محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

من جهة أخرى ثم انها قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة وقد تستعمل في عكس ذلك وهو الغالب ، وعلى الأول فهي تستعمل في مقام التجوز أو المبالغة كقولنا (انما زيد عالم أو مصلح) أو ما شاكل ذلك ، مع ان صفاته لا تنحصر به حيث ان له صفات أخرى غيره ، ولكن المتكلم بما انه بالغ فيه وفرض كأنه لا صفة له غيره فجعله مقصوراً عليه ادعاء وعلى الثاني فهي تفيد الحصر كقولنا (انما الفقيه زيد مثلا) و (انما القدرة لله تعالى) وما شاكل ذلك ، فانها تدل في المثال الأول على انحصار الفقه به وان فقه غيره في جنبه كالعدم. وفي المثال الثاني على انحصار القدرة به سبحانه وتعالى حيث ان قدرة غيره في جنب قدرته كلا قدرة وان كان له أن يفعل وله ان يترك ، الا ان هذه القدرة ترتبط بقدرته تعالى في إطار ارتباط المعلول بالعلة ، وتستمد منها في كل آن بحيث لو انقطع الإمداد منها في آن انتفت القدرة في ذلك الآن ، وقد أوضحنا ذلك بشكل موسع في ضمن البحوث المتقدمة في مسألة الأمر بين الأمرين فالنتيجة ان هذه الكلمة غالباً تستعمل في قصر الصفة على الموصوف وهي تفيد الحصر عندئذ. نعم قد تستعمل للمبالغة في هذا المقام أيضا ، وعندئذ لا تدل على الحصر.

ثم ان العجب من الفخر الرازي حيث أنكر دلالة كلمة (انما) على الحصر وقد صرح بذلك في تفسير قوله تعالى «انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون» فانه بعد إنكاره ان المراد من الذين آمنوا إلخ في الآية ليس هو علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام كما قال الشيعة ، بل المراد منه عامة المؤمنين قال ان الشيعة قد استدلوا على ان الآية نزلت في حق علي عليه‌السلام بأن كلمة (انما) للحصر وتدل على حصر الولاية بالله وبرسوله وبالذين الموصوفون بالصفات

١٤١

المذكورة في الآية ، ومن المعلوم ان من كان له هذه الصفات فهو الولي المتصرف في أمر الأمة وهو لا يكون الا الإمام عليه‌السلام. ودعوى ان المراد من الولاية ليس بمعنى المتصرف ، بل هو بمعنى الناصر والمحب خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلا ، لأن الولاية بهذا المعنى تعم جميع المؤمنين فلا تختص بالله وبرسوله وبالذي يكون موصوفاً بالصفات المزبورة ، فاذن بطبيعة الحال يكون المراد من الولاية في الآية بمعنى المتصرف والسلطنة ومن المعلوم انها بهذا المعنى تختص بالله وبالرسول وبالاحكام وهو علي ابن أبي طالب عليه‌السلام.

ثم أورد على هذا الاستدلال بأنا لا نسلم ان الولاية المذكورة في الآية غير عامة حيث ان عدم العموم يبتني على كون كلمة (انما) مفيدة للحصر ، ولا نسلم ذلك ، والدليل عليه قوله تعالى : «انما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء» ولا شك ان الحياة الدنيا لها أمثال أخرى ولا تنحصر بهذا المثل وقوله تعالى : «انما الحياة الدنيا لعب ولهو» ولا شك في ان اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها.

والجواب عنه أولا بالنقض بقوله تعالى : «وما الحياة الدنيا الا لهو ولعب» وقوله : سبحانه «وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب» حيث لا شبهة في إفادة كلمة (الا) الحصر ولا ينكرها أحد فيما نعلم الا أبي حنيفة ، فاذن ما هو جواب الفخر الرازي عن هاتين الآيتين ، فان أجاب بان عدم دلالة كلمة (الا) على الحصر فيهما انما هو من ناحية قيام قرينة خارجية على ذلك ـ وهو العلم الخارجي بعدم انحصار الحياة الدنيا بهما ـ نقول بعين هذا الجواب عن الآيتين المتقدمتين وان عدم دلالة كلمة (انما) على الحصر فيهما انما هو من جهة القرينة الخارجية. وثانياً بالحل :

١٤٢

بيان ذلك : ان الحياة مرة تضاف إلى الدنيا ، وأخرى تكون الدنيا صفة لها اما على الأول فالمراد منها حياة هذه الدنيا في مقابل حياة الآخرة كما هو المراد في قوله تعالى : «ما هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا» وقوله تعالى : «ان هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين» فيكون المراد من الحياة فيهما هو حياة هذه الدنيا في قبال الآخرة ، كما ان المراد من الحيوان في قوله تعالى : «وان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون» هو الحياة الأخروية. وأما على الثاني وهو أن تكون الدنيا صفة للحياة فالمراد منها الحياة الدانية في مقابل الحياة العالية الراقية ، وهي بهذا المعنى تارة تطلق ويراد منها الحياة في مقابل الحياة الأخروية نظراً إلى ان الحياة الدنيوية وان كانت حياة الأنبياء والأوصياء فهي دانية بالإضافة إلى الحياة الأخروية ، حيث انها حياة راقية دائمية أبدية ومملوءة بالطمأنينة والراحة. واما هذه الحياة فهي موقتة وزائلة ومقدمة لتلك الحياة الأبدية ومملوءة بالتعب وعدم الراحة فكيف يقاس هذه بتلك وعليه فبطبيعة الحال تكون الحياة في هذه الدنيا ولو كانت حياة عالية وراقية كحياة الأنبياء والصالحين التي هي مملوءة بالعبودية والإطاعة لله سبحانه الا انها مع ذلك تكون في جنب الحياة الأخروية دانية. وتارة أخرى تطلق ويراد منها الحياة الدانية في هذه الدنيا ، في مقابل الحياة الراقية فيها يعني ان الحياة في هذه الدنيا على نوعين : أحدهما حياة دنيّة حيوانية كالحياة المملوءة باللعب واللهو ونحوهما وثانيهما حياة عالية راقية كحياة الأنبياء والأولياء ومن يتلو تلوهما حيث ان حياتهم بشتى أنواعها واشكالها عبادة وطاعة لله تعالى :

