دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-61-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٠٨

ثمّ لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور [١] ، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر ، أخذ على نحو يكون موردا للتكليف ، ويترشح عليه الوجوب من الواجب ، أو لا ، لعدم تفاوت فيما يهمّه من وجوب

______________________________________________________

ولكن لا يخفى أن اشتراط حصول ذلك الزمان يدخل في اشتراط القدرة على ذلك الفعل ، فيكون حصوله قيدا للوجوب بنحو الشرط المتأخّر وللواجب بنحو الشرط المقارن ، نظير دخول الوقت ، حيث أنّه شرط للوجوب وقيد للصلاة أيضا ، ولا فرق في اشتراط التكليف بين كون الشيء بنفسه قيدا له أو بما يحصل عنه.

والمتحصّل أنّ مرجع الواجب المعلّق إلى الواجب المشروط بالشرط المتأخّر فلا يكون أحدهما في مقابل الآخر ، وقد أشرنا إلى أنّ الثمرة التي ذكرت للواجب المعلّق تترتّب على الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، حتّى لو فرض أنّ أحدهما في مقابل الآخر.

[١] وحاصل ظاهر كلامه قدس‌سره أنّه لا وجه لتخصيص الواجب المعلّق بما إذا كان قيد الواجب أمرا غير اختياري ، بل ينبغي تعميمه لما إذا كان القيد المزبور اختياريا مأخوذا في الواجب بنحو يترشّح عليه الوجوب الغيري ، أو مأخوذا بنحو لا يترشّح عليه ذلك الوجوب ، فإنّ غرض صاحب الفصول من تقسيم الواجب إلى المعلّق والمنجّز لزوم تحصيل بعض المقدّمات التي لا يتمكّن المكلّف من الإتيان بها في ظرف الواجب ، فإنّ لزوم التحصيل يترتّب على كون الواجب معلّقا ، ولا يترتّب على كونه مشروطا ، لثبوت الوجوب الحالي في الواجب المعلّق ، فيترشّح من الوجوب الحالي المتعلّق بالواجب وجوب تلك المقدّمات بناء على الملازمة ، ولا يترشّح هذا الوجوب لها بناء على الواجب المشروط ؛ لعدم وجوب حالي لذلك الواجب إلّا بعد حصول الشرط.

٤١

تحصيل المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب المعلّق ، دون المشروط ، لثبوت الوجوب الحالي فيه ، فيترشح منه الوجوب على المقدمة ، بناء على الملازمة ، دونه لعدم ثبوته فيه إلا بعد الشرط.

______________________________________________________

ولكن هذا بناء على كون اشتراط وجوب الواجب بالشرط بنحو الشرط المقارن ، وأمّا إذا كان بنحو الشرط المتأخّر وفرض وجود الشرط في ظرفه المتأخّر ، يكون وجوب ذلك الواجب حاليّا أيضا ، فيكون الوجوب الغيري لتلك المقدّمة أيضا حاليا ، وليس الفرق بين الواجب المشروط بالشرط المتأخّر وبين الواجب المعلّق إلّا كون وجوب الواجب مرتبطا بحصول الشرط المتأخّر ، بخلاف المعلّق ، فإنّ المرتبط فيه بالمتأخّر نفس الواجب.

أقول : قد تقدّم أنّ الوجوب في الواجب المعلّق أيضا مرتبط بحصول ذلك الشرط ، فإنّه لولاه لما تمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب ، والقدرة على الإتيان بالواجب في ظرفه شرط لوجوبه لا محالة ، غاية الأمر على تقدير اعتبار المتأخّر في الواجب أيضا كما هو الفرض يكون نظير اشتراط شيء في كلّ من وجوب الواجب ونفس الواجب ، واعتبر في الوجوب بنحو الشرط المتأخّر وفي الواجب بنحو الشرط المقارن.

والحاصل أنّ الواجب المعلّق قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، وهذا من جهة كون شيء واجبا معلّقا أو مشروطا.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من أنّه لا وجه لتخصيص المعلّق بما إذا كان قيد الواجب أمرا غير اختياري ، بل يعم ما إذا كان ذلك القيد الاستقبالي مقدورا ، سواء أخذ في الواجب بنحو يترشّح عليه أيضا الوجوب الغيري أم لا ، فهو صحيح في الجملة وغير صحيح بالجملة إذ لو كان ذلك القيد للواجب أمرا اختياريا ، بحيث يترشّح عليه

٤٢

نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر ، وفرض وجوده ، كان الوجوب المشروط به حاليا أيضا ، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب أيضا حاليا ، وليس الفرق بينه وبين المعلّق حينئذ إلّا كونه مرتبطا بالشرط ، بخلافه ، وإن ارتبط به الواجب.

______________________________________________________

الوجوب الغيري ، فيدخل الواجب في المنجّز ، حيث لا يعتبر في الواجب المنجّز المساوي للمطلق أن لا يكون قيد للواجب أصلا ، نظير الأمر بدفن الميت ، فإنّه مقيّد بكونه بعد تغسيله وكفنه والصلاة عليه ، وبما أنّ كلّا من الاغتسال والكفن والصلاة عليه أمر مقدور ، يكون الدفن واجبا منجّزا فيجب مع قيوده.

