محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

فنلخص أنه لا يكاد تظهر الثمرة الا على القول باختصاص حجية الظواهر لمن قصد افهامه مع كون غير المتشافهين غير مقصودين بالإفهام وقد حقق عدم الاختصاص في غير المقام وأشير إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام.

وملخص ما أفاده (قده) هو ان التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف لا يمكن إلا فيما أحرز الاتحاد في الصنف ، ومن الطبيعي أنه لا يمكن إحرازه فيه إلا بإحراز عدم ما كان المشافهون في ذلك الزمان واجدين له دون غيرهم.

ومن المعلوم انه لا يمكن إحراز ذلك إلا بالتمسك بإطلاق الخطاب لإثبات عدم دخله في الحكم وهو لا يمكن إلا في الأوصاف المفارقة دون الأوصاف اللازمة للذات حيث ان ما يحتمل دخله فيه مما كان المشافهون واجدين له ان كان من الأوصاف المفارقة وكان دخيلا في مطلوب المولى واقعاً فعليه بيانه بنصب قرينة دالة على التقييد والا لأخل بغرضه ، وان كان من الأوصاف اللازمة وكان دخيلا فيه كذلك لم يلزم عليه بيانه ولا إخلال بالغرض بدونه.

والنكتة في ذلك هي ان ما يحتمل دخله فيه ان كان من تلك الأوصاف لم يمكن التمسك بالعموم والإطلاق حيث ان التمسك به فرع جريان مقدمات الحكمة ، ومع الاحتمال المزبور لا تجري المقدمات إذ على تقدير عدم البيان لا يكون إخلال بالغرض نظراً إلى عدم انفكاك الوصف المزبور عن الموضوع.

وغير خفي ان ما أورده (قده) من الإيراد على هذه الثمرة يتم في غير المقام ولا يتم فيه فلنا دعويان : (الأولى) تمامية ما أفاده (قده) في غير المقام وهو ما إذا كانت الأوصاف التي نحتمل دخلها في الحكم

٢٨١

الشرعي من العوارض المفارقة كالعلم والعدالة والفسق وما شاكلها (الثانية) عدم تماميته في المقام وهو ما إذا كان الأوصاف التي نحتمل فيه من العوارض اللازمة للذات كالهاشمية والقرشية وما شاكلهما.

أما الدعوى الأولى : فلأن احتمال دخل مثل هذه الأوصاف في ثبوت حكم لجماعة كانوا واجدين لها مع عدم البيان من قبل المولى على دخله فيه لا يكون مانعاً عن التمسك بالإطلاق لوضوح انه لو كان دخيلا فيه واقعاً فعلى المولى بيانه وإلا لكان مخلا بغرضه وهو خلف.

والسر في ذلك هو ان الوصف المزبور بما أنه من الأوصاف والعوارض المفارقة يعني أنه قد يكون وقد لا يكون فمجرد ان هؤلاء الجماعة واجدين له حين ثبوت الحكم لهم غير كاف لبيان دخله فيه ولتقييد إطلاق الكلام حيث أنه ليس بنظر العرف مما يصح ان يعتمد عليه المتكلم في مقام البيان إذا كان دخيلا في غرضه واقعاً ، بل عليه نصب قرينة تدل على ذلك وإلا لكان إطلاق كلامه في مقام الإثبات محكماً وكاشفاً عن إطلاقه في مقام الثبوت يعني ان مقتضى إطلاق كلامه هو ثبوت الحكم لهم في كلتا الحالتين أي حالة وجدان الوصف المزبور وحالة فقدانه.

فالنتيجة ان احتمال دخل مثل هذا الوصف لا يكون مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة والتمسك بالإطلاق.

وأما الدعوى الثانية : فلأن احتمال دخل مثل تلك الأوصاف في ثبوت الحكم مانع عن جريان مقدمات الحكمة والسبب فيه ان الحكم إذا ثبت لطائفة كانوا واجدين لوصف لازم لذاتهم كالهاشمية أو نحوها وكان الوصف المزبور دخيلا فيه واقعاً صح عرفاً اعتماد المتكلم عليه في مقام البيان فلا يحتاج إلى بيان زائد.

وعليه فإذا احتمل دخله وكان المتكلم في مقام البيان فبطبيعة الحال

٢٨٢

يحتمل اعتماده في هذا المقام عليه ، ومعه كيف يمكن التمسك بالإطلاق.

فالنتيجة ان عدم دخله يحتاج إلى قرينة خارجية دون دخله فيه. وبكلمة أخرى ليس لهم حالتان : حالة كونهم واجدين للوصف المزبور وحالة كونهم فاقدين له حتى يكون لكلامه إطلاق بالإضافة إلى كلتا الحالتين فالتقييد يحتاج إلى دليل ، بل لهم حالة واحدة وهي حالة كونهم واجدين له فلا إطلاق لكلامه حتى يتمسك به لإثبات الحكم الثابت لهم لغيرهم فالإطلاق يحتاج إلى دليل وما نحن فيه من هذا القبيل نظراً إلى أن ما يحتمل دخله في الحكم ـ وهو الوصف الحضور ـ من الأوصاف اللازمة ، ومع احتمال دخله فيه لا يمكن التمسك بإطلاق الخطابات لإثبات الحكم لغير الحاضرين بعين الملاك المتقدم.

