثاني ويعاقب على ترك صيام كل شهر رمضان على تقدير تركه الصوم في النصف الثاني أيضا ، وهذا الأمر مما لا بدّ أن يلتزم الماتن قدس‌سره به أيضا وإذا التزم بالعقاب كذلك في الفرض فلا فرق بين ذلك وبين الالتزام بتعدّد العقاب في موارد التزاحم والقول بالترتّب بين التكليفين ، لأنّ أحد العقابين على ترك الاهم والعقاب الآخر على الجمع بين تركه وترك المهمّ حيث كان يمكن للمكلف على تقدير ترك الأهم أنّ لا يجمع بين تركهما باتيان المهمّ ، فلا يكون العقاب على تركهما قبيحا لأنّه ليس عقابا على ما لا يقدر ، كما لا يكون أيضا قبيحا في فرض ترك الصوم في جميع أيّام الشهر في المثال ، وبالجملة فمثل فرض القدرة على صيام بعض أيام شهر رمضان خارج عن باب تزاحم التكليفين.

وكذلك لا يكون التكليفان من المتزاحمين فيما إذا كانا في زمان واحد ولكن كان أحد الواجبين مشروطا بوقوعه بعد الواجب الآخر ، كما في المستحاضة التي يجب عليها الوضوء لكل صلاة وإذا زالت الشمس وجب عليها الظهران معا ، ولكن

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

صلاة العصر ـ كما في سائر المكلفين ـ مشروطة بوقوعها بعد صلاة الظهر ومع فرض أنّها لا تتمكن من الوضوء إلّا لإحدى الصلاتين ـ الظهر أو العصر ـ فلا بدّ من أنّ تقع الأخرى مع التيمم لقلة الماء ، فتجب عليها صلاة الظهر مع الوضوء وصلاة العصر مع التيمم بلا تزاحم بين التكليفين أصلا فانّه على تقدير الوضوء للظهر تكون فاقدة الماء للعصر فلا تجب إلّا مع التيمم ، وعلى تقدير التيمم لصلاة الظهر يحكم ببطلان صلاة عصرها بالوضوء أو مع التيمم لعدم حصول شرط صلاة العصر وهو ترتّبها على الظهر الصحيحة.

وبتعبير آخر المستحاضة المزبورة لتمكّنها من صلاة الظهر مع الوضوء يجب في حقها صلاة الظهر معه ولعدم تمكّنها من صلاة العصر إلّا مع الطهارة الترابيّة يجب عليها العصر مع التيمم ، فثبوت أحد التكليفين لثبوت موضوعه ، وعدم ثبوت الآخر لفقد موضوعه ليس من باب تقديم أحد المتزاحمين على الآخر.

وما عن المحقق النائيني قدس‌سره من كون المقام من التزاحم بين التكليفين ولكن لا يجرى فيهما الترتب (١) ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه إذ لا تزاحم بينهما أصلا ، فإنّ التكليف بصلاة العصر مع الوضوء ينتفي بثبوت التكليف بصلاة الظهر مع الوضوء وأمّا التكليف بصلاة العصر مع التيمّم فلا يزاحم التكليف بالظهر مع الوضوء لتمكّن المكلف من الجمع بينهما في الامتثال.

نعم يدخل في المتزاحمين ـ مع عدم جريان الترتب فيهما ـ التكليفان المتوقف موافقة أحدهما على مخالفة التكليف الآخر كما إذا توقف إنقاذ الغريق أو إطفاء

__________________

(١) أجود التقريرات : ٣١٨.

٢٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الحريق على الدخول في ملك الغير بلا رضا صاحبه ، وفي مثل ذلك إذا كان التكليف بوجوب الانقاذ أو الاطفاء أهمّ من حرمة الدخول في ملك الغير بلا رضاه وقلنا بوجوب المقدمة ، يجب رعاية التكليف الأهمّ ولكن لا يمكن الالتزام بالترتّب فيه والقول بتوقف تحريم الدخول فيه على تقدير عصيان الأمر بالأهم ولو بنحو الشرط المتأخر كما التزم به المحقق النائيني قدس‌سره (١) لما تقدم في بحث وجوب المقدمة من أنّ الترتب لا يصحح محذور التكليف المحال وانّما يرتفع به محذور التكليف بالمحال يعني طلب الجمع بين الضدين وأمّا ثبوت الوجوب الغيري بفعل مطلقا والحرمة النفسيّة لذلك الفعل ولو على تقدير غير ممكن لأنّه من التكليف المحال.

نعم لو قيل بعدم وجوب المقدمة أصلا أو قيل بوجوب خصوص المقدمة الموصلة فيمكن القول بتحريم تلك المقدمة في فرض عدم تحقق الواجب الأهم ، ويرفع اليد عن حرمة تلك المقدمة عند الاضطرار إلى ارتكابه في فرض حصول ذي المقدمة.