وأمّا إذا أخذ القيد المقدور في الواجب بنحو لا يترشّح عليه الوجوب ، ويعبّر قدس‌سره عن ذلك بأنّ وجوده الاتفاقي قيد للواجب ، فما ذكره وإن كان صحيحا إلّا أنّ هذا أيضا يدخل في الواجب المشروط بالشرط المتأخّر ، فيكون حصوله فيما بعد شرطا لوجوب الواجب بنحو الشرط المتأخّر ولنفس الواجب بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، وذلك لما يأتي من أنّه إذا أراد المولى أن لا يسري الوجوب الغيري الشرعى أو لزوم الإتيان العقلي إلى قيد الواجب فعليه أن يفرض ذلك القيد في ناحية موضوع التكليف مفروض الوجود ، كما إذا التزمنا بأنّ وجوب غسل مسّ الميت يكون حاليا قبل مسّه ، ولكن الغسل لا بدّ من أن يقع بعد المسّ ، فعلى المولى أن يفرض في موضوع وجوب الاغتسال مسّ الميت بنحو الشرط المتأخّر ، ويجعل المسّ قيدا لنفس الاغتسال بنحو الشرط المتقدّم ، فيجب على المكلّف الذي يعلم بمسّ الميت بعد ذلك تحصيل الماء لاغتساله فيما أحرز أنه لا يتمكّن على تحصيل الماء بعد المسّ.

وبما أنّ القسم الأول لا يدخل في الواجب المعلّق بوجه ـ والمراد بالقسم الأوّل

٤٣

تنبيه : قد انقدح ـ من مطاوي ما ذكرناه [١] ـ أنّ المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية ، وكونه في الحال بحيث يجب على المكلّف تحصيلها ، هو فعلية وجوب ذيها ، ولو كان أمرا استقباليا ، كالصوم في الغد والمناسك في الموسم ، كان وجوبه مشروطا بشرط موجود أخذ فيه ولو متأخرا ، أو مطلقا ، منجزا كان أو معلقا ، فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا ، أو مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف ، كما إذا أخذ عنوانا للمكلّف ، كالمسافر والحاضر والمستطيع إلى غير ذلك ، أو جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله ، وتقدير وجوده ـ بلا اختيار أو باختياره ـ موردا للتكليف ، ضرورة أنّه لو كان مقدمة الوجوب أيضا ، لا يكاد يكون هناك وجوب إلّا بعد حصوله ، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل ، كما أنّه إذا أخذ على أحد النحوين يكون كذلك ، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف ، ومع حصوله لا يكاد يصح تعلقه به ، فافهم.

______________________________________________________

القيد الاختياري للواجب الذي يترشّح عليه الوجوب الغيري ـ التزم بعض بوقوع الغلط في نسخة الكتاب بسقوط كلمة «لا» في قوله «على نحو يكون موردا للتكليف» (١) ، وكان الصحيح «على نحو لا يكون موردا للتكليف» وأنّ كلمة «أو لا» بعد قوله «ويترشّح عليه الوجوب» زائدة.

وكانت العبارة هكذا «بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور ومتأخّر أخذ على نحو لا يكون موردا للتكليف ويترشّح عليه الوجوب لعدم تفاوت فيما يهمّه» والله العالم.

[١] حاصله : أنّ المناط في فعلية الوجوب الغيري للمقدّمة وكونها بحيث يلزم على المكلّف تحصيلها هو حالية الوجوب في ذي المقدّمة وفعليّته ، سواء كان نفس

__________________

(١) الكفاية : ص ١٠٣.

٤٤

إذا عرفت ذلك ، فقد عرفت أنّه لا إشكال أصلا في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه ، فيما كان وجوبه حاليا مطلقا ، ولو كان مشروطا بشرط متأخر ، كان معلوم الوجود فيما بعد ، كما لا يخفى ، ضرورة فعلية وجوبه وتنجزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدمته ، فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة ، ولا يلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وإنما اللازم

______________________________________________________

ذي المقدّمة أمرا حاليا أو استقباليا ، كالصوم في الغد والمناسك في الموسم ، ولا يفرق أيضا في فعلية وجوب ذيها بين كون وجوبه مشروطا قد تحقّق ذلك الشرط ، كما إذا كان مشروطا بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، أو يتحقّق في ظرفه ، كما إذا كان وجوبه مشروطا بنحو الشرط المتأخّر أو كون وجوبه مطلقا بنحو الواجب المنجّز ، أو بنحو الواجب المعلّق ، فإنّه مع حالية وجوب ذي المقدّمة يجب على المكلّف مقدّماته الوجودية.

نعم فيما كانت مقدّمة الوجود قيدا للوجوب أيضا ، أو كانت مقدّمة الوجود مأخوذة في الواجب بنحو لا يسري إليها الوجوب الغيري ، كما إذا أخذت عنوانا للمكلّف ، كالمسافر والحاضر والمستطيع ، أو كان الواجب هو الفعل المقيّد باتفاق حصوله باختيار المكلّف أو بلا اختياره ، لم يتعلّق بها الوجوب الغيري ولم يلزم تحصيلها.

والوجه في عدم اتّصاف مقدّمة الوجوب وشرطه بالوجوب الغيري فيما أخذ بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ظاهر حيث لا فعلية لوجوب ذي المقدّمة قبل تحقّقه ، وبعد تحقّقه لا معنى لتعلّق الوجوب الغيري به ، لأنّه من طلب الحاصل ، وكذا فيما كان القيد عنوانا للمكلّف ، فإنّ وجوب الصلاة قصرا يتوقّف على السفر خارجا ليصير المكلّف مسافرا ، ومعه لا معنى لتعلّق الوجوب الغيري بالسفر بعد

٤٥

الإتيان بها قبل الإتيان به ، بل لزوم الإتيان بها عقلا ، ولو لم نقل بالملازمة ، لا يحتاج إلى مزيد بيان ومئونة برهان ، كالإتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه.