فالنتيجة أنه لا بأس بهذه الثمرة.

نتائج البحوث المتقدمة عدة نقاط.

الأولى : ان ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) وتبعه فيه شيخنا الأستاذ (قده) من الفرق بين الفحص في المقام والفحص في موارد الأصول العملية فان الفحص هنا عن وجود المزاحم والمانع مع ثبوت المقتضي له ، وأما الفحص هناك انما هو عن ثبوت أصل المقتضي له لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من أنه لا فرق بين الفحص فيما نحن فيه والفحص هناك.

الثانية : ان ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من عدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص هو الصحيح وان كان ما استدلوا عليه من الوجوه مخدوشة بتمامها.

الثالثة : قد يستدل على وجوب الفحص بالعلم الإجمالي بوجود مخصصات ومقيدات ، وهذا العلم الإجمالي أوجب لزوم الفحص عنها حيث

٢٨٣

ان أصالة العموم لا تجري ما لم ينحل العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم وناقش في انحلال هذا العلم الإجمالي شيخنا الأستاذ (قده) وقد تقدم بشكل موسع ان العلم الإجمالي ينحل ، وما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من عدم الانحلال لا يرجع إلى معنى محصل ، وبالتالي ذكرنا ان العلم الإجمالي لا يصلح أن يكون مدركاً لوجوب الفحص.

الرابعة : ان الدليل على وجوب الفحص بعينه هو الدليل على وجوبه في موارد الأصول العملية ، وقد ذكرنا هناك ان الدليل عليه أمران :

أحدهما : حكم العقل بذلك.

وثانيهما : الآيات والروايات الدالتان على وجوب التعلم والفحص.

الخامسة : ان النزاع المعقول في شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين والغائبين انما هو في وضع أدوات الخطاب وانها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين ، أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين فحسب.

ثم أنه لا يمكن أن يكون النزاع في توجيه الخطاب إلى المعدومين والغائبين حقيقة فانه غير معقول نعم توجيه الخطاب إليهم إنشاءً أو بداع آخر كإظهار العجز أو التحسر أو نحو ذلك أمر معقول.

السادسة : ذكرنا للمسألة ثمرتين :

الأولى : انه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فالظواهر حجة بالخصوص ، وعلى القول بعدم عمومه فلا تكون حجة عليهم كذلك وأورد على هذه الثمرة صاحب الكفاية (قده) بأنها تبتني على مقدمتين وكلتاهما خاطئة.

الثانية : انه على القول بعموم الخطاب يجوز التمسك بعمومات الكتاب والسنة بالإضافة إلى الغائبين والمعدومين ، وعلى القول بعدم عمومه لا يجوز

٢٨٤

التمسك بها وهذه الثمرة لا بأس بها ، ولا يرد عليها ما أورده المحقق صاحب الكفاية (قدس‌سره).

(تعقب العام بضمير)

إذا عقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده فبطبيعة الحال يدور الأمر بين التصرف في العام بالالتزام بتخصيصه وبين التصرف في الضمير بالالتزام بالاستخدام فيه ومثلوا لذلك بقوله تعالى : «والمطلقات يتربصن بأنفسهن» إلى قوله تعالى : «وبعولتهن أحق بردهن» فان كلمة المطلقات نعم الرجعيات وغيرها ، والضمير في قوله تعالى وبعولتهن يرجع إلى خصوص الرجعيات حيث ان حق الرجوع للزوج انما ثبت فيها دون غيرها من المطلقات ، فإذاً يقع الكلام في أن المرجع في المقام هل هو أصالة العموم أم أصالة عدم الاستخدام أم لا هذا ولا ذاك وجوه بل أقوال :

اختار المحقق صاحب الكفاية (قده) القول الأخير ، وأفاد في وجه ذلك ما توضيحه : لا يمكن الرجوع في المقام لا إلى أصالة العموم ولا إلى أصالة عدم الاستخدام ، أما أصالة العموم فلان تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يصلح أن يمنع عن انعقاد ظهوره فيه حيث ان ذلك داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بنظر العرف ، ومعه لا ظهور له حتى يتمسك به الا على القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبداً وهو غير ثابت جزماً ، وأما أصالة عدم الاستخدام فلأن الأصل اللفظي انما يكون متبعاً ببناء العقلاء فيما إذا شك في مراد المتكلم من اللفظ ، واما إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته وانها على نحو الحقيقة أو المجاز فلا أصل هناك لتعينها.

