محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

المشروطة به ، فان الغرض منه يحصل بصرف إيجاده في الخارج ولو كان إيجاده في ضمن فعل محرم. واما إذا كان عبادياً كالوضوء أو الغسل أو نحو ذلك فالنهي عنه لا محالة يوجب فساده ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى ومن المعلوم ان فساده يستلزم فساد العبادة المشروطة به هذا.

ولشيخنا الأستاذ (قده) في المقام كلام وملخصه : هو أن شرط العبادة الّذي عبر عنه باسم المصدر ليس متعلقاً للنهي ، ضرورة ان النهي تعلق بالفعل الصادر عن المكلف باختياره وإرادته ، لا بما هو نتيجته واثره ، وما هو متعلق للنهي الّذي عبر عنه بالمصدر ليس شرطاً لها ، فاذن ما هو شرط للعبادة ليس متعلقاً للنهي ، وما هو متعلق له ليس شرطاً لها ، مثلا الصلاة مشروطة بالستر فإذا افترضنا ان الشارع نهى عن لبس ثوب خاص فيها فعندئذ ان كان مرد هذا النهي إلى النهي عن الصلاة فيه فهو لا محالة يوجب بطلانها ، وان لم يكن مرده إلى ذلك كما هو المفروض حيث قد عرفت ان متعلق النهي غير ما هو شرط فعندئذ لا وجه لبطلانها أصلا ويكون حاله حال النّظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان شرائط الصلاة بأجمعها توصلية فيحصل الغرض منها ولو بإيجادها في ضمن فعل محرم.

ومن هنا يظهر بطلان تقسيم الشرط إلى كونه عبادياً كالطهارات الثلاث وغير عبادي كالتستر ونحوه ، فان ما هو شرط للصلاة هو الطهارة بمعنى اسم المصدر المقارنة لها زماناً. واما الأفعال الخاصة كالوضوء والغسل والتيمم فهي بأنفسها ليست بشرط وانما تكون محصلة للشرط ، فاذن ما هو شرط لها ـ وهو الطهارة بالمعنى المزبور ـ ليس بعبادة ، وما هو عبادة ـ وهو تلك الأفعال الخاصة ـ ليس بشرط ولذا لا يعتبر فيها قصد القربة وانما يعتبر قصد القربة في تلك الأفعال فحسب ، فحال الطهارة من هذه

٢١

الناحية حال بقية الشرائط. فالنتيجة ان النهي عن الشرط ان رجع إلى النهي عن العبادة المتقيدة به فهو يوجب بطلانها لا محالة والا فلا أثر له أصلا.

ونحلل ما أفاده (قده) إلى عدة نقاط : (الأولى) ان النهي المتعلق بالشرط يرجع في الحقيقة إلى النهي عما هو مفاد المصدر والمفروض انه ليس بشرط ، وما هو شرط ـ وهو المعنى الّذي يكون مفاد اسم المصدر ـ ليس بمنهي عنه (الثانية) ان الشرط في مثل الوضوء والغسل والتيمم انما هو الطهارة المتحصلة من تلك الأفعال لا نفس هذه الأفعال : (الثالثة) ان شرائط الصلاة بأجمعها توصلية :

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النقاط :

أما النقطة الأولى : فيرد عليها انه (قده) ان أراد من المصدر واسم المصدر المقدمة وما يتولد منها بدعوى ان النهي المتعلق بالمقدمة لا يوجب فساد ما يتولد منها ويترتب عليها كالنهي عن غسل الثوب مثلا أو البدن بالماء المغصوب ، فانه لا يوجب فساد الطهارة الحاصلة منه فلا يمكن المساعدة عليه أصلا. والوجه في ذلك هو ما ذكرناه غير مرة من أن ما عبر عنه باسم المصدر لا يغاير المعنى الّذي عبر عنه بالمصدر الا بالاعتبار فالمصدر باعتبار إضافته إلى الفاعل ، واسم المصدر باعتبار إضافته إلى نفسه كالإيجاد والوجود فانهما واحد ذاتاً وحقيقة والاختلاف بينهما بالاعتبار حيث ان الإيجاد باعتبار إضافته إلى الفاعل والوجود باعتبار إضافته إلى نفسه ، وليس المصدر واسم المصدر من قبيل المثال المذكور ، ضرورة ان المثال من السبب والمسبب والعلة والمعلول. ومن الواضح جداً ان المصدر ليس علة وسبباً لاسم المصدر ، بداهة ان العلية والسببية تقتضي الاثنينية والتعدد بحسب الوجود الخارجي ، والمفروض انه لا اثنينية ولا تعدد بين المصدر واسم المصدر أصلا ، بل هما أمر واحد وجوداً وماهية. نعم في مثل المثال

٢٢

المزبور لا مانع من أن تكون المقدمة محرمة وما يتولد منها واجباً إذا لم تكن المقدمة منحصرة وإلا فتقع المزاحمة بينهما كما تقدم في بحث مقدمة الواجب مفصلا إلا انك عرفت انه خارج عن محل الكلام هنا حيث انه في المصدر واسم المصدر وقد عرفت انهما أمر واحد وجوداً وخارجاً فلا يعقل أن يكون أحدهما مأمورا به الآخر منهياً عنه ، لاستحالة أن يكون المحرم مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب ، وعليه فلا محالة يكون النهي عن شرط يوجب تقييد العبادة المشروطة به بغير هذا الفرد المنهي عنه ، مثلا إذا نهى المولى عن التستر في الصلاة بثوب خاص فلا محالة يوجب تقييد الصلاة المشروطة بالستر بغير هذا الفرد ولا تنطبق طبيعة الصلاة المأمور بها على هذه الحصة المقترنة به.