فانقدح بذلك : أنّه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة بالتعلق بالتعليق ، أو بما يرجع إليه ، من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط.

فانقدح بذلك : أنّه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره مما وجب عليه الصوم في الغد ، إذ يكشف به بطريق الإنّ عن سبق وجوب الواجب ، وإنّما المتأخر هو زمان إتيانه ، ولا محذور فيه أصلا ، ولو فرض العلم بعدم سبقه ، لاستحال اتصاف مقدمته

______________________________________________________

صيرورة المكلّف مسافرا لأنّه من طلب الحاصل.

وذكر قدس‌سره أنّ الأمر فيما كان القيد شرطا للوجوب بنحو الشرط المتأخّر أو كان الفعل المقيّد بقيد اتفاقيّ موردا للتكليف أيضا كذلك ، بمعنى أنّ تعلّق الوجوب الغيري بالقيد يكون من طلب الحاصل ، وكذا فيما أخذ القيد عنوانا للمكلّف بنحو الشرط المتأخّر.

ولكن قد يتوهّم أنّ الشيء إذا كان شرطا للوجوب بنحو الشرط المتأخّر لا يلزم من تعلّق الوجوب الغيري به طلب الحاصل ؛ لأنّ فعليّة الواجب تكون قبل تحقّق ذلك الشرط ، ولكنّه فاسد ، فإنّ اشتراط وجوب الواجب بشيء يلازم اشتراط وجوب مقدّماته أيضا بذلك الشيء بمقتضى التبعية في الملازمة ، ولو كان نفس ذلك الشيء أيضا واجبا غيريّا لكان وجوبه أيضا مشروطا بحصول نفسه ، وهذا من طلب الحاصل.

وبهذا يظهر الحال فيما إذا كان انطباق عنوان على المكلّف فيما بعد شرطا لتكليفه فعلا بالفعل ، فإنّ الأمر الغيري لا يمكن أن يتعلّق بتطبيق ذلك العنوان ، بناء

٤٦

بالوجوب الغيري ، فلو نهض دليل على وجوبها ، فلا محالة يكون وجوبها نفسيا ولو تهيؤا ، ليتهيأ بإتيانها ، ويستعد لإيجاب ذي المقدمة عليه ، فلا محذور أيضا.

إن قلت : لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا [١]

______________________________________________________

على ما تقدّم من رجوع تقييد الواجب بالوجود الاتفاقي للقيد ـ كجعله عنوانا للمكلّف ـ إلى اشتراط وجوب الفعل به بنحو الشرط المتأخّر ، وظاهر ذيل كلام الماتن قدس‌سره يساعد على ذلك أيضا ، فتدبر تجزم أنّه لا معنى للوجود الاتفاقي للقيد غير كون المكلّف مطلق العنان بالإضافة إلى ذلك القيد الاختياري ، ولازم كون المكلّف مطلق العنان بالإضافة إليه جعل التكليف الفعلي على تقدير حصوله ، كما هو الشأن في جميع قيود التكليف ثبوتا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الواجب التعليقي والواجب المشروط بالشرط المتأخّر على اصطلاح الشيخ قدس‌سره والمشهور مرجعهما إلى أمر واحد ثبوتا ، فيكون التكليف على تقدير حصول ذلك القيد المتأخّر ، فعليّا قبله لحصول شرطه المتأخّر في موطنه ، سواء كان القيد أمرا غير اختياري أو اختياريا.

وثمرة فعليّة التكليف لزوم الإتيان بمقدّماته الوجودية تعيّنا فيما إذا لم يتمكّن المكلّف ـ على تقدير عدم تحصيلها فعلا ـ من الإتيان بمتعلّق التكليف فيما بعد ، وبنحو التوسعة والتخيير فيما إذا تمكّن منه بالإتيان بالمقدّمة بعد ذلك.

[١] هذا إشكال على ما التزم به قدس‌سره من أنّ وجوب المقدمة قبل زمان ذيها يكشف إنّا عن سبق وجوب ذلك الواجب وكون وجوبه فعليا ، وإن كان نفس الواجب فعلا استقباليا.

وحاصل الإشكال أنّه بناء على كشف حالية وجوب المقدّمة عن فعلية وجوب ذيها يكون فعلية وجوب ذيها موجبا لتعلّق الوجوب الغيري بسائر مقدّماته أيضا ولو

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

موسّعا ، فتجب المبادرة إلى تلك المقدّمات قبل زمان الواجب فيما إذا لم يتمكّن المكلّف منها بعد زمان الواجب لو لا المبادرة ، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

وأجاب قدس‌سره بأنّه يلتزم بهذه المبادرة إلّا إذا كانت القدرة المأخوذة من ناحية سائر المقدّمات أو بعضها قدرة خاصّة ، وهي القدرة عليها بعد مجيء زمان الواجب ، لا مطلق القدرة ولو في زمان وجوب الواجب.

وبيان ذلك أنّ المقدّمة الوجودية وإن لم تكن بنفسها قيدا لوجوب ذيها إلّا أنّ التمكّن على تلك المقدّمة يكون قيدا للتكليف بذيها لا محالة ؛ ولذا لا يجب الشيء فيما إذا لم يتمكّن المكلّف على مقدّمة من مقدّماته ، والتمكّن على المقدّمة المعتبرة في التكليف بذيها ليس خصوص التمكّن عليها بعد حصول ظرف الإتيان بنفس الواجب ، بل يعم التمكّن عليها في زمان التكليف بذيها. وإذا لم يجب تحصيل مقدّمة قبل حصول ظرف الواجب بحيث إذا لم يأت بها لم يتمكّن عليها في ظرف الواجب ، يكون ذلك كاشفا عن كون المعتبر من التمكّن عليها في وجوب ذيها هي القدرة عليها بعد حصول ظرف الواجب كما لو أنّه لو ثبت عدم وجوب التحفّظ بها حتّى بعد حصول ظرف الواجب ، كجواز إجناب المكلّف نفسه بعد حصول ظرف الواجب ـ يعني الصلاة ـ ، ولو مع علمه بأنّه لا يتمكّن من الغسل مع إجناب نفسه ، يكون ذلك كاشفا عن كون المعتبر في وجوب الصلاة مع الطهارة المائية من حدث الجنابة خصوص التمكّن على تلك الطهارة في ظرف القيام إلى الصلاة المعبّر عن ذلك بالقدرة على المقدّمة حال العمل.

