محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

في موارد الاتفاق وعدم العلاقة في أية لغة كان لو لم يكن غلطاً فلا شبهة في أنه نادر جداً لوضوح أنه لا يصح تعليق كل شيء على كل شيء من دون علاقة وارتباط بينهما ، وكيف كان فلا شك في أن الاستعمال في تلك الموارد لو صح فانه يحتاج إلى رعاية علاقة وأعمال عناية وبدونهما فالقضية ظاهرة في وجود العلاقة اللزومية بينهما.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أن تقسيم المناطقة القضية الشرطية إلى لزومية واتفاقية لا يقوم على أساس صحيح فان ما مثلوا للثانية بقولهم إن كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق أو ما شاكل ذلك لم يكن بحسب الواقع والحقيقة قضية شرطية ، بل صورتها صورة القضية الشرطية ، وكيف كان فلا شبهة في ثبوت هذه الركيزة وأنها أساس للقضية الشرطية.

وأما الركيزة الثالثة : وهي دلالة القضية الشرطية على أن ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فهي خاطئة جداً وذلك لأنها وإن دلت على ترتب الجزاء على الشرط والتالي على المقدم كما هو مقتضى كلمة الفاء إلا أنها لا تدل على ان هذا الترتب من ترتب المعلول على العلة التامة بحيث يكون استعمالها في غيره مجازاً بل هي تدل على مطلق الترتب سواء أكان من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة كترتب وجوب الحج على الاستطاعة وترتب وجوب إكرام زيد مثلا على مجيئه وترتب عدم انفعال الماء على بلوغه كراً وما شاكل ذلك أو كان من قبيل ترتب العلة على المعلول كما هو الحال في البرهان الآني كترتب طلوع الشمس على وجود النهار وترتب تغير العالم على حدوثه والأول كقولنا إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة والثاني كقولنا إن كان العالم حادثاً فهو متغير ونحو ذلك أو كان من قبيل ترتب أحد معلولين لعلة ثالثة على معلول آخر كقوله إن كان النهار موجوداً فالعالم مضيء وغير ذلك والسبب فيه هو

٦١

أن القضية الشرطية في جميع هذه الموارد تستعمل في معنى واحد وليس استعمالها في موارد ترتب العلة على المعلول أو ترتب أحد المعلولين على على الآخر مجازاً لنحتاج إلى لحاظ وجود قرينة في البين وأعمال عناية ، بل انه كاستعمالها في موارد ترتب المعلول على العلة التامة على نحو الحقيقة ، ضرورة أنه لا فرق بين قولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وبين قولنا إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة ، فكما أن الأول على نحو الحقيقة ، فكذلك الثاني فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

نعم يفترق الأول عن الثاني في نقطة أخرى وهي أن الترتب في الأول مطابق للواقع الموضوعي دون الثاني ، فان الترتب فيه بمجرد افتراض من العقل من دون واقع موضوعي له.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن القضية الشرطية موضوعة للدلالة على ترتب الجزاء على الشرط من دون الدلالة على أنه من ترتب المعلول على العلة التامة فضلا عن كونها منحصرة فالموضوع له هو الجامع بين جميع أنواع الترتب. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن القضية الشرطية لا تدل على المفهوم في موارد البرهان الآني لوضوح أن غاية ما تقتضيه القضية في تلك الموارد هو أن تحقق المقدم يستلزم تحقق التالي ويكشف عنه فيكون وسطاً للإثبات والعلم دون الثبوت والوجود ولا تدل على امتناع وجود التالي من دون وجود المقدم ، بداهة أن وجود المعلول وإن كان يكشف عن وجود العلة إلا أن عدمه لا يكشف عن عدمها لإمكان أن يكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع لا إلى عدمها ، مثلا وجود الممكن في الخارج كاشف عن وجود الواجب بالذات نظراً إلى استحالة وجوده في نفسه ولكن عدمه لا يكشف عن عدمه ولا عن عدم وجود ممكن آخر لجواز أن يكون عدمه مستنداً إلى ما يخصه من المانع.

٦٢

نعم عدم المعلول يكشف عن عدم علته التامة ، كما أن وجوده يكشف عن وجودها ، وعدم أحد المعلولين لعلة ثالثة يكشف عن عدم الآخر. كما يكشف عن عدم علته التامة. وعلى هذا الضوء فالقضايا الشرطية في موارد البراهين الآنية انما تدل على الثبوت عند الثبوت ولا تدل على انتفاء الجزاء عند انتفاء المقدم ، لاحتمال أن يكون انتفاء المقدم مستنداً إلى وجود المانع لا إلى انتفاء الجزاء والوجه في ذلك هو أنه لا فرق بين استعمال القضايا الشرطية في موارد العلة الناقصة واستعمالها في موارد العلة التامة ، فكما أنه على نحو الحقيقة في الثانية فكذلك في الأولى فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي انه لا ظهور للقضايا الشرطية في ترتب المعلول على العلة لا بالوضع ولا بالإطلاق.