٢٨٥

وعلى الجملة فالأصول اللفظية بشتى أشكالها انما تكون حجة في تعيين المراد من اللفظ فحسب دون كيفية إرادته من عموم أو خصوص وحقيقة أو مجاز لفرض عدم بناء من العقلاء على العمل بها لتعيينها وانما بنائهم على العمل بها في تعيين المراد عند الشك فيه ، وبما ان المراد من الضمير فيما نحن فيه معلوم والشك انما هو في كيفية استعماله وانه على نحو الحقيقة أو المجاز فلا يمكن التمسك بأصالة عدم الاستخدام لإثبات كيفية استعماله لعدم بناء من العقلاء على العمل بها في هذا المورد على الفرض ، والدليل الآخر غير موجود.

فالنتيجة لحد الآن هي عدم جريان كلا الأصلين في المقام ، لكن كل بملاك ، فان أصالة العموم بملاك اكتناف العام بما يصلح للقرينية وأصالة عدم الاستخدام بملاك ان الشك فيها ليس في المراد وانما هو في كيفية استعماله ، فإذاً لا مناص من القول بالتوقف في المسألة من هذه الناحية هذا.

ولكن قد اختار شيخنا الأستاذ (قده) القول الأول وهو جريان أصالة العموم دون أصالة عدم الاستخدام وقد أفاد في وجه ذلك وجوهاً :

الأول : ان الاستخدام في الضمير انما يلزم فيما إذا أريد من المطلقات في الآية الكريمة معناها العام ومن الضمير الراجع إليها خصوص الرجعيات منها.

ومن الواضح ان هذا يقوم على أساس أن يكون العام بعد التخصيص مجازاً ، إذ على هذا يكون للعام معنيان : (أحدهما) معنى حقيقي وهو جميع ما يصلح ان ينطبق عليه مدخول أداة العموم (وثانيهما) معنى مجازي وهو الباقي من أفراده بعد تخصيصه ـ وعليه فبطبيعة الحال إذا أريد بالعامّ معناه الحقيقي وبالضمير الراجع إليه معناه المجازي لزم الاستخدام.

٢٨٦

وأما بناء على ما هو الصحيح من أن العام لا يكون مجازاً بعد التخصيص فلا يكون له إلا معنى واحد حقيقي وليس له معني آخر ليراد من الضمير الراجع إليه معنى مغاير لما أريد من نفسه كي يلزم الاستخدام.

ويرد على هذا الوجه ان لزوم الاستخدام في طرف الضمير لا يتوقف على كون العام مجازاً بعد التخصيص ، ضرورة أنه لو أريد من العام جميع أفراده ومن الضمير الراجع إليه بعضها فهو استخدام وان لم يستلزم كون العام مجازاً حيث انه خلاف الظاهر ، فان الظاهر اتحاد المراد من الضمير وما يرجع إليه ، وملاك الاستخدام هو أن يكون على خلاف هذا الظهور ولأجل ذلك يحتاج إلى قرينة وإذا لم تكن فالأصل يقتضي عدمه فالمراد من أصالة عدم الاستخدام هو هذا الظهور.

الثاني : ان أصالة عدم الاستخدام لا تجري في نفسها ولو مع قطع النّظر عن معارضتها بأصالة العموم ، والسبب في ذلك ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة من أن أصالة الظهور انما تكون حجة إذا كان الشك في مراد المتكلم.

وأما إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته من أنه على نحو الحقيقة أو المجاز فلا تجري ، وما نحن فيه من هذا القبيل فان أصالة عدم الاستخدام انما تجري إذا كان الشك فيما أريد بالضمير.

وأما إذا كان المراد به معلوماً والشك في الاستخدام وعدمه انما هو من ناحية الشك فيما أريد بالمرجع فلا مجال لجريانها أصلا.

ويرد على هذا الوجه ان المراد بالضمير في المقام وان كان معلوماً إلا ان من يدعى جريان أصالة عدم الاستخدام لا يدعى ظهور نفس الضمير في إرادة شيء ليرد عليه ما أفاده (قده) ، بل انما هو يدعى ظهور الكلام بسياقه في اتحاد المراد بالضمير وما يرجع إليه يعني ظهور الضمير في

٢٨٧

رجوعه إلى عين ما ذكر أولا ، لا إلى غير ما أريد منه ، وحيث ان المراد بالضمير في مورد الكلام معلوم فبطبيعة الحال يدور الأمر بين رفع اليد عن الظهور السياقي الّذي مردّه إلى عدم إرادة العموم من العام ورفع اليد عن أصالة العموم التي تقتضي الالتزام بالاستخدام.

ولكن الظاهر بحسب ما هو المرتكز في أذهان العرف في أمثال المقام هو تقديم أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم. بل الأمر كذلك بنظرهم حتى فيما إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن ظهور اللفظ في كون المعنى المراد به المعني الحقيقي يعني يلزم في مثل ذلك أيضا رفع اليد عن ظهور اللفظ في إرادة المعنى الحقيقي وحمله على إرادة المعنى المجازي مثلا في مثل قولنا رأيت أسداً وضربته بتعين حمله على إرادة المعنى المجازي وهو الرّجل الشجاع إذا علم انه المراد بالضمير الراجع إليه.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان أصالة عدم الاستخدام تتقدم بنظر العرف على أصالة العموم فيما إذا دار الأمر بينهما.