أقول : قيام الدليل على وجوب مقدّمة في زمان ـ كما في وجوب الغسل في الليل بالإضافة إلى صوم الغد ـ لا يكون كاشفا عن فعليّة التكليف بذيها في ذلك

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الزمان ، فإنّ تعلّق الوجوب الغيري بشيء ليس إلّا لتوقّف الواجب عليه ، وإذا فرض توقّف استيفاء الصلاح الملزم في الواجب على الإتيان بشيء بحيث لا يمكن استيفاء الصلاح بدونه ، يكون العقل حاكما بلزوم تحصيل القدرة عليه بتحصيل ذلك الشيء ، ولو قبل فعليّة وجوب ذلك الواجب.

وقد ذكرنا عند التعرّض لوجوب التعلّم أنّ تفويت الغرض الملزم للمولى ـ كمخالفة تكليفه ـ قبيح في نظر العقل ، وعليه فلو فرض أنّ الواجب كذلك ولم يكن للمكلّف سبيل إلى معرفة ذلك ، لكان على المولى الحكيم الأمر بتلك المقدّمة والبعث إليها قبل البعث إلى ذيها ، ولا نتعقّل لهذا الوجوب معنى غير الوجوب الغيري.

وما يسمّى بالوجوب النفسي التهيّئي بحيث يتعدّد العقاب في صورة المخالفة أو يكون العقاب على مخالفة الأمر بتلك المقدّمة لا يمكن الالتزام به مع استقلال العقل بأنّه يصحّ للمولى مؤاخذة العبد على تفويت الملاك الملزم في ذلك الواجب في ظرفه ، ولو بتعجيز نفسه بترك تلك المقدّمة التي أمر بها المولى قبل الأمر بذيها.

وبتعبير آخر : فعلية وجوب المقدّمة تتبع فعلية ملاك ذيها فيما كانت تلك المقدّمة دخيلة في استيفاء ملاك ذيها ، بخلاف المقدّمة التي يكون التمكّن عليها في ظرف الواجب دخيلا في ملاك ذلك الواجب ، فإنّه لا يصحّ للمولى الأمر بتلك المقدّمة قبل مجيء ظرف ذلك الواجب.

ويمكن أن يكون ملاك الواجب بالإضافة إلى مقدّمة من مقدّماته فعليا ، وبالإضافة إلى سائرها غير فعلي ، فلا يكون تعلّق الوجوب الغيري بالأوّل كاشفا عن فعلية وجوب ذيها ، وإنّما يكون كاشفا عن فعلية الملاك وملزميّته بالإضافة إلى تلك المقدّمة ، ولذا ذكرنا في بحث الشرط المتأخّر للواجب أنّ وجوب الصوم عن

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المستحاضة يسقط بدخول الليل ، لكون بقاء وجوبه لغوا ، ولكن الوجوب الغيري المتعلّق باغتسالها في الليل باق ، لبقاء الملاك الملزم وعدم حصوله بدونه.

وما في بعض الكلمات من أنّ إيجاب مقدّمة في مورد قبل إيجاب ذيها ، من الإيجاب للغير لا الإيجاب بالغير ؛ لا يرجع إلى أمر صحيح بعد الإحاطة بما ذكرنا من أنّ الإيجاب الغيري للمقدّمة يتبع فعلية ملاك ذيها من ناحيتها لا فعلية الأمر بذيها ، فعلا وسنذكر فيما بعد من أنّه لو كان للوجوب الغيري أثر ، حتّى يكون مولويا فهو هذا المورد.

وجميع ما ذكره الماتن قدس‌سره وغيره مبني على كون فعلية وجوب فعل متوقّفة على تعلّق إرادة المولى بذلك الفعل ، ويلزم من إرادته إرادة ما يتوقّف عليه ذلك الفعل من المقدّمات قهرا ، ولكن قد تقدّم منّا تعلّق إرادة المولى بفعل نفسه وهو البعث نحو الفعل لملاك ملزم يكون ذلك الملاك داعيا له إلى البعث نحوه ، وإذا اختلفت مقدّماته من حيث دخلها في ذلك الفعل ملاكا يبعث إلى مقدمته التي لها دخل في ملاكه مطلقا قبل مجيء ظرف ذلك الفعل كما تقدم من غير أن يطلب نفس الفعل قبل مجيء ظرفه.

لا يقال : الأمر بمقدّمة قبل التكليف بذيها إرشاد إلى دخلها في ملاكه الملزم مطلقا ، فلا يدخل الأمر بها في التكليف المولوي بالمقدّمة ، ليقال إنّه غيري لا نفسي تهيّئي ، فقاعدة الملازمة بين إيجاب ذي المقدّمة ومقدّمته في الفعلية وعدمها لم تنتقض.