هذا ولكن لشيخنا الأستاذ (قده) في المقام كلام وهو انه بعد ما اعترف من ان استعمالها في موارد غير ترتب المعلول على العلة ليس مجازاً قال ان ظاهر القضية الشرطية ذلك أي ترتب المعلول على العلة وذلك لأن ظاهر جعل شيء مقدماً وجعل شيء آخر تالياً هو ترتب التالي على المقدم فان كان هذا الترتب موافقاً للواقع ونفس الأمر بأن يكون المقدم علة للتالي فهو والا لزم عدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع مع كون المتكلم في مقام البيان على ما هو الأصل في المخاطبات العرفية ، وعليه فمن ظهور الجملة الشرطية في ترتب التالي على المقدم يستكشف كون المقدم علة للتالي وان وإن لم يكن ذلك مأخوذاً في نفس الموضوع له.

وهذا الّذي أفاده (قده) وإن كان غير بعيد في نفسه نظراً إلى أن المتكلم إذا كان في مقام بيان تفرع الجزاء على الشرط وترتبه عليه بحسب مقام الثبوت والواقع لدلت القضية على ذلك في مقام الإثبات أيضا للتبعية

٦٣

نظير ما إذا قلنا جاء زيد ثم عمرو ، فانه يدل على تأخر مجيء عمرو عن مجيئي زيد بحسب الواقع ونفس الآمر والا لم يصح استعماله فيه.

وأما إذا لم يكن المتكلم في مقام بيان ذلك بل كان في مقام الأخبار أو الإنشاء فلا يتم ما أفاده (قده). وذلك لأن القضية الشرطية عندئذ لا تدل إلا على أن أخبار المتكلم عن وجود الجزاء متفرع على فرض وجود الشرط أو إنشاء الحكم واعتباره متفرع على فرض وجوده وتحققه وأما أن وجود الجزاء واقعاً مترتب على وجود الشرط فلا دلالة للقضية على ذلك أصلا ، ضرورة أنه لا مانع من أن يكون الاخبار عن وجود العلة متفرعاً على فرض وجود المعلول في الخارج والاخبار عن وجود أحد المتلازمين متفرعاً على فرض وجود الملازم الآخر فيه والسر فيه هو أنه لا يعتبر في ذلك الا فرض المتكلم شيئاً مفروض الوجود في الخارج ثم أخبر عن وجود شيء آخر متفرعاً على وجوده ومعلقاً عليه كقولنا (ان كان النهار موجوداً فالشمس طالعة) حيث أن المتكلم فرض وجود النهار في الخارج ثم أخبر عن طلوع الشمس على تقدير وجوده أو فرض وجود شيء فيه ثم إنشاء الحكم على هذا التقدير كقولنا (ان جاءك زيد فأكرمه) حيث أنه جعل وجوب الإكرام على تقدير تحقق مجيئه في الخارج وهكذا.

وعلى الجملة فيما أن القضية الشرطية لم توضع للدلالة على أن ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فبطبيعة الحال تستند دلالتها على ذلك في مورد إلى قرينة حال أو مقال والا فلا دلالة لها على ذلك أصلا.

وأما الركيزة الرابعة : وهي دلالة القضية على كون الشرط علة منحصرة للجزاء فهي واضحة الفساد ، لما عرفت من أنها لا تدل على أن ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فضلا عن دلالتها على أن هذا الترتب من الترتب على العلة المنحصرة.

فالنتيجة لحد الآن : هي أنه لا دلالة للقضية الشرطية على المفهوم

٦٤

أصلا وانما تدل على الثبوت عند الثبوت فحسب. قد يقال كما قيل أن القضية الشرطية وإن لم تدل على المفهوم وضعاً إلا أنها تدل عليه إطلاقاً بيان ذلك هو أن المتكلم فيها إذا كان في مقام بيان ولم ينصب قرينة على الخلاف فمقتضى إطلاقها هو أن الشرط علة منحصرة للجزاء وان ترتبه عليه من الترتب على العلة المنحصرة ، ضرورة أنه لو كانت هناك علة أخرى سابقة عليه وجوداً لكان الجزاء مستنداً إليها لا محالة ، كما أنه لو كانت هناك علة أخرى في عرضها لكان مستنداً إليهما معاً ، وبما أن المتكلم استند وجود الجزاء إلى وجود الشرط فمقتضى إطلاق هذا الاستناد هو أنه ليس له علة أخرى سابقة أو مقارنة ، ونستكشف من هذا الإطلاق الإطلاق في مقام الثبوت والواقع وان العلة منحصرة فيه فليس له علة أخرى غيره.

ولكن هذا القول خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له ، والسبب في ذلك هو أن غاية ما تدل القضية الشرطية عليه هو ثبوت الملازمة بين التالي والمقدم فحسب وأما ترتب التالي على المقدم ، فانه ليس مدلولا لها وإنما هو قضية تفريعه عليه في ظاهر القضية وتعليقه ومن هنا قلنا أن القضية مع هذا التفريع لا تدل إلا على مطلق ترتب الجزاء على الشرط.

وأما الترتب الخاصّ وهو ترتب المعلول على العلة فلا يستفاد منها إلا بقرينة خاصة فضلا عن كون هذا الترتب من ترتب المعلول على العلة المنحصرة.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي : أن القضية الشرطية لا تدل على المفهوم لا بالوضع ولا بالإطلاق. ومن هنا أخذ شيخنا الأستاذ قدس‌سره طريقاً ثالثاً لإثبات المفهوم لها ، وهو التمسك بإطلاق الشرط بيان ذلك : أن القضية الشرطية على نوعين : (أحدهما ما يكون الشرط فيه في حد ذاته مما يتوقف عليه الجزاء عقلا وتكويناً. (وثانيهما) ما لا يكون

٦٥

الشرط فيه كذلك ، بل يكون توقف الجزاء عليه بجعل جاعل ولا يكون عقلياً وتكوينياً.