وبعد ذلك نقول : ان المراد من الحياة في الآية الثانية هي الحياة الدانية فالدنيا صفة لها ، وهي تنحصر باللعب واللهو يعني ان الحياة الدنيّة

١٤٣

في هذه الدنيا هي اللعب واللهو بمقتضى دلالة كلمة انما ويؤيد ذلك دلالة الآيتين المتقدمتين على حصر الحياة الدنيّة بهما ، هذا مضافاً إلى ان في الآية الكريمة ليس كلمة (انما) بكسر همزة ، بل هي بفتحها ، ودلالتها على الحصر لا تخلو عن إشكال بل منع ، فاذن لا وقع للاستشهاد بهذه الآية المباركة على عدم دلالة كلمة (انما) على الحصر.

ومن هنا يظهر حال الآية الأولى ، فالنتيجة ان دلالة كلمة انما على الحصر واضحة. وإنكار الفخر دلالتها عليه مبني على العناد أو التجاهل.

ثم انه ذكر في مقام تقريب عدم دلالة الآية الثانية على الحصر بان اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها أي غير الحياة الدنيا ففيه مضافاً إلى منع ذلك ان الآية في مقام بيان حصر الحياة الدنيا بهما ، لا في مقام حصرهما بها فلا يكون حصولهما في غير الحياة الدنيا يعني الحياة الأخروية مانعاً عن دلالة الآية على الحصر ، وان ـ أراد من ذلك حصولهما في الحياة العالية في هذه الدنيا وعدم انحصارهما بالحياة الدانية فيها فيرده (أولا) منع ذلك وان الحياة العالية خالية عنها (وثانيا) انه لا يضر بدلالة الآية على الحصر ، فان الآية تدل على حصر الحياة الدانية بهما ولا تدل على حصرهما بها. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان دلالة هذه الكلمة على الحصر هل هي بالمنطوق أو بالمفهوم فيه وجهان : اختار المحقق النائيني (قده) الأول وقال : ان دلالتها على الحصر داخلة في الدلالات المنطوقية دون المفهومية نظراً إلى ان ضابط المفهوم لا ينطبق على المقام حيث ان الركيزة الأساسية للمفهوم هي ان الموضوع فيه بعينه هو الموضوع في المنطوق ، غاية الأمر ان دلالة القضية على ثبوت الحكم له على تقدير ثبوت المعلق عليه تكون بالمطابقة في المنطوق وعلى انتفائه عنه عند انتفاء المعلق عليه بالالتزام في المفهوم ،

١٤٤

وهذه الركيزة مفقودة في المقام ، فان كلمة (انما) في مثل قولنا (انما الفقيه زيد) تدل على ثبوت الفقه لزيد ونفيه عن غيره فلا يكون النفي والإثبات واردين على موضوع واحد. نعم لا بأس بتسمية هذا بالمفهوم أيضا ولا مشاحة فيها كما ان دلالة كلمة (الا) على النفي أو الإثبات مسماة بالمفهوم مع انهما غير واردين على موضوع واحد وكيف كان فلا أثر لهذا البحث أصلا ، وأما كلمة (الا) فلا شبهة في وضعها لإفادة الحصر ، ومن هنا ذهب بعض إلى ان دلالتها عليه بالمنطوق لا بالمفهوم ، وكيف كان فلا خلاف في افادتها ذلك الا عن أبي حنيفة حيث ذهب إلى عدم دلالتها عليه واستدل على ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (لا صلاة الا بطهور) وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قده) بوجوه : (الأول) ان المراد من الصلاة في هذا التركيب هو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ما عدا الطهور فيكون مفاده ان الصلاة التي كانت واجدة للأجزاء والشرائط المعتبرتين فيها لا تكون صلاة الا إذا كانت واجدة للطهارة وبدونها لا تكون صلاة على القول بالصحيح وصلاة تامة على القول بالأعم ويرد عليه انه واضح البطلان حيث ان لازم ذلك هو استعمال الصلاة في معان متعددة حسب تعدد هذا التركيب ، فانها في هذا التركيب قد استعملت في جميع الاجزاء والشرائط ما عدا الطهور ، وفي مثل قوله عليه‌السلام (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) قد استعملت في جميع الاجزاء والشرائط ما عدا فاتحة الكتاب ، مع ان المتفاهم العرفي منها معنى واحد في كلا التركيبين. (الثاني) ان عدم دلالتها على الحصر في مثل هذا التركيب انما هو من جهة وجود القرينة ولولاه لكانت دالة عليه. وفيه انه لا قرينة هنا حيث انه لا فرق بين استعمالها في هذا التركيب واستعمالها في غيره من الموارد ، ولعله لأجل ذلك عدل عنه وأجاب بجواب ثالث وهو ان كلمة (الا) في مثل هذا

١٤٥

التركيب تدل على نفي الإمكان يعني ان الصلاة لا تكون ممكنة بدون الطهور ومعه تكون ممكنة. وفيه ان موارد استعمالاتها نشهد بأنها تستعمل للنفي الفعلي أو الإثبات كذلك.

