دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

آية الله الميرزا جواد التبريزي

دروس في مسائل علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: نگين
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8438-61-1
ISBN الدورة:
978-964-94850-1-0

الصفحات: ٤٠٨

فلأنه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه والباعث على طلبه ، وليس الغرض من المقدمة إلا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، ضرورة أنه لا يكاد يكون الغرض إلا ما يترتب عليه من فائدته وأثره ، ولا يترتب على المقدمة إلا ذلك ، ولا تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب ، وما لا يترتب عليه أصلا ، وأنه لا محالة يترتب عليهما ، كما لا يخفى.

وأما ترتب الواجب ، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها ، فإنه ليس بأثر تمام المقدمات ، فضلا عن إحداها في غالب الواجبات ، فإن الواجب إلا ما قلّ في الشرعيات والعرفيات فعل اختياري ، يختار المكلف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدماته ، وأخرى عدم إتيانه ، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته ، مع عدم ترتبه على تمامها ، فضلا عن كل واحدة منها؟

______________________________________________________

أنّ ترتّب ذي المقدّمة لا يكون أثرا لمقدّمة من مقدّمات الواجب النفسي ، وحصول الواجب النفسي لا يترتب على جميع المقدّمات في غالب الواجبات ، لأنّها غالبا من الأفعال الاختيارية التي يختارها المكلّف بعد حصول مقدّماتها تارة ويتركها أخرى ، وإذا لم يكن حصول ذي المقدّمة أثرا لجميع المقدّمات في غالبها ، فكيف يكون أثرا لكلّ مقدّمة في جميعها ، بل ذلك الترتّب يختصّ بالواجبات التوليدية. وعليه فلو كان الغرض من الأمر بالمقدّمة هذا الترتّب لاختصّ الوجوب الغيري بالمقدّمة السببيّة ، يعني ما تكون المقدّمة فيه تمام العلّة لحصوله.

وبالجملة بعد ما تبيّن أنّه ليس الغرض من الأمر بالمقدّمة إلّا حصول ما لولاه لا يحصل الواجب ، وأنّ هذا الغرض موجود في كلّ مقدّمة ، ولا دخل للإيصال وعدمه في حصوله ، يكون تخصيص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة بلا وجه.

أقول : لا يخفى أنّ ظاهر عبارة الماتن قدس‌سره أنّ الغرض المترتّب على المقدّمة

١٠١

نعم فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبية والتوليدية ، كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته ، لعدم تخلّف المعلول عن علته.

ومن هنا قد انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة ، يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية.

فإن قلت : ما من واجب إلّا وله علة تامة [١] ، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها ، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص.

______________________________________________________

حصول ما لولاه لما أمكن حصول الواجب ، وهذا غير حصول ما لولاه لما تمكّن المكلّف على الواجب ، ليورد عليه بأنّ التمكّن على الواجب يحصل بالتمكّن على مقدّمته ، لا على حصول مقدّمته.

[١] يعني بناء على كون الغرض من الأمر الغيري بالمقدّمة ، ترتّب ذيها عليها لا يلزم اختصاص الوجوب الغيري بمقدّمات الواجبات التوليدية ، والوجه في عدم اللزوم أنّ كلّ واجب له علّة تامّة ـ لامتناع وجود الممكن بلا علّة ـ فيكون متعلّق الوجوب الغيري في جميع الواجبات هي علّته التامّة بنحو الواجب الارتباطي ، بأن يتعلّق وجوب غيري واحد بمجموع أمور يترتّب عليها الواجب النفسي خارجا ، سواء كان الواجب النفسي من الأفعال الاختيارية أو التوليدية.

وأجاب قدس‌سره عن ذلك بأنّ فرض العلّة التامّة لكلّ واجب لا يوجب عموم الوجوب الغيري وعدم اختصاصه بالمقدّمة السببيّة ، وذلك لأنّ من أجزاء العلّة في الأفعال الاختيارية إرادتها ، ولا يمكن تعلّق الوجوب بالإرادة ولو كان غيريّا ، لكون مبادئها خارجة عن الاختيار ، حيث لا تكون المبادئ بإرادة أخرى ، ولو كانت بإرادة أخرى لتسلسل ، ومن أجل وضوح لزوم كون متعلّق الوجوب اختياريا ، كان إيجاب

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المقدّمة بغرض ترتّب ذيها عليها موجبا لاختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة السببيّة.

أقول : قد ذكرنا في بحث الطلب والإرادة أنّ قصد الفعل بنفسه أمر اختياري يتمكّن المكلّف من تركه أو عدم الاستمرار عليه ، وعليه فيمكن الالتزام ـ في الواجبات الاختيارية غير التوليديّة ـ بتعلّق وجوب غيري بمجموع المقدّمات التي منها قصد الإتيان بذي المقدّمة والاستمرار عليه ، وإن لم يكن مجموع هذه المقدّمة من العلّة التامّة حقيقة ، لما تقدّم من خروج الفعل الاختياري عن قاعدة توقف حصول الممكن على مرتبة الوجوب بتمام علته المعبر عن ذلك في ألسنة أهله بأن «الشيء ـ أي الممكن ـ ما لم يجب لم يوجد».

وبالجملة فبناء على الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته لا سبيل إلّا إلى الالتزام بأنّ إيجاب الشيء لا يكون إلّا بإيجاب المجموع ممّا يترتّب على حصولها ، حصول ذلك الشيء ، وإن لم يكن الترتّب من ترتّب المعلول على علّته.

