محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

كما إذا قال المولى (أكرم العلماء) ثم قال (لا تكرم الفساق منهم) وفرضنا أن مفهوم الفاسق مجمل ومردد بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه من فاعل الصغيرة فلا يكون إجماله مانعاً عن التمسك بعموم العام ، حيث ان ظهوره في العموم قد انعقد ، والمخصص المنفصل كما عرفت لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره فيه ، وعليه فلا محالة يقتصر في تخصيصه بالمقدار المتيقن إرادته من المخصص المجمل ـ وهو خصوص فاعل الكبيرة فحسب وأما في المشكوك ـ وهو فاعل الصغيرة في المثال ـ فيما ان الخاصّ لا يكون حجة فيه ، لفرض إجماله فلا مانع من التمسك فيه بعموم العام حيث انه حجة وكاشف عن الواقع ، ولا يسرى إجمال المخصص إليه على الفرض.

وان شئت قلت : ان المخصص المنفصل انما يكون مانعاً عن حجية العام وموجباً لتقييد موضوعه في المقدار الّذي يكون حجة فيه ، فان لم يكن مجملا فهو لا محالة يكون حجة في تمام ما كان ظاهراً فيه وان كان مجملا كما في محل الكلام فهو بطبيعة الحال انما يكون حجة في المقدار المتيقن إرادته منه في الواقع دون الزائد حيث انه كاشف عن هذا المقدار فحسب دون الزائد عليه ، وعلى الأول فهو يوجب تقييد موضوع العام بالإضافة إلى جميع ما كان ظاهراً فيه وعلى الثاني فيوجب تقييده بالإضافة إلى المتيقن فحسب دون الزائد المشكوك فيه ، فانه لا يكون حجة فيه ، وعليه فلا مانع من الرجوع فيه إلى عموم العام حيث انه شامل له ، ولا مانع من شموله ما عدا كون الخاصّ حجة فيه وهو غير حجة على الفرض وعلى هذا الضوء ففي المثال المتقدم قد ثبت تقييد موضوع العام ـ وهو العالم ـ بعدم كونه فاعل الكبيرة واما تقييده بعدم كونه فاعل الصغيرة فهو مشكوك فيه فأصالة العموم في طرف العام تدفعه. فالنتيجة ان أصالة العموم رافعة لإجمال المخصص حكماً يعني لا يبقى معها إجمال فيه من هذه الناحية.

١٨١

وأما المقام الثاني ـ وهو ما إذا كان أمر المخصص المجمل مردداً بين المتباينين ـ فأيضاً تارة يكون المخصص المجمل المزبور متصلا ، وأخرى يكون منفصلا ، أما الأول فالكلام فيه بعينه هو الكلام في المخصص المتصل المجمل الّذي يدور أمره بين الأقل والأكثر يعني انه يوجب إجمال العام حقيقة فلا يمكن التمسك به أصلا ، ومثاله كقولنا (أكرم العلماء إلا زيداً مثلا) إذا افترضنا أن زيداً دار أمره بين زيد بن خالد وزيد بن بكر فانه لا محالة يمنع عن ظهور العام في العموم ويوجب إجماله حقيقة نعم يفترق الكلام فيه عن الكلام في ذاك بالإضافة إلى الأصل العملي ، بيان ذلك : ان العام أو الخاصّ إذا كان أحدهما متكفلا للحكم الإلزامي والآخر متكفلا للحكم الترخيصي فالمرجع فيه أصالة الاحتياط ، للعلم الإجمالي بوجوب إكرام أحدهما أو بحرمة إكرامه ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي لا محالة هو الاحتياط وأما إذا كان كلاهما متكفلا للحكم الإلزامي بأن يعلم إجمالا ان أحدهما واجب الإكرام ، والآخر محرم الإكرام فيما أنه لا يمكن الرجوع إلى الاحتياط ولا إلى أصالة البراءة ، لعدم إمكان الأول ، واستلزام الثاني المخالفة القطعية العملية فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة التخيير. فالنتيجة انهما يشتركان في الأصل اللفظي ويفترقان في الأصل العملي.

وأما الثاني ـ وهو ما إذا كان المخصص المجمل المذكور منفصلا ـ فهو وإن لم يوجب إجمال العام حقيقة حيث قد انعقد له الظهور في العموم ومن الطبيعي ان الشيء لا ينقلب عما هو عليه الا أنه يوجب إجماله حكماً مثلا لو قال المولى (أكرم كل عالم) ثم قال (لا تكرم زيداً) وفرضنا أن زيداً دار أمره بين زيد بن عمرو وزيد بن خالد فهذا المخصص المنفصل كغيره وان لم يكن مانعاً عن ظهور العام في العموم ، لما عرفت الا انه لا يمكن التمسك بأصالة العموم في المقام ، لأن التمسك بها بالإضافة إلى كليهما لا يمكن

١٨٢

لأن العلم الإجمالي بخروج أحدهما عنه أوجب سقوطها عن الحجية والاعتبار فلا تكون كاشفة عن الواقع بعد هذا العلم الإجمالي ، وأما بالإضافة إلى أحدهما المعين دون الآخر ترجيح من دون مرجح ، وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً على الفرض. فالنتيجة ان العام في المقام في حكم المجمل وان لم يكن مجملا حقيقة.