وبكلمة أخرى : ان ظاهر هذا التركيب كمثل قولنا (لا أقرأ القرآن إلا مع الطهارة) و (لا أزور الحسين عليه‌السلام إلا حافياً) ونحو ذلك. هو ان خبر لا المقدر فيه موجود لا ممكن. فالنتيجة انه لا يمكن الاعتماد على شيء من هذه الوجوه ولا واقع موضوعي لها أصلا.

فالصحيح في المقام : ان يقال : ان المتفاهم العرفي من مثل هذا التركيب هو ان مرده إلى قضيتين : إيجابية وسلبية ، مثلا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (لا صلاة إلا بطهور) ينحل إلى قولنا ان الصلاة لا تتحقق بدون الطهارة وإذا تحققت فلا محالة تكون مع الطهارة ، وكذا قولنا (لا أكل الطعام إلا مع الملح) فانه ينحل إلى قولنا ان الأكل لا يتحقق بدون ملح ، وانه متى تحقق تحقق مع ملح وليس قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (لا صلاة الا بطهور) ان الطهور متى تحقق تحققت الصلاة وكذا قولنا (لا أكل الطعام إلا مع الملح) ليس معناه ان الملح متى تحقق تحقق الأكل ومنه قولنا (لا أطالع الكتب الا كتب الفقيه) فان معناه ليس انه متى تحقق كتب الفقيه تحقق المطالعة ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجملة في مقام الاخبار أو الإنشاء ، كما ان المتبادر من جملة (لا صلاة إلا بطهور) هو انها مسوقة لإنشاء شرطية الطهور للصلاة. وعلى الجملة فلا شبهة في ان المتفاهم عرفاً من أمثال هذه التراكيب ما ذكرناه دون ما توهمه أبو حنيفة.

ومن ضوء هذا البيان يظهر حال كلمة التوحيد ، فان دلالتها عليه بمقتضى فهم العرف وارتكازهم ولا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس‌سره) من ان دلالتها على التوحيد كانت بقرينة الحال أو المقال

١٤٦

والسبب فيه ما عرفت من ان الناس يفهمون منها التوحيد بمقتضى ارتكازهم بلا حاجة إلى قرينة من حال أو مقال. ولكن قد يستشكل في دلالتها على التوحيد بأن خبر (لا) بما انه مقدر في الكلام فهو بطبيعة الحال لا يخلو من أن يكون المقدر ممكناً أو موجوداً ، فان كان الأول فالكلمة لا تدل على وجوده تعالى ، وان كان الثاني فهي لا تنفي إمكان إله آخر ، حيث ان نفي الوجود أعم من نفي الإمكان. والجواب عنه هو ان إمكان ذاته تعالى مساوق لوجوده ووجوبه نظراً إلى أن الواجب الوجود لا يعقل اتصافه بالإمكان الخاصّ ، فان المتصف به هو ما لا اقتضاء له في ذاته لا للوجود ولا للعدم ، فوجوده في الخارج يحتاج إلى وجود علة له ، فمفهوم واجب الوجود لذاته إذا قيس إلى الخارج فان أمكن انطباقه على موجود خارجي وجب ذلك كما في الباري سبحانه وتعالى ، وان لم ينطبق كان ممتنع الوجود كشريك الباري ، فأمر هذا المفهوم مردد في الخارج بين الوجوب والامتناع ولا ثالث لهما. والحاصل ان إمكان وجود هذا المفهوم في الخارج بالإمكان العام مساوق لوجوده ووجوبه فيه ، كما ان عدم وجوده فيه مساوق لامتناعه وعليه فهذه الكلمة تدل على التوحيد سواء أكان الخبر المقدر ممكناً أو موجوداً.

وقد يستدل على ذلك كما عن بعض بأن الممكن بالإمكان العام إذا لم يوجد في الخارج فبطبيعة الحال اما ان يستند عدم وجوده إلى عدم المقتضى أو إلى عدم الشرط أو إلى وجود المانع ، وكل ذلك لا يعقل في مفهوم واجب الوجود ، ضرورة ان وجوده لا يعقل ان يستند إلى وجود المقتضى مع توفر الشرط وعدم المانع فيه والا لانقلب الواجب ممكناً ، بل نفس تصوره يكفي للتصديق بوجوده ، ويسمى هذا البرهان بالبرهان الصديقين عند العرفاء ، ومدلوله هو ان نفس تصور مفهوم واجب الوجود على واقعه

١٤٧

الموضوعي تكفي للتصديق بوجوده في الخارج والا لم يكن التصور تصور مفهوم واجب الوجود. وهذا خلف ، ولعل هذا هو مراد بعض فلاسفة الغرب من أن مجرد تصور مفهوم الصانع لهذا العالم وما فوقه يكفي للتصديق بوجوده بلا حاجة إلى إقامة برهان ، وكيف كان فلا شبهة في ان إمكانه تعالى مساوق لوجوده وبالعكس ، فنفي إمكانه عين نفي وجوده كما ان نفى وجوده عين نفي إمكانه. ومن هنا يظهر حال صفاته سبحانه وتعالى فانه إذا أمكن ثبوت صفة له فقد وجب والا امتنع.

