محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

المقام الّذي التزمنا فيه بتعدد الطلب ومسألة تعلق الأمر بشيء واحد مرتين كما إذا قال المولى (صم يوماً) ثم قال (صم يوماً) التي التزمنا فيها بحمل الأمر الثاني على التأكيد كما تقدم ، وذلك لأن ظهور الأمر الثاني في التأسيس وتعدد الحكم ليس ظهوراً لفظياً ليكون قرينة على صرف ظهور وحدة المتعلق في وحدة الحكم ، بل هو من الظهورات السياقية ، فكما يمكن أن يكون هو قرينة على التأسيس والتعدد ، كذلك يمكن أن تكون وحدة المتعلق قرينة على الوحدة والتأكد فلا ينعقد حينئذ للكلام ظهور في التأسيس ومعه لا مناص من الرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد عن المتيقن فتكون النتيجة نتيجة التأكيد ، وهذا بخلاف المقام ، فان ظهور القضية الشرطية في تعدد الحكم بما انه ظهور لفظي يكون رافعاً لظهور الجزاء في وحدة الحكم فيكون مقتضى القاعدة حينئذ عدم التداخل.

ملخص ما أفاده (قده) نقطتان :

الأولى : ان القضية الشرطية ظاهرة في انحلال الحكم بانحلال شرطه حيث ان الشرط فيها هو الموضوع في القضية الحقيقية بعينه ولا شبهه في انحلال الحكم فيها بانحلال موضوعه ونتيجة ذلك هي تعدد الحكم بتعدد سببه وشرطه من دون فرق بين أن يكون التعدد بحسب الافراد أو الأجناس.

الثانية : ان تعلق الطلب بشيء والبعث نحوه يقتضى إيجاده في الخارج ونقض عدمه ، فإذا فرض تعلق الطلب به ثانياً فهو يقتضي في نفسه إيجاده كذلك نظراً إلى ان تعدد البعث يقتضي تعدد الانبعاث نحو الفعل لا محالة. ودعوى ان متعلق الطلب والبعث بما انه صرف الوجود فهو غير قابل للتكرر ، وعليه فبطبيعة الحال تكون نتيجة الطلبين إلى طلب واحد بمعنى ان الطلب الثاني يكون مؤكداً للأول خاطئة جداً ، وذلك لأن متعلق الطلب والبعث إيجاد الطبيعة ، ومن المعلوم ان إيجادها يتعدد بتعدد

١٢١

وجوداتها في الخارج فيكون لكل وجود منها فيه إيجاد خاص فلا مانع من تعلق كل طلب بإيجاد فرد منها ، ولا موجب لحمل الطلب والبعث الثاني على التأكيد ، فانه يحتاج إلى قرينة وإلا فكل بعث نحو فعل يقتضي في نفسه انبعاث المكلف إلى إيجاده. غاية الأمر في صورة التعدد يقتضي إيجاده متعدداً فيكون إيجاد كل فرد متعلق لبعث ، كما هو مقتضى انحلال الحكم بانحلال شرطه وموضوعه.

فالنتيجة على ضوء هاتين النقطتين هي انه لا موضوع للتعارض بين ظهور القضية الشرطية في الانحلال والحدوث عند الحدوث وبين ظهور الجزاء في وحدة التكليف حيث لا ظهور للجزاء في ذلك بل قد عرفت ان تعدد الطلب والبعث ظاهر في نفسه في تعدد الانبعاث والمطلوب فالحمل على التأكيد يحتاج إلى قرينة من حال أو مقال كما إذا علم من الخارج ان الأمر الثاني للتأكيد أو علم ذلك من جهة ذكر سبب واحد لكلا الأمرين كما إذا كرر نفس السبب في القضية الأولى مرة ثانية من دون التقييد بقيد (كمرة أخرى أو نحوها) مثل ما إذا قال المولى (ان جامعت فكفر) ثم قال : (ان جامعت فكفر) ففي مثل ذلك لا محالة يكون الأمر في القضية الثانية للتأكيد دون التأسيس حيث ان ذكر سبب واحد لكليهما معاً قرينة على ذلك. وأما إذا لم تكن قرينة في البين فلا محالة يكون تعدد الأمر ظاهراً في تعدد المطلوب فيكون تكليفان متعلقين بطبيعة واحدة ، فإذا أتى المكلف بها مرة سقط أحدهما من دون تعيين ، وإذا أتى بها مرة ثانية سقط الآخر ، ونظير ذلك ما (إذا أتلف أحد درهماً من شخص) و (استقرض منه درهماً آخر) فحينئذ الثابت في ذمته درهمان : أحدهما من ناحية الإتلاف والآخر من ناحية القرص : فإذا أدى أحد الدرهمين سقط أحدهما عن ذمته وبقي الآخر من دون تعيين وتمييز في ان الساقط هو الدرهم

١٢٢

التالف أو الدرهم القرض حيث انه لا تمييز بينهما في الواقع وفي ظرف ثبوتهما ـ وهو الذّمّة ـ وكذا إذا كان الثابت في ذمته صوم يومين أو أزيد من جهة نذر أو عهد أو قضاء صوم شهر رمضان أو ما شاكل ذلك ففي مثل ذلك لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما عن ذمته من دون تعيين ، لفرض عدم واقع معين لهما حتى في علم الله تعالى ، وكذا الحال فيما إذا كان مديوناً لصلاتين متماثلتين بناء على عدم اعتبار الترتيب بينهما.