وأما الكلام في البحث الثالث ـ وهو ما إذا كان الشك في التخصيص من ناحية الشبهة الموضوعية ـ فيقع في جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية وعدم جوازه. الصحيح هو عدم جوازه مطلقاً أي سواء أكان المخصص متصلا أم كان منفصلا ، أما في الأول فلا شبهة في عدم جواز التمسك به في الشبهة المصداقية ، ولا خلاف فيه بين الأصحاب ، ولا فرق فيه بين أن يكون المخصص المتصل بأداة الاستثناء كقولنا (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) أو بغيرها كالوصف أو نحوه كقولنا (أكرم كل عالم تقي) وشككنا في أن زيد العالم هل هو فاسق أو هو تقي أو ليس بتقي ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بأصالة العموم لإحراز أنه ليس بفاسق أو هو تقي.

والسبب في ذلك هو ان القضية مطلقاً أي سواء أكانت خارجية أم كانت حقيقية وسواء أكانت خيرية أم كانت إنشائية فهي انما تتكفل لبيان حكمها لموضوعه الموجود في الخارج حقيقية أو تقديراً من دون دلالة لها على أن هذا الفرد موضوع له أو ليس بموضوع له أصلا ، مثلا قولنا (أكرم علماء البلد الا الفساق منهم) فانه قضية خارجية تدل على ثبوت الحكم للافراد الموجودة في الخارج فلو شككنا في ان زيد العالم الّذي هو من علماء البلد هل هو فاسق أو ليس بفاسق فهذه القضية لا تدل على انه ليس بفاسق فيجب إكرامه ، ضرورة ان مفادها وجوب إكرام عالم البلد على تقدير

١٨٣

عدم كونه فاسقاً ، وأما ان هذا التقدير ثابت أو ليس بثابت فهي لا تتعرض له لا إثباتاً ولا نفياً ، واما في القضية الحقيقية كالقضيتين المتقدمتين ونحوهما فالأمر فيها أوضح من ذلك ، فان الموضوع فيها بما أنه قد أخذ في موضع الفرض والتقدير فلأجل ذلك ترجع في الحقيقة إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ومن الطبيعي ان القضية الشرطية لا تنظر إلى وجود شرطها في الخارج وعدم وجوده أصلا ، بل هي ناظرة إلى إثبات التالي على تقدير وجود الشرط كقولنا (الخمر حرام) (البول نجس (الحج واجب على المستطيع) وما شاكل ذلك ، فانها قضايا حقيقية قد أخذ موضوعها مفروض الوجود في الخارج ، ومدلول هذه القضايا هو ثبوت الحكم لهذا الموضوع من دون نظر لها إلى وجوده وتحققه في الخارج وعدمه أصلا. ومن هنا لو شككنا في أن المائع الفلاني خمر أو ليس بخمر لم يمكن التمسك بإطلاق ما دل على حرمة شرب الخمر ، لإثبات أنه خمر حيث أنه خارج عن إطار مدلوله فلا نظر له إليه لا إثباتاً ولا نفياً ، فالنتيجة ان عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية في موارد التخصيص بالمتصل بمكان من الوضوح.

هذا مضافاً إلى أن العام المخصص بالمتصل لا ينعقد له ظهور في العموم وانما ينعقد له ظهور في الخاصّ فحسب كقولنا (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) فانه لا ينعقد له ظهور إلا في وجوب إكرام حصة خاصة من العلماء وهي التي لا توجد فيها صفة الفسق ، وعليه فإذا شككنا في عالم أنه فاسق أو ليس بفاسق فلا عموم له بالإضافة إليه حتى نتكلم في جواز التمسك به بالنسبة إلى هذا المشكوك وعدم جوازه.

وأما الثاني ـ وهو ما إذا كان المخصص منفصلا فقد قيل أن المشهور بين القدماء جواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية ، وربما

١٨٤

نسب هذه القول إلى السيد (قده) في العروة أيضا بدعوى ان حال هذه المسألة حال المسألة السابقة وهي دوران أمر المخصص بين الأقل والأكثر فكما يجوز التمسك بعموم العام في تلك المسألة في الزائد على الأقل حيث ان الخاصّ لا يكون حجة فيه كي يزاحم ظهور العام في الحجية وفي الكشف عن كونه مراداً في الواقع ، فكذلك يجوز التمسك به في هذه المسألة ببيان أن ظهور العام قد انعقد في عموم وجوب إكرام كل عالم سواء أكان فاسقاً أم لم يكن ، وقد خرج منه العالم الفاسق بدليل المخصص ، فحينئذ أن علم بفسقه فلا إشكال في عدم وجوب إكرامه وان لم يعلم به فلا قصور عن شمول عموم العام له ، حيث ان دليل المخصص غير شامل له باعتبار أنه لا عموم أو الإطلاق له بالإضافة إلى الفرد المشكوك ، وعليه فلا مانع من التمسك بعموم العام فيه حيث أنه بعمومه شامل له. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان هذه النسبة غير مصرح بها في كلماتهم وانما هي استنبطت من بعض الفروع التي هم قد أفتوا بها ، كما ان شيخنا العلامة الأنصاري (قدس‌سره) قد استنبط حجية الأصل المثبت عندهم من بعض الفروع التي هم قد التزموا بها وذكر (قده) بعض هذه الفروع وقال : انها تبتني على القول بحجية الأصل المثبت وبدون القول بها لا تتم. وعلى الجملة فبما ان هذه المسألة لم تكن معنونة في كلماتهم لا في الأصول ولا في الفروع ، ولكن مع ذلك نسب إليهم فتاوى لا يمكن إتمامها بدليل إلا على القول بجواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية فلأجل ذلك نسب إليهم ـ هذا.