الثالث : اننا لو سلمنا جريان أصالة عدم الاستخدام مع العلم بالمراد إلا انها انما تجري فيما إذا كان الاستخدام من جهة عقد الوضع كما إذا قال المتكلم رأيت أسداً وضربته وعلمنا ان مراده بالضمير هو الرّجل الشجاع واحتملنا أن يكون المراد بلفظ الأسد الحاكي عما وقع عليه الرؤية وهو الرّجل الشجاع أيضا لئلا يلزم الاستخدام وان يكون المراد به الحيوان المفترس ليلزم ذلك ففي مثل ذلك نسلم جريان أصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم فيثبت بها ان المراد بلفظ الأسد في المثال هو الرّجل الشجاع دون الحيوان المفترس.

وأما فيما نحن فيه فليس ما استعمل فيه الضمير هو خصوص الرجعيات

٢٨٨

بل الضمير قد استعمل فيما استعمل فيه مرجعه يعني كلمة المطلقات في الآية الكريمة فالمراد بالضمير فيها انما هو مطلق المطلقات ، وإرادة خصوص الرجعيات منها انما هي بدال آخر ـ وهو عقد الحمل في الآية ـ فانه يدل على كون الزوج أحق برد زوجته.

فالنتيجة ان ما استعمل فيه الضمير هو بعينه ما استعمل فيه المرجع وعليه فأين الاستخدام في الكلام لتجري أصالة عدمه فتعارض بها أصالة العموم ، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من أنه لا يمكن الرجوع في المقام إلى أصالة العموم أيضا من جهة اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا ، وذلك لأن الملاك في مسألة احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية انما هو اشتمال الكلام على لفظ مجمل من حيث المعنى بحيث يصح اتكال المتكلم عليه في مقام بيان مراده كما مثل قولنا (أكرم العلماء الا الفساق منهم) إذا افترضنا ان لفظ الفاسق يدور أمره بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة فلا محالة يسرى إجماله إلى العام.

ولكن هذا خارج عن ما نحن فيه ، فان ما نحن فيه هو ما إذا كان الكلام متكفلا لحكمين متغايرين كما في الآية الكريمة حيث ان الجملة المشتملة على العام متكفلة لحكم ـ وهو لزوم التربص والعدة ـ ، والجملة المشتملة على الضمير متكفلة لحكم آخر مغاير له ـ وهو أحقية رجوع الزوج إلى الزوجة في مدة التربص والعدة ـ والحكم الأول ثابت لجميع أفراد العام ، والحكم الثاني ثابت لبعض أفراده ،

ومن الواضح ان ثبوت الحكم الثاني لبعض أفراده لا يكون قرينة على اختصاص الحكم الأول به أيضا ، ضرورة أنه لا صلة له به من

٢٨٩

هذه الناحية أصلا كيف حيث قد عرفت أنه حكم مغاير له.

وان شئت قلت : انه لا مانع من أن يكون العام بجميع أفراده محكوماً بحكم وببعضها محكوماً بحكم آخر مغاير للأول ، ولا مقتضى لكون الثاني قرينة. على تخصيص الأول بوجه ، وهذا بخلاف ما إذا كان الكلام متكفلا لحكم واحد كالمثال المتقدم حيث ان إجمال المخصص فيه يسرى إلى العام لا محالة.

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة : وهي ان المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

ويرد على هذا الوجه ان ما أفاده (قده) من كون الضمير في الآية الكريمة مستعملا في العموم وان كان في غاية الصحة والمتانة حيث ان قيام الدليل الخارجي على عدم جواز الرجوع إلى بعض أقسام المطلقات في أثناء العدة لا يوجب استعمال الضمير في الخصوص أعني به خصوص الرجعيات من أقسام المطلقات ، وذلك لما حققناه في ضمن البحوث السالفة من أن التخصيص لا يستلزم كون العام مجازاً إلا ان ما أفاده (قده) من كون الدال على اختصاص الحكم بالرجعيات هو عقد الحمل المذكور في الآية الكريمة وهو قوله تعالى «أحق بردهن» حيث أنه يدل على كون الزوج أحق برد زوجته خاطئ جداً.

والسبب فيه أن الآية المباركة تدل على أن الحكم المذكور فيها عام لجميع المطلقات بشتى ألوانها وأشكالها من دون اختصاصه بقسم خاص منها فليس فيها ما يدل على الاختصاص فالاختصاص انما ثبت بدليل خارجي ولأجل ذلك يكون حاله حال المخصص المنفصل يعني أنه لا يستلزم كون اللفظ مستعملا في خصوص ما ثبت له الحكم في الواقع.