لا يقال : القائل بوجوب ذات المقدمة إنّما يلتزم به مع عدم المانع عن ايجاب المقدمة مطلقا ، وأمّا إذا كان في البين مانع عن ايجابها مطلقا كما في فرض ثبوت الحرمة النفسية للمقدمة لو لا توقف الواجب الأهم على ارتكابها فيلتزم بأنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدمة مشروط بحصول ذيها بنحو الشرط المتأخر وحرمتها على تقدير عدم حصول ذيها.

فانّه يقال : قد تقدم عدم امكان تعليق وجوب المقدمة غيريّا على حصول ذيها

__________________

(١) أجود التقريرات : ٣٢٠.

٢٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بأن يكون حصول ذيها من قيود نفس الوجوب الغيري لا قيدا للواجب الغيري كما التزم به صاحب الفصول قدس‌سره فان اشتراط نفس الوجوب الغيري بحصول ذيها ولو فيما بعد ، من قبيل الأمر بالمقدمة في فرض حصولها ، وهو داخل في طلب الحاصل كما لا يخفى.

التزاحم بين وجوبات الأجزاء والشرائط

التنبيه الثاني : أنّه لا تزاحم في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بين الجزءين أو الشرطين أو بين الجزء والشرط لواجب ، كما إذا دار أمر المكلف بين صرف الماء في تطهير بدنه أو وضوئه ، فانّ شيئا من هذه الموارد لا يدخل في باب التزاحم بين التكليفين ، وبتعبير آخر ينحصر التزاحم بين التكليفين بما إذا كان التكليفان نفسيّين ، وأمّا التكليف الغيري فلا يدخل في مورد التزاحم فانّه في هذه الموارد لو لم يكن في ناحية دليل أحد الجزءين أو الشرطين إطلاق أو عموم وكان في ناحية دليل الآخر عموم أو إطلاق فيؤخذ بما في ناحيته الإطلاق والعموم ويثبت به عدم اعتبار الآخر في هذه الحال.

وإن كان لدليل اعتبار كل منهما عموم أو إطلاق فيدخل الفرض في مبحث تعارض الدليلين لا في تزاحم التكليفين ، إذ القاعدة في مثله تقتضي سقوط التكليف بالواجب النفسي رأسا لأنّ التكليف بشيء ، مشروط بالتمكّن منه بتمام شروطه وأجزائه والمفروض انتفاء التمكّن كذلك فينتفي التكليف به ، ولكن إذا علم عدم سقوط التكليف بذلك الواجب بمجرّد تعذّر جزئه أو شرطه كما في الصلاة تقع المعارضة بين ما دلّ على اعتبار كل من الجزءين ، أو الشرطين ، أو الجزء والشرط

٢٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المفروض تعذر الجمع بينهما ومع عدم المرجح لدليل أحدهما كما إذا كان دلالة دليل اعتبار كل منهما بالإطلاق أو بالعموم يكون المرجع الأصول العملية ومقتضاها البراءة عن اعتبار كل منهما بخصوصه بعد العلم اجمالا بعدم جواز تركهما معا كما هو المقرّر في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فتكون النتيجة تخيير المكلف بين الإتيان بالواجب بذلك القيد أو بالآخر. نعم لو كانت الدلالة في ناحية أحدهما بالإطلاق وفي ناحية الآخر بالعموم فيؤخذ بمقتضى العموم ، بناء على انتفاء الإطلاق مع قيام العامّ الوضعي على خلافه ، نظير ما إذا كان دليل اعتبار أحدهما مبيّنا واضح الدلالة وكان خطاب الآخر مجملا أو مهملا فيؤخذ بدلالة الخطاب اللفظي المبيّن ويترك المجمل.

ثمّ إنّ هذا كله فيما إذا لم يكن في البين دلالة على تعيين الساقط وإلّا فيؤخذ بمقتضاه كما إذا لم يتمكن من القيام في تمام ركعات الصلاة وتمكّن منه في بعضها بأن دار الأمر بين رعاية القيام في الركعتين الأوليين أو الأخيرتين فانّه يجب رعايته في الأوليين لقوله عليه‌السلام في صحيحة جميل (١) «إذا قوى فليقم». وكما إذا دار أمر المكلّف بين الإتيان بتمام الصلاة في وقتها مع الطهارة الترابية أو الإتيان بركعة أو أكثر في الوقت مع الطهارة المائية ، فانّه يتعيّن عليه الصلاة في الوقت مع الطهارة الترابيّة لدلالة الآية المباركة (٢) ولا أقل من دلالة صحيحة زرارة (٣) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمّم

__________________

(١) الوسائل : ج ٤ ، باب ٦ من أبواب القيام ، الحديث ٣.

(٢) سورة المائدة : الآية ٦.

(٣) الوسائل : ج ٢ ، باب ١ من أبواب التيمم ، الحديث ١.