واما نسبة هذا القول إلى السيد صاحب العروة (قده) فهي أيضا تبتني على الاستنباط من بعض الفروع التي ذكرها (قده) في العروة منها قوله : إذا علم كون الدم أقل من الدرهم وشك في انه من المستثنيات

١٨٥

أم لا يبنى على العفو ، وأما إذا شك في أنه بقدر الدرهم أو أقل فالأحوط عدم العفو ، حيث توهم من ذلك أن بنائه (قده) على العفو في الصورة الأولى ليس الا من ناحية التمسك بأصالة العموم في الشبهات المصداقية وكذا بنائه على عدم العفو في الصورة الثانية ليس الا من ناحية التمسك بها فيها. بيان ذلك.

أما في الصورة الأولى فقد ورد في الروايات أنه لا بأس بالصلاة في دم إذا كان أقل من درهم منها : صحيحة محمد بن مسلم قال : قلت (له الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة قال ان رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم تره) ومنها صحيحة ابن أبي يعفور في حديث قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام (الرّجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته قال يغسله ولا يعيد صلاته إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة) ومنها صحيحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال (في الدم يكون في الثوب ان كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة) وهذه الروايات استثناء مما دل على عدم جواز الصلاة في الدم مطلقاً ولو كان أقل من درهم باعتبار نجاسته. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى قد ورد في رواية أخرى ان دم الحيض مانع عن الصلاة مطلقاً ولو كان أقل من الدرهم ، وقد ألحق المشهور به دم النفاس والاستحاضة وهي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله أو أبي جعفر عليه‌السلام (قال لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض فان قليله وكثيره في الثوب ان رآه أو لم يره سواء) فهذه الرواية تقيد إطلاق الروايات

١٨٦

المتقدمة بغير دم الحيض وما ألحق به.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أنه إذا شككنا في دم يكون أقل من الدرهم أنه من أفراد المخصص يعني الدماء الثلاثة أو من أفراد العام وهو الروايات المتقدمة فالسيد (قده) تمسك بعموم تلك الروايات وحكم بعدم البأس به في الصلاة ، مع ان الشبهة مصداقية ، وهذا ليس إلا من جهة أنه (قده) يرى جواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية.

وأما في الصورة الثانية فقد ورد في الروايات ما دل على عدم جواز الصلاة في الثواب المتنجس بلا فرق بين كونه متنجساً بالدم أو بغيره من النجاسات ، ولكن قد خرج من ذلك خصوص الثوب المتنجس بالدم إذا كان أقل من الدرهم بالروايات المتقدمة فعندئذ إذا شككنا في دم أنه أقل من الدرهم حتى يكون داخلا تحت عنوان المخصص أو أزيد منه حتى يكون داخلا تحت عنوان دليل العام فالسيد (قده) قد تمسك فيه بعموم دليل العام وحكم بعدم العفو عنه في الصلاة. مع أن الشبهة مصداقية ، وهذا شاهد على انه (قده) يرى جواز التمسك بالعامّ فيها ، هذا. ولكن التوهم المزبور في كلتا الصورتين قابل للمنع اما في الصورة الأولى فيحتمل أن يكون وجه فتواه بالعفو هو التمسك باستصحاب العدم الأزلي ، لإحراز موضوع العام حيث ان موضوعه مركب من أمرين. (أحدهما) وجودي وهو الدم الّذي يكون أقل من الدرهم. (وثانيهما) عدمي وهو عدم كونه من دم حيض أو نفاس أو استحاضة ، والأول محرز بالوجدان ، والثاني بالأصل وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب ويتحقق فيترتب عليه حكمه بمقتضى عموم تلك الروايات وإطلاقها أو يحتمل أن يكون وجه فتواه به هو التمسك بأصالة البراءة عن مانعية هذا الدم للصلاة بعد ما لم يمكن التمسك بدليل لفظي من جهة كون الشبهة مصداقية.