وان أراد قده من المصدر واسم المصدر واقعهما الموضوعي فيرد عليه ما عرفت الآن من أنهما متحدان حقيقة وذاتاً ومختلفان بالاعتبار ، ومعه لا يعقل أن يكون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه. ودعوى ـ ان النهي تعلق به باعتبار إضافته إلى الفاعل ـ وهو المعبر عنه بالمصدر ـ والأمر تعلق به باعتبار إضافته إلى نفسه فلا تنافي بينهما عندئذ ـ خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً ، وذلك ضرورة أن الشيء الواحد لا يتعدد بتعدد الإضافة ، ومعه كيف يعقل أن يكون مأموراً به والمنهي عنه معاً ومحبوباً ومبغوضاً في زمان واحد ، وعلى هذا فإذا افترضنا ان المولى نهي عن التستر حال الصلاة بثوب خاص أو نهى عن الوضوء أو الغسل بماء مخصوص فلا محالة يكون مرد هذا النهي إلى مبغوضية تقيد الصلاة بهذا الفرد الخاصّ وعليه فطبيعة الحال لا تكون الصلاة المقترنة به مأموراً بها لاستحالة اتحاد المأمور به مع المنهي عنه خارجاً.

ويكلمه أخرى ان النهي عن الشرط والقيد لا محالة يرجع إلى تقييد

٢٣

إطلاق دليل العبادة بغير هذه الحصة المنهي عنها ، ولازم ذلك ان الواجب هو الصلاة المقيدة بغير تلك الحصة فلا ينطبق عليها ، ومع عدم الانطباق لا محالة تقع فاسدة. فالنتيجة : ان حال النهي عن الشرط من هذه الناحية حال النهي عن الجزء فلا فرق بينهما. نعم فرق بينهما من ناحية أخرى وهي ان الاجزاء بأنفسها متعلقة للأمر وعبادة فلا تسقط بدون قصد القربة ، وهذا بخلاف الشرائط ، فان ذواتها ليست متعلقة للأمر والمتعلق له انما هو تقيد العبادات بها. ومن هنا تكون الشرائط خارجة عن مقام ذات العبادة وغير داخلة فيها ، ولذا لا يعتبر في سقوطها قصد القربة فلو أتى بالصلاة غافلا عن كونها واجدة للشرائط كالستر والاستقبال إلى القبلة ونحوهما صحت ، وكيف كان فلا فرق بين الجزء والشرط فيما نحن فيه فكما أن النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة كالصلاة مثلا بغير الحصة المشتملة على هذا الجزء فلا يعقل أن تكون تلك الحصة مصداقاً للمأمور به وفرداً له لاستحالة كون المبغوض مصداقاً للمحبوب فكذلك النهي عن الشرط فانه يوجب تقييد إطلاق العبادة بغير الحصة المقترنة به بعين الملاك المزبور.

وقد تحصل مما ذكرناه : أنه بناء على ثبوت الملازمة بين حرمة عبادة وفسادها لا يفرق في ذلك بين أن تكون الحرمة متعلقة بذاتها أو بجزئها أو شرطها ، فعلى جميع التقادير تقع فاسدة بملاك واحد وهو عدم وقوعها مصداقاً للعبادة المأمور بها فما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أن النهي متعلق بالشرط بالمعنى المصدري وما هو شرط في الواقع والحقيقة هو المعنى الاسم المصدري فلا يوجب الفساد لا يرجع إلى معنى محصل أصلا ، لما عرفت من انهما متحدان ذاتاً وخارجاً ومختلفان اعتباراً ، وقد عبر عنهما في لغة العرب بلفظ واحد ، ويفرق بينهما بقرائن الحال أو المقال ، نعم عبر في لغة الفرس عن كل منهما بلفظ خاص ، وكيف كان فلا يمكن أن

٢٤

يكون أحدهما متعلقاً للأمر والآخر متعلقا للنهي :

وأما النقطة الثانية : ـ وهي ـ أن الطهارة الحاصلة من الأفعال الخاصة شرط للصلاة دون نفس هذه الأفعال فيردها أن ذلك خلاف ظواهر الأدلة من الآية والروايات فان الظاهر منها هو أن الشرط لها لنفس تلك الأفعال والطهارة اسم لها وليست أمراً آخر مسبباً عنها. وعلى الجملة فما ذكره (قده) من كون الطهارة مسببة عنها وإن كان مشهوراً بين الأصحاب الا أنه لا يمكن إتمامه بدليل. ومن هنا قلنا : ان ما ورد في الروايات من أن الوضوء على الوضوء نور على نور وانه طهور ونحو ذلك ظاهر في أن الطهور اسم لنفس تلك الأفعال دون ما يكون مسبباً عنها على ما فصلنا الكلام فيه في محله.