أما النوع الأول فيما أن ترتب الجزاء على الشرط في القضية قهري وتكويني فبطبيعة الحال لا يكون لمثل هذه القضية الشرطية مفهوم ، لأنها مسوقة لبيان تحقق الموضوع فيكون حالها حال اللقب فلا يكون فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، وهذا كقولنا : ان رزقت ولداً فاختنه ، وإن جاء الأمير فخذ ركابه ، وما شاكل ذلك ، فان القضية الشرطية في أمثال هذه الموارد تكون مسوقة لبيان تحقق الحكم عند تحقق موضوعه فيكون حال الشرط المذكور فيها حال اللقب فلا تدل على المفهوم أصلا ، بداهة أن التعليق في أمثال هذه القضايا لو دل على المفهوم لدل كل قضية عليه ولو كانت حملية ، وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أن كل قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، مع أن دلالتها عليه ممنوعة جزماً.

وأما النوع الثاني وهو ما لا يتوقف الجزاء فيه على الشرط عقلا وتكويناً فقد ذكر (قده) أنه يدل على المفهوم وأفاد في وجه ذلك : أن الحكم الثابت في الجزاء لا يخلو من أن يكون مطلقاً بالإضافة إلى وجود الشرط المذكور في القضية الشرطية أو يكون مقيداً به ولا ثالث لهما وبما أنه رتب في ظاهر القضية الشرطية على وجود الشرط فطبيعة الحال يمتنع الإطلاق ويكون مقيداً بوجود الشرط لا محالة ، وعلى هذا فان كان المتكلم في مقام البيان وقد أتى بقيد واحد ولم يقيده بشيء آخر سواء أكان التقييد بذكر عدل له في الكلام أم كان بمثل العطف بالواو ، لتكون نتيجته تركب قيد الحكم من أمرين كما في مثل قولنا : ان جاءك زيد وأكرمك فأكرمه استكشف من ذلك انحصار القيد بخصوص ما ذكر في القضية الشرطية.

٦٦

وعلى الجملة : فالقضية الشرطية وإن كانت بحسب الوضع لا تدل على تقييد الجزاء بوجود الشرط المذكور فيها فحسب ، وذلك لما عرفت من صحة استعمالها في موارد القضية المسوقة لبيان الحكم عند تحقق موضوعه الا أن ظاهرها فيما إذا كان التعليق على ما لا يتوقف عليه متعلق الحكم في الجزاء عقلا هو ذلك ، فإذا كان المتكلم في مقام البيان فكما أن إطلاق الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بالواو مثلا يدل على عدم كون الشرط مركباً من المذكور في القضية وغيره ، فكذلك إطلاق الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بأو يدل على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضية وليس له شرط آخر والا لكان عليه ذكره. وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من إطلاق الصيغة فكما أن قضية إطلاقها عدم سقوط الواجب بإتيان ما يحتمل كونه عدلا له فيثبت بذلك كون الوجوب تعيينياً فكذلك قضية إطلاق الشرط في المقام ، فانها انحصار قيد الحكم به وأنه لا بدل له في سببية الحكم وترتبه عليه.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أن ما أورده المحقق صاحب الكفاية (قده) على هذا التقريب خاطئ جداً وحاصل ما أورده هو أن قياس المقام بالوجوب التعييني قياس مع الفارق ، وذلك لأن الوجوب التعييني سنخ خاص من الوجوب مغاير للوجوب التخيري فهما متباينان سنخاً. وعلى هذا فلا بد للمولى إذا كان في مقام البيان من التنبيه على أحدهما بخصوصه والإشارة إليه خاصة. وبما أن بيان الوجوب التخييري يحتاج إلى ذكر خصوصية في الكلام أعني بها العدل كما في مثل قولنا أعتق رقبة مؤمنة أو صم شهرين متتابعين أو أطعم ستين مسكيناً فإذا لم يذكر كان مقتضى الإطلاق كون الوجوب تعيينياً وأنه غير متعلق الا بما هو مذكور في الكلام ، وهذا بخلاف المقام ، فان ترتب المعلول على علته المنحصرة ليس مغايراً في السنخ

٦٧

لترتبه على غير المنحصرة ، بل هو في كليهما على نحو واحد ، فاذن لا مجال للتمسك بالإطلاق لإثبات انحصار العلة بما هو مذكور في القضية.

وجه الظهور هو أن الإطلاق المتمسك به في المقام ليس هو إطلاق الجزاء وإثبات أن ترتبه على الشرط انما هو على نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة ليرد عليه ما ذكر ، بل هو إطلاق الشرط بعدم ذكر عدل له في القضية ، وذلك لما عرفت من أن ترتب الجزاء على الشرط وان لم يكن مدلولا للقضية الشرطية وضعاً الا أنه يستفاد منها بحسب المتفاهم العرفي سياقاً ، وذلك يستلزم تقييد الجزاء بوجود الشرط في غير القضايا الشرطية المسوقة لبيان تحقق الحكم بتحقق موضوعه كما تقدم ، وبما أن التقييد بشيء واحد يغاير التقييد بأحد الشيئين على البدل سنخاً يلزم على المولى بيان الخصوصية إذا كان في مقام البيان ، وحيث أنه لم يبين العدل مع أنه يحتاج إلى البيان تعين كون الشرط واحداً وان القيد منحصر به

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قده).