٢٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وليصل» ، فانّ ظاهرها خوف فوت الوقت عن كلّها فتقدّم الصلاة الواقعة بتمامها في الوقت مع الطهارة الترابية دون الواقعة بعضها فيه مع الطهارة المائية نظير ما تقدم في النهي عن التخلي إلى القبلة من ظهور القبلة في القبلة الاختيارية.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه في دوران الأمر بين صرف الماء للوضوء أو الغسل لصلاته وبين صرفه في تطهير ثوبه أو بدنه ، تجري أحكام التعارض ولا يجري حكم التزاحم بين التكليفين وأنّه ليس من صغريات باب التزاحم ليقال إنّه يقدم تطهير الثوب والبدن بدعوى أنّه يقدم في باب التزاحم ما ليس له بدل على ما له البدل ، مع أنّ المقام لو كان من التزاحم لكان كلا المتزاحمين ذا بدل إذ الصلاة بالتيمم كما أنّها بدل عن الصلاة بالوضوء أو الغسل كذلك الصلاة في ثوب نجس أو مع بدن نجس بالوضوء بدل عن الصلاة الاختيارية فلا موجب لتقديم احداهما على الأخرى ، إلّا أنّ الأحوط صرف الماء في تطهير الثوب أو البدن أوّلا ويتحقق بذلك كونه فاقد الماء فيصح تيمّمه جزما.

نعم يدخل في باب التزاحم ما إذا كان المسجد نجسا ودار أمره بين أن يصرف الماء في تطهيره ويتيمّم لصلاته أو يتوضأ أو يغتسل لصلاته حيث إنّه يقدم تطهير المسجد لأنّه ليس له بدل بخلاف الصلاة مع الوضوء أو الغسل فانّ الصلاة بالتيمم بدل لها.

ولا يخفى أنّ الوجه في تقديم ما ليس له بدل في مقام المزاحمة على ما له بدل هو أنّ هذا التقديم مقتضى الجمع بين التكليفين في الامتثال وهذا الوجه لا بأس به فيما إذا لم يحرز كون المبدل منه بملاكه أقوى من ملاك البدل والواجب الآخر.

التنبيه الثالث : قد ظهر ممّا ذكرنا في ميزان التزاحم بين التكليفين أنّه لا تزاحم

٢٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

في موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كان التركيب بين عنواني الواجب والحرام اتحاديا حيث يأتي في مسألة جواز الاجتماع وعدمه أنّه لا يمكن في موارد التركيب الاتحادي ثبوت كلا الحكمين في المجمع وانّ الممكن ثبوت أحدهما ، وعليه يكون خطاب الأمر مع خطاب النهي من المتعارضين في ذلك المجمع وأنّه يقدم خطاب النهي مع عدم الموجب لسقوط النهي فيه كالاضطرار لا بسوء الاختيار أو الغفلة وإلّا يؤخذ بإطلاق الأمر بالطبيعي فيه بلا فرق بين صورة وجود المندوحة وعدمها ولا يمكن الأمر والترخيص في المجمع بنحو الترتّب لما تقدّم من أنّ الترتب لا يصحح التكليف المحال ، ولا يكون من باب التزاحم أيضا فيما إذا كان التركيب بين العنوان المحرم والعنوان الواجب انضماميّا مع وجود المندوحة في البين ، كما لا يكون بين خطابيهما تعارض لثبوت كلا التكليفين وتمكّن المكلف من الجمع بينهما في الامتثال بعد الفراغ عن جعلهما.

نعم يثبت التزاحم بينهما في فرض عدم المندوحة كما إذا لم يتمكن المكلف من الوضوء لصلاته إلّا في مكان يصبّ فيه غسالة الوضوء في ملك الغير بلا رضا صاحبه وفي مثله تنتقل الوظيفة إلى التيمم لأنّ الأمر بالصلاة مع الوضوء لها بدل ، بخلاف حرمة التصرف في ملك الغير ، ولكن يمكن تصحيح الوضوء بالأمر به على نحو الترتّب على مخالفة التكليف بترك الغصب بأن يجب الوضوء على تقدير صب المكلف غسالة ذلك الماء في ملك الغير حيث إنّ صبّ ذلك الماء في الفرض من قبيل اللازم الأعم للوضوء فيمكن صبّه من غير أن يتوضأ فلا يكون الأمر بالوضوء على تقدير العصيان بصبّه من طلب الحاصل ، ولا من التكليف المحال لأنّ العنوان المحرّم لا ينطبق على نفس الوضوء كما لا يخفى ، وكذا فيما كان ظرف الماء مغصوبا

٢٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوقف الوضوء على الاغتراف منه تدريجا.

نعم في موارد كون التركيب في المجمع اتحاديّا كالوضوء بالماء المغصوب والسجود في مكان مغصوب أو كان التركيب بين العنوانين انضماميّا وقيل بامتناع الاجتماع حتى في موارد هذا التركيب لسراية الحكم من متعلّق أحدهما إلى الآخر فيدخل الفرض في مورد تعارض الخطابين للعلم بعدم ثبوت كلا الحكمين في المجمع واقعا بلا فرق بين صورة المندوحة وعدمها ويأتي في باب جواز الاجتماع أنّ مقتضى الجمع العرفي بين خطابي الأمر والنهي في موارد امتناع الاجتماع تقديم خطاب النهي وتقييد متعلق الأمر في خطاب الامر بغير المجمع.