١٨٧

وأما في الصورة الثانية فيحتمل أن يكون وجه احتياطه بعدم العفو هو أصالة عدم كون هذا الدم أقل من درهم نظراً إلى ان عنوان المخصص عنوان وجودي فلا مانع من التمسك بأصالة عدمه عند الشك فيه. وكيف كان فلا يمكن استنباط أنه (قده) من القائلين بجواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية من هذين الفرعين. ومما يشهد على أنه ليس من القائلين بذلك ما ذكره (قده) في كتاب النكاح وإليك نصه :

(مسألة ٥٠) إذا اشتبه من يجوز النّظر إليه بين من لا يجوز بالشبهة المحصورة وجب الاجتناب عن الجميع ، وكذا بالنسبة إلى من يجب التستر عنه ، ومن لا يجب وان كانت الشبهة غير محصورة أو بدوية ، فان شك في كونه مماثلا أولا أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا فالظاهر وجوب الاجتناب ، لأن الظاهر من أية وجوب انغض ان جواز النّظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلا أو من المحارم ، فمع الشك يعمل بمقتضى العموم ، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية ، بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك) فان هذا شاهد صدق على أنه ليس من القائلين بجواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ان ما أفاده (قده) من التمسك بعموم أية وجوب الغض خاطئ جداً. أما (أولا) فلا عموم في الآية من هذه الناحية يعني لا يمكن استفادة حرمة النّظر من الآية الكريمة. واما (ثانياً) فعلى تقدير تسليم دلالتها على ذلك فلا تدل على أن جواز النّظر مشروط بأمر وجودي ، بل مفهومها حرمة النّظر إلى المخالف فتكون الحرمة مشروطة بأمر وجودي وهو المخالف ، وتمام الكلام في محله.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان النسبة غير ثابتة.

ثم ان شيخنا الأستاذ (قده) ذكر ان المشهور حكموا بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عادية أو غير عادية ، ولكن لم يعلم وجه

١٨٨

فتواهم بذلك هل هو من ناحية التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية أو من ناحية قاعدة المقتضى والمانع نظراً إلى أن المقتضى للضمان موجود وهو اليد والمانع مشكوك فيه وهو كونها يد أمانة فيدفع بالأصل ، أو استصحاب العدم الأزلي نظراً إلى أن موضوع الضمان هو الاستيلاء على مال الغير المتصف بكونه مقارناً لعدم رضاه فإذا كان الاستيلاء محرزاً بالوجدان جرى استصحاب عدم رضاء المالك فيثبت الضمان ، أو وجه آخر غير هذه الوجوه. فالنتيجة ان كون مستند فتواهم به أحد هذه الأمور الثلاثة غير معلوم ، بل هي بأنفسها غير تامة أما الأول فسيجيء الكلام فيه. وأما الثاني فان أريد بالمقتضى الدليل فقد عرفت أنه قاصر عن شمول المورد ، وان أريد به الملاك المقتضى له فلم يمكن إحراز أصل وجوده فيه بعد عدم شمول الدليل له ، وان أريد به اليد الخارجية فقد عرفت ان اليد مطلقاً لا تقتضي الضمان والمقتضي له انما هو اليد الخاصة ـ وهي التي لا تكون يد أمين.

ثم قال : (قده) أن الصحيح في وجه ذلك أن يقال أنه يمكن التمسك بالأصل لإحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إليه وملخص ما أفاده (قدس‌سره) هو ان موضوع الضمان مركب من الاستيلاء على مال الغير وعدم رضاه بذلك ، والمفروض في المقام ان الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم رضاه بذلك محرز بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يتم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره ـ وهو الضمان ـ.

ولا يخفى أن ما أفاده (قده) في غاية الصحة والمتانة سواء أكانت الدعوى بين المالك وذي اليد في الرضا وعدمه يعني أن المالك يدعى أنه غير راض باستيلائه على ماله وهو يدعى رضائه به كما عرفت أو كانت بينهما في رضاء الله تعالى به وعدمه يعني أن المالك يدعي أنه تعالى غير راض

١٨٩

باستيلائه على ماله وهو يدعي أنه راض به ، كما إذا افترضنا ان المالك يدعي انك غصبت ما بيدك من مالي ، وهو يدعي اني وجدت هذا المال وانه كان عندي أمانة برضاء الله سبحانه وتعالى فلا ضمان عليه إذا تلف ففي هذه الصورة أيضا لا مانع من إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل حيث ان الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم رضائه تعالى به محرز بالأصل فيتم الموضوع ويترتب عليه أثره ـ وهو الضمان ـ وان شئت قلت ان ذي اليد قد اعترف بأن المال الّذي تحت يده هو مال المدعى ، ولكنه ادعى أنه غير ضامن له بدعوى أن يده عليه يد أمانة حيث أنها كانت بإذن من الله تعالى ، ولكن المالك ادعى أنه تعالى لم يأذن به وان يده عليه ليست يد أمانة ففي مثل ذلك يمكن إحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إلى الأصل ـ وهو أصالة عدم اذنه تعالى به.

نعم فيما إذا كان المالك راضياً بتصرف ذي اليد في ماله ولكنه يدعى ضمانه بعوضه وهو يدعى فراغ ذمته عنه ففي مثل ذلك مقتضى الأصل عدم ضمانه ، مثاله : ما إذا اختلف المالك وذو اليد في عقد فادعى المالك أنه بيع ، وادعى ذو اليد أنه هبة فالقول قول مدعى الهبة ، وعلى مدعي البيع الإثبات. والوجه فيه هو أنه يدعى اشتغال ذمة المنقول إليه بالثمن وهو ينكر ذلك ، ويدعى عدم اشتغال الذّمّة بشيء ، فحينئذ ان أقام البينة على ذلك فهو والا فله إحلاف المنكر أي المنقول إليه ، حيث أن قوله مطابق لأصالة عدم الضمان يعني عدم اشتغال ذمته بالثمن ، هذا فيما إذا كانت العين تالفة أو كان المنقول إليه ذا رحم والا فله حق استرجاع المال من دون مرافعة ، لأن العقد ان كان بيعاً في الواقع فيما أن المشتري لم يرد ثمنه فله خيار الفسخ وان كان هبة كذلك يعني في الواقع فيما أنها