وبكلمة أخرى : ان الآية الكريمة قد تعرضت لثبوت حكمين للمطلقات :

٢٩٠

(أحدهما) لزوم التربص والعدة لهن. (وثانيهما) أحقية الزوج لرد زوجته فلو كنا نحن والآية المباركة لقلنا بعموم كلا الحكمين لجميع أقسام المطلقات حيث ليس فيها ما يدل على الاختصاص ببعض أقسامهن ، وانما ثبت ذلك بدليل خارجي فقد دل دليل من الخارج على ان الحكم الثاني خاص للرجعيات فحسب دون غيرها من أقسام المطلقات.

كما أن الدليل الخارجي قد دل على ان الحكم الأول خاص بغير اليائسة ومن لم يدخل بها ، فإذاً بطبيعة الحال كما ان لفظ المطلقات في الآية استعمل في معنى عام والتخصيص انما هو بدليل خارجي وهو لا يوجب استعماله في الخاصّ ، كذلك الحال في الضمير فانه استعمل في معنى عام والتخصيص انما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب استعماله في الخاصّ.

وأما ما أفاده (قده) من أن المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية وان كان تاماً كما عرفت تفصيله بشكل موسع في ضمن كلامه (قده) إلا ان هنا نكتة أخرى وهي تمنع عن التمسك بأصالة العموم ، وتلك النكتة هي التي أشرنا إليها سابقاً من أن المرتكز العرفي في أمثال المقام هو الأخذ بظهور الكلام في اتحاد المراد من الضمير مع ما يرجع إليه ، ورفع اليد عن ظهور العام في العموم يعني ان ظهور الكلام في الاتحاد يكون قرينة عرفية لرفع اليد عن أصالة العموم ، إذ من الواضح ان أصالة العموم انما تكون متبعة فيما لم تقم قرينة على خلافها ، ومع قيامها لا مجال لها.

إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهاتين النتيجتين :

الأولى : ان الصحيح في المسألة هو القول الثاني يعني الأخذ بأصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم ، لما عرفت من النكتة فيه.

٢٩١

وعليه ففي كل مورد إذا فرض دوران الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم كان اللازم هو رفع اليد عن أصالة العموم وإبقاء ظهور الكلام في عدم الاستخدام.

الثانية : ان الآية الكريمة أو ما شاكلها خارجة عن موضوع المسألة حيث ان موضوع المسألة هو ما إذا استعمل الضمير الراجع إلى العام في خصوص بعض أقسامه فدار الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم.

وقد عرفت ان الضمير الراجع إلى العام في الآية المباركة غير مستعمل في خصوص بعض أقسامه ، بل هو مستعمل في العام والتخصيص انما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب كونه مستعملا في خصوص الخاصّ.

ثم انه هل يكون لهذه المسألة صغرى في الفقه أم لا الظاهر عدمها حيث انه لم يوجد في القضايا المتكفلة ببيان الأحكام الشرعية مورد يدور الأمر فيه بين وقع اليد عن أصالة العموم ورفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام وعلى هذا الضوء فلا تترتب على البحث في هذه المسألة ثمرة في الفقه.

(تعارض المفهوم مع العموم)

هل يقدم المفهوم على العموم أو بالعكس أو لا هذا ولا ذاك ففيه وجوه : قيل : بتقدم العموم على المفهوم بدعوى ان دلالة العام على العموم ذاتية أصلية ودلالة اللفظ على المفهوم تبعية.

ومن الطبيعي ان الدلالة الأصلية تتقدم على الدلالة التبعية في مقام المعارضة. ويرد عليه ان دلالة اللفظ على المفهوم لا تخلو من ان تكون مستندة إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة فلا ثالث لهما.

٢٩٢

وبكلمة أخرى قد تقدم في مبحث المفاهيم ان دلالة القضية على المفهوم انما هي من ناحية دلالتها على خصوصية مستتبعة له ، ومن المعلوم ان دلالتها على تلك الخصوصية اما من جهة الوضع أو من جهة مقدمات الحكمة.

والمفروض ان دلالة العام على العموم أيضا لا تخلو من أحد هذين الأمرين يعني الوضع أو مقدمات الحكمة ، فإذاً ما هو معنى ان دلالة العام على العموم أصلية ودلالة القضية على المفهوم تبعية ، فالنتيجة أنه لم يظهر لنا معنى محصل لذلك.

وقيل بتقدم المفهوم على العموم ولا سيما إذا كان من المفهوم الموافق ببيان ان دلالة القضية على المفهوم عقلية ، ودلالة العام على العموم لفظية فلا يمكن رفع اليد عن المفهوم من جهة العموم.

وبتعبير واضح ان المفهوم لازم عقلي للخصوصية التي كانت في المنطوق ومن الطبيعي أنه لا يعقل رفع اليد عنه من دون أن يرفع اليد عن تلك الخصوصية ، ضرورة استحالة انفكاك اللازم عن الملزوم.

