دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-61-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٠٨

لا يقال : نعم [١] لكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار ، فلو لاه لما كان متوجها إليه إلّا الطلب بالأهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع ، إذا كان بسوء الاختيار.

______________________________________________________

الضدين ـ وهو استدعائه الجمع بين الضدين ـ يجري في فرض طلبهما بنحو الترتب أيضا وكأنّ الوجه في الجريان أنّ مع امتثال الأمر بالأهم وإن لم يكن الأمر بالمهم فعليا إلّا أنّ في فرض عصيانه فيما بعد يكون الأمر بكل منهما فعليا في زمان واحد ، أمّا الأمر بالأهمّ فلعدم سقوطه بالبناء على عصيانه أو بعصيانه فيما بعد ، وأمّا الأمر بالمهم فلحصول ظرفه وفعلية شرط وجوبه ونتيجتها استدعائهما الجمع بين الضدين في هذا التقرير.

أقول : محذور طلب الضدين في عرض واحد لا يجري في صورة الترتب فانّ مع امتثال الأمر بالأهم لا أمر بالمهم ومع عصيانه فيما بعد وترك امتثاله فالأمر بالأهم وإن لم يسقط ما دام ظرف امكان امتثاله باقيا إلّا أنّه يقتضي الإتيان بمتعلّقه والمفروض أنّ الإتيان به هادم لموضوع الأمر بالمهم والأمر بالمهم لا يقتضي حفظ موضوعه بل يقتضي الإتيان بمتعلّقه على تقدير وجود الموضوع كما هو مقتضى عدم خروج الحكم المشروط من الاشتراط إلى الإطلاق مع إحراز شرطه المقارن أو المتأخر.

وبالجملة الأمر بالمهم لا يجتمع مع امتثال الأمر بالأهم ويجتمع مع عدم امتثاله ولكن لا يقتضي عدم امتثال الأمر بالأهم ، حتى تقع المطاردة بين التكليفين.

[١] يعني نلتزم بأنّ ملاك الاستحالة في طلب الضدين في عرض واحد ، آت في صورة طلبهما بنحو الترتب إلّا أنّ لزوم طلب الضدين في الصورة الثانية أي بنحو الترتب انّما كان بسوء اختيار المكلف حيث كان متمكنا على التخلّص منه بامتثال

٢٠١

فإنه يقال : استحالة طلب الضدين ، ليس إلّا لأجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته ، لا تختص بحال دون حال ، وإلّا لصح فيما علق على أمر اختياريّ في عرض واحد ، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب ، مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال.

إن قلت : فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك [١] ، فإن الطلب في كل منهما في الأول يطارد الآخر ، بخلافه في الثاني ، فإن الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم ، فإنه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهم ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه ، وعدم عصيان أمره.

______________________________________________________

الأمر بالأهم ولا دليل على قبح طلب المحال فيما إذا كان بسوء الاختيار.

وأجاب قدس‌سره بأنّ طلب المحال من الحكيم الملتفت إلى امتناع متعلّق تكليفه قبيح ولا يختصّ قبحه بحال دون حال ومجرّد التمكّن على التخلّص من طلب المحال لا يرفع قبحه وامتناعه وإلّا لصحّ الأمر بالمتضادين في عرض واحد معلّقا على أمر اختياري بأن يأمر المولى عبده فيما إذا صعد على السطح أن يجمع بين الحركة والسكون ، حيث إنّ العبد متمكّن على التخلّص منه بترك الصعود.

[١] يعني ملاك قبح طلب الضدين في عرض واحد لا يجري في صورة طلبهما بنحو الترتب وذلك لأنّ الأمر بكل من الضدين ـ ولو كان أحدهما أو كلاهما معلّقا على أمر اختياري ـ قبيح ، لاقتضاء كل منهما صرف المكلف قدرته في متعلّقه دون الآخر والمفروض أنّ المكلف مع صرفه قدرته في أحدهما لا يتمكن من صرفها في الآخر وهذا هو معنى المطاردة بين التكليفين ولا يأتي هذا المحذور في صورة الأمر بهما على نحو الترتب إذ بناء عليه لا يقتضي الأمر بالمهم صرف المكلف قدرته في متعلّقه إلّا على تقدير تحقق شرطه يعني عصيان الأمر بالأهم.

٢٠٢

قلت : ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهم؟ وهل يكون طرده له إلّا من جهة فعليته ، ومضادة متعلقه للأهم؟ والمفروض فعليته ، ومضادّة متعلقه له.

وعدم إرادة غير الأهم على تقدير الإتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه ، على تقدير عدم الإتيان به وعصيان أمره ، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير ، مع ما هما عليه من المطاردة ، من جهة المضادة بين المتعلقين ، مع أنه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم ، فإنه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد ، كما كان في غير هذا الحال ، فلا يكون له معه أصلا بمجال.

______________________________________________________

وأجاب قدس‌سره بما حاصله : أنّ المطاردة بين الطلبين عبارة عن اقتضاء كل منهما صرف المكلف قدرته في متعلّقه الذي لا يجتمع مع متعلّق الآخر وهذا المحذور بعينه يأتي في صورة الأمر بالضدين بنحو الترتب ، فإنّ الأمر بالمهم مع فعليّته ـ كما هو فرض عصيان الأمر بالأهم فيما بعد ـ يقتضي صرف المكلّف قدرته في متعلّقه مع عدم إمكان اجتماع متعلّقه مع الأهم وحيث إنّ الأمر بالأهم غير ساقط في الفرض فهو أيضا يقتضي الإتيان بمتعلّقه.