ومن هنا يظهر حال النقطة الثالثة أيضا ـ وهي أن شرائط الصلاة بأجمعها توصلية ـ ووجه الظهور ما عرفت من أن نفس هذه الأفعال شرائط لها وهي تعبدية لا توصلية وعليه صح تقسيم شرائط الصلاة إلى تعبدية وتوصلية.

فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من عدم صحة هذا التقسيم خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا.

وأما القسم الرابع ـ وهو النهي عن الوصف الملازم للعبادة ـ فحاله حال النهي عن العبادة بأحد العناوين السالفة. والوجه في ذلك هو أن النهي عن مثل هذا الوصف لا محالة يكون مساوقاً للنهي عن موصوفه باعتبار ان هذا الوصف متحد معه خارجاً ولا يكون له وجود بدون وجوده ، وعليه فلا يعقل أن يكون أحدهما منهياً عنه والآخر مأموراً به ، لاستحالة كون شيء واحد مصداقاً لهما معاً ومثال ذلك الجهر والخفت بالقراءة فان النهي عن الجهر بالقراءة مثلا لا محالة يكون نهياً حقيقة عن القراءة الجهرية أي عن هذه الحصة الخاصة ، ضرورة انه لا وجود للجهر بدون القراءة ، كما أنه لا

٢٥

وجود للقراءة بدون الجهر أو الخفت في الخارج فلا يعقل أن يكون الجهر بالقراءة منهياً عنه دون نفس القراءة ، بداهة انها حصة خاصة من مطلق القراءة فالنهي عن الجهر بها نهى عن تلك الحصة لا محالة. فالنتيجة : ان النهي عن الجهر أو الخفت يرجع إلى النهي عن العبادة غاية الأمر ان القراءة لو كانت بنفسها عبادة دخل ذلك في النهي عن نفس العبادة ، وان كانت جزءاً لها دخل في النهي عن جزئها ، وان كانت شرطاً لها دخل في النهي عن شرطها وعلى هذا الضوء فلا يكون هذا القسم نوعاً آخر في مقابل الأقسام المتقدمة بل هو يرجع إلى أحد تلك الأقسام لا محالة كما هو واضح.

وأما القسم الخامس : ـ وهو النهي عن الوصف المفارق للموصوف ـ فهو خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة وذلك لأن هذا الوصف إن كان متحداً مع موصوفه في مورد الالتقاء والاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع ، وعندئذ يدخل في كبرى مسألتنا هذه. وإن كان غير متحد معه وجوداً فيه ولم نقل بسراية الحكم من أحدهما إلى الآخر فلا مناص من القول بالجواز. وعندئذ لا يكون داخلا فيها. فالنتيجة ان هذا القسم داخل في المسألة المتقدمة لا في مسألتنا هذه كما لا يخفى.

الثامنة : انه لا أصل في المسألة الأصولية ليعول عليه عند الشك في ثبوتها والسبب في ذلك ما ذكرناه غير مرة من أن الملازمة المزبورة وان لم تكن داخلة تحت إحدى المقولات كالجواهر والاعراض الا انها مع ذلك أمر واقعي أزلي أي ثابت من الأزل وليست لها حالة سابقة فان كانت موجودة فهي من الأزل وان كانت غير موجودة فكذلك فلا معنى لأن يشك في بقائها لا وجوداً ولا عدماً بل الشك فيها دائماً انما هو في أصل ثبوتها من الأزل وعدم ثبوتها كذلك ومن المعلوم أنه لا أصل هنا

٢٦

ليعتمد عليه في إثباتها من الأزل أو عدم إثباتها كذلك. ومن هنا يظهر الحال فيما لو كان المبحوث عنه في هذه المسألة دلالة النهي على الفساد وعدم دلالته عليه حيث انه لا أصل على هذا الفرض أيضا ، ليعول عليه في إثبات هذه الدلالة أو نفيها هذا كله في المسألة الأصولية.

وأما في المسألة الفرعية فيجري الأصل فيها ـ وهو أصالة الفساد ـ وانما الكلام في انه هل يقتضي الفساد في العبادات والمعاملات مطلقاً أو في المعاملات فحسب دون العبادات فيه قولان : فاختار شيخنا الأستاذ (قدس‌سره) القول الثاني. وقد أفاد في وجه ذلك : ان الأصل في جميع موارد الشك في صحة المعاملة يقتضي الفساد ، لأصالة عدم ترتب الأثر على المعاملة الخارجية المشكوك صحتها ، وبقاء متعلقها على ما كان قبل تحققها من دون فرق في ذلك بين أن يكون الشك لأجل شبهة حكمية أو موضوعية. وأما العبادة فان كان الشك في صحتها وفسادها لأجل شبهة موضوعية فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد المأتي به وعدم سقوط أمرها. وأما إذا كان لأجل شبهة حكمية فالحكم بالصحّة والفساد عند الشك فيهما يبتنى على الخلاف في جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في كبرى مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. هذا حسب ما تقتضيه القاعدة الأولية. وأما بالنظر إلى القواعد الثانوية الحاكمة على على القواعد الأولية فربما يحكم بصحة العبادة أو المعاملة عند الشك فيها بقاعدة الفراغ أو التجاوز أو الصحة أو نحو ذلك.