التنبيه الرابع : قد ذكر من مرجحات باب التزاحم كون زمان امتثال أحد التكليفين مقدما على زمان امتثال التكليف الآخر كما إذا نذر صوم يوم الخميس والجمعة على سبيل الانحلال لا بنحو العام المجموعي ولم يتمكن من صيامهما معا وكان متمكنا على صوم يوم واحد ففي هذه الصورة يتعيّن عليه صوم يوم الخميس ، حيث إنّ ترك الصوم فيه ترك للمنذور مع التمكن من امتثاله ومع الصوم فيه يرتفع التكليف بالإضافة إلى صوم يوم الجمعة لعدم القدرة على المنذور فلا يكون في البين حنث ، بخلاف ما إذا ترك الصوم فيه وصام يوم الجمعة حيث يتحقق الحنث بترك الصوم يوم الخميس لأنّه ترك المنذور فيه مع التمكن على الإتيان به ، ويقال من هذا الباب ما إذا لم يتمكن المكلّف على صيام جميع أيام شهر رمضان وتمكّن من صيام نصف الشهر مثلا ، فانّه يتعيّن عليه صيام النصف الأوّل وإذا ترك الصيام فيه يكون من مخالفة التكليف بلا عذر ، بخلاف ما إذا صام ذلك النصف فيكون ترك الصوم في النصف الثاني من باب عدم تكليفه بالصوم لعدم قدرته عليه ولا محذور فيه.

٢٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : كون الفرض مثالا لتعيّن امتثال الأسبق في الامتثال مبني على تعلّق التكليف بصيام أيّام الشهر من ابتداء الشهر وأمّا بناء على كون وجوب صوم كل يوم تكليفا مستقلا يحدث من الليل أو عند طلوع فجر ذلك اليوم فلا يكون المثال داخلا في المتزاحمين حيث إنّ المكلف في كل يوم من أيام النصف الأول مكلف بصوم ذلك اليوم ولا تكليف آخر في حقّه ، نعم لو عصى وترك الصوم في أيام النصف الأوّل يكون مكلّفا بالصوم في أيّام النصف الثاني وهذا أمر يلتزم به القائل بالترتّب وعدمه وقد تقدم أنّه لو ترك الصوم في أيّام النصف الثاني أيضا استحق عقاب ترك الصوم في جميع أيام الشهر.

ثمّ إنّ تقديم ما يكون ظرف امتثاله مقدّما على ظرف امتثال الآخر إنّما هو فيما إذا لم يحرز أهميّة التكليف الآخر الذي يجب على المكلّف حفظ القدرة له وإلّا لم يكن له تكليف بالسابق حتى بنحو الترتب حيث إنّ الأمر بحفظ القدرة للواجب الأهم المتأخر زمان امتثاله أو تكليفه ، لا يجتمع مع الأمر بالسابق حيث ينطبق على الإتيان بالسابق عنوان ترك حفظ القدرة على اللاحق الأهمّ ، ولا يمكن الأمر بحفظ القدرة على الواجب الأهم مع الأمر بتركه ولو على نحو الترتّب فانّ الترتّب لا يصحّح التكليف المحال ، وعليه لو كان عند المكلف ماء قليل يكون صرفه على وضوئه أو غسله موجبا لايقاع نفسه في الهلاكة فيما بعد لعروض العطش الشديد مثلا ، يكون وضوئه محكوما بالبطلان ولا يمكن تصحيحه بالأمر بالصلاة مع الوضوء حتى بنحو الترتب كما لا يخفى حيث ينطبق على الوضوء ترك التحفظ على النفس الّذي هو القائها في الهلكة.

التنبيه الخامس : ذكر المحقّق النائيني قدس‌سره للمتزاحمين مرجحا آخر وهو أنّه إذا

٢٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

كانت القدرة المأخوذة في ناحية أحد التكليفين شرعية وفي ناحية التكليف الآخر عقليّة يقدّم ما يكون اعتبارها في ناحيته عقليا وذلك لتمامية الملاك في ناحية ذلك الواجب بخلاف المأخوذ في ناحيته القدرة الشرعية فانّه يرتفع وجوبه لعدم الموضوع له مع التكليف الآخر (١).

أقول : إن أريد من القدرة الشرعيّة في وجوب فعل ، عدم اشتغال ذمّة المكلف بتكليف آخر لا يجتمع امتثاله مع الإتيان بذلك الفعل فالتكليف الذي لم يؤخذ القدرة الشرعيّة في موضوعه وإن كان مقدّما إلّا أنّ تقديمه ليس من جهة الترجيح في مقام التزاحم بل لأنّ الخطاب الدالّ على التكليف المزبور يكون واردا على التكليف الذي أخذت القدرة الشرعية في موضوعه وورود دليل أحد التكليفين على دليل التكليف المستفاد من خطاب آخر غير عزيز.