وإلى ذلك يشير بقوله : «كيف لا يطارده الأمر بغير المهم (١) إلخ» ، أي كيف لا يطارد الأمر بالمهم الأمر بالأهم والضمير المفعولي في لا يطارده يرجع إلى الأمر بالأهم ، وهل يكون طرد الأمر بالمهم للأمر بالأهم إلّا من جهة فعليّة الأمر بالمهم ومضادة متعلّقه مع متعلق الأمر بالأهم ، وعدم إرادة المولى المهم ـ على تقدير الإتيان بالأهم ـ لا يوجب عدم طرد الأمر بالمهمّ لطلب الأهم ، مع فعليته (أي الأمر بالمهم) في فرض عدم الإتيان بالأهم وتحقق عصيان أمره فيما بعد ، فيلزم اجتماع الطلبين على هذا التقدير ـ أي على تقدير فعلية الأمر بالمهم ـ مع ما عليه الطلبان من

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٥.

٢٠٣

إن قلت : فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات؟

قلت : لا يخلو : إما أن يكون الأمر بغير الأهم ، بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة.

وإمّا أن يكون الأمر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة ، وأن الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم ، لا أنه أمر مولوي فعلي كالأمر به ، فافهم وتأمل جيدا.

______________________________________________________

المطاردة بينهما الناشئة عن المضادة بين المتعلقين ، مع أنّه يكفى في امتناع اجتماع الطلبين ولو الطرد من طرف الأمر بالأهم فقط حيث إنّ الأمر بالأهم في حال فعلية الأمر بالمهم يقتضي صرف القدرة في متعلّقه وترك متعلّق الأمر بالمهم ، كما كان يقتضي صرف القدرة على متعلّقه في غير حال فعلية الأمر بالمهم فلا يكون للأمر بالمهم مع الأمر بالأهم مجال أصلا.

أقول : ليت شعري كيف اعتقد قدس‌سره بالمطاردة في فرض الترتب مع أنّ الأمر بالأهم كما ذكرنا يقتضي عدم حصول تقدير الأمر بالمهم ، لا عدم الأمر بالمهمّ على فرض حصول تقديره ، والأمر بالمهم ، لا يقتضي حفظ تقدير نفسه بل يقتضي الإتيان بالمهم معلقا على حفظ تقديره وتصور كيفية اقتضائهما كاف في الالتزام بصحة الأمر بكل من الضدين على نحو الترتب.

فلعلّ إنكاره قدس‌سره وإصراره عليه لزعمه خروج الواجب المشروط عن الاشتراط إلى الإطلاق بفعلية شرطه في موطنه ولو كان موطنه فيما بعد ، كما إذا كان مشروطا بالشيء بنحو الشرط المتأخر ، ولكن الأمر ليس كذلك فانّ الواجب المشروط ولو مع فعلية شرطه في موطنه منوط بذلك الشرط ولا يكون فعليته بنحو فعلية الواجب

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المطلق فيما إذا كان مشروطا بشرط متأخر لم يتحقق موطنه وان كان يعلم أنّه يتحقق في موطنه ، إذ العلم بتحقّقه فيه لا يرفع الاختيار فيما كان ذلك الشرط أمرا اختياريا للمكلف ، وكذا الحال فيما كان مشروطا بشرط يكون حدوثه وبقائه شرطا في حدوث التكليف وبقائه كما تقدّم في البناء على ترك الأهم بنحو الشرط المقارن ممّا كان حدوثه وبقائه تحت اختيار المكلف.

نعم يخرج التكليف المشروط عن الاشتراط بحسب النتيجة ويدخل في الواجب المطلق بحسبها فيما كان مجرّد حدوث الشيء بنحو الشرط المتقدم أو المقارن شرطا في حدوث التكليف وبقائه ، أو كان حصول الأمر غير الاختياري شرطا للتكليف بنحو الشرط المتأخر فانّ مع العلم بحصول ذلك الأمر غير الاختياري يكون داعوية التكليف المشروط به فعليا ومقتضيا للإتيان بمتعلقه ، كما كان الاقتضاء في التكليف المطلق ولكن الشرط في الأمر بالمهم اختياري سواء كان أمرا متأخرا ـ الذي هو ترك الأهم وعصيان أمره ـ أو كان أمرا مقارنا استمراريا الذي هو البناء على ترك الأهم كما تقدم.

والمتحصل من جميع ما ذكرنا أنّ القائل بالترتب يلتزم بالجمع بين الطلبين في زمان واحد يمكن فيه للمكلّف الأخذ بامتثال كل منهما وترك الآخر سواء كان الزمان المزبور قصيرا أو طويلا ولكن لا يقتضي الطلبان الجمع بين متعلّقيهما ليثبت محذور التكليف بما لا يطاق وامّا إذا انقضى ذلك الزمان بحيث صار أحد الطلبين غير قابل للامتثال كما إذا ترك الأهم في زمان لا يمكن بعده امتثاله فالأمر بالآخر بعد ذلك الزمان لا يحتاج إلى تصوير الترتب.