١٩٠

جائزة على الفرض فله فسخها واسترداد المال. نعم إذا افترضنا الأمر بالعكس بأن يدعى المالك الهبة ، ويدعي ذو اليد البيع فالقول قول مدعي البيع ، وعلى مدعي الهبة الإثبات ، وذلك لأنه يدعي في الحقيقة زوال ملكية المنقول إليه عن هذا المال برجوعه فان أقام البينة على ذلك فهو والا فالقول قوله مع يمينه. ولكن مثل هذا الفرع خارج عن مورد كلامه (قده) فان مفروض كلامه هو ما إذا كان الشك في رضاء المالك وعدمه ، كما في الفرعين الأولين ، وأما في هذا الفرع فالمفروض أن رضاء المالك بالتصرف محرز والشك في الضمان انما هو من ناحية أخرى.

فالنتيجة ان النسبة سواء أكانت مطابقة للواقع أم لم تكن فالصحيح في المقام أن يقال : أن التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية غير جائز ، والسبب فيه أن غاية ما يمكن أن يستدل على جواز التمسك به فيها هو ما أشرنا إليه من أن ظهور العام في العموم قد انعقد ، والمخصص المنفصل لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره ، وهذا الظهور متبع فيما لم يعلم خلافه ، مثلا لو أمر المولى بقوله (أكرم كل عالم) ثم نهى عن (إكرام العالم الفاسق) فالدليل الأول وهو العام قد وصل إلينا صغرى وكبرى أما الصغرى فهي محرزة بالوجدان أو بالتعبد ، وأما الكبرى ـ وهي وجوب إكرام كل عالم ـ قد وصلت إلينا على الفرض ، وقد تقدم انها لا تتكفل لبيان حال الافراد في الخارج ، وانما هي متكفلة لبيان الحكم على الموضوع المفروض الوجود فيه ، فإذا أحرزنا صغرى هذه الكبرى كما هو المفروض فلا حالة منتظرة للعمل به ، وأما الدليل الثاني ـ وهو الخاصّ ـ ففي كل مورد أحرزنا صغراه ـ وهو العالم الفاسق ـ نحكم بحرمة إكرامه ، ونقيد عموم العام بغيره ، وفيما لم نحرزها لا تحكم بحرمة إكرامه ، لما عرفت من أن العمل بالدليل متوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وبدونه فلا

١٩١

موضوع للعمل به ، وعليه فلا يمكن التمسك بالخاص فيما لم نحرز أن زيد العالم مثلا فاسق أو ليس بفاسق ، ولكن لا مانع من العمل بالعامّ فيه لإحراز الصغرى والكبرى معاً بالإضافة إليه.

وعلى الجملة فلا يمكن التمسك بأي دليل ما لم يحرز صغراه ، ولا يكون حجة بدون ذلك ، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة انا إذا شككنا في مائع أنه خمر أو ليس بخمر لم يمكن التمسك بعموم ما دل على حرمة شرب الخمر ، ضرورة أنه لا يكون متكفلا لبيان صغراه ، وانما هو متكفل لثبوت الحكم لمائع على تقدير أنه خمر ، كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية التي لا تتعرض لبيان صغرياتها أصلا ، لا وجوداً ، ولا عدماً وانما هي ناظرة إلى ثبوت الأحكام لموضوعاتها المقدرة وجودها في الخارج ، وأما انها موجودة أو غير موجودة فلا نظر لها في ذلك أبداً ، فالتمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية كالتمسك به في الشبهة المفهومية فيما إذا دار أمر المخصص بين الأقل والأكثر نظراً إلى أن المخصص هناك لا يكون حجة إلا في الأقل دون الزائد عليه ، ومن المعلوم أنه لا مانع من الرجوع إلى عموم العام في الزائد. لعدم قصور فيه عن الشمول له ، وكذا الحال في المقام حيث أن المخصص. كقولنا (لا تكرم فساقهم) لا يكون حجة إلا فيما إذا أحرز صغراه فيه فإذا علم بفسق عالم فالصغرى له محرزة فلا مانع من التمسك به ، وإذا شك في فسقه فالصغرى له غير محرزة فلا يكون حجة وعليه فلا مانع من كون العام حجة فيه ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية.

وقبل أن نأخذ بالنقد على ذلك حري بنا أن نقدم نقطة : وهي أن الحجة قد فسرت بتفسيرين : (أحدهما) أن يراد بها ما يحتج به المولى على عبده وبالعكس وهو معناها اللغوي والعرفي (وثانيهما) أن يراد بها

١٩٢

الكاشفية والطريقية يعني أن المولى جعله كاشفاً وطريقاً إلى مراده الواقعي الجدي فيحتج على عبده يجعله كاشفاً ومبرزاً عنه ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الحجة بالتفسير الأول تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً والا فلا أثر لها أصلا ، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة أنه يجوز ارتكاب المشتبه بالخمر أو البول أو نحوه. فان ما دل على حرمة شرب الخمر أو نجاسة البول لا يكون حجة في المشتبه ، لعدم إحراز صغراه. وأما الحجة بالتفسير الثاني فلا تتوقف على إحراز الصغرى ، ضرورة انها كاشفة عن مراد المولى واقعاً وطريقة إليه سواء أكان لها موضوع في الخارج أم لم يكن.