فإنّه يقال : جميع الأوامر المولوية ـ نفسية كانت أو غيرية ـ تكشف عقلا ـ بمقتضى حكمة المولى ـ عن ثبوت الملاك في متعلّقاتها نفسيا أو غيريا ، وهذا لا يوجب الإرشادية ، بل لو لم يأمر المولى بالفعل وأخبر أنّ له فيه ملاكا ملزما له بداعي البعث إليه يعتبر هذا أمرا وطلبا مولويا قاطعا لعذر العبد ومصحّحا لاحتجاجه

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه فيما إذا لم يأت بالفعل المزبور مع تمكّنه عليه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لو ترك المكلّف المقدّمة التي وجبت عليه قبل التكليف بذيها ، فلا يكون في حقّه تكليف بذيها فيما بعد ، فإنّ تكليفه به لغو محض ، ولكن مع ذلك يستحقّ العقاب على تركه وتفويته ملاكه الملزم ، والأمر الغيري بتلك المقدّمة مصحّح لهذا الاستحقاق ، حيث إنّ الامتناع بسوء الاختيار ينافي التكليف ولا ينافي استحقاق العقاب.

أقسام القدرة :

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّه قد تكون القدرة على الواجب في ظرفه دخيلة في ملاكه الملزم ، بحيث لا يكون في حق العاجز عنه في ذلك الظرف فوت ملاك ملزم ، فيجوز في هذا الفرض للمكلّف تعجيز نفسه قبل حصول ظرف ذلك الواجب.

وقد تكون القدرة عليه في ذلك الظرف دخيلة في مجرّد استيفاء الملاك ، بحيث يفوت على العاجز عنه في ذلك الظرف الملاك الملزم ، وفي هذه الصورة لا يجوز للمكلّف تعجيز نفسه قبل ذلك الظرف ، بل يجب عليه التحفّظ وتحصيل القدرة عليه ، ولا مانع من أن يكون تحصيل القدرة عليه من ناحية بعض مقدّماته من قبيل القسم الثاني ، وفي ناحية بعضها الآخر من قبيل الأوّل.

ويستكشف كون القدرة في ظرف الواجب كذلك ـ أي دخيلة في مجرد الاستيفاء ـ بتوجيه التكليف به ولو قبل مجيء ظرف الواجب ولو بنحو الشرط المتأخّر أو الأمر بمقدّمته التي تكون القدرة على الواجب في ظرفه دخيلة في مجرد استيفاء ملاكه كما في الأمر بالاغتسال على الجنب والحائض في الليل لصوم الغد.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد يقال : بأنّه إذا لم يؤخذ في خطاب الأمر بفعل قدرة المكلّف عليه بأن كان الحاكم بتقييد موضوع ذلك التكليف ، العقل بملاك قبح خطاب العاجز وتكليفه ، تكون القدرة فيه شرطا في استيفاء الملاك ، بخلاف ما إذا أخذت القدرة عليه في خطاب التكليف ، فإنّه لا يستفاد منه ثبوت الملاك إلّا في صورة القدرة عليه.

ولكن الصّحيح أنّ الكاشف عن الملاك هو التكليف بالفعل ، فإذا فرض عدم ثبوت التكليف في حقّ العاجز عن العمل ولو بحكم العقل ، فلا كاشف عن الملاك وإحراز كون القدرة على العمل دخيلة في استيفاء الملاك فقط يحتاج إلى التكليف الفعلي بذلك العمل ولو بنحو الشرط المتأخر أو الأمر بمقدّمته قبل زمان الواجب ، المعتبر في التكليف بالصلاة مع الطهارة المائية من الحدث الأكبر ، خصوص التمكّن في ظرف القيام إلى الصلاة المعبّر عن ذلك بالقدرة حال العمل.

قد التزم قدس‌سره بأنّ وجوب مقدّمة من مقدّمات الواجب في زمان يكشف عن فعليّة الوجوب المتعلّق بذلك الواجب في ذلك الزمان ، ويرد على هذا الالتزام أمران :

أحدهما : ما تقدّم من أنّه قد تكون مقدّمة الواجب في زمان واجبا مع العلم بعدم فعلية وجوب الواجب في ذلك الزمان ، كما في وجوب معرفة بعض العبادات ، كالصلاة قبل مجيء زمان وجوبها ، مع أنّ وجوبها يكون بدخول الوقت.

وقد أجاب عن هذا الأمر بأنّ الوجوب الغيري لمقدّمة يكشف عن فعلية وجوب ذيها في ذلك الزمان بطريق الإنّ لا محالة ، سواء كان فعلية وجوبه بنحو الواجب المعلّق أو المشروط بالشرط المتأخّر ، والأمر في مثل تعلّم أجزاء الصلاة وشرائطها قبل الوقت ليس للوجوب الغيري بل للوجوب النفسي التهيئي.

وثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «إن قلت : لو كان ... الخ» وتقرير الإشكال أنّه إذا

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

كشف وجوب مقدّمة قبل ظرف الواجب عن فعليّة وجوب ذلك الواجب لوجب قبل ذلك الظرف سائر مقدّماته أيضا ، ولو موسّعا فيجب المبادرة إلى تلك المقدّمات فيما إذا أحرز المكلّف اتفاقا عدم التمكّن منها بعد حصول ظرف الواجب ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ الشيخ قدس‌سره مع إنكاره الواجب المشروط باصطلاح المشهور والتزامه بفعلية وجوب الصلاة قبل الوقت لم يلتزم بوجوب المبادرة إلى الوضوء أو الغسل قبل دخول وقت الصلاة ، حتّى فيما إذا أحرز المكلّف عدم تمكّنه منها بعد دخول الوقت.