وبالجملة انّما يحتاج إلى الترتب فيما إذا أريد ثبوت كل من الأمر بالأهم والمهم

٢٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

في زمان واحد أو أريد ثبوت كل من الأمرين كذلك فيما كانا متساويين من حيث الأهمية وعدمها.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه إذا كان كل من الأمر بالأهم والأمر بالمهم من الواجب الفوري بنحو يكون الوجوبان فورا ففورا تكون فعلية الأمر بالأهم لتمامية موضوعه مطلقة والأمر بالمهم فعليّته مشروطة بشرط متأخر وذلك الشرط المتأخر يتحقق بمضيّ زمان يكون فيه الإتيان بالأهم ممكنا ولم يمتثل فيه ففي فرض عدم امتثاله يجتمع الأمر بالأهم مع الأمر بالمهم ، ولكن لا يقتضي اجتماعهما طلب الجمع بين الضدين أصلا ويبقى الأمر بالأهم والأمر بالمهم في فرض عدم الإتيان بالأهم بنحو الشرط المتأخر إلى آخر زمان يمكن فيه الإتيان بالأهم ، حيث إنّ المفروض عدم سقوط الأمر بالأهم بمخالفة تكليف فوريته ، وبعده يسقط الأمر بالأهم ويبقى الأمر بالمهم لو أمكن امتثاله ، وإلّا يسقط هو أيضا. ولو كان التكليف بالأهم من قبيل الواجب المضيق بأن يكون زمان التكليف به مساويا لزمان الفعل يكون عصيان الأمر بالأهم شرطا متأخرا لحصول الأمر بالمهم فيما كان التكليف به من الأمر بالمضيق أيضا ولكن عصيان الأمر بالأهم يتحقق بمجرد ترك الدخول في أول جزء من زمانه لعدم امكان امتثاله بعد ذلك كما هو فرض كونه من الواجب المضيق ، فيحدث التكليف بالمهم من زمان الأمر ولكن معلقا على العصيان المفروض بنحو الشرط المتأخر.

ولو قيل بحدوث الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم في زمان بنحو الترتب ، فقد ذكرنا أنّهما لا يقتضيان الجمع بين الضدين ، وهكذا الحال لو كان الأمر بالمهم موسعا وقيل بأنّ الأمر بالموسع يزاحم مع الأمر بالأهم المضيق ، ولكن قد تقدّم عدم التزاحم بينهما حتى يحتاج في تصوير الأمر بهما في زمان إلى تصوير الترتّب.

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وذكر المحقق النائيني قدس‌سره في إثبات جواز الترتب مقدمات خمسة وجعل أهمها الرابعة ، فلا بأس بالتعرض لها في المقام وحاصل ما ذكره أنّ ثبوت الحكم وانحفاظ خطابه في تقدير يكون بأحد الأنحاء الثلاثة :

النحو الأوّل : أن يكون الحكم مشروطا بوجود ذلك التقدير أو مطلقا بالإضافة إليه وذلك في الإطلاق والتقييد اللحاظيّين في ناحية الموضوع لذلك الحكم ، والتقييد اللحاظي كالإطلاق اللحاظي يختص بالقيود الأوّلية التي لا يتوقف لحاظها في الموضوع على جعل الحكم ، ككون الماء كرّا أو قليلا ، كون البالغ العاقل مستطيعا أو فقيرا والعالم عادلا أو فاسقا وإلى غير ذلك ، فالمولى الملتفت إلى هذا النحو من القيود يأخذها في موضوع الحكم عند دخالتها في ملاك ذلك الحكم فيكون الموضوع مقيدا ، ولا يأخذها فيه في مورد عدم دخالتها فيكون الموضوع مطلقا ، ولا يعقل الإهمال في موضوع الحكم بالإضافة إليها ثبوتا نعم يمكن الاهمال بالإضافة إليها في مقام الإثبات خاصة كما إذا لم يكن المولى عند ذكر خطاب الحكم في مقام بيان القيود للموضوع.

النحو الثاني : أن يكون ثبوت الحكم مطلقا بنتيجة الإطلاق أو مقيدا بنتيجة التقييد ، وذلك في الإطلاق أو التقييد الملاكيّ المعبّر عنه بالإطلاق أو التقييد الذاتيّان كما في موضوع الحكم بالإضافة إلى القيود والانقسامات الثانويّة الحاصلة للموضوع في فرض جعل الحكم له ، ككون المكلّف عالما بالحكم أو جاهلا به فانّ العلم بحكم ، فرع ثبوت ذلك الحكم مع قطع النظر عن العلم ، ولو كان العلم مأخوذا في موضوعه لم يكن للحكم ـ مع قطع النظر عن العلم به ـ ثبوت ، فلا يمكن للحاكم أن يأخذ العلم بحكم في موضوع ذلك الحكم وإذا لم يمكن التقييد ، لم يكن للموضوع

٢٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بالإضافة إليه إطلاق فإنّ الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في المورد القابل له.

وإن شئت قلت الخطاب الدالّ على جعل الحكم للموضوع مهمل بالإضافة إلى هذه القيود لا محالة.

نعم يمكن سريان ملاك الحكم في صورتي وجود القيد وعدمه كما يمكن انحصاره على صورة القيد كما في ملاك وجوب القصر على المسافر واعتبار الجهر أو الاخفات في القراءة ، ولكن الكاشف عن الإطلاق الملاكي كما في صورة سريان الملاك أو عن التقييد الملاكي كما في صورة انحصار الملاك بفرض القيد إنّما يكون الخطاب الآخر غير الخطابات المتضمنة لجعل الأحكام بعناوينها الأولية ، ولذا نحتاج في تسرية الأحكام إلى الجاهلين بها ، إلى ما دلّ على بطلان التصويب وأدلّة وجوب تعلّم الأحكام.