وأما صاحب الكفاية (قده) ففي بعض نسخ كتابه وان كان هذا التفصيل موجوداً الا انه ضرب الخطّ المحو عليه واختار القول الأول ـ وهو الفساد مطلقاً ـ وقال : نعم كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة وأما العبادة فكذلك لعدم الأمر بها مع النهي عنها كما لا يخفى.

٢٧

والصحيح هو ما اختاره صاحب الكفاية (قده) من النظرية في المسألة بيان ذلك : أما في العبادات فلان محل الكلام هنا ليس في مطلق الشك في صحة العبادة وفسادها سواء أكانت متعلقة للنهي أم لم تكن وكانت الشبهة موضوعية أم كانت حكمية ، بل محل الكلام انما هو في خصوص عبادة شك في صحتها وفسادها من ناحية كونها متعلقة للنهي ومحرمة فعلا وأما ما لا تكون كذلك فليس من محل الكلام في شيء سواءً كان الشك في صحتها وفسادها من ناحية الشك في انطباق المأمور به عليها أو من الشك في أصل مشروعيتها أو في اعتبار شيء فيها جزءاً أو شرطاً مع عدم الشك في أصل مشروعيتها ، فان كل ذلك خارج عن مفروض الكلام في المسألة ، وعليه فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من الأصل في هذه الموارد وان كان تاماً في الجملة إلا انه أجنبي عن محل الكلام فمحل الكلام في المسألة ما ذكرناه. وعلى هذا فلا محالة يكون مقتضى الأصل في العبادة هو الفساد.

والسبب فيه واضح : وهو ان العبادة إذا كانت محرمة ومبغوضة فعلا للمولى فطبيعة الحال هي توجب تقييد إطلاق دليلها بغيرها (الحصة المنهي عنها) بداهة ان المحرم لا يعقل أن يقع مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب ، فاذن كيف يمكن الحكم بصحتها.

وان شئت قلت : ان صحتها ترتكز على أحد أمرين : (الأول) ان تكون مصداقاً للطبيعة المأمور بها. (الثاني) ان تكون مشتملة على الملاك في هذا الحال ، ولكن شيئاً من الأمرين غير موجود أما الأول فلما عرفت من استحالة كون العبادة المنهي عنها مصداقاً للمأمور به. وأما الثاني : فما ذكرناه غير مرة من أنه لا يمكن إحراز اشتماله على الملاك الا بأحد طريقين : وجود الأمر به. وانطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، وأما إذا

٢٨

افترضنا انه لا أمر ولا انطباق فلا يمكن إحراز اشتمالها على الملاك ، والمفروض فيما نحن فيه هو انتفاء كلا الطريقين معا ، ومعه كيف يمكن إحراز اشتمالها على الملاك ، فان سقوط الأمر كما يمكن أن يكون لأجل وجود مانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون لأجل عدم المقتضي له في هذا الحال فالنتيجة في نهاية الشوط هي : ان مقتضى الأصل في العبادة هو الفساد مطلقاً.

وأما في المعاملات فان كان هناك عموم أو إطلاق وكان الشك في صحة المعاملة المنهي عنها وفسادها من جهة الشبهة الحكمية فلا مانع من التمسك به لإثبات صحتها ، ضرورة انه لا تنافي بين كون معاملة محرمة ووقوعها صحيحة في الخارج إلا ان هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، حيث انه فيما إذا لم يكن دليل اجتهادي من عموم أو إطلاق في البين يقتضي صحتها أو كان ولكن الشبهة كانت موضوعية فلا يمكن التمسك بالعموم فيها ، فعندئذ بطبيعة الحال المرجع هو الأصل العملي ، ومقتضاه الفساد مثلا لو شككنا في صحة نكاح الشغار أو فساده ولم يكن دليل من الخارج على صحته أو فساده لا عموماً ولا خصوصاً فالمرجع هو الأصل وهو يقتضي فساده وعدم حصول العلقة الزوجية بين الرّجل والمرأة ، وكذا الحال فيما إذا شككنا في صحة معاملة وفسادها من ناحية الشبهة الموضوعية وقد تحصل من ذلك ان مقتضى الأصل في المعاملات أيضا هو الفساد مطلقاً فلا فرق بينها وبين العبادات من هذه الناحية. نعم فرق بينهما من ناحية أخرى وهي انه لا تنافي بين حرمة المعاملة تكليفاً وصحتها وضعاً كما ستأتي الإشارة إلى ذلك بشكل موسع ، وهذا بخلاف العبادة ، فان حرمتها لا تجتمع مع صحتها كما عرفت.