وبتعبير آخر : كما أنّ الواجب النفسي إذا كان من قبيل الكلّ ، يكون الكلّ عين أجزائه حال اجتماعها ، مع أنّه لو لا جزء من أجزائه لما حصل ، ومع ذلك يتعلّق بالمجموع وجوب واحد ، لترتّب ملاك وغرض واحد في المجموع ، كذلك الحال في الواجب الغيري أنّه ليس إلّا مجموع ما يترتّب على مجموعه حصول الواجب النفسي ، فكل مقدّمة يتعلق به وجوب غيري ضمني ، لأنّ الغرض من إيجابها غيريا حصول الواجب النفسي ، وكون كلّ مقدّمة لولاها لما حصل الواجب النفسي ، هو ملاك أخذها في متعلّق الوجوب الغيري.

وإن شئت قلت : لا غرض نفسي ولا تبعي للمولى بالإضافة إلى كلّ من

١٠٣

قلت : نعم وإن استحال صدور الممكن بلا علة ، إلا أن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علته ، وهي لا تكاد تتصف بالوجوب ، لعدم كونها بالاختيار ، وإلا لتسلسل ، كما هو واضح لمن تأمل ، ولأنه لو كان معتبرا فيه الترتب ، لما كان

______________________________________________________

مقدّمات الواجب النفسي حال انفرادها ، حتّى يأمر بها مستقلّا.

وما ذكره الماتن قدس‌سره من أنّ القصد لكونه أمرا غير اختياري لا يتعلّق به تكليف ، غير صحيح ؛ لصحّة تعلّق التكليف بالأفعال التي تكون من قبيل العناوين القصدية ، وصحّة تعلّق النذر بمثل قصد الإقامة في الأماكن المقدّسة ـ مثلا ـ ونحو ذلك.

لا يقال : الأمر النفسي بفعل يكون داعيا إلى قصد ذلك الفعل ، فما معنى تعلّق الوجوب الغيري بذلك القصد؟

فإنّه يقال : نعم ، الأمر النفسي بفعل يكون داعيا إلى قصد ذلك الواجب ، إلّا أنّ نفس القصد لا يؤخذ في متعلّق التكليف النفسي ، ولا يمنع داعوية الأمر النفسي إليه عن تعلّق الوجوب الغيري به في ضمن تعلّقه بسائر مقدّماته ، نظير ما يلتزم القائل بوجوب المقدّمة السببيّة من أنّ الأمر بالمسبب وإن كان يدعو إلى قصد السبب ، ولكن لا مانع من تعلّق وجوب غيري بالسبب.

ولا يرد على الالتزام بالوجوب الغيري للمقدّمة الموصلة ما أورد على قصد التوصّل ، من أنّ لازم اعتبار قصد التوصّل في الواجب الغيري عدم الاجزاء فيما أتى المكلّف بالمقدّمة لا بقصد التوصّل.

والوجه في عدم الورود : أنّ اعتبار قصد التوصّل معناه اعتبار حصول المقدّمة بنحو خاصّ ، بأن يكون الداعي إلى الإتيان بها قصد الإتيان بذيها ، ولذا يقع الإشكال بلزوم عدم الإجزاء فيما إذا أتى بها المكلّف ، لا بقصد التوصّل. وهذا بخلاف قيد الإيصال ، فإنّه في أيّ زمان انضمّ إلى تلك المقدّمة وغيرها ، الإتيان بذيها يتمّ متعلّق

١٠٤

الطلب يسقط بمجرد الإتيان بها [١] ، من دون انتظار لترتب الواجب عليها ، بحيث لا يبقى في البين إلّا طلبه وإيجابه ، كما إذا لم تكن هذه بمقدمته ، أو كانت حاصلة من الأول قبل إيجابه ، مع أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة ، أو بالعصيان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التكليف ، كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن ، بسبب غرق الميت أحيانا أو حرقه ، ولا يكون الإتيان بها بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة.

______________________________________________________

الوجوب الغيري ، وبتمامه يحصل الإجزاء ، نظير ما إذا غسل ثوبه المتنجّس بالبول مرّة ، فإنّه في أيّ زمان انضمّ إليها الغسلة الثانية تحصل الطهارة.

[١] وهذا وجه آخر لتعلّق الوجوب الغيري بنفس المقدّمة لا بها بقيد الإيصال ، وحاصله أنّه لا ريب في سقوط الأمر الغيري بالإتيان بنفس المقدّمة ، فلو كان قيد الإيصال معتبرا في متعلّقه لما كان يسقط بمجرّد الإتيان بها ، بل كان اللازم انتظار ترتّب الواجب عليها ، حيث يكون سقوط الأمر بأحد أمور ثلاثة بموافقته أو عصيانه أو انتفاء موضوعه ـ والأخير كسقوط الأمر بالتكفين والدفن بغرق الميت ـ وسقوطه بالأخيرين غير مفروض في المقام فيتعيّن استناد سقوطه إلى الموافقة.

ودعوى أنّ سقوط الأمر يكون بالإتيان بغير المأمور به أيضا فيما إذا كان وافيا بالغرض لا تجدي في المقام ، فإنّ الوافي بالغرض إنّما يتعلّق به الأمر عند عدم المانع عنه ، والمانع ليس إلّا حرمته فعلا ، كما في الفرد المحرّم ، والمفروض في المقام عدم تعلّق النهي بالمقدّمة غير الموصلة.