أما أولا : فلان ما ذكره (قده) من الملاك لدلالة القضية الشرطية على المفهوم لو تم فلا يختص الملاك بها ، بل يعم غيرها أيضا كالقضايا الوصفية ونحوها والسبب في ذلك هو أن التمسك بالإطلاق المزبور لا يثبت مفهوم الشرط في مقابل مفهوم القيد فلو أثبت المفهوم فهو انما يثبته بعنوان مفهوم القيد ببيان أن الحكم الثابت لشيء مقيد بقيد كقولنا : أكرم العالم العادل مثلا فالقيد لا يخلو من أن يكون مطلقاً في الكلام ولم يذكر المتكلم عدلا له كالمثال المزبور أو ذكر عدلا له كقولنا : أكرم العالم العادل أو الهاشمي فالقضية على الأول تدل على أن الحكم الثابت للعالم مقيد بقيد واحد وهو العدالة ، وعلى الثاني تدل على أنه مقيد بأحد القيدين : وهما العدالة والهاشمية وبما أن التقييد بأحدهما على البدل يحتاج إلى بيان زائد في الكلام

٦٨

كالعطف بأو أو نحوه كان مقتضى إطلاق القيد وعدم ذكر عدل له انحصاره به أي بما هو مذكور في القضية والا لكان على المولى البيان ، ومن الطبيعي أنه لا فرق في ذلك بين كون القضية شرطية أو وصفية أو ما شاكلها ، والسر في هذا هو أن ملاك دلالة القضية على المفهوم انما هو إطلاق القيد المذكور فيها ، ومن الواضح جداً أنه لا يفرق في ذلك بين كونه معنوناً بعنوان الشرط أو الوصف أو نحو ذلك.

وبكلمة أخرى أن الحكم المذكور في القضية قد يكون مقيداً بقيود عديدة المذكورة فيها ، وقد يكون مقيداً بأحد قيدين أو قيود على سبيل البدل ، وقد يكون مقيداً بقيد واحد ، فما ذكره (قده) من البيان لإثبات المفهوم للقضية الشرطية إنما هو لازم تقييده بقيد واحد ، حيث أن مقتضى إطلاقه هو انحصاره به ، وهذا الملاك لا يختص بها ، بل يعم غيرها من القضايا أيضا.

فالنتيجة : أن ما أفاده (قده) لو تم فهو لا يثبت مفهوم الشرط في مقابل مفهوم القيد.

وأما ثانياً : فلان مقتضى إطلاق القيد في الكلام وعدم ذكر عدل له وان كان وحدته تعييناً في مقابل تعدده أو كونه واحداً لا بعينه إلا أنه لا يدل على انحصار الحكم به ، بل غاية ما يدل عليه هو أن الحكم في القضية غير ثابت لطبيعي المقيد على الإطلاق وانما هو ثابت لحصة خاصة منه ، ولكنه لا يدل على أنه ينتفي بانتفاء تلك الحصة ، فانه لازم انحصار الحكم به لا لازم إطلاقه وعدم ذكر عدل له فان لازمه عدم ثبوت الحكم للطبيعي على الإطلاق ولا يدل على انتفائه عن حصة أخرى غير هذه الحصة وعلى الجملة فملاك دلالة القضية على المفهوم انما هو انحصار الحكم بالقيد المذكور فيها وأنه علته المنحصرة لا إطلاقه حيث أن لازمه ما ذكرناه

٦٩

لا المفهوم بالمعنى الّذي هو محل الكلام ـ وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلا ـ.

فالنتيجة أن ما أفاده (قده) من البيان لا يكون ملاك دلالة القضية الشرطية على المفهوم.

وأما ثالثاً : فلما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) هنا وحاصله : هو أن المتكلم للقضية الشرطية ليس في مقام البيان من هذه الناحية أي من ناحية انحصار الشرط بما هو مذكور فيها ، بل الظاهر أنه في مقام بيان مؤثرية الشرط على نحو الاقتضاء بمعنى عدم قصوره في حد ذاته عن التأثير وليس هو في مقام بيان مؤثريته الفعلية وانحصارها بما هو مذكور في القضية بلحاظ عدم ذكر عدل له حتى يتمسك بإطلاقه لإثبات انحصار المؤثر الفعلي فيه.

نعم لو كانت القضية في مقام البيان من هذه الناحية لدلت على المفهوم لا محالة الا أن هذه النكتة التي توجب دلالتها على المفهوم لا تختص بها ، بل تعم القضية الوصفية أيضا حيث أنها لو كانت في مقام البيان من هذه الناحية أي من ناحية انحصار القيد المؤثر بما هو مذكور فيها وعدم وجود غيره لدلت بطبيعة الحال على المفهوم. وقد تقدم منا أن هذا المفهوم ليس من مفهوم الشرط الّذي هو محل الكلام في مقابل مفهوم القيد ، بل هو هو بعينه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن كون المتكلم فيها في مقام البيان حتى من هذه الناحية نادر جداً فلا يمكن أن يكون هذا هو مراد القائلين بالمفهوم فيها حيث أنه رغم كونه نادراً وغير مناسب أن يكون مراداً لهم فيحتاج إثباته إلى قرينة خاصة ، ومن المعلوم أن مثله خارج عن مورد كلامهم وإن لم يكن نادراً ، فان كلامهم في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعاً أو إطلاقاً. وأما دلالتها عليه بواسطة القرينة الخاصة فلا نزاع فيها أبداً.