ومن المعلوم ان رفع اليد عن تلك الخصوصية بلا موجب ، لفرض انها ليست طرفاً للمعارضة مع العام ، وما هو طرف لها ـ وهو المفهوم ـ فرفع اليد عنه بدون رفع اليد عنها غير معقول. أو فقل : ان رفع اليد عن المفهوم بدون التصرف في المنطوق مع ان المفروض لزوم المفهوم له أمر غير ممكن ، والتصرف في المنطوق ورفع اليد عنه مع انه ليس طرفاً للمعارضة بلا مقتض وموجب ، وعليه فلا محالة يتعين التصرف في العموم وتخصيصه بغير المفهوم.

ويرد عليه ان التعارض بين المفهوم والعام يرجع في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعام ، والسبب فيه ان المفهوم كما عرفت لازم

٢٩٣

عقلي للخصوصية الموجودة في طرف المنطوق ، ومن الطبيعي ان انتفاء الملزوم كما يستلزم انتفاء اللازم كذلك انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم فلا يعقل انفكاك بينهما لا ثبوتاً ولا نفياً هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان القضية التي هي ذات مفهوم فقد دلت على تلك الخصوصية بالمطابقة وعلى لازمها بالالتزام غاية الأمر ان كان اللازم موافقاً للقضية في الإيجاب والسلب سمي ذلك بالمفهوم الموافق وان كان مخالفاً لها في ذلك سمي بالمفهوم المخالف.

ومن ناحية ثالثة ان الدليل المعارض قد يكون معارضاً للملزوم ويسمى ذلك بالمعارض للمنطوق وقد يكون معارضاً للازم ويسمى ذلك بالمعارض للمفهوم.

ولكن على كلا التقديرين يكون معارضاً لكليهما معاً ، ضرورة ان ما يكون معارضاً للملزوم ويدل على نفيه فلا محالة يدل على نفي لازمه أيضا ، وكذا بالعكس أي ما يكون معارضاً للازم ، ويدل على نفيه فبطبيعة الحال يدل على نفي ملزومه أيضا ، لما أشرنا إليه آنفاً من ان نفى الملزوم كما يستلزم نفي اللازم ، كذلك نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم إلا أن يكون اللازم أعم من الملزوم أو أخص منه ، فعندئذ لا ملازمة بينهما وأما إذا كان اللازم لازماً مساوياً له كما هو الحال في المفهوم حيث انه لازم مساوي للمنطوق فلا يعقل رفع اليد عنه بدون رفع اليد عن المنطوق ، لأن مرده إلى انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث هي ان العام المعارض للمفهوم بعمومه كما هو مفروض مسألتنا هذه فهو في الحقيقة معارض للمنطوق ويدل على نفيه نظراً إلى ما عرفت من ان التصرف في المفهوم ورفع اليد عنه بدون التصرف في المنطوق ورفع اليد عنه غير ممكن حتى يعقل كونه

٢٩٤

طرفاً للمعارضة مستقلا فإذا افترضنا ان العام بعمومه يكون منافياً للمفهوم فبطبيعة الحال يكون منافياً للمنطوق أيضا ولا محالة يمنع عن دلالة القضية على الخصوصية المستتبعة له (المفهوم) والا فلا يعقل كونه منافياً له ومانعاً عن دلالة القضية عليه بدون منعه عن دلالتها على تلك الخصوصية لاستلزام ذلك انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل ، فإذاً المعارضة في الحقيقة لا تعقل الا بينه وبين المنطوق كما هو الحال في جميع موارد يكون الدليل معارضاً للمفهوم هذا.

وقد فصل المحقق صاحب الكفاية (قده) في المقام وإليك نصه : وتحقيق المقام انه إذا ورد العام وماله المفهوم في كلام أو كلامين ، ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة للتصرف في الآخر ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم فالدلالة على كل منهما ان كانت بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك فلا بد من العمل بالأصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر وإلا كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر ، ومنه قد القدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال وانه لا بد ان يعامل مع كل منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر وإلا فهو المعول والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.

أقول : ما أفاده (قده) يحتوي على نقطتين :

الأولى ان يكون العام وماله المفهوم في كلام واحد أو في كلامين يكونان بمنزلة كلام واحد فعندئذ لا يخلوان من أن تكون دلالة كل منها على مدلوله بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، أو بالوضع ، أو أحدهما بالوضع

٢٩٥

والآخر بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فعلى الأول والثاني لا ينعقد الظهور لشيء منها ، أما على الأول فلان انعقاد ظهور كل منهما في مدلوله يرتكز على تمامية مقدمات الحكمة فيه.

والمفروض انها غير تامة في المقام حيث ان كلا منهما مانع عن جريانها في الآخر. وأما على الثاني فلفرض ان كلا منهما يصلح أن يكون قرينة على الآخر.