ثمّ على تقدير ثبوت القيد في ناحية الموضوع سواء كان بخطاب أوّلي أو ثانوي لا يجب على المكلّف تحصيل ذلك القيد حيث إنّ الحكم لا يقتضي تحصيل تقديره بلا فرق بين التقييد اللحاظي والتقييد الملاكي فإنّ حصول الحكم فرع حصول تقدير القيد وكأنّه المعلول لذلك التقدير.

النحو الثالث : أن يكون ثبوت الحكم والتكليف في تقدير بحيث يكون ذلك التقدير مقتضى التكليف ومقتضى خطابه ، كالفعل في مورد التكليف الوجوبي والترك في التحريمي فإنّ الوجوب يثبت ويقتضي الفعل والتحريم يقتضي الترك وهدم الوجود فانحفاظ الوجوب في فرض الفعل ، والتحريم في فرض الترك ليس من جهة تقييد الموضوع بالفعل في الأوّل وبالترك في الثاني لأنّ هذا التقييد يوجب كون

٢٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجوب أو التحريم من قبيل طلب الحاصل سواء كان التقييد لحاظيا أو ملاكيّا ، كما أنّ انحفاظ الخطاب ليس لاطلاق الموضوع حيث إنّ الإطلاق في قوة التصريح بكلا التقديرين ففي إطلاق الموضوع للتكليف أيضا طلب للحاصل أو طلب للمحال يعني الجمع بين طلب الوجود مع فرض الترك والوجود أو طلب الترك مع فرض الوجود والترك.

وإن شئت قلت : بما انّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فلا يمكن الإطلاق في موضوع التكليف الوجوبي أو التحريمي بالإضافة إلى الفعل أو الترك ، لامتناع تقييده بهما.

لا يقال : تقسيم المكلف إلى المطيع والعاصي من الانقسامات الثانوية للموضوع نظير كون المكلّف عالما بالحكم أو جاهلا به فيكون التكليف فيهما بالإطلاق الملاكي.

فإنّه يقال : الكلام في منشأ العنوانين وهو الفعل والترك فانّه لا يمكن كونهما قيدا للتكليف ، للزوم المحذور بلا فرق بين ورود التقييد في الخطاب الأوّل أو الثاني بل ثبوت التكليف معهما لكون الفعل مقتضى التكليف الوجوبي والترك مقتضى الطلب التحريمي ، نظير حمل الوجود والعدم على الماهية مع خروجهما عنها وعدم أخذهما فيها وإلّا لما صحّ الحمل عليها.

ورتّب قدس‌سره على هذه المقدمة بأنّ ثبوت التكليف بالأهم على تقديري الإتيان بمتعلّقه وعدمه بمقتضى نفس التكليف على ما مرّ في بيان النحو الثالث من أنحاء ثبوت التكليف واقتضائه للفعل أو الترك.

٢٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وبتعبير آخر التكليف بالأهم يقتضي الإتيان بمتعلّقه وهدم تركه ، ولا يقتضي عدم ثبوت الأمر بالمهم على تقدير تركه ، وثبوت التكليف بالمهم على تقدير ترك الأهم من ثبوت التكليف في تقدير بالتقييد اللحاظي فليس للأمر بالمهم أن يترقّى إلى مرتبة ترك الأهم ولا للأمر بالأهم أن يتنزّل ويقتضي عدم الأمر بالمهم على تقدير ترك الأهم فلا يكون بين التكليفين أي منافرة ومطاردة.

وبالجملة إنّ التكليف يثبت مع فعلية ما أخذ في موضوعه بالتقييد اللحاظي في الخطاب الأوّل أو الثاني ويقتضي الفعل فيما كان وجوبا من غير أن يؤخذ في ناحية موضوعه تقدير الفعل أو الترك ، كما أنّه يثبت بفعلية ما أخذ في موضوعه فيما كان تحريما ويقتضي الترك من غير أن يؤخذ في موضوعه تقدير الترك أو الفعل بل هما خارجان عن موضوع التكليف ولكن التكليف مع ثبوته يقتضي الفعل إذا كان ايجابا والترك إذا كان تحريما ، ويتفرع على ذلك أنّ الأمر بالمهم لا يقتضي تحقيق موضوعه بل يقتضي الإتيان بمتعلّقه على تقدير موضوعه والأمر بالأهم يقتضي هدم الموضوع للأمر بالمهمّ حيث إنّ الإتيان بالأهم هو مقتضى ثبوته بالنحو الثالث ، ولا يقتضي عدم الامر بالمهم على تقدير ثبوت موضوعه (١).

أقول : ثبوت الحكم وفعليّته يكون بفعليّة موضوعه وخروج ما اعتبر فيه من ظرف التقدير إلى التحقيق ، واعتبار قيد في الموضوع يكون بلحاظه فيه عند جعله ، وكل ما لا يمكن أخذه في الموضوع ولا تقييده به يكون الموضوع بالإضافة إليه مطلقا يعني لا دخل لحصوله وعدمه في فعلية ذلك الحكم بخروج موضوعه إلى الفعليّة ، لا أنّ وجوده وعدمه دخيلان في الحكم ومن ذلك القبيل حصول متعلّق

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٩٣.