وان شئت قلت : ان الحجة بهذا التفسير تتوقف على إحراز الكبرى فحسب. ومن ناحية ثالثة ان الحجة بالتفسير الثاني هي المرجع للفقهاء في مقام الفتيا ، دونها بالتفسير الأول ، ولذا لو سئل المجتهد عن مدرك فتواه أجاب بالكتاب أو السنة أو ما شاكلهما. ومن هنا أفتى الفقيه بوجوب الحج على المستطيع سواء أكان المستطيع موجوداً في الخارج أم لم يكن ، فإحراز الكبرى فحسب كاف من دون لزوم إحراز الصغرى. ومن ناحية رابعة ان القائل بجواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية توهم ان المراد من الحجة في كل من طرفي العام والخاصّ هو الحجة بالتفسير الأول دون التفسير الثاني ، وعلى هذا فحجية كل منهما تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وبما ان الكبرى في كليهما محرزة فبطبيعة الحال تتوقف حجيتهما على إحراز الصغرى فحسب ، فان أحرز أنه عالم فاسق فهو من صغريات الخاصّ حيث قد قيد موضوع العام بغيره ، وان شك في فسقه فلا يحرز أنه من صغرياته وبدونه لا يكون الخاصّ حجة فيه واما كونه من صغريات العام فالظاهر انه من صغرياته لفرض ان العالم بجميع أقسامه وأصنافه أي

١٩٣

سواء أكان معلوم العدل أو معلوم الفسق أو مشكوكه من صغريات العام ولكن قد خرج عنه خصوص معلوم الفسق ، واما القسمان الآخران فهما باقيان تحته.

والحاصل ان موضوع العام قد قيد بغير معلوم الفسق بدليل المخصص نظراً إلى انه حجة فيه دون غيره ، واما مشكوك الفسق فهو باق تحت العام فلا مانع من التمسك به بالإضافة إليه.

وبعد ذلك نقول : ان المراد من الحجة في المقام هو الحجة بالتفسير الثاني يعني الطريقية والكاشفية. والوجه فيه واضح وهو ان معنى حجية العام في عمومه وحجية الخاصّ في مدلوله هو الكاشفية والطريقية إلى الواقع وحيث ان حجية كل منهما من باب حجية الظهور ، وقد حقق في محله ان حجيتها من باب الكاشفية والطريقية إلى الواقع ثم ان الحجة بهذا المعنى تلازم الحجة بالمعنى الأول أيضا يعني ان المولى كما يحتج على عبده بجعل ظهور العام ـ مثلا ـ حجة عليه وكاشفا عن مراده واقعاً وجداً ، كذلك يحتج بجعل ظهور الخاصّ حجة عليه وكاشفا عن مراده في الواقع ، وعليه فإذا ورد عام كقولنا (أكرم كل عالم) فهو كاشف عن ان مراد المولى إكرام جميع العلماء بشتى أنواعهم وأفرادهم كالعدول والفساق ونحوهما ، ثم إذا ورد خاص كقولنا (لا تكرم فساقهم) فهو يكشف عن ان مراده الجدي هو الخاصّ دون العام بعمومه ، ضرورة ان الإهمال في الواقع غير معقول ، وعليه فبطبيعة الحال يكون مراده فيه اما مطلق أو مقيد ، ولا ثالث لهما ، وحيث انه لا يمكن ان يكون هو المطلق ، لفرض وجود المقيد والمخصص في البين فلا محالة يكون هو المقيد يعني ان موضوع العام يكون مقيداً بقيد عدمي ، ففي المثال المتقدم يكون موضوع وجوب الإكرام هو العالم الّذي لا يكون فاسقا لا مطلق العالم ولو كان فاسقا ، وعلى ضوء

١٩٤

هذا البيان فإذا شك في عالم انه فاسق أو ليس بفاسق فكما ان صدق عنوان المخصص عليه غير معلوم فكذلك صدق موضوع العام ، فالصغرى في كليهما غير محرزة ، فإذاً لا محالة يكون التمسك بالعامّ بالإضافة إليه من التمسك به في الشبهات المصداقية ، كما ان التمسك بالخاص بالإضافة إليه كذلك.