٧٠

وبكلمة أخرى : أن المتكلم في القضية الشرطية إنما هو في مقام بيان ترتب مفاد الجزاء على الشرط وليس في مقام بيان انحصار العلة والمؤثر بما هو مذكور فيها بملاحظة عدم ذكر عدل له في الكلام. ومن هنا قلنا أن القضية الشرطية لا تدل إلا على مطلق ترتب الجزاء على الشرط فلا تدل على أنه على نحو ترتب المعلول على علته فضلا عن الترتب على علته المنحصرة.

وعلى ضوء ذلك فالناحية التي يكون المتكلم فيها في مقام البيان فالتمسك بالإطلاق فيها لا يجدي لإثبات كون ترتب الجزاء على الشرط بنحو ترتب المعلول على علته المنحصرة. والناحية التي يجدي التمسك بالإطلاق فيها فالمتكلم لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية. وقد تحصل من ذلك أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من الطريقة لإثبات المفهوم للقضية الشرطية خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا.

إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة : وهي ان ما ذكره من الوجوه لإثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعاً أو إطلاقاً لا يتم شيئاً منها. ومن هنا قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قده) عدم دلالتها على المفهوم الا فيما قامت قرينة على ذلك ، ولكن أين هذه من دلالتها عليه وضعاً أو إطلاقاً.

فالصحيح في المقام ان يقال : ان دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والإنشاء ، ولا يمكن إثبات المفهوم لها على ضوء نظرية المشهور في البابين ، فلنا دعويان :

الأولى : عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم على وجهة نظرية المشهور في هذين البابين لا بالوضع ولا بالإطلاق.

الثانية : دلالتها عليه على وجهة نظريتنا فيهما.

٧١

اما الدعوى الأولى : فقد ذكرنا محله ان المعروف والمشهور بين الأصحاب هو ان الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه ، والجملة الإنشائية موضوعة للدلالة على إيجاد المعنى في الخارج.

وعلى ضوء ذلك فلا يمكن إثبات المفهوم للقضية الشرطية لا من ناحية الوضع ولا من ناحية الإطلاق لما تقدم من ان غاية ما تدل القضية عليه هو ترتب الجزاء على الشرط وتفرعه عليه سواء أكانت القضية في مقام الأخبار أم كانت في مقام الإنشاء ، واما كون الجزاء معلولا للشرط فقد عرفت عدم دلالة القضية عليه ولو بالإطلاق فضلا عن الوضع ، وعلى تقدير التنزيل عن ذلك وتسليم دلالتها عليه الا انها لا تدل على كون هذا الترتب على نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة كما تقدم ذلك في ضمن البحوث السابقة بشكل موسع.

اما الدعوى الثانية : فقد ذكرنا في بحث الإنشاء والاخبار ان الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه ، وذلك لأمرين :

الأول : أنها لا تدل على ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه ولو دلالة ظنية مع قطع النّظر عن حال المخبر من حيث وثاقته وما شاكل ذلك وقطع النّظر عن القرائن الخارجية ، مع أن من الطبيعي أن دلالة اللفظ لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع ، وعليه فما فائدته.

وعلى الجملة فإذا افترضنا أن الجملة الخبرية لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا تكشف عنها ولو كشفاً ظنياً فما معنى كونها موضوعة بإزائها فبطبيعة الحال يكون وضع الجملة لها لغواً محضاً فلا يصدر من الواضع الحكيم.

٧٢

الثاني : أن الوضع على ضوء نظريتنا عبارة عن التعهد والالتزام النفسانيّ المبرز بمبرز ما في الخارج وتوضيحه كما حققناه في محله أن كل متكلم من أهل أي لغة كان تعهد والتزم في نفسه أنه متى ما أراد تفهيم معنى خاص يبرزه بلفظ مخصوص وعليه فاللفظ بطبيعة الحال يدل بمقتضى قانون الوضع على أن المتكلم به أراد تفهيم معنى خاص.

ثم أن من الطبيعي أن التعهد والالتزام لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري ضرورة أنه لا معنى لتعهد الشخص بالإضافة إلى الأمر الخارج عن اختياره فالتعهد إنما يتعلق بالفعل في إطاره الخاصّ وهو الفعل الاختياري. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه في القضايا أمر خارج عن الاختيار يعني عن اختيار المتكلم بها بل هو تابع لثبوت عللها وأسبابها في الواقع ، وعليه فلا يمكن تعلق التعهد والالتزام به. ومن ناحية ثالثة أن ما هو بيد المتكلم واختياره في تلك القضايا إنما هو إبراز قصد الحكاية فيها والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع وهو قابل لأن يتعلق به التعهد والالتزام.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي تعين تعلق التعهد والالتزام بإبراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً.