وبكلمة واضحة : ان النهي المتعلق بالمعاملة إذا كان إرشادياً ومسوقاً لبيان مانعية شيء عنها كالنهي عن بيع الغرر أو بيع ما ليس عندك وما

٢٩

شاكل ذلك فلا إشكال في دلالته على الفساد ، ومن هنا قلنا بخروج هذا القسم من النهي عن محل الكلام في المسألة ، وقد أشرنا إلى ذلك في ضمن البحوث المتقدمة بشكل موسع ، فالكلام هنا انما هو في دلالة النهي النفسيّ المولوي على الفساد وعدم دلالته عليه بمعنى ثبوت الملازمة بين حرمة معاملة وفسادها وعدم ثبوتها ، وقد اختلفت كلمات الأصحاب حول ذلك ونسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة ، ونسب إلى آخر دلالته على الفساد ، وفصل ثالث بين ما إذا تعلق النهي بالمسبب أو التسبيب وما إذا تعلق بالسبب فعلى الأول يدل على الصحة دون الثاني واختار هذا التفصيل المحقق صاحب الكفاية (قده) حيث قال : بعد ما نسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة «والتحقيق انه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما إذا كانت المعاملة مؤثرة صحيحة :

وإليك توضيح ما أفاده وهو ان النهي إذا افترض تعلقه بالتسبيب أي إيجاد الملكية من سبب خاص دون آخر كالنهي عن بيع الكلب مثلا فبطبيعة الحال يدل على صحة هذا السبب ونفوذه في الشريعة وحصول الملكية به ، ضرورة انه لو لم يكن هذا السبب نافذاً شرعاً ولم تحصل الملكية به لكان النهي عن إيجادها به لغواً محضاً وكان نهيا عن غير مقدور لفرض انها لا تحصل بإنشائها به (السبب الخاصّ) مع قطع النّظر عن النهي ، فاذن لا محالة يكون النهي عنه نهياً عن أمر غير مقدور وهو مستحيل. ومن هنا يظهر الحال فيما إذا تعلق النهي بالمسبب كالنهي عن بيع المصحف من كافر ، فانه يدل على صحة هذه المعاملة ـ وهي البيع ـ لوضوح انها لو لم تكن صحيحة وممضاة شرعاً لم تكن سبباً لحصول الملكية وبدون ذلك لا معنى للنهي عن الملكية المسببة عن هذا السبب الخاصّ ،

٣٠

لفرض انه لا يقدر على إيجادها بإيجاد سببها ، ومعه لا محالة يكون النهي عنه نهياً عن غير مقدور وهو محال ، لاعتبار القدرة في متعلقه كالأمر.

وقد اختار شيخنا الأستاذ (قده) تفصيلا ثانياً في المقام : وهو ان النهي إذا تعلق بالمسبب دل على الفساد وإذا تعلق بالسبب لم يدل عليه هذه هي : الأقوال في المسألة. والصحيح في المقام أن يقال ان النهي عن المعاملة لا يدل على فسادها وانه لا ملازمة بين حرمة معاملة وبطلانها أصلا بيان ذلك يحتاج إلى مقدمة وهي اننا قد ذكرنا غير مرة ان الأحكام الشرعية بشتى اشكالها وألوانها : التكليفية والوضعيّة أمور اعتبارية لا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد تقدم منا في أول بحث النواهي بصورة موسعة ان حقيقة النهي وواقعه الموضوعي هو اعتبار الشارع محرومية المكلف عن الفعل وبعده عنه ، وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل. كما ان حقيقة الأمر وواقعه الموضوعي هو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف ، وإبرازه في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل أو نحو ذلك ، وهذا هو واقع الأمر والنهي. واما الوجوب والحرمة والبعث والزجر وما شاكل ذلك فليس شيء منها مدلولا للأمر والنهي بل الجميع منتزع من إبراز ذلك ، الأمر الاعتباري في الخارج ولا واقع موضوعي لها ما عدا ذلك فان الأمر والنهي لا يدلان إلا على إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج دون غيره ومن ناحية ثالثة ان لهذا الأمر الاعتباري متعلق وموضوع ، ومتعلقه هو فعل المكلف كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما شاكل ذلك ، وموضوعه العقل والبلوغ ودخول الوقت والاستطاعة والدم والخمر والخنزير وغير ذلك من الجواهر والاعراض.

أما الأول ـ وهو المتعلق ـ فلا ينبغي الشك في عدم دخله في الحكم الشرعي أصلا ، ولا يؤثر فيه أبداً ، لا في مرحلة التشريع والاعتبار ولا

٣١

في مرحلة الفعلية والامتثال. اما عدم دخله في مرحلة التشريع فواضح حيث انه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على أي شيء ما عدا اختياره وأعمال قدرته. نعم نظراً إلى أن صدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل فبطبيعة الحال يتوقف اعتباره وصدوره منه على وجود داع ومرجح له ، والداعي له انما هو المصالح والحكم الكامنة في نفس الأفعال والمتعلقات بناء على ما هو المشهور بين العدلية ، أو في نفس الاعتبار والتشريع بناء على ما ذهب إليه بعض العدلية والأشاعرة. ومن الواضح أن دخل تلك المصالح فيه على نحو دخل الداعي في المدعو لا على نحو دخل العلة في المعلول وإلا لزم خروج الحكم الشرعي عن كونه امراً اعتبارياً بقانون التناسب والسنخية بينهما من ناحية ، وعن كونه فعلا اختيارياً للشارع من ناحية أخرى.

وأما عدم دخله في مرحلة الفعلية فأيضاً واضح ، وذلك لأن فعلية الأحكام انما هي بفعلية موضوعاتها وتدور مدارها وجوداً وعدماً ، ولا تتوقف على فعلية متعلقاتها ، كيف فان فعليتها توجب سقوطها خارجاً.