٢١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

التكليف في ظرفه وعدمه ، فان جعل التكليف انّما هو لامكان كونه داعيا إلى الفعل أو الترك وامّا حصول المتعلّق في ظرفه أو عدم حصوله فغير دخيل في الغرض المترتّب على جعل التكليف بل هو محقق للغرض منه.

وبتعبير آخر اطلاق الموضوع بالإضافة إلى شيء ليس معناه جمع فرضي حصول ذلك الشيء وعدمه في ذلك الموضوع ، ليقال إنّ في جمعها محذور طلب الحاصل وطلب الجمع بين النقيضين ، بل الإطلاق عبارة عن رفض القيد عن الموضوع وعدم أخذه فيه ، سواء كان منشأ الرفض وعدم الأخذ ، عدم دخله في الملاك ، أو عدم امكان أخذه فيه كما هو الحال في إطلاق الماهية بالإضافة إلى وجودها وعدمها حيث إنّ معنى اطلاقها عدم أخذ شيء فيها لا أخذ كلّ منهما فيها.

وبالجملة إذا لم يكن في الموضوع تقييد من الحاكم الملتفت كان حكمه بالإضافة إلى ذلك الشيء مطلقا قهرا ، فالتقابل بين الإطلاق والتقييد ثبوتا ليس من تقابل العدم والملكة ، بل التقابل بين الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات يكون كما ذكره فانّه مع عدم امكان بيان المتكلم القيد في كلامه ـ حتى مع أخذه في الموضوع أو المتعلّق في مقام الثبوت ـ يكون كلامه مجملا لا مطلقا وهذا الأمر يرجع إلى عدم ظهور الكلام وأجنبي عن الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت.

فالحاصل أنّ ما ذكره قدس‌سره من ثبوت التكليف وانحفاظه ـ بالنحو الثالث المتقدم ـ في حالتي الإطاعة والعصيان بحيث لا يكون داخلا في قسمي الإطلاق والتقييد لا أساس له ، إذ لا مانع من الإطلاق الذاتي بمعنى رفض القيود لا جمع القيود.

لا يقال : لو كان الملاك منحصرا في صورة واحدة من الانقسامات الثانوية فلا معنى لثبوت الإطلاق في التكليف كما إذا انحصر ملاك وجوب القصر مثلا على

٢١١

.................................................................................................

______________________________________________________

ما كان المسافر عالما بوجوبه.

فانّه يقال : نعم لو كان الملاك كذلك ، لما كان وجه للاطلاق اللحاظي الّا أنّه يثبت الإطلاق الذاتي في التكليف ، ولكن لا يكون الإتيان بمتعلّق التكليف من الجاهل مسقطا له لعدم وجود الملاك فيه ، نظير ما تقدم عن الماتن قدس‌سره من أنّ الإتيان بمتعلّق التكليف في العبادات بلا قصد التقرّب لا يكون مسقطا للتكليف لأنّ الغرض من التكليف التعبّد بمتعلّقه والإتيان به بقصد التقرّب ، وأمّا لو كان الملاك في فعل آخر كالتمام عند الجهل بوجوب القصر يكون الإتيان به مسقطا للتكليف بوجوب القصر لحصول ملاكه.

الملاك في الترتب

وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّه في موارد الترتب يكون مقتضى أحد التكليفين إخراج نفسه عن موضوع التكليف الآخر ويكون مقتضى التكليف الآخر الإتيان بالمتعلّق على تقدير عدم الإخراج بلا فرق بين أن يكون هذا النحو من الاقتضاء من طرف واحد كما في التزاحم بين الأهم والمهم أو من الطرفين بأن يكون مقتضى كل من التكليفين الخروج عن موضوع التكليف الآخر كما في مورد التزاحم بين واجبين متساويين لا يكون أحدهما أهم من الآخر فانّ صرف المكلّف قدرته على أحد الواجبين يوجب انتفاء القدرة على الآخر فيرتفع الآخر بارتفاع موضوعه.

وقد تقدم أنّه لا يتعين في التزاحم بين التكليفين جعل العصيان لأحدهما شرطا متأخرا في التكليف بالآخر كما في الأهم والمهم بل الموجب لارتفاع المنافاة بين خطابي التكليفين والجمع بينهما في مورد تزاحمهما كون التكليفين بحيث لا يلزم

٢١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من ثبوتهما في زمان طلب الجمع بين الضدين بجعل مطلق الترك شرطا كما في الواجبين المتساويين في الملاك فيكون ترك كل منهما بنحو الشرط المتأخر ، شرطا في التكليف بالآخر ولو لم يكن هذا الترك بنحو العصيان كما لا يخفى.

ونظير هذا الترتب ـ أي الحاصل من حكم العقل في الجمع بين خطابي التكليفين أو بين تكليفين مستفادين من خطاب واحد ـ الترتب الحاصل بين تكليفين فيما يكون مقتضى أحدهما ارتفاع موضوع الآخر بانتفاء قيده المأخوذ فيه غير القدرة كما إذا وجب على المكلف الخروج إلى السفر فورا ففورا للدفاع عن حوزة الإسلام ودفع الباغي عنها فإنّه يكون الترك الخروج موجبا لثبوت الموضوع لوجوب الصلاة تماما ، ولا يمكن لفقيه أو متفقّه أن يلتزم بأنّ الصلاة تماما ضد للخروج إلى الدفاع فلا يمكن للشارع الأمر بهما في زمان واحد فلا يجب على المكلف الصلاة تماما بل ولا قصرا لأنّ وجوب القصر منتف بعدم الموضوع له ولا يجب التمام لعدم الأمر به لكونه ضدا خاصا للخروج الواجب وكذا لا يجب عليه الصوم فيما لو وجب هذا الخروج في شهر رمضان.