وأجاب قدس‌سره عن هذا الإشكال بأنّه إذا كان وجوب الواجب فعليا في زمان صار وجوب سائر مقدّماته أيضا فعليّا.

ولكن بما أنّ القدرة على مقدّمة الواجب شرط في وجوب ذلك الواجب ، فربّما يكون المأخوذ في وجوبه ولو بنحو الشرط المتأخر القدرة الخاصّة على مقدّمته ، وهي القدرة عليها في ظرف الواجب ، ففي مثل ذلك لا يتعيّن على المكلّف المبادرة إلى تلك المقدّمة قبل وقت الواجب وظرفه ، حتّى فيما إذا أحرز عدم تمكّنه عليها في ظرف الواجب لو لم يبادر ، لأنّ عدم التمكّن عليها في ذلك الظرف يكشف عن عدم وجوب الصلاة بالوضوء أو الغسل من الأوّل ، ولو كان هذا العجز لأجل ترك المكلّف المقدّمة قبل وقت الواجب وظرفه.

أقول : قد تقدّم أنّ وجوب مقدّمة قبل ظرف الواجب لا يكشف إلّا عن فعلية الملاك في الواجب من ناحية تلك المقدّمة ، بمعنى أنّ القدرة على الواجب في ظرف وجوب الواجب شرط في استيفاء ملاكه ، وليست القدرة عليها في ظرف الواجب دخيلا في أصل ملاكه ، فيمكن أن يكون وجوب المقدّمة فعليا من غير أن

٥٣

عن سبق وجوب ذي المقدمة لزم وجوب جميع مقدماته ولو موسّعا ، وليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر.

قلت : لا محيص عنه ، إلّا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة ، وهي القدرة عليه بعد مجيء زمانه ، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه ، فتدبر جدّا.

______________________________________________________

يكون وجوب ذيها في ذلك الزّمان فعليا ، ويرد على الماتن قدس‌سره بناء على ما اختاره ـ من إمكان إيجاب المقدّمة قبل فعلية وجوب ذيها بالوجوب النفسى التهيئي ـ أنّه كيف يستكشف من الأمر بمقدّمة من مقدّمات الواجب في زمان ، كون وجوب الواجب فعليا في ذلك الزمان ، لأنّ وجوب المقدّمة المحتمل كونه نفسيا تهيّئيّا يمنع من الكشف عن فعليّة وجوب ذيها ، بخلاف ما ذكرناه من كشفه عن فعلية ملاك ذيها من ناحية تلك المقدّمة ، فإنّه لا مانع من هذا الكشف ، فتدبّر جيّدا.

نعم لو أحرز وجوب الواجب قبل مجيء زمانه وظرفه ، لزم الإتيان بسائر مقدّماته موسّعا ، ويتعيّن المبادرة إليها لو أحرز المكلّف عدم تمكّنه من تلك المقدّمات بعد حصول ظرفه إلّا فيما ذكره قدس‌سره في الموارد التي اعتبر في وجوب الواجب القدرة الخاصّة على تلك المقدّمات.

ونزيد على ما ذكره أنّه قد يقوم دليل على عدم وجوب التحفّظ على القدرة على مقدّمة الواجب وجواز تفويتها حتّى في ظرف الواجب ، كما ورد الدليل على جواز إجناب المكلّف نفسه بعد دخول وقت الصلاة مع علمه بأنّه على تقدير إجناب نفسه لا يتمكّن من الغسل ، فيكون هذا الدليل كاشفا عن كون التمكّن من الغسل بحيث لو لم يأت المكلّف بتلك المقدّمة قبله لما تمكّن عليه في ذلك الظرف المتّحد مع زمان التكليف به.

٥٤

تتمة : قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل [١] ، وكونه موردا للتكليف وعدمه ، فإن علم حال قيد فلا إشكال ، وإن دار أمره ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة ، نحو الشرط المتأخر أو المقارن ، وأن يكون راجعا إلى المادة على

______________________________________________________

مقتضى الاصل العملي عند الشك في اعتبار قيد :

[١] إذا ورد خطاب الأمر بفعل ، بمفاد القضية الشرطية فظاهرها اشتراط وجوب الفعل بحصول القيد بنحو الشرط المقارن ، وكذا كلّ قيد في الخطاب أخذ في ناحية الموضوع لذلك التكليف فيما لو كانت القضية حملية ، ولا يختصّ ذلك بالتكليف ، بل يجري في سائر الأحكام والقيود المذكورة لها أو لموضوعاتها ، فيؤخذ بذلك إلّا مع القرينة على خلافها سواء كانت القرينة داخلية مغيّرة لظهور الخطاب ، أو معيّنة للمراد منه ، ولو كانت خارجية.

وأمّا إذا لم يكن في البين خطاب حتّى يستظهر منه ، أو كان الخطاب مقرونا بما يوجب إجماله في دلالته الاستعمالية التصديقية أو ما يوجب سقوط ظهور الخطاب عن الاعتبار فتصل النوبة إلى الأصل العملي.

وأمّا إذا دار الأمر بين اشتراط وجوب الفعل بقيد أو كون وجوبه مطلقا بأن يكون القيد راجعا إلى الواجب ، فالاستصحاب في عدم تعلّق التكليف بالفعل في فرض عدم حصول ذلك القيد ، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوبه في فرض عدم حصوله ، يثبت نتيجة الواجب المشروط بلا فرق بين كون ذلك القيد من الفعل الاختياري أو كان أمرا غير اختياري.

وفيما أحرز كونه قيدا لنفس التكليف ودار أمره بين أن يكون قيدا له بنحو الشرط المقارن أو بنحو الشرط المتأخّر فالاستصحاب في عدم اعتبار التكليف قبل حصول ذلك القيد ، ولا أقلّ من أصالة البراءة تعيّن ، نتيجة الواجب المشروط بنحو الشرط المقارن.