ثم ان الظاهر بحسب المتفاهم العرفي من كلمة التوحيد هو ان الخبر المقدر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها مثل قولنا (لا رئيس في هذا البلد) وقولنا (لا رجل في الدار) وهكذا ، فان المتفاهم العرفي منها هو ان الخبر المقدر لكلمة (لا) فيها موجود لا ممكن ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان المستفاد من كلمة التوحيد أمران : (أحدهما) التصديق بوجود الصانع للعالم كما هو مقتضى كثير من الآيات القرآنية (وثانيهما) التصديق بوحدانيته : ذاتاً وصفة ومعبوداً وإليه أشار بقوله تعالى : «قل هو الله أحد» وقوله تعالى : «إياك نعبد وإياك نستعين» فهذان الأمران معتبران في كون شخص مسلماً فلو عبد غيره تعالى فقد خرج عن رقبة الإسلام.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتائج :

الأولى : ان كلمة (الا) انما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء ، وأما إذا كانت بمعنى الصفة فلا تدل عليه.

الثانية : ان كلمة (انما) وضعت للدلالة على إفادة الحصر للتبادر عند العرف ، وتصريح أهل الأدب بذلك وان لم يكن لها نظائر في لغة الفرس ليرجع إليها الا انه لا حاجة إليها بعد ثبوت وضعها لذلك.

١٤٨

الثالثة : ان كلمة انما قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة فحينئذ لا تدل على الحصر ، بل تدل على المبالغة ، وقد تستعمل في قصر الصفة على الموصوف كما هو الغالب ، وحينئذ تدل على الحصر نعم قد تستعمل في هذا المقام أيضا في المبالغة.

الرابعة : ان الفخر الرازي أنكر دلالة كلمة انما على الحصر ، وقد صرح بذلك في تفسير قوله تعالى انما وليكم الله وقد عرفت ما في إنكاره وانه لا محمل له الا الحمل على العناد أو التجاهل.

الخامسة : انه لا ثمرة للبحث عن ان دلالة هذه الكلمة على الحصر بالمنطوق أو بالمفهوم أصلا وان اختار شيخنا الأستاذ (قده) الأول وقد تقدم وجهه موسعاً.

السادسة : لا شبهة في دلالة كلمة (الا) على الحصر وانها موضوعة لذلك ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة وانه استدل على عدم افادتها الحصر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا صلاة الا بطهور ، وأجاب عن هذا الاستدلال صاحب الكفاية (قده) بعدة وجوه ، وقد عرفت عدم تمامية شيء منها» والصحيح في الجواب عنه ما ذكرناه كما تقدم فلاحظ.

السابعة : ان كلمة التوحيد تدل على الحصر بمقتضى الارتكاز العرفي وليست دلالتها مستندة إلى قرينة حال أو مقال كما عن صاحب الكفاية (قدس‌سره) ، والإشكال على دلالتها ـ بأن الخبر المقدر فيها لا يخلو من أن يكون موجوداً أو ممكناً ، وعلى كلا التقديرين فهي لا تدل على التوحيد ـ مدفوع بما تقدم بشكل موسع.

الثامنة : ان الظاهر من هذه الكلمة بحسب المتفاهم العرفي هو ان خبر (لا) المقدر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها ، هذا تمام الكلام في مفهوم الحصر.

١٤٩

(مفهوم العدد)

ان أريد به ان للقضية مثل (تصدق بخمسة دراهم) دلالة على انه لا يجزى التصدق بأقل من ذلك فالأمر وان كان كذلك الا انه ليس من جهة دلالة العدد على المفهوم ، بل من جهة انه لم يأت بالمأمور به يعني ان المأمور به لا ينطبق على المأتي به في الخارج حتى يكون مجزياً ، نظير ما إذا قال المولى (أكرم زيداً مثلا في يوم الجمعة) فلو أكرمه في يوم الخميس لم يجز ، لعدم الطباق المأمور به على المأتي به ، وكذا إذا قال (صل إلى القبلة) فصلى إلى جهة أخرى ، وهكذا. وبكلمة أخرى ان قضية (تصدق بخمسة دراهم) لا تدل الا على وجوب التصدق بها ، واما بالإضافة إلى الأقل فهي ساكتة نفياً وإثباتاً يعني لا تدل على نفي وجوب التصدق عنه ولا على إثباته ، وأما عدم الاجزاء به فهو من ناحية ان المأمور به في هذه القضية لا ينطبق عليه ، وأما بالإضافة إلى الزائد على هذا العدد فان قامت قرينة على ان المولى في مقام التحديد ولحاظ العدد بشرط لا بالإضافة إليه فتدل القضية على نفي الوجوب عن الزائد يعني ان التصدق بالستة غير واجب ، بل هو مضر ، نظير الزيادة في الصلاة ، وان لم تقم قرينة على ذلك فمقتضى إطلاق كلامه ان الزيادة لا تكون مانعة عن حصول المأمور به في الخارج ، واما بالإضافة إلى حكمه (الزائد) فهو ساكت عنه نفياً وإثباتاً يعني لا يدل على وجوبه ، ولا على عدم وجوبه ولا على استحبابه ، فحال العدد من هذه الناحية حال اللقب.