ومن هذا القبيل ما لو آجرت المرأة نفسها للصوم عن الميّت ثم تزوّجت فلا يجوز لها ترك العمل بالإجارة وإجابة زوجها عند طلبه التمكين منها ، لأنّ ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقد وأداء ما عليها من الفعل المملوك في عهدتها للغير ، يكون واردا على خطاب وجوب الإطاعة لزوجها ، نعم الورود يختص بما دام كونها صائمة في اليوم أو مكلفة بصوم ذلك اليوم حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ولو تركت الصوم الواجب عليها في يوم بحيث فات صوم ذلك اليوم وجب عليها إجابة زوجها لسقوط الأمر بالوفاء بالإجارة بالإضافة إلى ذلك اليوم.

وبالجملة فمع أحد التكليفين يرتفع موضوع التكليف الآخر وهذا ليس من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٧٢.

٢٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

التزاحم بل مورد التزاحم ما لا يمكن الجمع بين امتثال التكليفين مع ثبوت الموضوع لكل منهما.

والظاهر أنّه من هذا القبيل ورود خطاب وجوب الحج على خطاب وجوب الوفاء بالنذر ونحوه فيما إذا نذر زيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ثمّ حصل له مال يفي بمصارف الحجّ في تلك السنة مع تمكّنه من الخروج له حيث يكون خطاب وجوب الحجّ عند حصول المال رافعا لموضوع وجوب الوفاء بالنذر كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام ؛ في بعض روايات اليمين «إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها» (١) وفي بعض روايات النذر «كل ما كان لك فيه منفعة في دين أو دنيا فلا حنث عليك فيه» (٢).

والمتحصل أنّ المعتبر في انعقاد النذر عدم اشتغال الذمة بواجب آخر في ظرف الوفاء بالنذر ، نعم إذا ترك الخروج إلى الحج بحيث لا يمكن الخروج إليه ولكن امكن الخروج إلى زيارة الحسين عليه‌السلام في عرفة فلا بأس بالالتزام بوجوب الوفاء بالنذر.

وإن أريد بالقدرة الشرعية ما يرادف التمكن العقلي بحيث لا يكون التكليف معها من تكليف العاجز فمع أخذ هذه القدرة في خطاب أحد التكليفين يكون ذلك التكليف مع الآخر الذي لم تؤخذ هذه القدرة في ناحية الموضوع في خطابه من المتزاحمين ، ولكن لا موجب لتقديم الثاني على الأول في مقام الامتثال لأنّ تمامية الملاك لا يختصّ بأحد التكليفين فلا بدّ في الترجيح من التماس مرجح آخر.

وإن أريد من القدرة الشرعية ما تقدم سابقا ـ من اعتبار القدرة الفعلية بحيث

__________________

(١) الوسائل : ١٦ / ١٤٥ ، باب ١٨ من كتاب الإيمان ، الحديث ١.

(٢) الوسائل : ١٦ / ١٩٩ ، باب ١٧ من كتاب النذر والعهد ، الحديث ١.

٢٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يكون حدوث هذه القدرة وبقائها معتبرا في حدوث التكليف وبقائه ، بخلاف التكليف الآخر الّذي تكون القدرة المعتبرة في ناحيته هو عدم لزوم تكليف العاجز بحيث يكون تحقيق القدرة الفعلية كاف في تنجّز ذلك التكليف ـ فلا يبعد أن يقال بتقديم امتثاله على التكليف الآخر فإنّ مع تقديمه يكون ارتفاع التكليف الآخر بارتفاع موضوعه بخلاف تقديم ما اعتبر فيه القدرة الشرعيّة فإنّ في تقديمه تفويتا للملاك اللازم استيفائه كما لا يخفى.

ثمّ ذكر المحقق النائيني قدس‌سره للمتزاحمين مرجحا آخر أيضا وهو ـ فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في كل من الواجبين شرعية ـ الأسبق حدوثا فيقدّم من التكليفين ما يكون حدوثه قبل حدوث التكليف الآخر ولو لم يكن زمان الإتيان بمتعلّقه مقدما على الثاني لأنّ حدوث أحد التكليفين قبل الآخر يكون بفعلية موضوعه قبل فعلية موضوع الآخر ومع فعليّة موضوع الأوّل لا يكون لموضوع الآخر فعليّة لعدم القدرة عليه ، وبتعبير آخر تكون فعليّة الموضوع لأحدهما أوّلا رافعة لفعلية الموضوع للآخر ، كما إذا نذر أنّه لو وصل إليه خبر حياة ابنه الغائب فلله عليه حجّ البيت في تلك السنة ، ونذر أيضا بعد ذلك بمناسبة مرض ولده الآخر أنّه لو برء من مرضه فلله عليه زيارة الحسين عليه‌السلام في يوم عرفة من هذه السنة فلو فرض أنّ ولده برء من مرضه ثم جاء خبر حياة ولده بعد أيّام فانّه يجب عليه الخروج إلى زيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة لفعلية وجوبها من حين برء ولده ومعه لا يبقى لوجوب الحج المنذور موضوع (١).

أقول : الحكم في المثال الذي ذكره صحيح فانّ المعتبر في وجوب الوفاء بالنذر

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٧٣.