أقول : ما ذكره الماتن قدس‌سره من سقوط الأمر الغيري بالإتيان بالمقدّمة وكون السقوط بنحو الموافقة للأمر الغيري مردود نقضا : بجميع الواجبات الارتباطية التي لها أجزاء تدريجية بلا اعتبار الموالاة فيها ، كما هو الحال في الأمر بتغسيل الميت ، فإنّه بعد غسله بماء السدر يسقط الأمر الضمني به ، بمعنى لا يجب غسله ثانيا ، مع

١٠٥

إن قلت : كما يسقط الأمر في تلك الأمور ، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به فيما يحصل به الغرض منه ، كسقوطه في التوصليات بفعل الغير ، أو المحرمات.

قلت : نعم ، ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض ، من الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع ، وهو كونه بالفعل محرما ، ضرورة أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلا ، فكيف يكون أحدهما متعلقا له فعلا دون الآخر؟

______________________________________________________

أنّ الواجب ليس هو الغسل بماء السدر فقط ، بل مجموع الأغسال الثلاثة ، وكذا فيما إذا غسل رأسه في غسل الجنابة أو فيما غسل ثوبه المتنجّس بالبول مرّة.

وحلّا : بأنّه لا مانع من سقوط الأمر عن مرتبة الداعوية بالإضافة إلى بعض متعلّقه دون بعضه الآخر.

وبالجملة يكون المقام ـ بناء على تعلّق الوجوب الغيري بمجموع مقدّمات يعبّر عنها بالموصلة ـ من قبيل الواجب الارتباطي ، لا أنّه يتعلّق وجوب مستقلّ بكلّ مقدّمة مقيدا بالإيصال بأن يكون انضمام سائر المقدّمات أو حصول الواجب النفسي قيدا للواجب الغيري ، بل الوجوب الغيري الواحد يتعلّق بنفس المقدّمات التي تكون بمجموعها موصلة ، ولا يكون نفس ترتّب ذي المقدّمة قيدا للواجب الغيري بأن يكون نفس حصول الواجب النفسي مقدّمة للواجب الغيري ، كما لا يكون ترتّبه عليها شرطا في نفس الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمات بنحو الشرط المتأخّر ، فإنّ جعل ترتّبه شرطا في الوجوب الغيري فرض لحصول المقدّمات ، فيكون وجوبها على تقدير ترتبه من قبيل الطلب الحاصل.

وكذا الحال فيما إذا تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة حين الإيصال ، بأن يكون الوجوب المتعلّق بها في ذلك الحين ، فإنّه يرجع إلى اشتراط ذلك الحين في

١٠٦

وقد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه بوجوه ، حيث قال بعد بيان أن التوصل بها إلى الواجب ، من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب ، ما هذا لفظه :

(والذي يدلّك على هذا ـ يعني الاشتراط بالتوصل [١] ـ أن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية ، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور ،

______________________________________________________

وجوبها ، لما تقدّم من رجوع القضية الحينية إلى الشرطية.

[١] قد استدل صاحب الفصول قدس‌سره على وجوب المقدّمة الموصلة بوجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ الحاكم بالملازمة بين إيجاب ذي المقدّمة ومقدّمته هو العقل ، والعقل لا يحكم بأكثر من الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّمته الموصلة.

الثاني : أنّ العقل لا يمنع من أن يأمر المولى بفعل كالحجّ مثلا ، وأن يصرّح «بالأمر بالمسير الموصل إلى الحج دون الذي لا يوصل إليه» ولو كانت الملازمة بين إيجاب ذي المقدّمة وإيجاب مقدّمته مطلقا لقبح التصريح بما ذكر ، ولذا يقبح تصريحه بأنّه يأمر بذي المقدّمة ولا يأمر بمقدّمته الموصلة ، أو لا يأمر بمقدّمته أصلا ، موصلة كانت أو غيرها.

الثالث : أنّه لا غرض للمولى في الأمر بالمقدّمة إلّا التوصّل إلى الواجب ، فيكون هذا التوصّل مأخوذا في متعلّق الوجوب الغيري ، إذ لا تكون المقدّمة بدونه مطلوبة ، والوجدان شاهد ـ عند إرادة شيء لحصول شيء آخر ـ على أنّ الأوّل لا يكون مرادا إذا تجرّد عن حصول ذلك الشيء الآخر ، بل تنحصر مطلوبيته بما إذا حصل الآخر.

وأجاب الماتن قدس‌سره بأنّ العقل المدرك للملازمة يرى الملازمة بين إيجاب ذي

١٠٧

وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : أريد الحج ، وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب ، دون ما لم يتوصل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الأمر بمثل ذلك ، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا ، أو على تقدير التوصل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه ، وأيضا حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها ، فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه ، وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا بمجرد حصول شيء آخر ، لا يريده إذا وقع مجردا عنه ، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله). انتهى موضع الحاجة من كلامه ، (زيد في علو مقامه).

______________________________________________________

المقدّمة وإيجاب نفس المقدّمة ، لأنّ ملاك الوجوب الغيري ثابت في نفس المقدّمة ، ولا يختصّ بالمقدّمة الموصلة أو المقدّمة المقيّدة بقيد آخر كقصد التوصّل ، فإذا لم يكن مانع عن تعلّق الوجوب الغيري بنفس المقدّمة على إطلاقها ـ كحرمة بعض أفرادها ـ ثبت الوجوب الغيري في مطلقها ، وعلى ذلك فلا يكون للآمر الحكيم غير المجازف بالقول التصريح بخلاف ذلك واختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ، فإنّ مع ثبوت ملاك ذلك الوجوب في مطلق المقدّمة وعدم المانع عن تعلّقه بمطلقها يكون التصريح بالاختصاص من المجازفة.