ومن هذا البيان قد ظهر أمران : (الأول) أنه بناء على ضوء نظريتنا في باب الوضع لا يمكن وضع الجملة الخبرية للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه (الثاني) تعين وضعها للدلالة على إبراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً ونتيجة هذا أن الجملة الخبرية بمقتضى تعهد الواضع بأنه متى ما قصد الحكاية عن ثبوت شيء في الواقع أو نفيه عنه أن يتكلم بها تدل على أن الداعي إلى إيجادها وتحققها في الخارج ذلك ، وعليه فبطبيعة الحال تكون الجملة بنفسها مصممة

٧٣

للحكاية والاخبار.

ثم أن هذه الدلالة لا تنفك عن الجملة أبداً حتى فيما إذا لم يكن المتكلم في مقام التفهيم والإفادة في الواقع ما لم ينصب قرينة على الخلاف في مقام الإثبات ، غاية الأمر أن تكلمه حينئذ يكون على خلاف مقتضى تعهده والتزامه على ما تقدم في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع. ومن هنا قلنا أن الجملة الخبرية لا تتصف بالصدق مرة وبالكذب أخرى من ناحية الدلالة الوضعيّة ، لما عرفت من أن تلك الدلالة ثابتة على كلا تقديري الصدق والكذب ، فقولنا زيد عدل مثلا يدل على أن المتكلم قاصد للحكاية عن ثبوت العدالة لزيد والاخبار عنه وأما أنه مطابق للواقع أو غير مطابق فالجملة لا تدل عليه وأنه لا صلة لها بما لها من الدلالة الوضعيّة بهذه الجهة أصلا ، ولأجل ذلك قلنا أن الجملة الخبرية تشترك مع الجملة الإنشائية في الدلالة الوضعيّة فكما أن الجملة الإنشائية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ فكذلك الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الواقع فلا فرق بينهما من هذه الناحية ولذا لا تتصف الجملة الخبرية كالجملة الإنشائية بالصدق والكذب من هذه الجهة ، والفرق بينهما إنما هو من ناحية أخرى وهي أن لمدلول الجملة الخبرية واقعاً موضوعياً دون مدلول الجملة الإنشائية ، ولذا تتصف الأولى بالصدق والكذب بملاحظة مطابقة مدلولها للواقع وعدم مطابقته له دون الثانية ، هذا ملخص القول في الجملة الخبرية.

وأما الجملة الإنشائية فقد حققنا في محلها أنها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ في الخارج ولم توضع للدلالة على إيجاد المعنى فيه كما اشتهر في السنة الأصحاب ، وذلك لما ذكرناه هناك من أنهم لو أرادوا بالإيجاد التكويني الخارجي كإيجاد الجوهر والعرض فبطلانه

٧٤

من الضروريات ولا نحتمل أنهم أرادوا ذلك كيف فان الموجودات الخارجية بشتى أنواعها وأشكالها ليست مما توجد بالإنشاء ، بداهة أن الألفاظ لم تقع في سلسلة عللها وأسبابها وان أرادوا به الإيجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب والحرمة والملكية والزوجية وما شاكل ذلك فيرد عليه أنه يكفي في إيجاد هذه الأمور نفس اعتبار المعتبر من دون حاجة إلى التكلم بأي كلام والتلفظ بأي لفظ ، لوضوح أن الأمر الاعتباري بيد من له الاعتبار رفعاً ووضعاً فله إيجاده في عالم الاعتبار سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.

نعم اللفظ مبرز له في عالم الخارج لا أنه موجد له وتقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة فلاحظ.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أن مفاد الجملة الشرطية إذا كانت إخبارية فهو الدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت شيء في الواقع على تقدير ثبوت شيء آخر فيه لا على نحو الإطلاق والإرسال ، بل على تقدير خاص وفي إطار مخصوص ، مثلا جملة ان كانت الشمس طالعة فالنهار موجود تدل على أن المتكلم قاصد للحكاية والاخبار عن وجود النهار لا على نحو الإطلاق والا لكان كاذباً ، بل على تقدير خاص وهو تقدير طلوع الشمس ومن الطبيعي أن لازم هذه النكتة يعني كون اخباره على تقدير خاص هو انتفائه عند انتفاء هذا التقدير ، لفرض أنه لم يخبر عنه على نحو الإطلاق وانما أخبر عنه على تقدير خاص وفي إطار مخصوص ، وعليه فبطبيعة الحال ينتفي اخباره بانتفاء هذا التقدير وهذا معنى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم. مثلا في جملة لو شرب زيد سماً فمات أو لو قطع رأسه فمات فقد أخبر المتكلم عن وقوع الموت في الخارج على تقدير خاص وهو تقدير شرب السم أو قطع الرّأس لا مطلقاً ولازم ذلك قهراً انتفاء اخباره بانتفاء هذا التقدير.