والنكتة في ذلك ان ما ثبت في الذّمّة من تكليف كالصلاة والصوم ونحو ذلك أو وضع إذا كان له طابع خاص وإطار مخصوص من ناحية الزمان أو المكان أو ما شاكل ذلك فلا بد في مقام الوفاء من الإتيان بما ينطبق عليه ماله طابع خاص والا لم يف به ، كما إذا نذر صوم يومي الخميس والجمعة مثلا حيث ان لكل منهما طابعاً خاصاً في الواقع فلا ينطبق على غيره. وأما إذا لم يكن له طابع خاص وخصوصية مخصوصة كما إذا نذر صوم يومين من الأيام من دون اعتبار خصوصية في شيء منهما ففي مثل ذلك بطبيعة الحال لا يكون بينهما ميز في الواقع ونفس الأمر حتى في علم الله سبحانه باعتبار انه لا واقع له ما عدى ثبوته في الذّمّة فعندئذ لا محالة إذا صام يوماً سقط أحدهما لا بعينه من دون تمييز حيث لا يتوقف سقوطه على وجود ميز في الواقع. ودعوى ـ انه لا يمكن الحكم بالسقوط في أمثال المقام ، فان الحكم بسقوط هذا دون ذاك ترجيح من دون مرجح والحكم بسقوط كليهما بلا موجب فلا محالة يتعين الحكم بعدم سقوط شيء منهما ـ خاطئة جداً حيث ان المفروض انه لا تعين ولا ميز بينهما في الواقع ونفس الأمر حتى في علم الله تعالى ليقال ان الساقط هذا أو ذاك. فان الإشارة تستدعي ان يكون بينهما ميز في الواقع ، وقد عرفت عدمه ، فاذن لا محالة يكون الساقط أحدهما المبهم غير المميز والمعين في الواقع لانطباقه على المأتي به

١٢٣

في الخارج جزماً وهو واضح.

أما الكلام في المقام الثاني ـ وهو التداخل في المسببات ـ فلا شبهة في ان مقتضى القاعدة هو عدم التداخل ، لوضوح ان تعدد التكليف يقتضي تعدد الامتثال ، والاكتفاء بامتثال واحد عن الجميع يحتاج إلى دليل ، وقد قام الدليل على ذلك في باب الغسل حيث قد ثبت ان الغسل الواحد يجزى عن الأغسال المتعددة ولو كان ذلك هو غسل الجمعة يعني لم يكن واجباً. وأما فيما لم يقم دليل على ذلك فلا مناص من الالتزام بتعدد الامتثال ، كما إذا وجبت على المكلف كفارة متعددة من ناحية انه أتى بأهله مثلا في نهار شهر رمضان مرات متعددة ، أو من ناحية أخرى ففي مثل ذلك لا تكفي كفارة واحدة عن الجميع ، حيث قد عرفت ان مقتضى الأصل عدم سقوط التكاليف المتعددة بامتثال واحد. نعم يستثنى من ذلك مورد واحد وهو ما إذا كانت النسبة بين متعلقي التكليفين عموماً وخصوصاً من وجه كما في قضيتي (أكرم عالماً) و (أكرم هاشمياً) فان مقتضى القاعدة فيه هو سقوط كلا التكليفين معاً بإتيان المجمع وامتثاله ـ وهو إكرام العالم الهاشمي لانطباق متعلق كل منهما عليه ، ومن الطبيعي انه لا يعتبر في تحقق الامتثال عقلا الا الإتيان بما ينطبق عليه متعلق الأمر.

وبكلمة أخرى : ان مقتضى إطلاق متعلق كل من الدليلين هو جواز امتثالهما منفرداً ومجتمعاً حيث ان إكرام العالم لا يكون مقيداً بغير الهاشمي وبالعكس ، وعليه فلا محالة إذا أتى المكلف بالمجمع بينهما انطبق عليه متعلق كل منهما ، وهذا معنى سقوط كلا التكليفين بفعل واحد.

ومن ضوء هذا البيان يظهر ان المقام ليس من تأكد الحكم في مورد الاجتماع أصلا كما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) وذلك لأن التأكد في أمثال المقام انما يتصور فيما إذا تعلق كل من الحكمين بنفس مورد

١٢٤

الاجتماع ، كما إذا كان التكليف في كل من العامين من وجه انحلالياً ، فعندئذ يكون مورد الالتقاء والاجتماع بنفسه متعلقاً لكلا الحكمين معاً فيحصل التأكد بينهما فيصبحان حكماً واحداً مؤكداً ، لاستحالة بقاء كل منهما بحده وهذا بخلاف ما إذا كان التكليف في كل منهما بدلياً كما هو المفروض في المقام ، فعندئذ لا يكون المجمع بنفسه مورداً لكل من الحكمين ، بل هو مما ينطبق عليه متعلق كل منهما ، حيث ان متعلق التكليف في العموم البدلي هو الطبيعي الجامع الملغى عنه الخصوصيات ، فالفرد المأتي به ليس بنفسه متعلقاً للأمر ليتأكد طلبه عند تعلق الأمرين به ، بل هو مصداق لما يتعلق به الطلب والأمر. فالنتيجة ان التداخل في أمثال المقام على القاعدة فلا يحتاج إلى مئونة زائدة. وتظهر ثمرة ذلك في الفقه فيما إذا كانت النسبة بين الواجب والمستحب عموماً من وجه وكان كل من الوجوب والاستحباب متعلقاً بالطبيعة الملغاة عنها الخصوصيات ، أو كانت النسبة بين المستحبين كذلك ، والأول كالنسبة بين صوم الاعتكاف ، وصوم شهر رمضان أو قضائه أو صوم واجب بالنذر أو نحوه حيث ان النسبة بينهما عموم من وجه فإذا أتى المكلف بالمجمع بينهما ، فانه يجزى عن كليهما معاً ، لانطباق متعلق كل منهما عليه. والثاني كالنسبة بين صلاة الغفيلة ونافلة المغرب حيث ان الأمر المتعلق بكل منهما مطلق فلا مانع من الجمع بينهما في مقام الامتثال بإتيان المجمع بأن يأتي بصلاة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب ، فانها تجزى عن كليهما معاً ، لانطباق متعلق كل منهما عليها ، وكذا الحال بين صلاة الجعفر ونافلة المغرب.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط :

الأولى : ان المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط وأما انتفاء شخص الحكم المعلق عليه بانتفائه فهو قهري فلا صلة له بدلالة

١٢٥

القضية الشرطية على المفهوم ، فالمراد منه انتفاء فرد آخر من الحكم عن الموضوع المذكور فيها بانتفاء الشرط وعلى هذا فلا يكون انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه من المفهوم في شيء ولا يفرق في ذلك بين كون الحكم المستفاد من الجزاء مدلولا اسميا أو حرفيا.

(الثانية) : انه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً كان تعدده على نحو التركيب أو التقييد.

(الثالثة) : ان الحكم الثابت في طرف الجزاء المعلق على الشرط قد يكون انحلاليا وقد يكون غير انحلالي ، وعلى الأول فهل مفهومه إيجاب جزئي أو كلي اختار شيخنا الأستاذ (قده) الثاني ، والصحيح هو الأول وقد تقدم تفصيل ذلك بشكل موسع.

(الرابعة) : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فمقتضى القاعدة فيه هو ان الشرط أحدهما حيث انها تقتضي تقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر ، فالنتيجة من ذلك هي نتيجة العطف بكلمة (أو).

(الخامسة) : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل القاعدة تقتضي التداخل في الأسباب أو المسببات أو لا هذا ولا ذاك ، وقد تقدم ان مقتضى القاعدة عدم التداخل في كلا المقامين ، فالتداخل يحتاج إلى دليل ، وقد قام الدليل عليه في بابي الوضوء والغسل على تفصيل قد سبق.

(السادسة) : ان كون الأسباب الشرعية معرفات لا يرجع عند التحليل إلى معنى صحيح ومعقول.

(السابعة) : ان محل الكلام في التداخل وعدمه انما هو فيما إذا كان كل من الشرط والجزاء قابلا للتعدد والتكرر والا فلا موضوع لهذا البحث على ما عرفت بشكل موسع.

١٢٦

(الثامنة) : ان مقتضى القاعدة التداخل في المسبب فيما إذا كانت النسبة بين الدليلين عموماً من وجه وكان العموم فيهما بدليا ، فان الإتيان بالمجمع في مورد الاجتماع يجزى عن كلا التكليفين ، لانطباق متعلق كل منهما عليه.

مفهوم الوصف

لتنقيح محل النزاع ينبغي لنا تقديم أمرين :

الأول : ان محل الكلام بين الأصحاب في دلالة الوصف على المفهوم وعدم دلالته عليه انما هو في الوصف المعتمد على موصوفه في القضية بأن يكون مذكوراً فيها كقولنا (أكرم إنسانا عالما) أو (رجلا عادلا) أو ما شاكل ذلك. وأما الوصف غير المعتمد على موصوفه كقولنا (أكرم عالماً أو عادلا) أو نحو ذلك فهو خارج عن محل الكلام ولا شبهة في عدم دلالته على المفهوم ، ضرورة انه لو كان داخلا في محل الكلام لدخل اللقب فيه أيضا ، لوضوح انه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف من هذه الناحية ، فكما ان الأول لا يدل على المفهوم من دون خلاف فكذلك الثاني ، ومجرد ان الوصف ينحل بتعمل من العقل إلى شيئين : ذات ، ومبدأ كما هو الحال في جميع العناوين الاشتقاقية لا يوجب فارقاً بينه وبين اللقب في هذه الجهة ، حيث ان هذا الانحلال لا يتعدى عن أفق النّفس إلى أفق آخر فلا أثر له في القضية في مقام الإثبات والدلالة أصلا حيث ان المذكور فيها شيء واحد ـ وهو الوصف دون موصوفه ـ وكيف كان فالظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في عدم دلالته على المفهوم ، والسبب فيه هو ان الحكم الثابت في القضية لعنوان اشتقاقياً كان أو ذاتياً

١٢٧

فلا تدل القضية إلا على ثبوت هذا الحكم لهذا العنوان وكونه دخيلا فيه وأما انتفائه عن غيره فلا اشعار فيها فضلا عن الدلالة ، بل لو دل على المفهوم لكان الوصف الذاتي أولى بالدلالة نظراً إلى ان المبدأ فيه مقوم للذات وبانتفائه تنتفي الذات جزماً ، وهذا بخلاف الوصف غير الذاتي فان المبدأ فيه حيث انه جعلي غير مقوم للذات فلا محالة لا تنتفي الذات بانتفائه. فالنتيجة انه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف ، فان ملاك عدم الدلالة فيهما واحد.