وعليه فيدخل المقام في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، ومعه لا محالة لا ينعقد الظهور لشيء منهما ، إذاً يكون المرجع في مورد المعارضة هو الأصول العملية ، وعلى الثالث فما كانت دلالته بالوضع يتقدم على ما كانت دلالته بالإطلاق ومقدمات الحكمة حيث ان ظهوره في مدلوله لا يتوقف على شيء دون ذاك ، فانه يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وهي غير جارية في المقام ، لفرض ان ظهوره في مدلوله مانع عن جريانها. الثانية أن يكونا في كلامين منفصلين ، وعندئذ فتارة تكون دلالة كل منهما. على مدلوله بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، وأخرى تكون بالوضع ، وثالثة تكون أحدهما بالوضع والاخر بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

فعلى الفرض الأول والثاني لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر إلا إذا كان ظهور أحدهما أقوى من الآخر على نحو يكون بنظر العرف قرينة على التصرف فيه فحينئذ يتقدم عليه كما إذا كان أحدهما خاصاً والآخر عاماً.

وعلى الفرض الثالث يتقدم ما كانت دلالته بالوضع على ما كانت دلالته بالإطلاق ومقدمات الحكمة كما هو ظاهر هذا ،

والصحيح في المقام هو التفصيل بشكل آخر غير هذا الّذي أفاده صاحب الكفاية (قده) وسوف يظهر ما فيه من المناقشة والإشكال في ضمن بيان ما اخترناه من التفصيل ، بيان ذلك انك عرفت ان التعارض

٢٩٦

في الحقيقة انما هو بين منطوق القضية وعموم العام لا بينه وبين مفهومها فحسب كما هو ظاهر.

وعليه فلا بد من ملاحظة النسبة بينهما ، ومن الطبيعي ان النسبة قد تكون عموماً من وجه ، وقد تكون عموماً مطلقاً ، أما على الأول فقد ذكرنا في تعارض الدليلين بالعموم من وجه انه إذا كان أحدهما ناظراً إلى موضوع الآخر ورافعاً له دون العكس فلا إشكال في تقديمه عليه من دون ملاحظة النسبة بينهما لفرض ان ما كان ناظراً إلى موضوع الدليل الآخر حاكم عليه.

ومن الواضح أنه لا تلاحظ النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم ، كما لا تلاحظ بقية المرجحات لفرض انه لا تعارض بينهما في الحقيقة كما هو الحال في تقديم مفهوم آية النبأ على عموم العلة فيها حيث ان الآية الكريمة على تقدير دلالتها على المفهوم ـ وهو حجية خبر العادل ـ تكون حاكمة على عموم العلة ونحوها ، فان المفهوم يرفع موضوع العام فلا يكون العمل بخبر العادل بعد ذلك من أصابه القوم بجهالة ومن العمل بغير العلم حيث انه علم شرعاً بمقتضى دلالة الآية ، ومعه كيف يكون عموم العلة مانعاً عن ظهورها في المفهوم ، ضرورة ان العلة بعمومها لا تنظر إلى أفرادها ومصاديقها في الخارج لا وجوداً ولا عدماً يعني انها لا تقتضي وجودها فيه ولا تقتضي عدمها حيث ان شأنها شأن بقية القضايا الحقيقية فلا تدل الا على ثبوت الحكم لافراد موضوعها على تقدير ثبوتها في الخارج.

ومن هنا لا يمكن التمسك بعمومها في مورد الا بعد إحراز انه من افرادها ومصاديقها كما هو الحال في غيرها من العمومات ، فإذا كان هذا حال عموم العلة أو ما شاكلها فكيف يكون مانعاً عن انعقاد ظهور الآية

٢٩٧

في المفهوم ، لوضوح ان ظهورها فيه يمنع عن كون مورد المفهوم فرداً العام ، وقد عرفت انه لا نظر لها إلى كون هذا المورد فرداً لها أولا ، فإذاً كيف يعقل أن يكون مزاحماً لما يدل على كون هذا المورد ليس فرداً لها. أو فقل : ان جواز التمسك بعموم العام في مورد لإثبات حكمه له يتوقف على كون ذلك المورد في نفسه فرداً للعام.

والمفروض ان كونه فرداً له يتوقف على عدم دلالة القضية على المفهوم والا لم يكن فرداً له ، ومعه كيف يعقل ان يكون عموم العام مانعاً عن دلالتها عليه وإلا لزم الدور نظراً إلى ان عموم العام يتوقف على كون المورد في نفسه فرداً للعام وهو يتوقف على عدم دلالة القضية على المفهوم فلو كان ذلك متوقفاً على عموم العام لزم الدور لا محالة.

ثم انه لا فرق في ذلك بين كون العام متصلا بماله المفهوم في الكلام وكونه منفصلا عنه. فانه على كلا التقديرين يتقدم المفهوم على العام حيث ان النكتة التي ذكرناها لتقديمه عليه لا يفرق فيها بين الصورتين.

واما إذا لم يكن أحدهما حاكماً على الآخر فعندئذ ان كان تقديم أحدهما على الآخر موجهاً لإلغاء عنوان المأخوذ في موضوعه دون العكس تعين العكس ويكون ذلك من أحد المرجحات عند العرف.