نعم الفرق بين الموصلة وغيرها إنّما هو في حصول المطلوب النفسي في صورة الإيصال وعدم حصوله في غيرها ، لكن من غير دخل للمقدّمة في اختيار حصول ذيها في الأوّل ، وعدم حصوله في الثاني ، بل يكون حصوله بحسن اختيار المكلّف وعدم حصوله بسوء اختياره ، كما لا يخفى.

وبالجملة الأثر المترتّب على نفس غسل الثوب مثلا ـ من ملاك الوجوب

١٠٨

وقد عرفت بما لا مزيد عليه ، أن العقل الحاكم بالملازمة دل على وجوب مطلق المقدمة ، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب ، فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه ، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة ، لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها ، وعدم اختصاصه بالمقيد بذلك منها.

وقد انقدح منه ، أنه ليس للآمر الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح ، وأن دعوى أن الضرورة قاضية بجوازه مجازفة ، كيف يكون ذا مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلا؟ كما عرفت.

نعم إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما ، وعدم حصوله في الأخرى ، من دون دخل لها في ذلك أصلا ، بل كان بحسن اختيار المكلف وسوء اختياره ، وجاز للآمر أن يصرّح بحصول هذا المطلوب في إحداهما ، وعدم حصوله في الأخرى ، بل من حيث إن الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب ، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه ، كما يأتي أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعيّ ، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسي

______________________________________________________

الغيري ـ هو حصول ما لولاه لما أمكنت الصلاة من طهارة الثوب مثلا ، وهذا الملاك مترتّب على نفس الغسل ، صلّى المكلّف بعد غسله أم لا ، فتصريح الآمر في فرض عدم حصول الصلاة بعدم حصول مطلوبه ، فهو بلحاظ مطلوبه النفسي ، لا مطلوبه الغيري ، ولذا يصحّ التصريح حينئذ بحصول مطلوبه الغيري مع عدم فائدته.

لا يقال : حصول الصلاة ـ مثلا ـ وتركها ، وإن كان لا يوجبان تفاوتا في ناحية الملاك والأثر المترتّب على غسل الثوب ، إلّا أنّه يؤثّر في اتّصاف الغسل بالمطلوبية إذا كان موصلا إلى الصلاة بعده ، وعدم اتصافه بها مع تركها ، ويؤثّر أيضا في جواز تصريح الآمر بمطلوبية الغسل غيريا في الأوّل دون الثاني.

١٠٩

التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا ، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة ، فضلا عن كونها مطلوبة ، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت إليها ، كما لا يخفى ، فافهم.

إن قلت : لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلية دون الأخرى ، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها ، وجواز التصريح بهما ، وإن لم يكن بينهما تفاوت في الأثر ، كما مرّ.

قلت : إنما يوجب ذلك تفاوتا فيهما ، لو كان ذلك لأجل تفاوت في ناحية المقدمة ، لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا ـ كما هاهنا ـ ضرورة أن الموصلية إنما تنتزع من وجود الواجب ، وترتبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها ، وكونها في كلا الصورتين على نحو واحد وخصوصية واحدة ، ضرورة أن الإتيان بالواجب بعد الإتيان بها بالاختيار تارة ، وعدم الإتيان به كذلك أخرى ، لا يوجب تفاوتا فيها ، كما لا يخفى.

وأما ما أفاده قدس‌سره من أن مطلوبية المقدمة حيث كانت بمجرد التوصل بها ، فلا جرم يكون التوصل بها إلى الواجب معتبرا فيها.

ففيه : إنه إنما كانت مطلوبيتها لأجل عدم التمكن من التوصل بدونها ، لا لأجل التوصل بها ، لما عرفت من أنه ليس من آثارها ، بل مما يترتب عليها أحيانا بالاختيار بمقدمات أخرى ، وهي مبادئ اختياره ، ولا يكاد يكون مثل ذا غاية

______________________________________________________

فإنّه يقال : إنّه بعد عدم التفاوت في ناحية ملاك إيجاب الغسل وأثره في الصورتين ، لا يمكن اتّصافه بالمطلوبيّة في إحداهما وعدم اتصافه بها في الأخرى ؛ لأنّ عنوان الموصوليّة ينتزع من حصول الواجب النفسي من غير أن يكون لحصوله دخل في مقدّميّة الغسل أصلا ، ولأنّ المقدّمة في كلتا الصورتين على نحو واحد.

١١٠

لمطلوبيتها وداعيا إلى إيجابها ، وصريح الوجدان إنما يقضي بأن ما أريد لأجل غاية ، وتجرد عن الغاية [١] بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها ، يقع

______________________________________________________

[١] ذكر الماتن قدس‌سره أوّلا بأنّ الغاية والملاك في الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة ليس التوصّل بها إلى ذيها ، بل مطلوبية المقدّمة لأجل عدم تمكّن المكلّف من ذي المقدّمة بدونها ، وذلك لأنّ ترتّب ذي المقدّمة ليس أثرا للمقدّمة ، بل الترتّب ممّا يترتّب على المقدّمة أحيانا بالاختيار الناشئ من مقدّمات أخرى ، التي يعبّر عنها بمبادئ الاختيار ، والشيء المترتّب على المقدّمة كذلك لا يكون غرضا من إيجاب المقدّمة وداعيا إليه.