الثاني : ان الوصف تارة يكون مساوياً لموصوفه كقولنا (أكرم إنسانا ضاحكاً) وما شاكله ، وأخرى يكون أعم منه مطلقاً كقولنا (أكرم إنسانا ماشيا) وثالثة يكون أخص منه كذلك كقولنا (أضف إنسانا عالماً) ورابعة يكون أعم منه من وجه كقوله عليه‌السلام (في الغنم السائمة زكاة) : اما الأول والثاني فلا إشكال في خروجهما عن محل النزاع والوجه فيه ظاهر وهو ان الوصف في هاتين الصورتين لا يوجب تضييقاً في ناحية الموصوف حتى يكون له دلالة على المفهوم ، حيث ان معنى دلالة الوصف على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه وهذا فيما لا يوجب انتفائه انتفاء الموصوف ، والمفروض ان في هاتين الصورتين يكون انتفائه موجباً لانتفاء الموصوف فلا موضوع لدلالته على المفهوم وأما الثالث فلا إشكال في دخوله في محل الكلام ، فان ما ذكرناه من الملاك لدلالته على المفهوم موجود فيه. واما الرابع فهو أيضا داخل في محل الكلام حيث انه يفيد تضييق دائرة الموصوف من جهة فيقيد الغنم في المثال المتقدم بخصوص السائمة ، فعلى القول بدلالة الوصف على المفهوم يدل على انتفاء وجوب الزكاة عن الموضوع المذكور في القضية بانتفائه ، فلا زكاة في الغنم المعلوفة. نعم لا يدل على انتفائه عن غير هذا الموضوع

١٢٨

كالإبل المعلوفة كما نسب ذلك إلى بعض الشافعية فنفي وجوب الزكاة عن الإبل المعلوفة استناداً إلى دلالة وصف الغنم بالسائمة على انتفاء حكمها يعني وجوب الزكاة عن فاقد هذا الوصف مطلقاً ولو كان موضوعاً آخر ، ووجه عدم دلالته على ذلك واضح ، لما عرفت من ان معنى دلالته على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه ، وأما غير المذكور فيها فلا يكون فيه تعرض لحكمه لا نفياً ولا إثباتاً ، فما نسب إلى بعض الشافعية لا يرجع إلى معنى محصل أصلا.

وبعد ذلك نقول : ان الصحيح هو عدم دلالة الوصف على المفهوم بيان ذلك ان دلالة القضية على المفهوم ترتكز على أن يكون القيد فيها راجعاً إلى الحكم دون الموضوع أو المتعلق ، وبما ان الوصف في القضية يكون قيداً للموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم أصلا ، فان ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يدل على نفيه عن غيره ، ضرورة ان ثبوت شيء لشيء لا يدل بوجه على نفيه عن غيره ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع شيئاً واحداً كاللقب أو كالوصف غير المعتمد على موصوفه أو يكون مقيداً بقيد كالموصوف المقيد بوصف خاص ، فان ملاك عدم الدلالة على المفهوم في الجميع واحد وهو ان ثبوت حكم لموضوع خاص وان كان مركبا أو مقيدا لا يدل على نفيه عن غيره فلا فرق بين قولنا (أكرم رجلا) و (أكرم رجلا عادلا) حيث انهما يشتركان في نقطة واحدة وهي الدلالة على ثبوت الحكم لموضوع خاص ، غاية الأمر ان الموضوع في الجملة الثانية مقيد بقيد خاص فتدل على ثبوت الحكم له ولا تدل على نفيه عن غيره كما إذا كان الموضوع واحداً.

ومن ضوء ذلك يظهر الفرق بين القضية الوصفية والقضية الشرطية نظراً إلى أن الشرط في القضية الشرطية راجع إلى الحكم دون الموضوع

١٢٩

فيكون الحكم مطلقا عليه فلأجل ذلك تدل على انتفائه عند انتفاء الشرط وهذا بخلاف الوصف في القضية الوصفية فانه راجع إلى الموضوع فيها دون الحكم. فالنتيجة ان دلالة الوصف على المفهوم ترتكز على أن يكون قيداً لنفس الحكم لا لموضوعه أو متعلقه والا فلا دلالة له عليه أصلا.

ولكن مع ذلك قد يستدل على المفهوم بوجوه :

الأول : ان الوصف لو لم يدل على المفهوم لكان الآتي به لاغياً وهو مستحيل في حق المتكلم الحكيم ، فاذن لا مناص من الالتزام بدلالته عليه. ويرد عليه انه مبني على إحراز ان الداعي للآتي به ليس إلاّ دخله في الحكم نفياً وإثباتاً حدوثاً وبقاء بمعنى انه علة منحصرة له ، فإذا كان كذلك فبطبيعة الحال ينتفي الحكم عن الموصوف بانتفائه ، ولكن من المعلوم ان هذا الإحراز يتوقف (أولا) على كون الوصف قيداً للحكم دون الموضوع أو المتعلق ، وقد عرفت ان الأمر بالعكس تماماً (وثانياً) على الالتزام بأن إثبات حكم لموضوع خاص يدل على انتفائه عن غيره ، وقد مر انه لا يدل على ذلك ، بل لا يكون فيه اشعار به فضلا عن الدلالة و (ثالثاً) على أن لا يكون الداعي له أمراً آخر حيث ان فائدته لا تنحصر بما ذكر و (رابعاً) على انه لا يكفي في الخروج عن كونه لغواً الالتزام بدلالته على اختصاص الحكم بحصة خاصة من موصوفه وعدم ثبوته له على نحو الإطلاق ، والمفروض انه يكفي في ذلك ولا يتوقف على الالتزام بدلالته على المفهوم ـ وهو الانتفاء عند الانتفاء ـ. فالنتيجة ان هذا الوجه ساقط فلا يمكن الاستدلال به على إثبات المفهوم للوصف.