وان شئت فقل ان التمسك بالعامّ انما هو من ناحية انه حجة وكاشف عن المراد الجدي ، لا من ناحية انه مستعمل في العموم ، إذ لا أثر له ما لم يكن المعنى المستعمل فيه مراداً جدا وواقعاً ، والمفروض ان المراد الجدي هنا غير المراد الاستعمالي حيث ان المراد الجدي مقيد بعدم الفسق في المثال دون المراد الاستعمالي ، وعليه فإذا شك في عالم انه فاسق أو لا فبطبيعة الحال شك في انطباق موضوع العام عليه وعدم انطباقه كما هو الحال بالإضافة إلى الخاصّ يعني ان نسبة هذا الفرد المشكوك بالإضافة إلى كل من العام بما هو حجة والخاصّ نسبة واحدة فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، فكما لا يمكن التمسك بالخاص بالإضافة إلى هذا الفرد فكذلك لا يمكن التمسك بالعامّ بالإضافة إليه ، ومن هنا يظهر ان قياس المقام بالمسألة المتقدمة ـ وهي ما إذا كان المخصص مجملا ودار امره بين الأقل والأكثر ـ ، ووجه الظهور هو ان تقييد العام هناك بالمقدار المتيقن معلوم واما بالإضافة إلى الزائد فهو مشكوك فيه فندفعه بأصالة العموم. وعلى الجملة فالشك هناك ليس من ناحية الشبهة المصداقية ، بل من ناحية الشبهة المفهومية فيكون الشك شكا في التخصيص الزائد بعد العلم بأن المشكوك فيه ليس من مصاديق المخصص دون المقام ، فان الشك فيه ليس شكاً في التخصيص الزائد ، وانما هو شك في انه من مصاديق العام بما هو حجة أولا؟ وفي مثل ذلك لا يجوز التمسك بالعامّ لإحراز انه من مصاديقه ،

١٩٥

هذا مضافاً إلى أن ما ذكره القائل بجواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية ليس في الحقيقة من التمسك بالعامّ فيها ، بل هو من التمسك بالعامّ في الشبهات الحكمية ، حيث ان الشك انما هو في التخصيص الزائد بالإضافة إلى الفرد المشكوك كونه من مصاديق الخاصّ نظراً إلى ان الخاصّ لا يكون حجة بالإضافة إليه ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الشك في تخصيص العام بغيره من الشك في التخصيص الزائد.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بعدة نتائج : (الأولى) ان التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية غير ممكن. (الثانية) ان ما ذكر في وجه جواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية ناشئ من الخلط بين التفسيرين المزبورين للحجة. (الثالثة) أنه على ضوء هذا الخلط يخرج التمسك بالعامّ في الموارد المشكوكة كونها من مصاديق الخاصّ من التمسك به في الشبهات المصداقية.

ثم ان شيخنا العلامة الأنصاري (قده) قد فصل في المقام بين ما كان المخصص لفظياً وما كان لبياً فعلى الأول لا يجوز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية دون الثاني وتبعه في ذلك المحقق صاحب الكفاية (قده) وقال : في وجهه ما إليك نصه :

وأما إذا كان (المخصص) لبياً فان كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلا في الخصوص ، وان لم يكن كذلك فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه ، والسر في ذلك ان الكلام الملقى من السيد حجة ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم فلا بد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه ، مثلا إذا قال المولى (أكرم جيراني) وقطع بأنه لا يريد إكرام من كان عدواً له منهم كان

١٩٦

أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام ، للعلم بعداوته ، لعدم حجة أخرى بدون ذلك على خلافه ، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً ، فان قضية تقديمه عليه هو كون الملقى إليه كان من رأس لا يعم الخاصّ ، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاصّ متصلا ، والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجيته إلا فيما قطع انه عدوه لا فيما شك فيه ، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحداً من جيرانه ، لاحتمال عداوته له وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور ، وبالجملة كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك ، ولعله لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما بإلقاء حجتين هناك تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاصّ وتقديمه على العام كأنه لم يعمه حكماً من رأس ، وكأنه لم يكن بعام ، بخلاف هاهنا ، فان الحجة الملقاة ليست إلا واحدة ، والقطع بعدم إرادة إكرام العدو في (أكرم جيراني) مثلا لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلا فيما قطع بخروجه عن تحته ، فانه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه فلا بد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه ، بل يمكن أن يقال ان قضية عمومه للمشكوك أنه ليس فرداً لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه فيقال في مثل (لعن الله بني أمية قاطبة) ان فلاناً وان شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمناً فينتج أنه ليس بمؤمن فتأمل جيداً.

نلخص ما أفاده (قده) في عدة خطوط :

١ ـ ان المخصص اللبي قد يكون كالمخصص اللفظي المتصل يعني يكون

١٩٧

مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم.

٢ ـ أنه قد يكون كالمنفصل اللفظي يعني لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ، ولكنه يفترق عنه في نقطة وهي ان المخصص المنفصل إذا كان لفظياً فهو مانع عن التمسك بالعامّ في الفرد المشتبه ، واما إذا كان لبياً فهو غير مانع عنه ، والنكتة في ذلك هو ان الأول يوجب تقيّد موضوع العام بعدم عنوان المخصص من باب تحكيم الخاصّ على العام ، وعليه فإذا شك في فرد أنه من افراد الخاصّ أو العام لم يمكن التمسك بالعامّ لإحراز أنه من افراده كما عرفت بشكل موسع ، وهذا بخلاف الثاني ، فانه لا يوجب تقيد موضوع العام إلا بما قطع المكلف بخروجه عن تحته فان ظهور العام في العموم حجة ، والمفروض عدم قيام حجة أخرى على خلافه وانما هو قطع المكلف بخروج بعض أفراده عن تحته للقطع بعدم كونه واجدا لملاك حكمه وهذا القطع حجة فيكون عذراً له في مقام الاحتجاج ، وأما فيما لا قطع بالخروج عن تحته من الموارد المشكوكة فلا مانع من التمسك بعمومه فيها ، حيث ان المانع عنه على الفرض انما هو قطع المكلف به ، ومع فرض عدمه فلا مانع منه أصلا.