٧٥

ومن ضوء هذا البيان يظهر ان اخباره عن موت زيد على هذا التقدير لا يتصف بالكذب عند انتفائه يعني انتفاء هذا التقدير خارجاً وعدم تحققه فيه. والسبب في ذلك هو ان المناط في اتصاف القضية الشرطية بالصدق تارة وبالكذب أخرى ليس صدق التالي ومطابقته للواقع وعدم مطابقته له ، بل المناط في ذلك انما هو ثبوت الملازمة بين المقدم والتالي وعدم ثبوتها ، فان كانت الملازمة بينهما ثابتة في الواقع فالقضية الشرطية صادقة والا فهي كاذبة من دون فرق في ذلك بين كون المقدم والتالي صادقين أم كانا كاذبين ، بل لا يضر بصدقها كونهما مستحيلين في الخارج ، وذلك كقوله سبحانه وتعالى «لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا» فان القضية صادقة على الرغم من كون كلا الطرفين مستحيلا فلا يكون اخباره تعالى عن فساد العالم على تقدير وجود الآلهة كاذباً وغير مطابق للواقع ، بل هو صادق ومطابق له ، حيث ان اخباره سبحانه عنه لا يكون مطلقاً ، بل يكون على تقدير خاص وهو تقدير وجود الآلهة في هذا العالم. نعم لو لم يقع الفساد فيه على تقدير وجود الآلهة لكانت القضية كاذبة لكشف ذلك عن عدم الملازمة بينهما في الواقع.

والسر في ذلك أي في ان صدق القضية الشرطية وكذبها يدوران مدار ثبوت الملازمة بينهما في الواقع ونفس الأمر وعدم ثبوتها فيه ولا يدوران مدار صدق طرفيهما وكذبهما ـ هو ان المخبر به فيها انما هو قصد الحكاية والأخبار عن الملازمة بينهما لا عن وجودي المقدم والتالي ، لوضوح ان المتكلم فيها غير ناظر إلى انهما موجودان أو معدومان ممتنعان أو ممكنان وعليه فان كانت الملازمة في الواقع ثابتة وكان لها واقع موضوعي فالقضية صادقة والا فهي كاذبة.

وقد تحصل من ذلك ان القضية الشرطية على ضوء نظريتنا

٧٦

موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن وجود التالي على تقدير وجود المقدم ، وعليه فبطبيعة الحال تدل بالالتزام على انتفاء الأخبار عنه على تقدير انتفائه أي المقدم وهذا معنى دلالتها على المفهوم بالدلالة الالتزامية الوضعيّة يعني أنها لازمة للدلالة المطابقية باللزوم البين بالمعنى الأخص.

وأما الجمل الإنشائية فهي على نوعين : (الأول) ما يتوقف الجزاء على الشرط عقلا وتكويناً كقولنا ان رزقت ولداً فاختنه وان ملكت شيئاً تصدق به وما شاكل ذلك (الثاني) ما لا يتوقف الجزاء على الشرط عقلا بل يكون التعليق والتوقف بجعل المولى واعتباره كقولنا ان كان زيد عالماً فأكرمه وما شابه ذلك.

أما النوع الأول : فهو خارج عن محل الكلام ولا يدل على المفهوم والسبب في ذلك هو أن دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركيزتين : (الأولى) أن يكون الموضوع فيها غير الشرط وهو الّذي علق عليه الجزاء. (الثانية) أن لا يكون التعليق والتوقف عليه عقلياً وعلى ذلك فأية قضية شرطية كانت فاقدة لهاتين الركيزتين أو لإحداهما فلا مفهوم لها ، والأول كالمثالين المتقدمين والثاني كقولنا ان جاءك أمير فاستقبله ، فان الشرط في هذه القضية وان كان غير الموضوع الا ان توقف الجزاء عليه عقلي.

وعلى الجملة فتوقف الجزاء على الشرط في أمثال هذه القضايا عقلي وتكويني ولا دخل لجعل المولى إياه مترتباً على الشرط ومعلقاً عليه أصلا ، ضرورة أن توقف الجزاء عليه واقعي موضوعي وأنه يستحيل وجوده وتحققه في الخارج بدون وجوده وتحققه ومن هنا لا يفرق في ذلك بين لو جيء به على نحو القضية الشرطية ، وما لو جيء به على نحو القضية الوصفية ، فان

٧٧

توقفه عليه على كلا التقديرين واقعي وانتفائه بانتفائه عقلي ، ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً كما هو الحال في جميع موارد انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه فاذن كيف يمكن عد هذا الانتفاء من المفاهيم وقد تقدم أن المفاهيم مداليل للألفاظ وقد دلت عليها القضية بالدلالة الالتزامية ولم تكن أجنبية عنها أصلا.

وأما النوع الثاني وهو ما لا يتوقف الجزاء بنفسه على الشرط بل انما هو بجعل المولى وتعليقه عليه وذلك مثل قولنا ان جاءك زيد فأكرمه فبما أن الركيزتين المتقدمتين قد توفرتا فيه فبطبيعة الحال يدل على المفهوم ، بيان ذلك أن الموضوع في هذا النوع من القضية الشرطية غير الشرط المذكور فيها يعني ان له حالتين فالجزاء معلق على إحداهما دون الأخرى ولا يكون هذا التعليق عقلياً وانما هو بجعل المولى وعنايته كما هو الحال في المثال المذكور فان الموضوع فيه هو زيد ، والشرط فيه هو مجيئه ، ولا يكون توقف الجزاء وهو وجوب الإكرام عليه عقلياً ضرورة عدم توقف إكرامه عليه بل يمكن ذلك في كلتا الحالتين ، فمثل هذه القضية الشرطية يدل على المفهوم لا محالة بناء على ضوء النكتة التي ذكرناها في تفسير الإنشاء.