الثاني : ان الوصف الموجود في الكلام مشعر بعليته للحكم عند الإطلاق. ويرد عليه ان مجرد الإشعار على تقدير ثبوته لا يكفي لإثبات المفهوم جزماً ، حيث انه لا يكون من الدلالات العرفية التي تكون متبعة

١٣٠

عندهم ، بل لا بد في إثبات المفهوم له من إثبات ظهور القضية في كون الوصف علة منحصرة للحكم المذكور فيها ، ومن الطبيعي ان إثبات ظهورها في كونه علة في غاية الإشكال ، بل خرط القتاد فما ظنك بظهورها في كونه علة منحصرة كيف حيث ان مرد هذا الظهور إلى كون الوصف قيداً للحكم دون الموضوع أو المتعلق وانه يدور مداره وجوداً وعدما وبقاء وارتفاعا ، وقد تقدم ان القضية الوصفية ظاهرة في كون الوصف قيداً للموضوع أو المتعلق دون الحكم. فالنتيجة ان مجرد الإشعار بالعلية غير مفيد وما هو مفيد ـ وهو الظهور فيها ـ فهو غير موجود.

الثالث : ان القضية الوصفية لو لم تدل على المفهوم وانحصار التكليف بما فيه الوصف لم يكن موجب لحمل المطلق على المقيد حيث ان النكتة في هذا الحمل هي دلالة المقيد على انحصار التكليف به وعدم ثبوته لغيره ، وبدون توفر هذه النكتة لا موجب له ، ومن الطبيعي ان هذه النكتة بعينها هي نكتة دلالة الوصف على المفهوم ويرد عليه ان نكتة حمل المطلق على المقيد غير تلك النكتة ، فانها نكتة دلالة القيد على المفهوم وقد عرفت عدم توفرها فيه وانه لا يدل على المفهوم أصلا واما حمل المطلق على المقيد فلا يتوقف على تلك النكتة ، فانه على ضوء نظرية المشهور يتوقف على ان يكون التكليف في طرف المطلق متعلقا بصرف وجوده ففي مثل ذلك إذا تعلق التكليف في دليل آخر بحصة خاصة منه وعلم من القرينة ان التكليف واحد حمل المطلق على المقيد نظراً إلى أن المقيد قرينة بنظر العرف على التصرف في المطلق ، ومن المعلوم انه لا صلة لهذا الحمل بدلالة القيد على المفهوم أي نفي الحكم عن غير مورده ، ضرورة ان المقيد لا يدل الا على ثبوت الحكم لموضوع خاص من دون دلالة له على نفيه عن غيره بوجه ، ومع ذلك يحمل المطلق على المقيد. واما إذا كان التكليف في طرف المطلق

١٣١

متعلقاً بمطلق وجوده المستلزم انحلاله بانحلال وجوداته وافراده خارجاً ففي مثل ذلك لا يحمل المطلق على المقيد ، لعدم التنافي بينهما ، وذلك كما إذا ورد في دليل) أكرم كل عالم) ورد في دليل آخر (أكرم كل عالم عادل) فلا موجب لحمل الأول على الثاني أصلا حيث ان النكتة التي توجب حمل المطلق على المقيد غير متوفرة هنا فلا مانع من أن يكون كل منهما واجباً ، غاية الأمر يحمل المقيد هنا على أفضل افراد الواجب.

وأما بناء على ضوء نظريتنا من عدم الفرق في حمل المطلق على المقيد بين ما كان التكليف واحداً أو متعدداً فأيضاً لا يتوقف هذا الحمل على دلالة القيد على المفهوم يعني نفي الحكم عن غير مورده ، بل يكفي فيه دلالته على عدم ثبوت الحكم للطبيعي على نحو الإطلاق ، وسنبين ان شاء الله تعالى عن قريب انه لا شبهة في دلالته على ذلك كما انه لا شبهة في عدم دلالته على نفي الحكم عن غير مورده.

وعلى الجملة سوف نذكر في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله ان ظهور المطلق في الإطلاق كما يتوقف حدوثاً على عدم دليل صالح للتقييد كذلك بقاء ، حيث ان ظهوره يتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، ومن الواضح انها لا تجري مع وجود الدليل الصالح للتقييد ، والمفروض ان دليل المقيد يكون صالحاً لذلك عرفاً ، ومما يدل على ان حمل المطلق على المقيد لا يبتني على دلالة القضية الوصفية على المفهوم هو انه يحمل المطلق على المقيد حتى في الوصف غير المعتمد على موصوفه كما إذا ورد في دليل (أكرم عالماً) وورد في دليل آخر (أكرم فقيهاً) يحمل الأول على الثاني مع انه لا يدل على المفهوم أصلا.

إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة وهي ان النكتة التي ذكرناها في القضية الشرطية لدلالتها على المفهوم عرفاً ـ وهي تعليق الحكم فيها

١٣٢

على الشرط تعليقاً مولوياً ـ غير متوفرة في القضية الوصفية حيث ان الحكم فيها غير معلق على الوصف يعني ان الوصف ليس قيداً للحكم كالشرط بل هو قيد للموضوع أو المتعلق ، ومن المعلوم ان ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يدل على انتفائه عن غيره. فما ذكرناه لحد الآن هو المعروف والمشهور بين الأصحاب في تقرير المسألة.