١٥٠

(العام والخاصّ)

قبل الوصول إلى محل البحث لا بأس بالإشارة إلى عدة نقاط :

الأولى : ان العام معناه الشمول لغة وعرفاً ، وأما اصطلاحاً فالظاهر انه مستعمل في معناه اللغوي والعرفي ، ومن هنا فسروه بما دل على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله.

الثانية : ما هو الفرق بين العام والمطلق الشمولي كقوله تعالى «أحل الله البيع» و «تجارة عن تراض» وما شاكلهما حيث انه يدل على شمول الحكم لجميع أفراد مدخوله. أقول : الفرق بينهما هو ان دلالة العام على العموم والشمول بالوضع ودلالة المطلق على ذلك بالإطلاق ومقدمات الحكمة وتترتب على هذه النقطة من الفرق ثمرات تأتي في ضمن البحوث الآتية ، الثالثة : ان العموم ينقسم إلى استغراقي ومجموعي وبدلي ، فالحكم في الأول وان كان واحداً في مقام الإنشاء والإبراز الا انه في مقام الثبوت والواقع متعدد بعدد أفراد العام ، ففي مثل قولنا (أكرم كل عالم) وان كان الحكم في مقام الإنشاء واحداً الا انه بحسب الواقع ينحل بانحلال أفراد موضوعه فيكون في قوة قولنا (أكرم زيد العالم) و (أكرم بكر العالم) وهكذا فيثبت لكل فرد حكم مستقل غير مربوط بالحكم الثابت لآخر. وفي الثاني واحد في مقامي الإثبات والثبوت باعتبار ان المتكلم قد جعل المجموع من حيث المجموع موضوعاً واحداً بحيث يكون كل فرد جزء الموضوع لا تمامه وفي الثالث أيضا كذلك حيث ان الحكم فيه تعلق بصرف وجود الطبيعة السارية إلى جميع أفرادها كقولنا مثلا (أكرم أي رجل شئت) والمفروض ان صرف الوجود غير قابل للتعدد ، وعليه فلا محالة يكون الحكم المتعلق به واحداً.

١٥١

الرابعة : ما هو منشأ هذا التقسيم ذكر صاحب الكفاية (قده) ان منشأه انما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم بالعامّ حيث انه يتعلق به تارة على نحو يكون كل فرد موضوعاً على حدة للحكم ، وأخرى يكون الجميع موضوعاً واحداً بحيث يكون كل فرد جزء الموضوع لا تمامه ، وثالثة يكون كل فرد موضوعاً على البدل. وفيه ان الأمر ليس كذلك ، والسبب فيه هو ان المولى في مرحلة جعل الحكم إذا لم يلاحظ الطبيعة بما هي مع قطع النّظر عن افرادها أي من دون لحاظ فنائها فيها ولم يجعل الحكم عليها كذلك كما هو الحال في القضية الطبيعية كقولنا (الإنسان نوع) و (الحيوان جنس) وما شاكلهما التي لا صلة لها بالعامّ والخاصّ فبطبيعة الحال تارة يلاحظ الطبيعة فانية في افرادها على نحو الوحدة في الكثرة يعني يلاحظ الافراد الكثيرة واقعاً وحقيقة في ضمن مفهوم واحد وطبيعة فاردة ويجعل الحكم على الافراد فيكون كل واحد منها موضوعاً مستقلا. وأخرى يلاحظها فانية في الافراد لا على نحو الوحدة في الكثرة ، بل على نحو الوحدة في الجمع يعني يلاحظ الافراد المتكثرة على نحو الجمع واقعاً وحقيقة في إطار مفهوم واحد ويجعل الحكم عليها كذلك فيكون المجموع موضوعاً واحداً على نحو يكون كل فرد جزء الموضوع لا تمامه وثالثة يلاحظها فانية في صرف وجودها في الخارج ويجعل الحكم عليه ، فعلى الأول العموم استغراقي فيكون كل فرد موضوعاً للحكم ، وجهة الوحدة بين الافراد ملغاة في مرتبة الموضوعية ، كيف حيث لا يعقل ثبوت أحكام متعددة لموضوع واحد وعلى الثاني العموم مجموعي فيكون المجموع من حيث المجموع موضوعاً للحكم فالتكثرات فيه وان كانت محفوظة الا انها ملغاة في مرتبة الموضوعية. وعلى الثالث العموم بدلي فيكون الموضوع واحداً من الافراد لا بعينه فجهة الكثرة وجهة الجمع كلتاهما ملغاة فيه في مرتبة الموضوعية يعني لم يؤخذ شيء منهما

١٥٢

في الموضوع. فالنتيجة ان منشأ التقسيم ما ذكرناه لا ما ذكره صاحب الكفاية (قده).

الخامسة : ان صيغ العموم وضعت للدلالة على سراية الحكم إلى جميع ما ينطبق عليه مدخولها ومتعلقها. منها هيئة الجمع المحلى باللام التي ترد على المادة كقولنا (أكرم العلماء) فانها موضوعة للدلالة على سراية الحكم إلى جميع افراد مدخولها وهو العالم. وكذا الحال في كلمة (كل).