ودعوى التفرقة بين الترتب في هذا القسم والترتب في القسم المتقدّم مجازفة يجدها من تأمّل في الجمع بين التكليفين فيهما.

نظرية الأحكام القانونيّة في التزاحم

وقد يقال : في المقام كما عن بعض الأعاظم (أطال الله بقائه) أنّه لا حاجة في موارد التزاحم إلى تصوير الترتب بل كل من الضدين كالصلاة والازالة متعلّق للطلب في عرض واحد من غير أن يلزم من ثبوت الحكمين في عرض واحد طلب الجمع

٢١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بين الضدين.

وبنى ما أسّسه على مقدمات سبعة وملخص الثلاثة الأخيرة منها التي تفي بمرامه هو : أنّ خطاب الحكم المجعول بنحو القانون لا ينحلّ إلى الخطابات الشخصيّة بحسب افراد المكلّفين أو بحسب افراد الموضوع لأنّ الخطاب الواحد بنحو الكلّي في نفسه كاف في الانبعاث من غير حاجة إلى الانحلال ، ولو كان في خطاب الحكم القانوني انحلال بحسب الموضوع لزم الالتزام به في الخطابات الإخبارية أيضا كما إذا قال قائل : «إنّ النار باردة» فيلزم الالتزام بأنّ المخبر المزبور قد كذب بعدد ما في الخارج من أفراد النار وهو رأي سخيف.

ثمّ إنّ الميزان في فعلية الحكم المجعول بنحو القانون أن يترتّب عليه انبعاث عدة من المكلّفين خروجا عن الاستهجان ، ولا يعتبر ترتب انبعاث الجميع لبطلان الانحلال.

وبالجملة فرق بين الحكم الجزئي المجعول المتوجّه إلى شخص أو أشخاص معيّنة وبين الخطابات العامّة المتضمّنة لأحكام قانونية ، فانّ توجيه خطاب شخصي إلى واحد أو عدّة مع العجز عن موافقته مستهجن ، وهذا لا يجري في الخطابات العامة فانّ توجيهها إلى المكلفين ولو مع انبعاث بعضهم صحيح غير مستهجن.

وغير خفى أنّ الحكم الكلي القانوني بخطابه لا ينظر إلى الحالات الطارية على المكلف الناشئة من جعل الحكم أو من الابتلاء بالواقعة ككونه عالما بجعل القانون أو جاهلا به ، قادرا أو عاجزا عنه ، فانّ تلك الحالات متأخرة عن موضوع الحكم الكلّي بمرتبتين لتأخرها عن جعل الحكم والابتلاء بواقعته وتأخرهما عن الموضوع كما

٢١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يخفى والخطاب الناظر إلى الموضوع في مقام الجعل مطلق لا يدخل في مدلوله تلك الحالات.

لا يقال : لا يمكن الإهمال في موضوع الحكم ولو كان بنحو القانون الكلي فانّ الموضوع فيه أيضا امّا مطلق أو مقيّد.

فانّه يقال : معنى عدم الإهمال في الموضوع هو انّ القيود الراجعة إليه إمّا أن تكون دخيلة فيأخذها جاعل الحكم في موضوع حكمه ، أو غير دخيله فلا يأخذها فيه ويجعل الحكم للطبيعي ، وأمّا الحالات الطارية الناشئة من جعل الحكم أو بعد الابتلاء فلا يرجع شيء منها إلى الموضوع في مقام الجعل ليأخذها فيه أو يرفضها عنه.

ثمّ إنّه لا شأن للعقل أن يتصرّف في مقام جعل التكليف ويقيّده بالقدرة لا بنحو الكشف عن التقييد شرعا ولا بنحو الحكومة ، وانّما شأنه الحكومة في مقام الامتثال بأن يعذر المكلف إذا كان جاهلا قاصرا بالإضافة إلى الحكم الكلي القانوني أو عاجزا عن امتثاله وإن كان طاغيا أو عاصيا يحكم عليه باستحقاقه العقوبة.

أمّا عدم تقييده شرعا فباعتبار أنّ القدرة على الفعل من الحالات الطارية في مقام الامتثال فلا يرجع إلى مقام الجعل وفعلية الحكم ـ أي جعله مورد الاجراء ـ وأمّا عقلا فلما تقدم من أنّه ليس شأن العقل التصرف في مقام الجعل بتقييد التكليف بالقدرة.

ويدلّ على عدم أخذ القدرة والابتلاء في موضوع الحكم تسالمهم على الفحص في موارد الشك في القدرة ولو كان كسائر قيود الموضوع لجرى فيه الأصل النافي بلا فحص ولو كان الابتلاء من قيود الموضوع لكان الأمر في الأحكام الوضعيّة

٢١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أيضا كذلك فلا يكون الخمر الخارج عن الابتلاء بنجس كما لا يخفى (١).