ولكن الصحيح فيها هو التفصيل بيان ذلك ان النزاع في دلالة الوصف على المفهوم تارة بمعنى ان تقييد الموضوع أو المتعلق به يدل على انتفاء الحكم عن غيره فلو ورد في الدليل (أكرم رجلا عالماً) يدل على انتفاء وجوب الإكرام عن غير مورده يعني عن الرّجل العادل أو الفاسق أو الفقير أو ما شاكل ذلك ولو بسبب آخر وأخرى بمعنى ان تقييده به يدل على عدم ثبوت الحكم له على نحو الإطلاق أو فقل ان معنى دلالته على المفهوم هو دلالته على نفي الحكم عن طبيعي موصوفه على نحو الإطلاق وانه غير ثابت له كذلك ، فان كان النزاع في المعنى الأول فلا شبهة في عدم دلالته على المفهوم بهذا المعنى ، ضرورة ان قولنا (أكرم رجلا عالماً) لا يدل على نفي وجوب الإكرام عن حصة أخرى منه كالرجل العادل أو الهاشمي أو ما شاكل ذلك ، لوضوح انه لا تنافي بين قولنا (أكرم رجلا عالماً) وقولنا (أكرم رجلا عادلا) مثلا بنظر العرف أصلا فلو دلت الجملة الأولى على المفهوم ـ أي نفي الحكم عن حصص أخرى منه ـ لكان بينهما تناف لا محالة. وقد تقدم وجه عدم دلالته على المفهوم بشكل موسع.

وان كان النزاع في المعنى الثاني فالظاهر انه يدل على المفهوم بهذا المعنى. ونكتة هذه الدلالة هي ظهور القيد في الاحتراز ودخله في موضوع الحكم أو متعلقه إلا ان تقوم قرينة على عدم دخله فيه ففي مثل قولنا

١٣٣

(أكرم رجلا عالماً) يدل على ان وجوب الإكرام لم يثبت لطبيعي الرّجل على الإطلاق ولو كان جاهلا ، بل ثبت لخصوص حصة خاصة منه ـ وهي الرّجل العالم ـ وكذا قولنا (أكرم رجلا هاشمياً) أو (أكرم عالما عادلا) وهكذا ، والضابط ان كل قيد أتى به في الكلام فهو في نفسه ظاهر في الاحتراز ودخله في الموضوع أو المتعلق يعني أن الحكم غير ثابت له إلا مقيداً بهذا القيد ، لا مطلقاً والا لكان القيد لغواً ، فالحمل على التوضيح أو غيره خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة. والحاصل ان مثل قولنا (أكرم رجلا عالماً) وان لم يدل على نفي وجوب الإكرام عن حصة أخرى من الرّجل كالعادل أو نحوه ولو بملاك أخر إلا انه لا شبهة في دلالته على أن وجوب الإكرام غير ثابت لطبيعي الرّجل على نحو الإطلاق.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان النزاع في دلالة القضية الوصفية على المفهوم ان كان في دلالتها على نفي الحكم الثابت فيها عن غير موضوعها ولو بسبب آخر فقد عرفت انها لا تدل على ذلك بوجه ، بل لا اشعار فيها على ذلك فضلا عن الدلالة. وان كان في دلالتها على نفي هذا الحكم عن طبيعي الموصوف على إطلاقه فقد عرفت أنها تدل على ذلك جزماً حيث لا شبهة في ظهورها فيه الا فيما قامت قرينة على خلافه. ومن هنا يظهر الفرق بين الوصف المعتمد على موصوفه ، وغير المعتمد عليه كقولنا (أكرم عالماً) مثلا ، فانه لا يدل على المفهوم بهذا المعنى وان انحل بحسب مقام اللب والواقع إلى شيء له العلم الا انه لا أثر له في مقام الإثبات بعد ما كان في هذا المقام شيئاً واحداً لا شيئان : أحدهما موصوف ، والآخر صفة له.

ثم ان هذه النقطة التي ذكرناها قد أهملت في كلمات الأصحاب ولم يتعرضوا لها في المقام لا نفياً ولا إثباتاً مع ان لها ثمرة مهمة في الفقه

١٣٤

منها ما في مسألة حمل المطلق على المقيد حيث ان المشهور قد خصّوا تلك المسألة فيما إذا كانا مثبتين أو منفيين بما إذا كان التكليف فيهما واحداً واما إذا كان متعدداً فلا يحملوا المطلق على المقيد واما على ضوء ما ذكرناه من النقطتين فيحمل المطلق على المقيد ولو كان التكليف متعدداً كما إذا ورد في دليل (لا تكرم عالما) وورد في دليل آخر (لا تكرم عالماً فاسقاً) فانه يحمل الأول على الثاني مع ان التكليف فيهما انحلالي ، وكذا إذا ورد في دليل (أكرم العلماء) ثم ورد في دليل آخر (أكرم العلماء العدول) فيحمل الأول على الثاني ، والنكتة في ذلك هي ظهور القيد في الاحتراز يعني انه يدل على ان الحكم ـ وهو وجوب الإكرام ـ لم يثبت للعالم على نحو الإطلاق وانما ثبت لحصة خاصة منه ـ وهو العالم العادل في المثال دون العالم مطلقا ولو كان فاسقاً ـ ومن الواضح انه لا فرق في دلالة القيد على ذلك بين كون التكليف واحداً أو متعدداً.