ومن ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين ما دل على العموم من الصيغ وبين لفظ عشرة ونظائرها ، فان هذه اللفظة بالإضافة إلى افرادها حيث انها كانت من الأسماء الأجناس فلا محالة تكون موضوعة للدلالة على الطبيعة المهملة الصادقة على هذه العشرة وتلك وهكذا فلا تكون من ألفاظ العموم في شيء ، واما بالإضافة إلى مدخولها كقولنا (أكرم عشرة رجال) فلا تدل على سريان الحكم إلى كل من ينطبق عليه مدخولها ـ وهو الرّجل نعم بمقتضى الإطلاق وان دلت على ان المكلف مخير في تطبيق عشرة رجال على أي صنف منهم أراد وشاء سواء أكان ذلك الصنف من صنف العلماء أو السادة أو الفقراء أو ما شاكلها الا ان ذلك بالإطلاق ومقدمات الحكمة لا بالوضع. وأما بالإضافة إلى الآحاد التي يتركب العشرة منها فهي وان دلت على سراية الحكم المتعلق بها إلى تلك الآحاد سراية ضمنية كما هو الحال في كل مركب يتعلق الحكم به ، فانه لا محالة يسري إلى أجزائه كذلك ، الا ان هذه الدلالة أجنبية عن دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله ، حيث ان تلك الدلالة دلالة على سراية الأحكام المتعددة المستقلة إلى الافراد والموضوعات كذلك ، وهذا بخلاف هذه الدلالة ، فانها دلالة على سراية حكم واحد متعلق بموضوع واحد إلى أجزائه ضمناً يعني ان كل جزء من أجزائه متعلق للحكم الضمني دون الاستقلالي كما

١٥٣

هو الحال في جميع المركبات بشتى أنواعها ـ

ودعوى أن ـ استغراق العشرة أو ما شاكلها باعتبار الواحد حيث ان كل مرتبة من مراتب الاعداد التي تكون معنونة بعنوان خاص وباسم مخصوص مؤلفة من الآحاد والواحد الّذي هو بمنزلة المادة ينطبق على كل واحد منها ـ فالعشرة تكون مستغرقة للواحد إلى حدّها الخاصّ ، والعشرون يكون مستغرقاً له إلى حدّه كذلك ، وهكذا ، وعدم انطباق العشرة بما هي على الواحد غير ضمائر ، لأن مفهوم كل رجل لا ينطبق على كل فرد من افراده ، بل مدخول الأداة بلحاظ سعته ينطبق على كل واحد من افراده ، فاللازم انطباق ذات ماله الاستغراق والشمول لا بما هو مستغرق وشمول وإلا فليس له إلا مطابق واحد ـ خاطئة جداً والوجه فيه ان مراتب الاعداد وان تألفت من الآحاد الا ان الواحد ليس مادة لفظ العشرة أو ما شاكله حتى يكون له الشمول والاستغراق بعروض هذه اللفظة عليه. أو ما شاكلها من الألفاظ والعناوين.

وان شئت قلت ان نسبة الواحد إلى العشرة ليست كنسبة العالم مثلا إلى العلماء حيث انه مادة الجمع المحلى باللام يعني ان هيئة هذا الجمع تعرض عليه وتدل على كونه ذا شمول واستغراق ، وهذا بخلاف العشرة فانها لا تعرض على الواحد كيف فانه جزئها المقوم لها نظراً إلى انها مركبة منه ومن سائر الآحاد وبانتفائه تنتفي ، وتكون مباينة له لفظاً ومعنى ، كما انها مباينة لسائر مراتب الاعداد كذلك ، فاذن لا يعقل عروضها عليه ، كي تدل على شموله وعمومه ، ضرورة ان الكل لا يعقل عروضه على الجزء فلا تكون من قبيل هيئة الجمع المعرف باللام التي تعرض على مادتها وتدل على عمومها وشمولها لكل فرد من افرادها ، وكذا ليست نسبة الواحد إلى العشرة كنسبة الرجل إلى لفظة (كل) الداخلة عليه ، وذلك

١٥٤

لأن الواحد كما عرفت جزء العشرة لا انها داخلة عليه كدخول أداة العموم على ذيها لكي تدل على عمومه وشموله لكل ما ينطبق عليه من الآحاد ، كما هو الحال في لفظة (كل) الداخلة على الرّجل مثلا. فالنتيجة ان العشرة ليست من أداة العموم كلفظة (كل) وهيئة (الجمع المعرف باللام) ونحوهما.

السادسة : انه لا ريب في وجود صيغ تخص العموم كما ذكره صاحب الكفاية (قده) كلفظة (كل) وما شاكلها حيث لا شبهة في ان المتفاهم العرفي منها العموم وان دلالتها عليه على وفق الارتكاز الذهني ، وهكذا الحال في نظائرها. وعلى الجملة فلا شبهة في ان كلمة (كل) في لغة العرب ونظائرها في سائر اللغات موضوعة للدلالة على العموم وانها ونظائرها من صيغ العموم خاصة به. ودعوى ان ـ الخاصّ بما هو القدر المتيقن بحسب الإرادة خارجاً فوضع اللفظ بإزائه أولى من وضعه بإزاء العموم ـ خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أبداً ، ضرورة ان كونه كذلك لا يقتضي وضع اللفظ بإزائه دون العموم.