وقوله : «وصريح الوجدان» جواب آخر عمّا ذكره في الفصول ، وحاصله : أنّه مع تسليم كون الغاية والملاك في الوجوب الغيري هو التوصّل إلى ذيها ، لا يلزم منه عدم تعلّق الوجوب الغيري بنفس المقدّمة فيما تجرّدت عن ذيها ، استنادا إلى عدم حصول سائر أجزاء علّة تلك الغاية ، يعني ذي المقدّمة.

وبتعبير آخر : إنّ غسل الثوب ـ مثلا ـ يكون واجبا غيريا مع كون حصول الصلاة غاية لإيجابه الغيري ، حتّى فيما لم تحصل الصلاة ، لكن لا لترك الغسل ، بل لعدم إرادتها مثلا ، فإنّ صريح الوجدان شاهد على أنّ الغسل الذي أريد للصلاة ولم تتبعه الصلاة بعده لأجل عدم إرادتها ، يقع ذلك الغسل على صفة المطلوبية الغيرية ، فلو لم يكن الغسل في الفرض متّصفا بالمطلوبية الغيرية ، لزم أن تكون الصلاة قيدا للغسل الواجب غيريا ، ومقتضى كون الصلاة قيدا للواجب الغيري أن تكون نفس الصلاة مقدّمة للغسل الواجب غيريّا ، فيتعلّق وجوب غيري بالصلاة للملازمة بين الوجوب الغيري المتعلّق بالغسل المقيّد بحصول الصلاة وبين نفس الصلاة ، فيجتمع في الغاية ـ أي الصلاة ـ أمران : نفسى وغيري ، وهو كما ترى ، وإلى ذلك يشير قوله قدس‌سره

١١١

على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية ، كيف؟ وإلا يلزم أن يكون وجودها من قيوده ، ومقدمة لوقوعه على نحو يكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو ووجوبها.

وهو كما ترى ، ضرورة أن الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية ، بحيث كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية ،

______________________________________________________

«وإلّا يلزم أن تكون الغاية» ، أي : الواجب النفسي «مطلوبة بطلبه» يعني بطلب ذي الغاية ، وهو الغسل في المثال ، كسائر مقدّمات الغسل وقيوده ، مثل تحصيل الماء ونحوه.

نعم يكون فرق بين تحصيل الماء الذي يتعلّق الوجوب الغيري بالموصل منه إلى الغسل والوجوب الغيري الذي يتعلّق بنفس الصلاة ، حيث إنّ الصلاة بنفسها موصلة إلى الغسل ، وقول الماتن قدس‌سره : «أو لعلّ منشأ توهّمه خلطه بين الجهة التقييدية والتعليليّة ... الخ» ناظر إلى أنّه لو قيل بأنّ الملاك في تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة ترتّب الواجب عليه ، فهذا الملاك جهة تعليليّة في تعلّق الوجوب الغيري بها لا جهة تقييدية ، ليتعلّق الوجوب الغيرى بنفس تلك الجهة أيضا بأن تكون الجهة قيدا للواجب الغيري.

فالتزام صاحب الفصول قدس‌سره بأنّ متعلّق الوجوب الغيري الغسل الموصل إلى الصلاة مثلا خلط بين الجهات التعليليّة والجهات التقييدية.

هذا مع أنّ ترتّب الصلاة على الغسل ليس أيضا من الجهة التعليليّة للوجوب الغيري المتعلّق بالغسل بل الجهة التعليليّة في تعلّقه به ، إنّما حصول ما لولاه لما تمكّن المكلّف من الوصول إلى الواجب النفسي ، فافهم واغتنم.

أقول : كون الملاك في الوجوب الغيري حصول ما لولاه لما تمكّن من التوصّل إلى الواجب النفسي فاسد ؛ لأنّ التمكّن من الوصول إلى الواجب النفسي يكون

١١٢

وإلا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده ، فلا يكون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها ، كما أفاده.

ولعل منشأ توهمه ، خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية ، هذا مع ما عرفت من عدم التخلف هاهنا ، وأن الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي ، فافهم واغتنم.

______________________________________________________

بالتمكّن من مقدّمته لا بحصول المقدّمة ، وقد ذكرنا سابقا بأنّ ملاك الوجوب الغيري عند الماتن قدس‌سره حصول ما لولاه لما أمكن الواجب النفسي ، وهذا ليس إلّا التوقّف والمقدميّة.

فلعلّ تعبيره بالتمكّن هنا مسامحة. وقد نفي صاحب الفصول قدس‌سره كون مجرّد التوقّف ملاكا للوجوب الغيري ، والتزم بكون الملاك في هذا الوجوب ترتّب الواجب النفسي على المقدّمة.

والتوجيه الصحيح لما اختاره قدس‌سره تعلّق وجوب غيري واحد بمجموع المقدّمات التي يترتّب عليها الواجب النفسي واختياره ، ولا يخفى أنّ قصد الإتيان بالواجب النفسي والاستمرار عليه يكون جزءاً معدا من تلك المقدّمات ، وعلى ذلك فلا يكون الواجب النفسي بنفسه قيدا لمتعلّق الوجوب الغيري ليلزم من تقيّد الواجب الغيري به تعلّق وجوب غيري آخر بنفس الواجب النفسي ، لكونه بنفسه مقدّمة موصلة للواجب الغيري.