نلخص هذا المبحث في ضمن عدة نقاط : (الأولى) ان محل الكلام هنا كما عرفت انما هو في الوصف المعتمد علي موصوفه واما غير المعتمد فيكون حاله حال اللقب في عدم الدلالة على المفهوم. (الثانية) ان ملاك الدلالة على المفهوم هو ان يكون القيد راجعاً إلى الحكم ، واما إذا كان راجعاً إلى الموضوع أو المتعلق فلا دلالة له عليه ، وبما ان الوصف من القيود الراجعة إلى الموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم (الثالثة) انه قد استدل على المفهوم بوجوه ثلاثة وقد عرفت نقدها جميعاً. (الرابعة) : ان الحق في المقام هو التفصيل على شكل قد تقدم.

(الخامسة) ان لهذه الدلالة ثمرة مهمة تظهر في الفقه.

١٣٥

(مفهوم الغاية)

يقع الكلام فيه في مقامين : الأول في المنطوق. الثاني في المفهوم ، أما المقام الأول فقد اختلف الأصحاب في دخول الغاية في حكم المغيا وعدم دخولها فيه فيما إذا كانت الغاية غاية للمتعلق أو الموضوع على وجوه بل أقوال : ثالثها التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيا وعدم كونها من جنسه ، فعلى الأول الغاية داخلة فيه دون الثاني. ورابعها التفصيل بين كون الغاية مدخولة لكلمة حتى وكونها مدخولة لكلمة إلى فعلى الأول هي داخلة في المغيا دون الثاني.

وقد قبل هذا التفصيل في الجملة شيخنا الأستاذ (قده) حيث قال : وهذا التفصيل وان كان حسنا في الجملة لأن كلمة حتى تستعمل غالباً في إدخال الفرد الخفي في موضوع الحكم فتكون الغاية حينئذ داخلة في المغيا لا محالة ، لكن هذا ليس بنحو الكلية والعموم فلا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه ، والحكم فيه بدخول الغاية في حكم المغيا أو عدمه.

ولكن الصحيح هو القول الثاني يعني عدم دخول الغاية في المغيا مطلقاً ، فلنا دعويان : (الأولى) صحة هذا القول (الثانية) بطلان سائر الأقوال :

أما الدعوى الأولى فلان المرجع في المقام انما هو فهم العرف وارتكازهم ، والظاهر ان المتفاهم العرفي من القضية المغياة بغاية كقولنا (صم إلى الليل) وكقوله تعالى : «فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وما شاكلهما هو عدم دخول الغاية في المغيا الا فيما قامت قرينة على الدخول كما في مثل قولنا (سرت من البصرة إلى الكوفة) أو ما شاكل ذلك

١٣٦

وأما الدعوى الثانية فيظهر مما ذكرناه في الدعوى الأولى بطلان القول الأول والثالث حيث انه لا فرق في فهم العرف ما عرفت بين كون الغاية من جنس المغيا وعدمه ، وكذا القول الرابع بعين هذا الملاك وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من الفرق في الجملة بين كون الغاية مدخولة لكلمة (إلى) وكونها مدخولة لكلمة (حتى) نشأ من الخلط بين مورد استعمال كلمة (حتى) عاطفة ، وموارد استعمالها لإفادة كون مدخولها غاية لما قبلها ، فانها في أي مورد من الموارد إذا استعملت لإدراج الفرد الخفي كما في مثل قولنا (مات الناس كلهم حتى الأنبياء) لا تدل على كون ما بعدها غاية لما قبلها ، بل هي من أداة العطف. فالنتيجة ان مقتضى الظهور العرفي والارتكاز الذهني عدم دخول الغاية في المغيا ، هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وأما المقام الثاني فالغاية قد تكون غاية للموضوع كما في مثل قوله تعالى : (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) وقد تكون غاية للمتعلق كقوله تعالى : «أتموا الصيام إلى الليل». وقد تكون غاية للحكم كقوله عليه‌السلام (كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام) وقوله عليه‌السلام (كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر) أو كقولنا (يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلف إليه) فان الغاية في أمثال هذه الموارد غاية للحكم دون المتعلق أو الموضوع. وأما إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فدلالتها على المفهوم ترتكز على دلالة الوصف عليه حيث ان المراد من الوصف كما عرفت مطلق القيد الراجع إلى الموضوع أو المتعلق سواء أكان وصفاً اصطلاحياً أو حالا أو تمييزا أو ظرفا أو ما شاكل ذلك ، وعليه فالتقييد بالغاية من إحدى صغريات التقييد بالوصف. وأما إذا كانت غاية للحكم فالكلام فيها تارة يقع في مقام الثبوت ، وأخرى في مقام الإثبات.

١٣٧

أما المقام الأول : فلا شبهة في دلالة القضية على انتفاء الحكم عند تحقق الغاية ، بل لا يبعد أن يقال ان دلالتها على المفهوم أقوى من دلالة القضية الشرطية عليه ، ضرورة انه لو لم يدل على المفهوم لزم من فرض وجود الغاية عدمه يعني ما فرض غاية له ليس بغاية وهذا خلف فاذن لا ريب في الدلالة على المفهوم في هذا المقام.