نعم كون الخاصّ من المتيقن لو كان على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم ويكون بمنزلة القرينة المتصلة في الكلام بحيث تحتاج إرادة العموم إلى نصب قرينة لأمكن أن يقال ان وضع اللفظ للعموم لغو فالأولى أن يكون موضوعاً للخصوص ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان كون الخاصّ متيقناً انما هو بحسب الإرادة الخارجية ، ومن الطبيعي ان مثل هذا المتيقن لا يكون مانعاً عن ظهور اللفظ لا في العموم ولا في غيره ، غاية الأمر يكون اللفظ نصاً بالإضافة إرادة الخاصّ وظاهراً بالإضافة إلى إرادة العام ، ومحط النّظر انما هو في إثبات الظهور وعدمه ، وقد عرفت انه لا شبهة في ظهور لفظة (كل) في العموم كما في مثل قولنا (أكرم

١٥٥

كل عالم) أو (أكرم كل رجل وما شاكل ذلك. ودعوى ان ـ المناسب وضع اللفظ للخاص لا للعام نظراً إلى كثرة استعمال العام في الخاصّ حتى قيل ما من عام إلا وقد خص ـ فاسدة جداً ، ضرورة ان مجرد ذلك لا يقتضي الوضع بإزائه دونه ، إذ لا مانع من ان تكون الاستعمالات المجازية أكثر من الاستعمالات الحقيقة لداع من الدواعي.

وان شئت قلت : ان كون الخاصّ معنى مجازياً للعام ليس على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم بحيث تكون إرادة العموم منه تحتاج إلى قرينة كما هو الحال في المجاز المشهور ، بل الأمر بالعكس تماماً ، فانه ظاهر في العموم وإرادة الخاصّ منه تحتاج إلى قرينة. هذا مضافاً إلى ما سيأتي في ضمن البحوث الآتية من ان التخصيص لا يستلزم استعمال العام في الخاصّ حتى يكون مجازاً ، بل العام قد استعمل في معناه بعد التخصيص أيضا.

السابعة : ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) وإليك نصه : ربما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم النكرة في سياق النفي أو النهي ودلالتها عليه لا ينبغي أن ينكر عقلا. لضرورة انه لا يكاد يكون الطبيعة معدومة إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود والا لكانت موجودة ، لكن لا يخفى انها تفيده إذا أخذت مرسلة لا مبهمة وقابلة للتقييد والا فسلبها لا يقتضي الا استيعاب السلب لما أريد منها يقيناً ، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من افرادها ، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فانها بالإضافة إلى افراد ما يراد منها لا الافراد التي يصلح لانطباقها عليها ، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ (كل) على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة. نعم لا يبعد أن يكون ظاهراً عند إطلاقها في استيعاب جميع افرادها ، وهذا هو الحال

١٥٦

في المحلى باللام جمعاً كان أو مفرداً بناء على افادته للعموم ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره ، وإطلاق التخصيص على تقييده ليس الا من قبيل ضيق فم الركبة ، لكن دلالته على العموم وضعاً محل منع ، بل انما يفيد فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أخرى ، وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ، ولا مدخوله ، ولا وضع آخر للمركب منهما كما لا يخفى ، وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.

نلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط :

الأولى : ان المراد من النكرة هو الطبيعة اللا بشرط ودلالتها على العموم إذا وقعت في سياق النفي أو النهي ترتكز على ان تكون مأخوذة على نحو الإطلاق حيث انها تدل على عموم ما يراد منها عقلا ، فان أريد منها الطبيعة المطلقة دلت على نفيها كذلك وان أريد منها الطبيعة المقيدة دلت على نفيها كذلك ، لا مطلقة وبالإضافة إلى جميع افرادها ، فاذن في إثبات دلالة كلمة (لا) على نفي الطبيعة مطلقة لا بد من إثبات انها مأخوذة في تلوها كذلك بمقدمات الحكمة حيث انها بدونها لا تدل عليه ، ضرورة ان الطبيعة المأخوذة في تلوها إذا لم يمكن إثبات إطلاقها بها لم تدل على نفيها كذلك ، بل تدل على نفي المتيقن منها في إطار الإرادة.

الثانية : ان لفظة (كل) وان كانت موضوعة للدلالة على العموم الا ان دلالتها على عموم جميع ما ينطبق عليه مدخولها من الافراد والوجودات تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه ، والا فلا دلالة لها على ذلك نظراً إلى انها موضوعة للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها ، فان ثبت إطلاقه فهو والا فهي تدل على إرادة المتيقن منه.

الثالثة : ان الجمع المعرف باللام بناء على افادته للعموم أيضا كذلك يعني ان دلالته على العموم أي عموم افراد مدخوله تبتني على إثبات إطلاقه

١٥٧

بإجراء مقدمات الحكمة فيه وكذا الحال في المفرد المعرف باللام.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط :

أما النقطة الأولى : فهي في غاية الصحة والمتانة ، والوجه فيه ما ذكرناه في أول بحث النواهي من ان مقدمات الحكمة إذا جرت في مدخول كلمة (لا) سواء أكانت نافية أم ناهية فنتيجتها هي العموم الشمولي كقولنا : مثلا (لا أملك شيئاً) فان كلمة شيء وان استعملت في معناها الموضوع له وهو الطبيعة المهملة الجامعة بين جميع الأشياء ـ الا ان مقتضى الإطلاق وعدم تقييده بحصة خاصة هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه عنوان الشيء ، لا نفي فرد ما منه ووجود البقية عنده ، فان هذا المعنى باطل في نفسه فلا يمكن إرادته منه ، واما إذا افترضنا انه لا إطلاق له يعني أن مقدمات الحكمة لم تجر فيه فهي لا تدل على العموم والشمول وانما تدل على النفي بنحو القضية المهملة التي تكون في حكم القضية الجزئية ، كما انه إذا قيد بقيد دلت على نفي ما يمكن أن ينطبق عليه هذا المقيد ، ومن هذا القبيل أيضا قوله (لا تشرب الخمر) وقوله عليه‌السلام (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) وقوله تعالى : «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» وما شاكلها.