٥٥

نهج يجب تحصيله أولا يجب ، فإن كان في مقام الإثبات ما يعين حاله ، وأنّه راجع إلى أيّهما من القواعد العربية فهو ، وإلّا فالمرجع هو الأصول العملية.

وربّما قيل في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة ، بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة [١] ، وتقييد المادة ، بوجهين :

أحدهما : إنّ إطلاق الهيئة يكون شموليا ، كما في شمول العام لأفراده ، فإنّ وجوب الإكرام على تقدير الاطلاق ، يشمل جميع التقادير التي يمكن أن يكون تقديرا له ، وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة.

______________________________________________________

ثم إنّه إذا علم كون شيء قيدا للتكليف بنحو الشرط المقارن ولكن لم يعلم أنّ ذلك الأمر قيد لمتعلّق التكليف أيضا أو أنه ليس إلّا قيدا لوجوبه ، كما إذا قضى الولد الأكبر ـ ما على أبيه من الصلاة والصيام بعد موته ـ حال صغره وبعد البلوغ شكّ في أنّ القضاء عند صغره كاف في سقوط ما كان على أبيه من الصلاة والصيام أو أنّه يتعيّن عليه أن يقضي حال كبره ، وفي مثل ذلك يستشكل في جريان البراءة عن وجوب القضاء عليه بعد كبره ، لأنّها لا تثبت سقوط ما كان عليه ، بل الاستصحاب في بقاء ما كان على أبيه يثبت وجوب القضاء.

أقول : هذا مبني على جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية ، وأمّا بناء على عدم جريانه فيها فأصالة البراءة عن وجوب القضاء جارية.

دوران الأمر بين تقييد المادة أو الهيئة :

[١] إذا ورد في الخطاب أمر بفعل ، وذكر في ذلك الخطاب قيد تردّد أمر القيد بين أن يكون قيدا لوجوب ذلك الفعل حتّى لا يجب تحصيله ، أو قيدا لنفس الفعل ، حتّى يجب تحصيله ، ونظير ذلك ما إذا لم يذكر القيد في الخطاب ، وعلمنا من الخارج ولو بخطاب آخر اعتبار القيد ، ودار أمره بين أن يعتبر في وجوب الفعل أو

٥٦

ثانيهما : إنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة ويرتفع به مورده ، بخلاف العكس ، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.

أمّا الصغرى ، فلأجل أنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان لإطلاق المادة ، لأنها لا محالة لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة ، بخلاف تقييد المادة ، فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله ، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

وأمّا الكبرى ، فلأنّ التقييد وإن لم يكن مجازا إلّا أنّه خلاف الأصل ، ولا فرق

______________________________________________________

نفس الفعل.

فقد حكي عن الشيخ قدس‌سره أنّه بناء على إمكان رجوع القيد إلى مفاد الهيئة يكون المتعيّن تقييد المادّة وبقاء الهيئة على إطلاقه ، ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وذلك لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ إطلاق الهيئة يكون شموليا ، بمعنى أنّ مقتضاه ثبوت الوجوب للفعل المزبور ، سواء أتى بذلك القيد أم لا ، بخلاف الإطلاق في ناحية المادّة فإنّه بدلي ، حيث إنّ الوجوب لا يتعلّق بجميع الوجودات المفروضة لذلك الفعل ، بل يتعلّق بصرف وجوده وهو يحصل بوجود واحد ، وكلّما دار الأمر بين التصرّف في المطلق الشمولي أو البدلي يكون الثاني أولى بالتصرّف ، وعليه يرفع اليد عن إطلاق المادة ويبقى نفس الوجوب المستفاد من الهيئة بحاله.

والوجه الثاني : أنّه لو كان القيد راجعا إلى المادّة بقي إطلاق الهيئة بحاله ، بخلاف ما لو رجع القيد إلى الهيئة ، فإنّه يبطل مورد الإطلاق في المادة أيضا ، فمثلا على تقدير اشتراط وجوب الصلاة بدخول الوقت ، لا وجوب لها قبل دخوله ، وهذا معنى تقييد الهيئة ، وعلى تقدير تقييد المادّة لا تكون الصلاة قبل دخوله مصداقا

٥٧

في الحقيقة بين تقييد الإطلاق ، وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الأثر ، وبطلان العمل به.

وما ذكرناه من الوجهين موافق لما أفاده بعض مقرّري بحث الأستاذ العلامة أعلى الله مقامه ، وأنت خبير بما فيهما.

أمّا في الأوّل : فلأنّ مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف المادة ، إلّا أنّه

______________________________________________________

للواجب ، وهذا معنى بطلان مورد الإطلاق في المادة وإبطال مورد إطلاق المادّة بإيراد القيد على مفاد الهيئة في حكم التقييد الآخر في كونه خلاف الأصل.

وأجاب الماتن قدس‌سره عن الوجه الأوّل بأنّه لا موجب لتقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي بالتصرّف في الثاني فقط ، بل الملاك في التقدّم قوة الظهور بالإضافة إلى الآخر ، فلو كان العموم البدلي بالوضع ، والشمولي بالإطلاق ، يرجّح البدلي على الشمولي ، وبالجملة يتقدّم العموم الوضعي على الإطلاق ، سواء كان العموم الوضعي شموليا أو بدليا.