٢٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

كما تقدم أن لا تشتغل عهدة المكلف بتكليف آخر لا يمكن الجمع بينهما ، وعليه فعند وصول خبر حياة ابنه الغائب كانت عهدته مشغولة بزيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة فينحلّ نذر حج البيت الحرام في تلك السنة ، ولكن هذا لا يدخل في باب التزاحم لعدم فعلية أحد التكليفين مع فعلية التكليف الآخر ، نعم إذا تحقّق الشرطان في زمان واحد يكون التكليفان من المتزاحمين ، وفي تعيّن صرف القدرة على ما كان نذره سابقا على النذر الآخر وجه.

وأمّا القدرة الشرعيّة بمعنى أخذها في خطاب التكليف التي لا تزيد على القدرة العقلية المعتبرة في التكليف بحكم العقل أو القدرة الشرعية التي ذكرناها (١) بالمعنى الثالث ففعلية أحد التكليفين أوّلا لا تمنع عن فعلية التكليف الآخر لاحقا وبعد ذلك وفي مثله لا موجب لتقديم التكليف الذي كان فعليّته قبل الآخر إذا لم يكن زمان امتثاله مقدّما أو لم يحرز أهميّته أو كونه محتمل الأهمية.

فقد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ ما يدخل في التكليفين المتزاحمين يتعيّن فيهما صرف القدرة على ما كان ظرف امتثاله مقدما أو كان محرز الأهمية أو محتملها ، لعدم إحراز التقييد في محتمل الأهميّة بخلاف التكليف الآخر الذي لا يحتمل في ناحيته الأهميّة فانّه مشروط قطعا بعدم صرف القدرة في تكليف آخر أهم.

كما أنّه إذا كان امتثال أحدهما سابقا أو محرز الأهميّة يكون التقييد واردا في الخطاب الآخر على ما تقدم في تصحيح الترتّب.

وإذا كان المتزاحمان سيّان في الأهميّة وعدمها يرد التقييد على الإطلاق في

__________________

(١) مرّ ذكرها في ص ٦٩.

٢٣٤

ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب ، بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين [١] ، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ولذا كان سيدنا الأستاذ قدس‌سره لا يلتزم به ـ على ما هو ببالي ـ وكنا نورد به على الترتب ، وكان بصدد تصحيحه ، فقد ظهر أنه لا وجه لصحة العبادة ، مع مضادتها لما هو أهم منها ، إلّا ملاك الأمر.

نعم فيما إذا كانت موسعة ، وكانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت ، لا في تمامه [٢] ، يمكن أن يقال : إنه حيث كان الأمر بها على حاله ، وإن صارت مضيقة

______________________________________________________

ناحية كل منهما كما ذكرناه في الترتب المكرّر أي الترتب في كلا المتزاحمين.

[١] أقول قد تقدم أنّه لا محذور في الالتزام بتعدّد العقاب ولا يكون تعدّده من العقاب على ما لا يكون بالاختيار ، فانّ أحد العقابين على ترك الأهم أو الأسبق في ظرف امتثاله ، والعقاب الآخر على ضمّ ترك المهمّ إلى ترك الأهم ، أو ضمّ المتأخّر زمان امتثاله إلى ما هو متقدّم زمان امتثاله ، بل فيما إذا كانا متساويين في الأهمية وعدمها أو كانت الأهمية محتملة في ناحية كل منهما يمكن الالتزام باستحقاق العقابين لمخالفة كل من التكليفين مع فرض الفعلية لكل منهما ، حيث لو كان ممثلا لأحدهما لما كان في البين مخالفة أصلا ، لامتثال أحدهما وسقوط الفعلية عن التكليف الآخر مع الامتثال المزبور ، وذكرنا أنّه لو كان استحقاق العقاب المتعدد محذورا للقول بالترتب لما كان عدم الالتزام بالترتب موجبا لعدم الابتلاء بالمحذور المزبور إذ على الماتن قدس‌سره أيضا الالتزام بتعدّد العقاب بعدد أيام شهر رمضان فيما إذا لم يكن المكلف متمكنا إلّا على صيام نصف شهر رمضان ولم يصم النصف الأوّل ولا النصف الثاني فلا نعيد.

[٢] هذا استدراك عمّا ذكره في الجواب عن السؤال فيما وقع في العرفيات من

٢٣٥

بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها ، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الأمر ، فإنه وإن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها ، إلّا أنه لما كان وافيا بغرضها كالباقي تحتها ، كان عقلا مثله في الإتيان به في مقام الامتثال ، والإتيان به بداعي ذاك الأمر ، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا.

______________________________________________________

طلب الضدين على نحو الترتب حيث حمل طلبهما على أحد الوجهين إمّا أن يكون تعلّق الأمر بالثاني بعد سقوط الأمر بالأوّل وإمّا أن يكون الأمر بالثاني ـ في صورة ترك امتثال التكليف بالأوّل ـ إرشادا إلى محبوبيته ، وحاصل الوجهين المنع عن اجتماع أمرين مولويين بالضدين في زمان واحد.