أقول : من يلتزم بالانحلال في خطابات التكاليف وغيرها يريد الانحلال في مدلول الخطاب الواحد حيث إنّه إذا كان في فعل كل مكلف ملاك مستقلّ تعلّق به غرض المولى يكون الثابت في حقه حكما مستقلا وكذلك الانحلال بحسب وجودات الموضوع.

وبتعبير آخر إذا كان الحكم المجعول تابعا للملاك فإن كان الملاك قائما بصرف وجود الفعل من أي مكلّف صدر يكون المجعول على كل مكلف من قبيل الواجب الكفائي حيث لا يمكن بعث العنوان وصرف وجود طبيعي المكلف فيكون المبعوث إلى ذلك الفعل كل فرد من أفراد المكلف ما دام لم يحصل طبيعي ذلك الفعل من بعضهم ، بخلاف ما إذا كان الغرض قائما بفعل كل مكلّف بحيث لا يغني فعل الآخرين عن فعله فانّ المجعول في حقّ كلّ مكلف يكون حكما مستقلا وإنّ إنشاء هذه الأحكام كلّها بخطاب واحد ، فالانحلال في مدلول الخطاب لا في نفس الخطاب ، ولا يفرق في هذا الانحلال بين أفراد الموضوع في التكاليف وأفراده في الإخبارات ولهذا لا يلزم تعدّد الكذب مع الانحلال فانّ الموصوف بالكذب هو الدالّ ولو بحسب مدلوله والخطاب لا يخرج عن وحدته ولا يقال إنّه كلام متعدّد لانحلال مدلوله ، وأمّا لو انطبق عنوان محرّم على المدلول بأن كان الموصوف بهذا العنوان هو المدلول يلتزم فيه بالتعدّد كعنوان «كشف ما ستره الله على المؤمن» فانّه إذا قال : كل من في البلد يشرب الخمر ، فقد اغتاب بعدد من فيه ولكنّه إذا لم يشربها أحد منهم فقد كذب كذبة واحدة.

__________________

(١) تهذيب الأصول ١ / ٣٠٢ ـ ٣١٤ ، ط جماعة المدرسين بقم. ص ٢٤٢ ـ ٢٤٨ ، ط مطبعة مهر بقم.

٢١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى ذلك فلا ينحلّ مدلول الخطاب بالإضافة إلى العاجز وغير القادر على متعلّق التكليف بأن يكشف الخطاب عن جعل الحكم له أيضا ، إذ القدرة مأخوذة في موضوع التكليف فيقبح تكليف العاجز ، وقياس القدرة على متعلق التكليف ، بالعالم بالتكليف مع الفارق ، حيث تقدم سابقا عدم امكان أخذ العلم بحكم في موضوع ذلك الحكم فيكون للموضوع إطلاق بالإضافة إلى العالم والجاهل بمعنى الإطلاق الذاتي لا محالة ، وشمول خطاب الحكم للجاهل به لا بعنوان الجاهل بل بعنوان البالغ العاقل لا بأس به ويكون وصول هذا الخطاب بنفسه أو بوجه آخر موجبا للعلم به فيتنجز ، بخلاف شموله للعاجز فإنّ اعتبار التكليف في حقه لغو فضلا عن توجّه الخطاب إليه وبالجملة القدرة على متعلّق التكليف تعتبر من قيود الموضوع لذلك التكليف.

ولو اجتمع فعلية تكليف بالإضافة إلى مكلّف مع تكليف آخر وتمكّن المكلّف من الجمع بينهما في الامتثال كما ذكرنا في اجتماع الواجب المضيّق والموسّع فلا تزاحم ، وإن لم يتمكّن من الجمع بينهما في الامتثال بأن كان صرف القدرة على امتثال أحدهما موجبا لارتفاع التكليف بالآخر بارتفاع موضوعه يعني القدرة عليه ، فهو مورد التزاحم وقد تقدم أنّه لو لم يصرف قدرته على أحدهما بالخصوص مع كونه أهم أو محتمل الأهميّة لأمكن في ظرف ترك الأهم أو محتمل الأهمية الأمر بالآخر بنحو الترتب ولا يلزم من ثبوت التكليفين محذور طلب الجمع بين الضدين.

ثمّ إنّ القائل بأخذ القدرة على المتعلّق في موضوع التكليف وانّ القدرة عليه كسائر القيود المأخوذة في الموضوع ، يلتزم بأنّ الموضوع للتكليف قد أخذ فيه هذه القدرة ثبوتا وأنّ ترك ذكره في الخطاب للاعتماد على قرينية التكليف عقلا ، ومن