وحاصلها هو ان حقيقة الإنشاء عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز ما ، ومن الطبيعي أن هذا الاعتبار قد يكون مطلقاً وقد يكون مطلقاً على شيء خاص وتقدير مخصوص كما في مثل المثال السابق حيث أن المولى لم يعتبر إكرام زيد على ذمة المكلف على نحو الإطلاق ، وإنما اعتبره على تقدير خاص وهو تقدير تحقق مجيئه ، وإبرازه في الخارج بقوله : إن جاءك زيد فأكرمه فانه بطبيعة الحال يكشف عن ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت المجيء وتحققه بالمطابقة وعن انتفائه عند انتفائه في الخارج وعدم تحققه فيه بالالتزام وقد تقدم أن الملازمة بينهما بينة بالمعنى الأخص والسر فيه ما عرفت من أن اعتبار المولى إذا كان مقيداً بحالة خاصة فلازمه عدم اعتباره عند انتفاء

٧٨

هذه الحالة ومن الطبيعي أن هذا اللازم بين بالمعنى الأخص حيث أن النّفس تنتقل إليه من مجرد تصور عدم الإطلاق في اعتبار المولى وأنه يكون على تقدير خاص ومقيداً به ، فالقضية الشرطية التي تدل على الأول بالمطابقة فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام ولا تتوقف هذه الدلالة على أية نكتة ومقدمة أخرى.

والسبب في ذلك ما تقدم من أن الجملة الإنشائية موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ في الخارج. وعلى هذا الضوء فإذا كانت الجملة الإنشائية شرطية كقضية ان استطعت فحج مثلا أو نحوها دلت على أن اعتبار المولى مفاد الجزاء على ذمة المكلف كالحج لا يكون على نحو الإطلاق ، بل هو على تقدير خاص وهو تقدير تحقق الشرط كالاستطاعة ولازم ذلك دلالتها على عدم اعتباره على تقدير عدم تحققه ، غاية الأمر أن دلالتها على الأول بالمطابقة وعلى الثاني بالالتزام.

وبكلمة ثانية : أن اعتبار الفعل في مقام الثبوت على ذمة المكلف أو اعتبار ملكية شيء لشخص مثلا إذا كان معلقاً على تقدير ثبوت شيء ولم يكن مطلقاً كاعتبار الصلاة مثلا على تقدير تحقق الزوال أو الحج على تقدير الاستطاعة أو اعتبار الموصي ملكية ماله لشخص على تقدير موته وهكذا كان مرده إلى امرين : (أحدهما) اعتبار هذا الشيء على هذا التقدير الخاصّ (وثانيهما) عدم اعتباره عند عدم تحقق هذا التقدير ، لفرض أن الشارع لم يعتبر الصلاة مثلا على ذمة المكلف عند فرض عدم تحقق الزوال أو الحج عند فرض عدم الاستطاعة ، وكذا الموصي لم يعتبر ملكية ماله له على تقدير عدم موته. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن هذين الأمرين متلازمان على نحو يكون اللزوم بينهما من اللزوم البين بالمعنى الأخص. هذا بحسب مقام الثبوت.

٧٩

وأما بحسب مقام الإثبات فالكاشف عن ذلك ان كان هو القضية الوصفية فهي لا تدل على المفهوم أي الانتفاء عند الانتفاء وانما تدل على ان الحكم في القضية لم يجعل على نحو الإطلاق كما سيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن البحوث الآتية وان كان هو القضية الشرطية فهي تدل عليه بمقتضى التعليق أي تعليق الجزاء على الشرط غاية الأمر ان دلالتها على الثبوت عند الثبوت بالمطابقة وعلى الانتفاء عند الانتفاء بالالتزام.

فالحاصل ان دلالتها على المفهوم نتيجة النكتة المتوفرة فيها ولم تكن متوفرة في غيرها وهي تعليق المولى مفاد الجزاء على الشرط واعتباره متوقفاً عليه ومترتباً بعد ما لم يكن كذلك في نفسه.

ثم ان هذه الدلالة مستندة إلى الوضع أي وضع أدوات الشرط للدلالة على ذلك ككلمة ان ، وإذا ، ولو وما شاكل ذلك في اية لغة كانت ولم تكن مستندة إلى الإطلاق ومقدمات الحكمة ، لفرض انها لازمة بينة بالمعنى الأخص لدلالتها المطابقية وهي دلالتها على التعليق والثبوت. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين ان يكون تعليق مدلول الجزاء على شرط واحد كقولنا ان جاءك زيد فأكرمه أو ما شاكله أو يكون على شرطين بمثل العطف بالواو كقولنا ان جاءك زيد وأكرمك فأكرمه أو العطف بأو كقولنا ان جاءك زيد أو عمرو فأعط له هذا المال ، فعلى الأول يكون الشرط في الحقيقة مجموع الأمرين بحيث يكون كل واحد منهما جزئه لا تمامه ، وعلى الثاني أحدهما ، ومن الطبيعي انه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين ان يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً ، ضرورة ان ملاك دلالتها في الجميع واحد وهو تعليق المولى الجزاء على الشرط ثبوتاً وإثباتاً غاية الأمر إذا كان الشرط مجموع الأمرين انتفى الجزاء بانتفاء واحد منهما ، وإذا كان

٨٠