والاستدراك هو أنّه لا بأس باجتماع الأمرين فيما إذا كانت العبادة التي ضد للواجب الأهم من قبيل الواجب الموسع حيث يمكن الأمر بالموسع عند الأمر بالمضيق الأهم ، غاية الأمر يوجب التضاد خروج الفرد المزاحم من الموسع ، للواجب الأهم عن متعلق الأمر بالموسع ولكن مع خروجه عنه يمكن الإتيان به اطاعة للأمر بالموسع فانّ الأمر بالموسع وإن كان لا يدعوا إلّا إلى متعلّقه ومتعلّقه ـ بلحاظ الأمر لا يعمّ الفرد المزاحم للواجب الاهم إلّا أنّ الفرد المزاحم بما أنّه كالفرد غير المزاحم في واجديّته لملاك العبادة فيمكن للمكلّف الإتيان به في مقام امتثال الأمر بالموسع فانّه لا يرى العقل تفاوتا في مقام الامتثال بين الفردين إذ خروج الفرد المزاحم عن متعلق الأمر بالموسع ليس للتخصيص ـ يعني فقد الملاك ـ بل للمزاحمة بينه وبين الواجب الأهم.

أقول : قد تقدم (١) أنّه لا مزاحمة بين الواجب الموسّع والواجب المضيق حيث إنّ الطلب في ناحية الموسّع كما لا يتعلّق بالأفراد التي لا تزاحم الواجب المضيق

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١٩٤.

٢٣٦

ودعوى أن الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالأهم ، وإن كان من أفراد الطبيعة ، لكنه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها ، فاسدة ، فإنه إنما يوجب ذلك ، إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة ، فإنه معها وإن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها ، إلّا أنه ليس لقصور فيه ، بل لعدم إمكان تعلق الأمر بما تعمه عقلا ، وعلى كل حال ، فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها ، بين هذا الفرد وسائر الأفراد أصلا.

هذا على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع.

وأما بناء على تعلقها بالأفراد فكذلك ، وإن كان جريانه عليه أخفى ، كما لا يخفى ، فتأمل.

______________________________________________________

كذلك لا يتعلّق بالأفراد المزاحمة للمضيّق ، وانّما يتعلّق بصرف وجود الطبيعيّ بين الحدين ، وصرف الوجود وانطباق الطبيعي كما يكون بحصول فرد من الأفراد التي لا تزاحم المضيق ، كذلك يكون بحصول فرد من الأفراد المزاحمة ، ومعنى الإطلاق في ناحية الموسع رفض خصوصيات الأفراد كلّها عن متعلّق الأمر وطلب صرف وجودها لا طلب الوجودات على سبيل العام الاستغراقي أو على البدل ، وبما أنّ الأمر بالمضيق لا يقتضي النهي عن ضده الخاص فيمكن للمكلّف الإتيان بالفرد المزاحم بما هو مصداق لمتعلق الطلب ، لا أنّه نفس الطلب ، كما هو الحال في الفرد غير المزاحم أيضا ، ولو كان في متعلق طلب الموسع ضيق بحيث ما كان المتعلق ـ بلحاظ تعلق الطلب ـ يصدق على الفرد المزاحم لما أمكن الحكم بصحّته بدعوى حصول ملاك الواجب فيه ، فإنّه لا سبيل إلى كشف الملاك إلّا إطلاق المتعلّق وصدقه على الفرد حتى مع الأمر بالواجب المضيق.

لا يقال : إطلاق المتعلّق بالمعنى المذكور لا يجتمع مع الأمر بالواجب المضيق

٢٣٧

ثم لا يخفى أنه بناء على إمكان الترتب وصحته ، لا بد من الالتزام بوقوعه ، من دون انتظار دليل آخر عليه [١] ، وذلك لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلّا امتناع الاجتماع في عرض واحد ، لا كذلك ، فلو قيل بلزوم الأمر في صحة العبادة : ولم يكن في الملاك كفاية ، كانت العبادة مع ترك الأهم صحيحة لثبوت الأمر بها في هذا الحال ، كما إذا لم تكن هناك مضادّة.

______________________________________________________

ولو قيل بأنّ الأمر بالمضيق لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، والوجه في عدم الاجتماع أنّ الأمر بالموسع ولو بنحو طلب صرف وجود الطبيعي يستلزم الترخيص في التطبيق على أي فرد منه بنحو العموم الاستغراقي والترخيص في التطبيق على الفرد المزاحم لا يجتمع مع الأمر بالواجب المضيق.

فانّه يقال : غاية الأمر يكون الترخيص في التطبيق على الفرد المزاحم يكون بنحو الترتّب على عصيان الأمر بالمضيّق مع أنّه لا حاجة إلى هذا الترتّب أيضا ، فإنّ الترخيص في التطبيق يتضمن الترخيص في ترك التطبيق ومع هذا الترخيص لا مانع عن الأمر بالمضيّق وقد تقدّم إمكان اختلاف المتلازمين في الحكم ولا يلزم أيّ محذور ولا لغوية من هذا الاختلاف في الحكم.