ومع الإغماض عن ذلك والالتزام بكون الواجب النفسي بنفسه قيدا للواجب الغيري بأن يتعلّق (لأجل الملازمة بين إيجاب ذي المقدّمة وإيجاب مقدّمته) وجوب غيري بالمقدّمة المقيّدة بحصول الواجب النفسي وبالملازمة بين هذا الوجوب الغيري وإيجاب مقدّمته ، يتعلّق وجوب غيري آخر بنفس ذي المقدّمة ، فلا محذور

١١٣

ثم إنه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها ، إلا فيما إذا رتّب عليه الواجب لو سلم أصلا ، ضرورة أنه وإن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة ، إلا أنه ليس لأجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدمة ، بل لأجل المنع عن غيرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

في الالتزام بذلك ، غاية الأمر يكون الوجوب الغيري المتعلّق بنفس ذي المقدّمة تأكيدا لوجوبه النفسي ، فمثلا الوجوب الغيري المتعلّق بالصلاة يكون مؤكّدا لوجوبها النفسي من غير لزوم محذور ، لأنّ الوجوب الغيري المتعلّق بنفس الصلاة وإن كان يتوقّف على تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمات الموصلة إلى الصلاة ، لكن تعلّق الوجوب الغيري بتلك المقدّمات الموصلة لا يتوقّف على تعلّق الوجوب الغيري بنفس الصلاة ليلزم الدور ، بل تعلّقه بتلك المقدّمات الموصلة يتوقّف على ثبوت الوجوب النفسي المتعلّق بالصلاة ، فالوجوب الغيري الموقوف في الصلاة غير وجوبها النفسي الموقوف عليه فلا دور.

لا يقال : لو كان الوضوء المقيّد بالوصول إلى الصلاة متعلّقا للوجوب الغيري تكون الصلاة مقدّمة للوضوء المزبور ، ونتيجة ذلك كون الصلاة مقدّمة لنفسها ، لأنّ مقدّمة المقدّمة مقدّمة.

فإنّه يقال : لا يتوقّف الوضوء على الصلاة وإن التزم بأنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالوضوء الموصل إلى الصلاة ، فإنّ نفس الوضوء غير موقوف على الصلاة ، وإنّما يكون اتصافه بالموصليّة موقوفا على الصلاة ، وهذا لا محذور فيه ، ولا يزيد الوضوء في ذلك بالإضافة إلى الصلاة عن العلّة والمعلول ، حيث ان المعلول يتوقّف في حصوله على تحقّق العلّة ، مع أنّ اتصاف العلّة بالعليّة الفعليّة يكون بحصول المعلول ، وفي المقام تتوقّف الصلاة على الوضوء في حصولها لكون الوضوء قيدا

١١٤

مع أن في صحة المنع عنه كذلك نظر ، وجهه أنه يلزم [١] أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا ، لعدم التمكن شرعا منه ، لاختصاص جواز مقدمته بصورة الإتيان به.

وبالجملة يلزم أن يكون الإيجاب مختصا بصورة الإتيان ، لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال فإنه يكون من طلب الحاصل المحال ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

للواجب النفسي ، ولكن لا يتوقّف وجود الوضوء على وجود الصلاة ، بل اتصاف الوضوء بالموصليّة يتوقّف على الصلاة.

وبالجملة كون شيء مقدّمة يتوقّف عليه حصول ذي المقدّمة غير اتصاف المقدّمة بالموصليّة ، والذي يمتنع هو توقّف وجود المقدّمة على حصول ذي المقدّمة ، وأمّا توقّف اتصاف المقدّمة بوصف على حصول ذي المقدّمة فلا محذور فيه.

وممّا ذكرنا يظهر أيضا أنّه إذا تعلّق وجوب غيري بالوضوء الموصل إلى الصلاة ، ووجوب غيري آخر بنفس الصلاة ، فواضح أنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالوضوء الموصل أو بالصلاة لا يتكرّر لأنّ الصلاة بنفسها موصلة إلى الوضوء الموصل إليها ، حيث لا ينفك وجود الواجب النفسي عن حصول مقدّماتها.

[١] وحاصله أنّ مع النهي عن المقدّمة غير الموصلة لا يصحّ التكليف بذيها أصلا ، وذلك لأنّ النهي عن مقدّمة غير موصلة تحريم لتلك المقدّمة على تقدير ترك الواجب النفسي ، وتجويز لها على تقدير الإتيان بالواجب النفسي ، وعليه فلا يكون ترك الواجب النفسي مخالفة وعصيانا ، لأنّ التكليف به في هذا الفرض ممتنع ، لكون مقدّمته حراما ، ويلزم أن يكون التكليف بالواجب النفسي مشروطا بحصول نفسه ، وهذا من طلب الحاصل.

أقول : إنّما يلزم التكليف بالممتنع أو التكليف بالحاصل لو قيل باشتراط جواز

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المقدّمة أو وجوبها الغيرى بحصول ذيها بأن يكون الواجب النفسي قيدا لنفس الوجوب الغيري ، ولكن قد تقدّم منع ذلك وأمّا لو كان حصول الواجب قيدا للواجب الغيري فلا يلزم محذور لحيلولة ، ترك الواجب النفسي بين المقدمة وذيها ومعه يصحّ التكليف به لتمكّن المكلّف على مقدّمته المقيّدة بالموصلة ، هذا مع الإغماض عمّا ذكرناه مرارا من أنّ الواجب النفسي ـ بناء على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ـ لا يكون قيدا للواجب الغيري أيضا ، بل يكون تعلّق الوجوب الغيري الواحد مجموع المقدّمات التي يكون منها قصد الواجب النفسي والاستمرار عليه.