ولنأخذ لذلك بمثالين :

أحدهما : ان ـ ما دل على اعتصام ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة كصحيحة ابن بزيع ـ معارض بما دل على انفعال الماء القليل كمفهوم قوله عليه‌السلام : (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء) بيان ذلك ان الاستدلال بالصحيحة على اعتصام ماء البئر تارة بملاحظة التعليل الوارد فيها وهو قوله عليه‌السلام (لأن له مادة).

وأخرى بملاحظة صدرها بدون حاجة إلى ضم التعليل الوارد فيها

٢٩٨

وهو قوله عليه‌السلام (ماء البئر واسع لا ينجسه شيء) أما إذا كان الاستدلال فيها بلحاظ التعليل فهو خارج عن مورد كلامنا هنا حيث ان التعليل يكون أخص مطلقاً من المفهوم ، لأن المفهوم يدل بالالتزام على انحصار ملاك الاعتصام ببلوغ الماء حد الكر ، وينفي وجوده عن غيره ، والتعليل نصّ في ان المادة ملاك للاعتصام وهو صريح في النّظر إلى الماء القليل ، ضرورة انه لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليل في الصحيحة مسوقاً ابتداء لبيان اعتصام ماء البئر وان يكون مسوقاً كذلك لبيان ارتفاع النجاسة عنه بعد زوال التغير حيث ان المتفاهم العرفي بالمناسبات الارتكازية ان سببية المادة لارتفاع النجاسة عنه انما هي من آثار سببيتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة ، لا ان مطهريتها له تعبد من الشارع من دون كونها سبباً لاعتصامه.

ودعوى ان مطهرية المادة لماء البئر أو نحوه لا تختص بالقليل بل نعم الكثير أيضا فلو كانت المطهرية من آثار سببيتها للاعتصام لاختصت بالقليل باعتبار اختصاص سببيتها به حيث لا معنى لكونها سبباً لاعتصام الكثير خاطئة جداً فان الاختصاص ليس من ناحية قصور في المادة وانها لا تصلح أن تكون سبباً لاعتصام الكثير ، بل من ناحية عدم قابلية المحل حيث ان المعتصم في نفسه غير قابل للاعتصام بسبب خارجي.

وبما ان الكثير معتصم في نفسه فيستحيل ان يقبل الاعتصام ثانياً بسبب خارجي كالمادة ، واحتمال ان عدم انفعال ماء البئر بالملاقاة انما هو من ناحية اعتصامه في نفسه كما هو مقتضى صدر الصحيحة لا من ناحية وجود المادة فيه مدفوع بأن هذا الاحتمال خلاف الارتكاز حيث ان العرف لا يرى بالمناسبات الارتكازية خصوصية في ماء البئر بها يمتاز عن غيره

٢٩٩

مع قطع النّظر عن وجود المادة فيه فامتيازه عن غيره انما هو بوجودها ، ومن هنا قلنا ان المتفاهم العرفي من الصحيحة ان سبب اعتصامه انما هو المادة.

وعلى الجملة ان احتمال دخل خصوصية عنوان البئر في اعتصامه في نفسه غير محتمل جزماً : ضرورة ان العرف لا يرى فرقاً بين الماء الموجود في باطن الأرض كالبئر والموجود في سطحها مع غض النّظر عن المادة ،

فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان التعليل في الصحيحة وان فرضنا انه مسوق ابتداء لبيان إزالة النجاسة عن ماء البئر بعد زوال التغير الا ان العرف يرى بالمناسبات الارتكازية ان سببية المادة لطهارته وإزالة النجاسة عنه انما هي من آثار سببيتها لاعتصامه ، ولازم ذلك ان التعليل فيها مطلقاً بحسب مقام اللب والواقع راجع إلى اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة كما هو محط البحث والنّظر وان كان بحسب ظاهر القضية راجعاً إلى ارتفاع النجاسة عنه ، وعليه فلا يبقى مجال للنزاع في ان التعليل راجع إلى اعتصامه أو إلى ارتفاع النجاسة عنه.

ومن ضوء ما بيناه من النكتة يظهر خطأ ما قيل من أن التعليل إذا افترضنا أنه راجع إلى بيان إزالة النجاسة دون الاعتصام قابل للتقييد بالكثير نظراً إلى انه بإطلاقه حينئذ يشمل ما إذا كان ماء البئر قليلا ، وبنكتة ان الرفع يستلزم أولوية الدفع بالمناسبة الارتكازية العرفية يدل على اعتصامه أيضا. أو فقل : ان سببية المادة لإزالة النجاسة عنه يستلزم سببيتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة بالأولوية باعتبار ان الدفع أهون من الرفع عرفاً.

وعلى هذا فلا محالة يعارض إطلاقه مع إطلاق ما يدل على انفعال الماء القليل بالملاقاة ، فان مقتضي إطلاق التعليل بلحاظ النكتة المزبورة ان الماء القليل إذا كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة فيكون معارضاً لما دل على انفعاله

٣٠٠