٣ ـ ان التمسك بعموم العام للفرد المشكوك فيه يكون دليلا على أنه ليس فردا لما علم بخروجه من العنوان عن حكمه وان هذا الفرد من افراد العام هذا.

وقد أورد على ذلك شيخنا الأستاذ (قده) وإليك بيانه : وهذا الكلام (جواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبياً غير لفظي) لا يسعنا تصديقه على إطلاقه ، فان المخصص إذا كان حكماً عقليا ضروريا بأن كان صارفاً لظهور الكلام وموجباً لعدم انعقاد الظهور إلا في الخاصّ من أول الأمر فحكمه حكم القرينة المتصلة اللفظية

١٩٨

فكما لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية معها كذلك لا يجوز التمسك بالعموم معه ، واما إذا كان حكما عقليا أو إجماعا بحيث لم يكن صالحا لصرف ظهور العام من أول الأمر فحكمه حكم المخصص المنفصل اللفظي ، إذ كما ان المخصص اللفظي بعد تقدمه على عموم العام يكشف عن تقيد المراد الواقعي وعدم كون موضوع الحكم الواقعي مطلقاً فلا يمكن التمسك به عند عدم إحراز تمام موضوعه لأجل الشك في وجود القيد كذلك المخصص اللبي يكشف عن التقيد المزبور فلا يمكن التمسك بالعموم عند عدم إحراز تمام موضوعه ، فان الاعتبار في عدم اعتبار جواز التمسك بالعموم انما هو بالمنكشف أعني به تقيد موضوع الحكم لبا لا بخصوصية الكاشف من كونه لفظيا أو عقليا.

وبعد ذلك نقول : أما الخطّ الأول فهو في غاية الصحة والمتانة.

وأما الخطّ الثاني فيرد عليه ما أورده شيخنا الأستاذ (قده) لكن فيما إذا كان تطبيق الكبرى على الصغرى وإحرازها موكولا بنظر المكلف سواء أكانت القضية حقيقية أم كانت خارجية لا مطلقاً حتى فيما إذا لم يكن موكولا بنظره فلنا دعويان : (الأولى) عدم تمامية هذا الخطّ فيما إذا كان أمر التطبيق منوطاً بنظر المكلف (الثانية) تماميته فيما إذا لم يكن كذلك.

أما الدعوى الأولى فان كانت القضية المتكفلة لإثبات حكم العام من قبيل القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق موضوع الحكم فيها على افراده في الواقع موكولا بنظر المكلف وإحرازه فبطبيعة الحال يكون إحراز عدم وجود ملاك الحكم في فرد ما كاشفا عن أن فيه خصوصية قد قيد موضوع العام بعدمها ، وتلك الخصوصية قد تكون واضحة بحسب المفهوم عرفاً والشك انما هو في وجودها في فرد ما من أفراد العام. وقد تكون مجملة

١٩٩

بحسب المفهوم كذلك يعني يدور أمرها بين أمرين أو الأكثر وهذا تارة من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، وأخرى من المتباينين ، أو العموم من وجه فالأقسام ثلاثة :

اما القسم الأول : فلا يجوز فيه التمسك بالعامّ لإثبات الحكم له ، لفرض ان الشك فيه في وجود موضوعه وتحققه في الخارج ومعه لا محالة يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، ومن الطبيعي أنه لا فرق فيه بين أن يكون المخصص لفظيا أو لبيا.

وأما القسم الثاني : فلا مانع من التمسك به بالإضافة إلى المقدار الزائد عن المتيقن حيث ان مرجعه إلى الشك في التخصيص الزائد ، والمرجع فيه لا محالة هو عموم العام.

وأما القسم الثالث : فلا يمكن التمسك به لإجماله نظراً إلى اننا نعلم إجمالا بتقييد موضوع العام بقيد مردد بين أمرين متباينين أو أمور كذلك ، ومن الطبيعي ان هذا العلم الإجمالي مانع من التمسك به في المقام حيث ان شمول العام لكليهما معاً لا يمكن ، وشموله لأحدهما المعين دون الآخر ترجيح من دون مرجح ، واحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثا ، ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال. وهو ما إذا ورد دليل يدل على وجوب إكرام كل عالم الشامل للعادل والفاسق وللنحوي وغيره ثم علم من الخارج ان ملاك وجوب الإكرام غير موجود في زيد العالم مثلا. وهذا تارة من ناحية العلم بكون اتصافه بالفسق مانعاً عن تحقق ملاك وجوب الإكرام فيه. وأخرى من ناحية العلم بكون المانع من تحقق الملاك فيه كلا من صفتي الفسق والنحوية الموجودتين فيه ، فعلى الأول لا محالة يستلزم ذلك العلم بتقييد موضوع وجوب الإكرام بعدم كونه فاسقا ، وعليه فبطبيعة الحال لا يجوز التمسك بالعموم لإثبات وجوب الإكرام للعالم الّذي شك

٢٠٠