وأما المقام الثاني ـ وهو مقام الإثبات ـ فالظاهر ان الغاية قيد للفعل ـ وهو المتعلق ـ دون الموضوع حيث ان حالها حال بقية القيود كما ان الظاهر منها هو رجوعها إلى الفعل باعتبار انه معنى حدثي كذلك الظاهر من الغاية واما رجوعها إلى الموضوع فيحتاج إلى قرينة تدل عليه كما في الآية الكريمة المتقدمة حيث ان قوله تعالى : «إلى المرافق في هذه الآية» غاية للموضوع ـ وهو اليد لا للمتعلق ـ وهو الغسل وذلك لأجل قرينة وخصوصية في المقام وهي إجمال لفظ اليد واختلاف موارد استعماله وهو قرينة على انه سبحانه في هذه الآية المباركة في مقام بيان حد المغسول من اليد ومقداره ومن هنا قد اتفق الشيعة والسنة على ان الآية في مقام تحديد المغسول ، لا في مقام بيان الترتيب ، ولذا يقول العامة بجواز الغسل من المرفق إلى الأصابع وأفتوا بذلك ، وان كانوا بحسب العمل الخارجي ملتزمين بالغسل منكوسا ، ونظير الآية في ذلك المثال المشهور (اكنس المسجد من الباب إلى المحراب) فانه ظاهر بمقتضى قرينة المقام في ان كلمة (إلى) غاية للموضوع وبيان لحد المسافة التي أمر يكنسها ، وليست في مقام بيان الترتيب ، ومن هذا القبيل أيضا قوله تعالى : «وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين» حيث ان الظاهر بمقتضى خصوصية المقام هو ان كلمة (إلى) غاية لتحديد حد الممسوح ، لا لبيان الترتيب ، ومن هنا ذهب المشهور إلى جواز المسح منكوساً وهو الأقوى ، إذ مضافاً إلى إطلاق الآية فيه رواية

١٣٨

خاصة. هذا كله فيما إذا كان الحكم في القضية مستفاداً من الهيئة ،

وأما إذا كان الحكم فيها مستفاداً من مادة الكلام فان لم يكن المتعلق مذكوراً فيه كقولنا (يحرم الخمر انى أن يضطر المكلف إليه) فلا شبهة في ظهور الكلام في رجوع القيد إلى الحكم ، وأما إذا كان المتعلق مذكوراً فيه كما في مثل قولنا (يجب الصيام إلى الليل) فلا يكون للقضية ظهور في رجوع الغاية إلى الحكم أو إلى المتعلق فلا تكون لها دلالة على المفهوم لو لم تقم قرينة من الداخل أو الخارج عليها.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي ان الحكم في القضية ان كان مستفاداً من الهيئة فالظاهر من الغاية هو كونها قيداً للمتعلق لا للموضوع ، والوجه فيه ليس ما ذكره جماعة منهم شيخنا الأستاذ (قده) من ان مفاد الهيئة معنى حرفي ، والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد وذلك لما حققناه في بحث الواجب المشروط من انه لا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة ، بل الوجه فيه هو ان القضية في أمثال الموارد في نفسها ظاهرة في رجوع القيد إلى المتعلق والمعنى الاسمي دون الحكم ومفاد الهيئة ، وان كان الحكم مستفاداً من مادة الكلام فقد عرفت ظهور القيد في رجوعه إلى الحكم ان لم يكن المتعلق مذكوراً والا فلا ظهور له في شيء منهما ، فدلالة الغاية على المفهوم ترتكز على ظهور القضية في رجوعها ، إلى الحكم ولو بمعونة قرينة.

نتائج هذا البحث عدة نقاط :

الأولى : ان الصحيح هو القول بعدم دخول الغاية في المغيا مطلقاً أي سواء أكانت من جنسه أم لم تكن ، وسواء أكانت بكلمة (إلى) أم كانت بكلمة (حتى) ، فما عن شيخنا الأستاذ (قده) من التفصيل بينهما قد عرفت نقده.

١٣٩

الثانية : ان الغاية إذا كانت قيداً للمتعلق أو الموضوع فحالها حال الوصف فلا تدل على المفهوم ، وإذا كانت قيداً للحكم فحالها حال القضية الشرطية ، بل لا يبعد كونها أقوى دلالة منها على المفهوم.

الثالثة : ان الغاية في القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من الهيئة ظاهرة في رجوعها إلى المتعلق فالرجوع إلى الموضوع يحتاج إلى دليل ، وفي القضية التي كان الحكم فيها مستفاداً من المادة فان لم يكن المتعلق مذكوراً فيها فالظاهر هو رجوعها إلى الحكم والا فهي مجملة من هذه الجهة.

(مفهوم الحصر)

يقع الكلام في أداته : منها كلمة (الا) ولا يخفى ان هذه الكلمة انما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء كما هو الظاهر منها عرفاً كقولنا مثلا (جاء القوم الا زيداً) فانها تدل على نفي الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ولذا يكون الاستثناء من الإثبات نفيا ومن النفي إثباتاً ، وأما إذا كانت بمعنى الصفة والغير فلا تدل على ذلك ، بل حالها حينئذ حال سائر قيود الموضوع ، وقد تقدم عدم دلالتها على المفهوم. ومنها كلمة (انما) وقد نصّ أهل الأدب انها من أداة الحصر وتدل عليه. هذا مضافاً إلى انه المتبادر منها أيضا : نعم ليس لها مرادف في لغة الفرس على ما نعلم حتى نرجع إلى معنى مرادفها في تلك اللغة لنفهم معناها نظراً إلى ان الهيئات مشتركة بحسب المعنى في تمام اللغات ، مثلا لهيئة اسم (فاعل) معنى واحد في تمام اللغات بشتى أنواعها وكذا غيرها ، وهذا بخلاف المواد ، فانها تختلف باختلاف اللغات : وكيف كان فيكفي في كون هذه الكلمة أداة للحصر ومفيدة له تصريح أهل الأدب بذلك من جهة ، والتبادر من

١٤٠