وينبغي في المقام التعرّض لنكتة ، وهي : أنّ الشرط الشرعي في الواجب النفسي كالطهارة واستقبال القبلة ونحوهما بالإضافة إلى الصلاة مما يعبّر عنها بالمقدّمة ويتعلّق بها الوجوب الغيري بناء على الملازمة ، لا يدخل حقيقة في المقدّمة التكوينيّة التي يتوقف وجود ذيها على وجودها سابقا ، بل الحال في تلك الشرائط كالحال في الأجزاء ، فكما أنّ الجزء لا يكون مقدّمة للصلاة ، لأنّ المقدّمة للشيء عبارة عمّا يتوقّف وجود ذلك الشيء على وجودها ، وفيما نحن فيه ليس في الخارج تحقّق للصلاة وتحقّق للتقيّد بالوضوء ووجود آخر للوضوء ، بل التقيّد أمر انتزاعي منشؤه تحقّق الوضوء والطهور في زمان يتحقّق فيه الصلاة ، فيكون الوضوء طرف الإضافة التي لها عنوان انتزاعي ، وعلى ذلك فلا بأس باشتراط الصلاة بالوضوء واشتراط الوضوء بالصلاة في تعلّق الوجوب النفسي بالأوّل والغيري بالثاني ، كما هو الحال في حجّ التمتّع وعمرته ، حيث إنّ الحجّ مشروط بوقوع العمرة قبله ، وعمرة التمتّع مشروطة بوقوع الحجّ بعدها ، ولا يجري فيه ما يقال من أنّ مقدّمة الشيء لا يمكن أن يكون من ذي المقدّمة لذلك الشيء ، فإنّ هذا يختصّ بالمقدّمة العقلية

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ممّا يكون المقدّمة من مبادئ وجود الشيء لا من طرف الإضافة في وصف ذلك الشيء ، كما في المتضايفين ، وعلى ذلك فلا بأس بكون الوضوء مقدّمة للصلاة في اتّصاف الصلاة بالصحّة والصلاة مقدّمة ـ يعني شرطا للوضوء ـ في صحّة الوضوء ، ويعبّر عن الوضوء بأنّه مقدّمة للصلاة ، وعن الصلاة بأنّها مقدّمة للوضوء ، كما هو الحال بالإضافة إلى كلّ جزء من أجزاء المركّب الارتباطي ، بالإضافة إلى أجزائها الأخرى ، مع اعتبار الموالاة في أجزائه.

ثمّ إنّه بقي في باب الملازمة مسلك آخر منقول عن صاحب الحاشية قدس‌سره أوضحه المحقّق النائيني قدس‌سره بما حاصله : أنّ الوجوب الغيري ، وإن تعلّق بنفس ما يحمل عليه عنوان المقدّمة ، إلّا أنّ متعلّق الوجوب الغيري مهمل لا مطلق ، كما التزم به الماتن قدس‌سره وغيره من كون المقدّمة نفس غسل الثوب المتنجّس ، سواء ترتّب عليه الصلاة أم لا ، ولا مقيّد بالإيصال ، كما التزم به صاحب الفصول قدس‌سره ، والوجه في إهمال المتعلّق ما تقدّم من عدم إمكان تقييده بالإيصال ، لاستلزام هذا التقييد الدور أو التسلسل ، وإذا لم يمكن تقييده بالإيصال لا يكون للمتعلّق إطلاق ؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة وأن الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في المورد القابل للقيد ، والمفروض عدم إمكان تقيّد متعلّق الوجوب الغيري بقيد الإيصال فيكون مهملا ، وكما لا إطلاق ولا تقييد في ناحية الواجب الغيري بالإضافة إلى قيد الإيصال ، كذلك لا إطلاق ولا تقييد في ناحية نفس الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة بمقتضى التبعية.

وبتعبير آخر : لا يكون نفس الوجوب الغيري مشروطا بالإيصال وبترتّب الواجب النفسي على المقدّمة ، حيث إنّ هذا الاشتراط يوجب تفكيك الوجوب

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الغيري عن الوجوب النفسي في الإطلاق والاشتراط ، وذلك فإنّ الوجوب النفسي لا يمكن أن يكون مشروطا بحصول متعلّقه ، فإنّه من طلب الحاصل ، كذلك الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة لا يكون مشروطا بحصول الواجب النفسي ، فإنّ طلب المقدّمة أيضا في هذا التقدير من طلب الحاصل ، وإذا لم يمكن تقييد الوجوب الغيري بالإيصال فلا يكون للوجوب المزبور إطلاق ، بالإضافة إلى الإيصال وعدمه فإن ذلك بمقتضى التقابل بين الإطلاق والتقييد بالعدم والملكة.

والحاصل أنّ الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة مهمل ثبوتا من حيث نفسه ومن حيث متعلّقه ، بالإضافة إلى قيد الإيصال وعدمه ، ولكنّه مبيّن من حيث الملاك ، فإنّ ملاك الوجوب الغيري هو الوصول إلى الواجب النفسي.