وأما الثاني ـ وهو الموضوع ـ فأيضاً لا دخل له في الحكم الشرعي أبداً ، وذلك لما عرفت من أنه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على شيء ما عدا إرادته واختياره. نعم جعله حيث كان غالباً على نحو القضايا الحقيقية فبطبيعة الحال يكون مجعولا للموضوع المفروض الوجود خارجاً ، فإذا كان الأمر كذلك فلا محالة تتوقف فعليته على فعلية موضوعه والا لزم الخلف أي ما فرض موضوع له ليس بموضوع ، ولأجل ذلك يطلق عليه السبب تارة ، والشرط تارة أخرى فيقال : ان الاستطاعة شرط لوجوب الحج ، والسفر بقدر المسافة شرط لوجوب القصر ، والبلوغ شرط للتكليف والبيع سبب للملكية وهكذا ، مع انه عند التحليل لا شرطية ولا سببية في البين أصلا.

وبكلمة أخرى : ان الموجودات الخارجية لا تؤثر في الأحكام الشرعية

٣٢

وإلا لكانت تلك الأحكام من الأمور التكوينية بقانون التناسب والسنخية المعتبر في تأثير العلة في المعلول من ناحية ، ولخرجت عن كونها أفعالا اختيارية من ناحية أخرى ، وعلى ضوء ذلك فبطبيعة الحال يكون إطلاق الشرط على موضوعاتها مبني على ضرب من المسامحة نظراً إلى انها حيث أخذت مفروضة الوجود في مقام الجعل والاعتبار فيستحيل انفكاكها عنها في مرحلة الفعلية فتكون من هذه الناحية كالسبب والشرط ، مثلا إذا جعل الشارع وجوب الحج للمستطيع على نحو القضية الحقيقية انتزع عنوان الشرطية للاستطاعة باعتبار أن فعلية وجوبه تدور مدار فعليتها خارجا واستحالة انفكاكها عنها.

ومن هدى هذا البيان يظهر حال الأحكام الوضعيّة أيضا ، تفصيل ذلك أن الأحكام الوضعيّة على طائفتين : (إحداهما) منتزعة من الأحكام التكليفية وذلك كالجزئية والشرطية والمانعية وما شاكل ذلك. (وثانيتهما) مجعولة على نحو الاستقلال كالاحكام التكليفية وذلك كالملكية والزوجية والرقية الولاية وما شابه ذلك. أما الطائفة الأولى : فهي خارجة عن محل كلامنا في المسألة ، لما عرفت من أن محل الكلام فيها انما هو في المعاملات بالمعنى الأعم الشامل للعقود والإيقاعات ، وبعد ذلك نقول : انا قد حققنا في محله ان ما هو المشهور بين الأصحاب من أن صيغ العقود والإيقاعات أسباب للمسببات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا ، كما انا ذكرنا أنه لا أصل لما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أن نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها.

والسبب في ذلك : ما بيناه في مبحث الإنشاء والاخبار بشكل موسع ملخصه : أن ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً من أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ لا واقع له أصلا ، وذلك لأنهم ان أرادوا به

٣٣

الإيجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول ، بداهة ان اللفظ لا يعقل أن يكون واقعاً في سلسلة علل وجوده. وان أرادوا به الإيجاد الاعتباري فيرد عليه أنه يوجد بنفس اعتبار المعتبر سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن ، لوضوح أن اللفظ لا يكون سبباً لإيجاده الاعتباري ولا آلة له كيف فان الأمر الاعتباري كما ذكرناه غير مرة لا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار في أفق النّفس ، ولا يتوقف وجوده على أي شيء آخر غيره. نعم إبرازه في الخارج يحتاج إلى مبرز ، والمبرز قد يكون لفظاً كما هو الغالب ، وقد يكون كتابة أو إشارة خارجة ، وقد يكون فعلا كذلك. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى انا إذا حللنا واقع المعاملات تحليلا موضوعياً لم نجد فيها إلا أمرين : (الأول) الاعتبار القائم بنفس المعتبر بالمباشرة (الثاني) إبرازه في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل أو نحو ذلك فالمعاملات أسام للمركب من هذين الأمرين أي الأمر الاعتباري النفسانيّ ، وإبرازه في الخارج بمبرز ما مثلا عنوان البيع والإجارة والصلح والنكاح لا يصدق على مجرد الأمر الاعتباري النفسانيّ بدون إبرازه في الخارج فلو اعتبر شخص في أفق نفسه ملكية داره ليزيد مثلا من دون ان يبرزه في الخارج لم يصدق عليه أنه باع داره أو وهب فرسه مثلا كما انه لا يصدق تلك العناوين على مجرد الإبراز الخارجي من دون اعتبار نفساني كما إذا كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الإيقاعات ، أو كان التكلم بها بداع آخر لا بقصد إبراز ما في أفق النّفس من الأمر الاعتباري.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : ان المعاملات بشتى ألوانها مركبة من الأمر الاعتباري النفسانيّ وإبرازه في الخارج بمبرز ما وأسام لهما وكلاهما امر مباشري ولا يعقل التسبيب بالإضافة إلى ذاك الأمر الاعتباري.