وفي مفروض الكلام كل من عموم الهيئة والمادة بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، ولا يتفاوت الإطلاق بمقدّمات الحكمة في كون مقتضاها شموليا أو بدليا ، كما أنّه قد يكون مقتضاها التعيين ، كما مرّ في أنّ إطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب تعيينيا عينيا نفسيا.

وأجاب عن الوجه الثاني بأنّ المخالف للأصل هو تقييد المطلق وتضييق دائرته بعد انعقاد ظهوره في الإطلاق بتمامية مقدّمات الحكمة ، وأمّا العمل الذي يوجب عدم تماميّة مقدّمات الحكمة وعدم انعقاد الظهور في ناحيته ـ كما إذا اقترن المطلق بما يصلح كونه قرينة على تقييده ـ فهو غير مخالف للأصل ، وفي مفروض كلامنا القيد متّصل بخطاب الأمر ويدور أمره بين رجوعه إلى مفاد الهيئة أو المادة ، فلا ينعقد

٥٨

لا يوجب ترجيحه على إطلاقها ، لأنّه أيضا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، غاية الأمر أنّها تارة يقتضي العموم الشمولي ، وأخرى البدلي ، كما ربّما يقتضي التعيين أحيانا ، كما لا يخفى.

وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون دلالته بالوضع ، لا لكونه شموليا ، بخلاف المطلق فإنّه بالحكمة ، فيكون العام أظهر منه ، فيقدّم عليه ،

______________________________________________________

الإطلاق في ناحية الهيئة ، كما لا ينعقد في ناحية المادة.

نعم لو كان القيد واردا في خطاب منفصل أو علم به إجمالا لكان لما ذكر وجه ، فإنّه بعد انعقاد الظهور الإطلاقي في ناحية الهيئة والمادّة يكون رجوعه إلى المادّة تقييدا واحدا ، بخلاف إرجاعه إلى الهيئة ، فإنّه يوجب رفع اليد عن كلا الإطلاقين ولو بعدم بقاء المجال للعمل بإطلاق المتعلّق بعد تقييد الهيئة.

أقول : إنّ مفروض الكلام هو ما إذا كان القيد المحتمل رجوعه إلى مفاد الهيئة أو المادة واردا في خطاب الحكم وفي هذه الصورة لا تتمّ مقدّمات الحكمة لا في ناحية الهيئة ولا في ناحية المادة ، فمع عدم القرينة على التعيين يجب الإتيان بالمتعلّق عند حصول القيد المزبور ، لأنّه إن كان شرطا لوجوبه فقد حصل ، وإن كان قيدا لنفس الواجب تعيّن الإتيان به أيضا ، غاية الأمر كان تعيّنه من قبل ، وأمّا مع عدم حصول ذلك فيرجع إلى استصحاب عدم جعل وجوب الفعل قبل حصول القيد ، ولا أقلّ من أصالة البراءة عن وجوبه كما تقدّم ، فلا يجب الإتيان بالمتعلّق.

وبتعبير آخر : إنّ في فرض اتصال القيد المحتمل رجوعه إلى مفاد الهيئة أو المادة لا ينعقد الإطلاق في ناحية الهيئة ولا في ناحية المادّة ، وما تقدّم من أنّ الإطلاق في ناحية الهيئة شمولي فهو فرع جريان مقدّمات الحكمة ، والمفروض عدم جريانها في ناحية الهيئة كعدم جريانها في ناحية المادة.

٥٩

فلو فرض أنهما في ذلك على العكس ، فكان عام بالوضع دلّ على العموم البدلي ، ومطلق بإطلاقه دلّ على الشمول ، لكان العام يقدم بلا كلام.

وأمّا في الثاني : فلأن التقييد وإن كان خلاف الأصل ، إلّا أنّ العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة ، وانتفاء بعض مقدماته ، لا يكون على خلاف

______________________________________________________

وظاهر عبارة الماتن قدس‌سره في الجواب عن الوجه الأوّل يعطي أنّ أحد الظهورين ليس أقوى من الآخر ؛ لأنّ كلّا منهما بالاطلاق ومقدّمات الحكمة.

ولكن قد ذكرنا أنّه مع عدم تماميّة مقدّمات الحكمة في شيء من ناحية الهيئة أو المادة لا ظهور من ناحية الهيئة في الشمولية ولا من ناحية المادة في البدليّة بالإضافة إلى مفادها نعم لو لا القيد وتماميّة مقدّمات الحكمة كان الظهور فيهما كذلك وإن أنكر الظهور أيضا بعض الأعاظم قدس‌سره وجماعة ، والتزموا بأنّ الإطلاق لا يوجب الظهور للخطاب ، بل الإطلاق حكم العقل بعد تماميّة مقدّمات الحكمة.

وبتعبير آخر : المقدّمات المعبّر عنها بقرينة الحكمة لا تكون من قبيل الدالّ اللفظي حتّى توجب الظهور في الخطاب.

إلّا أنّ كون القرينة شيئا ملفوظ لا ينافي كونها موجبة للظهور كالقرينة الحالية ، ولذا في فرض تماميّة مقدّمات الإطلاق تصحّ نسبة المدلول إلى المتكلّم بأن يقال إنّه أظهر لنا ذلك وبيّنه ، ولكنّ هذا غير مهمّ في المقام ، وسنتكلّم إن شاء الله عنه في بحث المطلق والمقيّد.

تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي :

والمهم التكلّم فيما ذكره الماتن قدس‌سره من أنّه لو كان دلالة أحدهما على العموم بالوضع والآخر بالإطلاق ، لكان العموم الوضعي مقدّما على العموم الإطلاقي ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّه لو قلنا بأنّ هيئة صيغة «افعل» موضوعة للوجوب المطلق ،

٦٠