ويترتّب على ذلك أنّه يمكن جعل حكم آخر يتعلّق بالمقدّمة مترتّبا على عصيان وجوبها الغيري من حيث الملاك ، بأن يتعلّق الوجوب الغيري بالدخول في ملك الغير بلا رضا صاحبه فيما كان الدخول المزبور مقدّمة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق ، وأن ينهى عن ذلك الدخول مترتّبا على عصيان الوجوب الغيري المتعلّق به من حيث الملاك ، فيثبت كلا الحكمين للدخول وتكون الحرمة بنحو الترتّب.

وقد ناقش المحقّق النائيني قدس‌سره بعد ذكر ذلك بأنّ إهمال الواجب الغيري والوجوب الغيري وإن كان متينا ، إلّا أنّه لا يمكن تعلّق حكم آخر بالمقدّمة ، ولو مترتّبا على عصيان الوجوب الغيري المتعلّق بها ، بل الممكن في باب الترتّب ثبوت حكم في فعل بنحو الترتّب على مخالفة تكليف آخر متعلّق بفعل آخر ، فمثلا لا تجب الصلاة في أوّل وقتها فيما إذا كان تركها لازما لإزالة النجاسة عن المسجد ،

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا بأس بتعلّق الوجوب بالصلاة مترتّبا على عصيان التكليف بالإزالة ، وفي المقام يمكن تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة مهملا وتعلّق الحرمة بها مترتبة على عصيان التكليف المتعلّق بذيها بأن تثبت الحرمة في ملك الغير بلا رضا صاحبه على تقدير مخالفة الوجوب النفسي المتعلّق بالإنقاذ أو الإطفاء (١).

أقول : لا يخفى أنّ الترتّب ـ على ما يأتي في بحث النهي عن الضدّ ـ إنّما يصحّح الجمع بين التكليفين فيما كان متعلقاهما من الضدين اللّذين لهما ، سواء كان التضادّ بينهما ذاتيا أو عرضيا ، ولا يلزم من الأمر بهما على نحو الترتّب محذور التكليف بالجمع بين الضدّين مما كان يلزم من الأمر بهما على نحو الإطلاق وعدم الترتّب.

وأمّا التكليف الممتنع في نفسه ـ مع قطع النظر عن لحاظ عدم التمكّن على متعلّقه ـ المعبر عنه بالتكليف المحال ، فلا يوجب الترتّب جوازه.

وعليه فالأمر بالأهم مطلقا والأمر بالمهمّ على تقدير عصيان الأمر بالأهمّ ولو بنحو الشرط المتأخر لا يلازم التكليف بالجمع بين الضدّين ، فلا محذور في الأمر بهما كذلك.

وأمّا الأمر بالدخول في ملك الغير بلا رضا مالكه لا يجتمع مع النهي عنه ، سواء جعل شرط تحريمه مخالفة الأمر بالدخول ، كما هو مقتضى كلام صاحب الحاشية قدس‌سره ، أو مخالفة الأمر بالإنقاذ أو الإطفاء ، كما هو مقتضى كلام المحقّق النائيني قدس‌سره ، فإنّ الأمر بالدخول مع النهي عنه ولو مشروطا ، من التكليف المحال والفعل الواحد

__________________

(١) أجود التقريرات : ١ / ٢٤٠.

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يتحمّل تعلّق الوجوب والحرمة به ، والترتّب لا يصحّحه ، فإنّ اشتراط النهي عن الدخول بمخالفة الأمر به يستلزم اشتراط الأمر به بموافقة الأمر به ، وهذا من طلب الحاصل. وكذا اشتراط النهي عنه بمخالفة الأمر بالإنقاذ ، حيث إنّ لازم هذا الاشتراط اشتراط الأمر بالدخول بموافقة الأمر بالإنقاذ ، وفي فرض الموافقة الدخول موجود فيكون الأمر به من طلب الحاصل أيضا.

وبالجملة طلب الحاصل من قبيل التكليف المحال ولا يصحّحه الترتّب ، كما أنّ تعلّق الوجوب مطلقا والحرمة بفعل مطلقا من التكليف المحال ، ولا يمكن تصحيحهما بالترتّب وبالاشتراط في أحدهما.

فقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ نفس الوجوب الغيري لا يمكن أن يكون مشروطا بالإيصال إلى الواجب النفسي ، لاستلزامه كون الأمر به من طلب الحاصل ، ومع النهي عنه في فرض عدم الإيصال يكون النهي مع الأمر المزبور أيضا من التكليف بالمحال لا التكليف بغير المقدور. ولكن لا بأس بتقيّد متعلّق الوجوب الغيري بالإيصال ، بل لا مناص منه بناء على وجوب المقدّمة الموصلة على التفسير المزبور ، ولكن يكون نفس الوجوب الغيري بالإضافة إلى الإيصال مطلقا ، فالإيصال من قيود الواجب الغيري لا الوجوب الغيري.

وما تقدّم في كلام المحقّق النائيني قدس‌سره من عدم الإطلاق لا في ناحية الوجوب الغيري ولا في ناحية الواجب الغيري غير صحيح ؛ وذلك لأنّ كون التقابل بين الإطلاق والتقييد بالعدم والملكة ، يختصّ بمقام الإثبات ، بلا فرق بين ناحية الموضوع أو ناحية المتعلّق أو ناحية الحكم ، حيث لا يمكن التمسّك بالإطلاق في

١٢٠