٣٤

وعلى ضوء هذه النتيجة : قد اتضح انه ليس في باب المعاملات سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذيها ليقال أن النهي قد يتعلق بالسبب وقد يتعلق بالمسبب. هذا من جانب. ومن جانب آخر ان المعاملات بعناوينها الخاصة كالبيع والإجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك قد أخذت مفروضة الوجود في لسان أدلة الإمضاء والجعل كقوله تعالى «أحل الله البيع» «وتجارة عن تراض» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (النكاح سنتي) (والصلح جائز بين المسلمين) ونحو ذلك ، كما انها مأخوذة كذلك في موضوع إمضاء العقلاء وعلى هذا فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الإمضاء الشرعي على فعلية هذه المعاملات وتحققها في الخارج فمرجع قوله تعالى «أحل الله البيع» مثلا إلى قولنا إذا وجد شيء في الخارج وصدق عليه أنه بيع فهو ممضى شرعاً ، ومن هنا قلنا فيما تقدم ان الصحة في المعاملات مجعولة شرعاً.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي ان نسبة صيغ العقود أو الإيقاعات إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى المسببات ، ولا نسبة الآلة إلى ذيها ، بل نسبة المبرز بالكسر إلى المبرز بالفتح. كما ان نسبتها إلى الإمضاء الشرعي ليست نسبة الأسباب إلى المسببات ، كيف فان المعاملات بهذه العناوين الخاصة مأخوذة في موضوعه ، ومن المعلوم ان الموضوع ليس سبباً لحكمه وعلة له. ومن هنا يظهر ان نسبة هذه المعاملات كما تكون إلى الإمضاء الشرعي نسبة الموضوع إلى الحكم كذلك تكون نسبتها إلى الإمضاء العقلائي.

وعلى أساس هذا البيان يظهر انه لا فرق بين الأحكام الوضعيّة والتكليفية من هذه الناحية أصلا فكما أنه لا سببية ولا مسببية في باب الأحكام التكليفية حيث ان نسبتها إلى موضوعاتها كالاستطاعة والبلوغ والعقل ودخول الوقت وما شاكل ذلك ليست نسبة المعلول إلى العلة فلا تأثير ولا ارتباط

٣٥

بينهما ذاتاً فكذلك الحال في الأحكام الوضعيّة. وعليه فلم يظهر لنا لحد الآن وجه ما اصطلحوا عليه الفقهاء من التعبير عن موضوعات الأحكام التكليفية بالشرائط وعن موضوعات الأحكام الوضعيّة بالأسباب ، مع انهما من واد واحد فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً ، وكيف كان فلا يقوم هذا الاصطلاح على واقع موضوعي ، حيث قد عرفت انه ليس في كلا البابين معاً إلا جعل الحكم على الموضوع المقدر وجوده في الخارج من دون أي تأثير له في ثبوت الحكم تكويناً. نعم لا بأس بالتعبير عن الموضوع بالشرط نظراً إلى رجوع القضية الحقيقية إلى القضية الشرطية : مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له. ولكن هذا الشرط بمعنى آخر غير الشرط الّذي هو من أجزاء العلة التامة.

وقد تحصل من مجموع ما حققناه : ان الموجود في مورد المعاملة عدة أمور : (الأول) الاعتبار النفسانيّ القائم بنفس المعتبر بالمباشرة. (الثاني) إبرازه في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل أو نحو ذلك. (الثالث) الإمضاء العقلائي وهو فعل اختياري للعقلاء وخارج عن اختيار المتعاملين (الرابع) الإمضاء الشرعي وهو فعل اختياري للشارع وخارج عن قدرة المتعامل واختياره ، وقد تقدم أن موضوعه هو المعاملة بعناوينها الخاصة كالبيع أو نحوه.

وبعد ذلك نقول : ان النهي المتعلق بالمعاملة لا يخلو من أن يكون متعلقاً بالإمضاء الشرعي المعبر عنه في لسان الفقهاء بالملكية الشرعية ، أو متعلقاً بالإمضاء العقلائي ، أو بالأمر الاعتباري النفسانيّ ، أو بالمبرز الخارجي أو بالمجموع المركب منهما فلا سادس في البين.

أما الأول ـ وهو الإمضاء الشرعي فلا معنى للنهي عنه ، بداهة انه فعل اختياري للشارع وخارج عن قدرة المتعامل واختياره ، ومن الطبيعي

٣٦

أنه لا معنى لنهي الشارع عن فعل نفسه غاية الأمر إذا كانت فيه مفسدة ملزمة لم يصدر منه ، كما هو الحال في مثل بيع الكلب والخنزير والخمر والبيع الربوي وما شاكل ذلك ، فان عدم إمضاء الشارع هذه المعاملات وعدم اعتباره الملكية فيها من جهة وجود مفسدة ملزمة في تلك المعاملات فانها تكون مانعة منه ، لا انها موجبة للنهي عنه.