٢١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الظاهر أنّ ما يدركه العقل ليس اعتبار القدرة الفعلية في المكلف بل التمكن الذي يمكن للمكلف معه تحقيق المتعلق في الخارج ولو باتيان مقدمات الفعل بعد فعلية التكليف بحصول جميع القيود المعتبرة في موضوع ذلك التكليف التي منها القدرة المشار إليها ، لأنّ مع هذه القدرة لا يكون التكليف بالإضافة إليه عبثا بخلاف من لم يكن له هذه القدرة وإذا حصلت القيود على الكيفية المعتبرة في الموضوع ومنها القدرة المزبورة يكون التحفظ على تلك القدرة واخراجها إلى الفعلية بفعل المقدمات داخلا في حكم العقل بلزوم الامتثال ـ على ما تقدّم في بحث مقدمة الواجب ـ فلا يجوز له تفويت القدرة إلّا بصرفها في واجب أهم أو محتمل الأهمية أو مساو له على ما يأتي الكلام في مرجحات باب التزاحم ، وهذا بخلاف سائر قيود الموضوع ممّا فرض في جعل الحكم تحقّق القيد في عمود الزمان كالطهر للمرأة من طلوع الفجر إلى دخول الليل فانّ التحفظ على مثل هذا القيد لا يدخل في موضوع حكم العقل حيث إنّ فرض حصوله في عمود الزمان في التكليف بالصوم ينافي لزوم التحفظ عليه. وأمّا لزوم الفحص عن القدرة وعدم الرجوع إلى البراءة الشرعية في موارد الشك في القدرة على متعلّق التكليف فهو لاستظهاره ممّا ورد في بعض الموارد كالفحص عن الماء ما دام في الوقت وكالفحص عن الساتر على العاري وغير ذلك ممّا يمكن مع ملاحظتها دعوى أنّ مثل حديث الرفع ناظر إلى عدم ايجاب الاحتياط في موارد الشك في التكليف من غير ناحية القدرة من سائر القيود المأخوذة في موضوعه أو الشك في أصل جعله ، كما لا يبعد أن يكون وجه تسالم الاصحاب ما ذكر.

والمتحصّل أنّ القدرة على متعلق التكليف بالمعنى المتقدم من القيود

٢١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المأخوذة في موضوع التكليف ثبوتا ، ويكشف عن تقييده بها العقل حيث لا يصحّ من المولى الحكيم تكليف العاجز لكونه لغوا ولا يقاس بالعلم بالتكليف والجهل به ممّا لا يمكن تقييد موضوع الحكم والتكليف بأحدهما ثبوتا للزوم الخلف ويكون للتكليف المجعول بالإضافة إليهما اطلاقا ذاتيا على ما تقدّم.

وما ذكره قدس‌سره من اعتبار النجاسة للخمر مع خروجه عن ابتلاء المكلّف غير صحيح فانّ النجاسة حكم وضعي وليس تكليفا متوجها إلى الأشخاص ، فيصحّ جعل النجاسة للشيء مع امكان ابتلاء مكلف ما به ولو في زمان ما ، دون ما إذا لم يمكن الابتلاء به أصلا ولذا لا يصحّ جعل النجاسة لكرة الشمس.

وبالجملة بعث العنوان إلى فعل شيء غير معقول فانّ العنوان لا يفعل شيئا ولا يتركه فالمبعوث إليه المندرجون تحت ذلك العنوان سواء كان التكليف مجعولا بنحو القضية الخارجية أو بنحو القضية الحقيقية وحيث إنّ في فعل كل من يندرج تحته ملاك مستقلّ يكون التكليف المجعول على المندرجين تحته انحلاليا.

وإذا لم يتمكن المكلف من الجمع بين التكليفين المجعول كل منهما على المتمكّن من متعلّقه في الامتثال ، مع تمكنه على امتثال كل منهما مع قطع النظر عن الآخر يكون هذا من التزاحم بين التكليفين في مقام الامتثال فينحصر التزاحم بينهما على ما كان صرف المكلف قدرته على امتثال أحد التكليفين موجبا لارتفاع التكليف بالآخر لعدم القدرة عليه مع صرف القدرة كذلك.

نعم ذكر المحقق النائيني قدس‌سره للتزاحم بين التكليفين موردا آخر لا يكون التزاحم بينهما ناشئا عن عدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال وهو ما إذا كان شخص

٢١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مالكا للنصاب الخامس من زكاة الإبل بأن كان عنده خمسة وعشرون إبلا وملك أثناء الحول إبلا آخر فصار عنده ستّة وعشرون إبلا ، فمقتضى ما دلّ على ثبوت خمس شياه على من ملك النصاب الخامس حولا هو وجوب إخراج خمس شياة ، ومقتضى ما دلّ على ثبوت بنت مخاض على من ملك النصاب السادس حولا وجوب بنت مخاض بعد تمام الحول من زمان تملك الإبل الآخر وأنّ ما دلّ على أنّ المال الواحد لا يزكّى في الحول مرّتين يوجب وقوع التزاحم بين التكليفين (١).

ولكن لا يمكن المساعدة عليه : لأنّ مقتضى ما دلّ على أنّ المال الواحد لا يزكّى في الحول مرّتين عدم جعل أحد الحكمين في الشريعة المقدسة في المثال فتقع المعارضة بين إطلاق خطاب وجوب خمس شياة بعد مضى الحول في الخمسة والعشرين إبلا وبين ما دلّ على وجوب بنت مخاض في الستة والعشرين ، لو لم نقل بأنّ ما ورد في عدم الزكاة في المال الواحد في الحول إلّا مرة واحدة ، قرينة على أنّ تملك الإبل الآخر إلى نهاية حول النصاب الخامس معفو عنه في الزكاة كما هو الصحيح.

وينبغي التنبيه على أمور :

التنبيه الأوّل : قد ذكر أنّ ملاك التزاحم بين التكليفين عدم التمكن من الجمع بينهما في الامتثال والتمكن من امتثال كل منهما في حد نفسه مع قطع النظر عن امتثال الآخر ، وعليه فلا تزاحم بين التكليفين المختلفين في الزمان بأن يحدث التكليف بأحدهما بعد انقضاء زمان التكليف بالآخر كما إذا لم يتمكن المكلّف من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٨٥.

٢٢٠