[١] لا يخفى أنّه مع الالتزام بامكان الترتب عند وقوع التزاحم بين التكليفين في مقام الامتثال فالأمر كما ذكره قدس‌سره من أنّه يلتزم بوقوعه من غير انتظار دليل عليه غير خطابي التكليفين المفروض ثبوت كل منهما في حقّ القادر على امتثاله ، حيث لا يكون في البين موجب لرفع اليد عن إطلاق كلّ من الخطابين إلّا في المقدار الذي يستقلّ به العقل لدفع محذور التكليف بما لا يطاق لئلّا يلزم من اجتماعهما في الزمان طلب الجمع بين الضدين ، وقد مرّ بيان ارتفاع المحذور المزبور بتقييد وجوب أحد الفعلين بصورة عصيان وجوب الفعل الآخر بنحو الشرط المتأخّر فيما إذا كان

٢٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الفعل الآخر أهم أو محتمل الأهمية أو كان ظرف امتثاله أسبق أو كانت القدرة المعتبرة في ذلك الواجب عقليا والقدرة المعتبرة في هذا الواجب شرعيا بالمعنى الثالث من أنحاء القدرة الشرعية التي تقدم بيانها سابقا (١) ، وذكرنا أنّه يترتب على ثبوت التكليفين على نحو الترتب استحقاق العقابين على تقدير مخالفة كلا التكليفين. وأمّا الترتب بين التكليفين بحسب تشريعهما ، بأن يكون ثبوت أحد التكليفين وفعليّته منحصرا في زمان يترك المكلف موافقة التكليف الفعلي الآخر فيه مطلقا أو على وجه خاص كمخالفته بنسيان شرطه أو جزئه أو للجهل بهما فوقوع هذا النحو من الترتب يحتاج إلى قيام دليل خاص عليه وقد بنى كاشف الغطاء قدس‌سره على هذا النحو من الترتب في الحكم بصحة الجهر في موضع الاخفات جهلا أو نسيانا وكذا العكس ، والإتمام في موضع القصر جهلا بالحكم وبذلك أجاب عن الإشكال المعروف في المسألتين بأنّه كيف تجتمع صحة العبادة المأتي بها جهرا أو إخفاتا أو تماما مع استحقاق العقاب على ترك الآخر بناء على ما نسب إلى المشهور فيما إذا كان ترك الصلاة المأمور بها أوّلا للجهل تقصيرا.

وبيان الترتب : انّ متعلّق الأمر هي الصلاة بالقراءة الجهريّة في الصلاة الجهريّة والصلاة بالقراءة الإخفاتيّة في الصلاة الإخفاتية وعلى تقدير ترك الجاهل الجهر في الجهرية والإخفات في الإخفاتية يؤمر بالإخفات في الأول وبالجهر في الثاني وكذلك الكلام في مسألة الإتمام موضع القصر.

وأورد عليه المحقق النائيني قدس‌سره بأنه لا يصحّ الترتب في مثل المسألتين لأمور :

__________________

(١) في الصفحة ٧٢.

٢٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الأوّل : أنّه يعتبر في جريان الترتب بين التكليفين كون التضاد بينهما اتفاقيا وأمّا إذا كان دائميا كما في المقام فلا مورد له (١).

وفيه أنّ ما ذكر إنّما يعتبر في موارد التزاحم بين التكليفين في مقام الامتثال وأمّا الترتب بين الحكمين بحسب الجعل الأوليّ فلا يعتبر فيه ذلك فانّه يصحّ ايجاب أحد الضدين تعيينا مطلقا وايجاب الضد الآخر مشروطا على ترك الضد الأول مطلقا أو على وجه خاص ، نعم لا يكون ذلك إلّا فيما إذا كان الضدان ممّا لهما ثالث وإلّا كان ايجاب الآخر مشروطا بترك الضد الأول لغوا ، مطلقا كان أو على وجه خاصّ ، وهذا الترتّب غير الترتب في مقام الامتثال بل هو في مقام الجعل كما تقدّم.

الثاني : أنّه لا مورد للترتب فيما إذا كان عصيان الأمر بالأهم ملازما للإتيان بالمهم كما إذا كان الأهم والمهم من الضدين الذين لا ثالث لهما فانّ ايجاب المهم معه يكون من اللغو الظاهر ومن قبيل طلب الحاصل ، والمقام من هذا القبيل فانّ ترك الجهر بالقراءة في موضع اعتباره يلازم الإخفات بها (٢).

وفيه : ما تقدم من أنّ الترتب يكون في التكاليف النفسية لا في الأحكام الضمنيّة التي يكون الشيء مأخوذا في متعلق الأمر النفسي جزءا ، ولا في الأحكام الغيريّة التي يكون الشيء مأخوذا في الواجب النفسي شرطا ، ومع وحدة الواجب النفسي يكون المأخوذ في متعلّقه جزءا أو شرطا نفس الشيء بخصوصه أو الجامع بينه وبين غيره فلا يكون في البين ترتّب.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣١٠.

(٢) أجود التقريرات ١ / ٣١١.

٢٤٠