وأما النقطة الثانية : فهي خاطئة جداً ، والسبب فيه ان دلالة لفظة كل أو ما شاكلها من أداة العموم على إرادة عموم ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه لإثبات إطلاقه أولا ، وانما هي تكون مستندة إلى الوضع ، بيان ذلك : ان لفظة (كل) أو ما شاكلها التي هي موضوعة لإفادة العموم تدل بنفسها على إطلاق مدخولها وعدم أخذ خصوصية فيه ولا يتوقف ذلك على إجراء المقدمات ففي مثل قولنا (أكرم كل رجل تدل لفظة (كل) على سراية الحكم إلى جميع من ينطبق

١٥٨

عليه الرّجل من دون فرق بين الغني والفقير ، والعالم والجاهل ، والأبيض والأسود ، وما شاكل ذلك فتكون هذه اللفظة بيان على عدم أخذ خصوصية وقيد في مدخولها.

وبكلمة أخرى : قد ذكرنا في غير مورد ان الإطلاق والتقييد خارجان عن حريم المعنى ، فانه عبارة عن الماهية المهملة من دون لحاظ خصوصية من الخصوصيات فيه منها خصوصية الإطلاق والتقييد ، فإرادة كل منهما تحتاج ، إلى عناية زائدة ، وعليه فلفظة كل في مثل قولنا (أكرم كل رجل تدل على سراية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها بماله من المعنى وضعاً ، ومن الواضح ان هذه الدلالة بنفسها قرينة على عدم أخذ خصوصية فيه ، لا ان دلالتها على العموم والشمول مستندة إلى عدم قيام قرينة على تقييده بقيد ما والا لكفى جريان مقدمات الحكمة في إثبات العموم من دون حاجة إلى أداته وعليه فبطبيعة الحال يكون الإتيان بها لغواً محضاً حيث ان العموم حينئذ مستفاد من قرينة الحكمة سواء أكانت الأداة أم لم تكن وعندئذ لا محالة يكون وجودها كعدمها وهذا خلاف الارتكاز العرفي ، ضرورة ان العرف يفرق بين قولنا (أكرم كل عالم) وقولنا (أكرم العالم) ويرى ان دلالة الأول على العموم لا تحتاج إلى أية مئونة زائدة ما عدا دلالة اللفظ عليه وهذا بخلاف الثاني ، فان دلالته على العموم تحتاج إلى مئونة زائدة وهي إجراء مقدمات الحكمة : فالنتيجة ان وضع لفظة (كل) أو ما شاكلها للدلالة على العموم أي عموم مدخولها وشموله بماله من المعنى بنفسه قرينة على عدم أخذ خصوصية وقيد فيه يعني ان دلالتها عليه عين دلالتها على العموم ، لا ان لها دلالتين : دلالة على العموم ، ودلالة على عدم أخذ قيد وخصوصية فيه وهذه النقطة هي زاوية الامتياز بين العموم المستند إلى الوضع ، والعموم المستند إلى قرينة الحكمة ، حيث ان الثاني يتوقف على عدم بيان دخل قيد ما في

١٥٩

غرض المولى مع كونه في مقام البيان كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في ضمن البحوث الآتية ، والأول بيان على عدم دخله فيه ، فهما أشبه شيء بالأصول والأمارات.

وأما ـ ما أفاده (قده) من ان إمكان تقييد مدخول الأداة كلفظة كل في مثل قولنا (أكرم كل عالم عادل) وعدم منافاة هذا التقييد لدلالتها على العموم دليل على ان دلالتها على عموم مدخولها وشموله تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه ـ فهو خاطئ جداً وذلك لأن دلالتها على العموم أي عموم مدخولها وشموله بما له من المعنى لا ينافيه تقييده بقيد ما ، ضرورة انها لا تدل على ان مدخولها جنس أو نوع أو فصل أو صنف ، فان مفادها بالوضع هو الدلالة على عموم المدخول كيف ما كان غاية الأمر ان كان جنساً دلت على العموم في إطاره ، وان كان نوعاً دلت على العموم في إطار النوع ، وان كان صنفاً دلت على العموم في إطار الصنف وهكذا. وان شئت قلت انه لا فرق بين القول بوضعها للعموم أي عموم المدخول بماله من المعنى ، والقول بوضعها لعموم ما يراد من المدخول في هذه النقطة ، وهي عدم منافاة التقييد للدلالة على العموم. نعم يمتاز القول الثاني عن القول الأول في نقطة أخرى وهي أن دلالتها على العموم على القول الثاني لإثبات إطلاق المدخول وإرادته بقرينة الحكمة كي تدل على عمومه وشموله ، وعلى القول الأول فهي بنفسها تدل على إطلاقه وسعته ، ونتيجة ما ذكرناه إلى هنا هي ان أداة العموم على القول بكونها موضوعة للدلالة على عموم ما يراد من المدخول لا بد أولا من إثبات سعته وإطلاقه بقرينة الحكمة حتى تدل على عمومه وشموله وعلى القول بكونها موضوعة للدلالة عموم المدخول بماله من المعنى فهي بنفسها تدل على سعته وإطلاقه من دون حاجة إلى قرينة الحكمة أو نحوها

١٦٠