وتوهم ـ ان هذه الدعوى لا تلائم مع نهي الشارع عن هذه المعاملات من ناحية وكون النهي عنها متوجهاً إلى المتعاملين من ناحية أخرى ـ فاسد جداً ، وذلك لأن هذا النهي ليس نهياً تكليفياً ليقال أنه غير معقول ، بل هو نهي إرشادي فيرشد إلى عدم إمضاء الشارع تلك المعاملات. وقد ذكرنا غير مرة ان شأن النهي الإرشادي شأن الأخبار فكأن المولى أخبر عن فساد هذه المعاملات وعدم إمضائها. نعم بعض هذه المعاملات ـ وهو المعاملة الربوية ـ وإن كان محرماً تكليفاً أيضا إلا أن الحرمة متعلقة بفعل المتعاملين لا بالإمضاء الشرعي والملكية الشرعية. وقد عرفت ان المعاملات أسام للافعال الصادرة عن آحاد الناس فلا مانع من تعلق الحرمة بها. فالنتيجة هي : أنه لا معنى لتعلق النهي بالملكية الشرعية. ومن هنا يظهر الحال في الأمر الثاني ـ وهو الإمضاء العقلائي ـ فانه حيث كان خارجاً عن اختيار المتعاملين فلا معنى للنهي عنه ولا يعقل تعلق النهي في باب المعاملات به.

وأما الثالث ـ وهو فرض تعلق النهي بالأمر الاعتباري النفسانيّ فحسب ـ فهو وإن كان شيئاً معقولا في نفسه إلا أنه لا يستلزم فساد المعاملة لأن النهي عنه لا يكون نهياً عن المعاملة حتى يستلزم فسادها ، لما عرفت من أن المعاملات من العقود والإيقاعات أسام للمركب من ذلك الأمر الاعتباري النفسانيّ وإبرازه في الخارج بمبرز ما فلا تصدق على الاعتبار النفسانيّ فحسب ، ولا على المبرز الخارجي كذلك. وعلى هذا الضوء فما يتعلق به

٣٧

النهي ليس بمعاملة وما هو معاملة ليس بمنهي عنه.

وان شئت قلت : ان تعلق النهي بذلك الأمر الاعتباري النفسانيّ مع قطع النّظر عن إبرازه في الخارج غير محتمل في نفسه وعلى تقدير تعلقه به فهو لا يدل على صحة المعاملة ولا على فسادها.

وأما الرابع ـ وهو فرض تعلق النهي بالمبرز بالكسر فحسب ـ فقد ظهر أنه لا يستلزم فساد المعاملة أيضا حيث أن النهي عنه لا يكون نهياً عنها حتى يدل على فسادها ، ومثال ذلك ما إذا افترضنا أن أحداً تكلم أثناء الصلاة بقوله بعت داري أو زوجتي طالق أو ما شاكل ذلك ، فان التكلم بهذا القول بما هو قول آدمي أثناء الصلاة وإن كان محرماً بناء على نظرية المشهور ، بل ادعى الإجماع على ذلك ، إلا أن هذه الحرمة لا تدل على فساد هذا العقد أو الإيقاع ، لوضوح أن المحرم انما هو التكلم بهذه الصيغة بما هي كلام آدمي ، لا بما هي بيع أو إجارة أو طلاق أو نحو ذلك ، فاذن لا يكون نهي عن المعاملة ليقال باستلزامه فسادها.

نتيجة ما ذكرناه لحد الآن هي أن النهي عن الأمر الأول والثاني غير معقول في نفسه. وأما النهي عن الأمر الثالث والرابع وان كان معقولا إلا أنه ليس نهياً عن المعاملة بما هي معاملة ليقع البحث عن أنه هل يدل على فسادها أم لا.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أن ما نسب إلى أبي حنيفة والشيباني وهو الّذي اختاره المحقق صاحب الكفاية (قده) أيضا من أن النهي إذا تعلق بالمسبب أو التسبيب يدل على الصحة خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أبدا أما (أولا) : فلما عرفت في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع من أنه لا سببية ولا مسببة في باب المعاملات أصلا كي يفرض تارة تعلق النهي بالسبب وأخرى بالمسبب وثالثاً بالتسبيب. وأما (ثانياً) : فلما تقدم من أنهم فسروا المسبب فيها

٣٨

بالملكية الشرعية ، وقد عرفت أنه لا معنى للنهي عنها ليقال أنه يدل على الصحة. وأما (ثالثاً) : فعلى تقدير تسليم أنهم أرادوا بالمسبب فيها الاعتبار النفسانيّ ولكن قد عرفت أن النهي عنه في إطاره الخاصّ لا يكون نهياً عن المعاملة ليقال أنه يدل على صحتها ، وعلى الجملة فصحة المعاملة تابعة لإمضاء الشارع إياها ولا صلة لها بالنهي عن الأمر الاعتباري النفسانيّ أصلا ،

وأما الخامس ـ وهو فرض تعلق النهي بالمعاملة من العقود أو الإيقاعات ولو باعتبار جزئها الداخليّ أو الخارجي ـ فقد ذكر شيخنا الأستاذ (قده) أن الحق في المقام هو التفصيل بين تعلق النهي بالسبب على نحو يساوق معنى المصدر وتعلقه بالمسبب على نحو يساوق معنى اسم المصدر فالتزم (قده) انه على الأول لا يدل على الفساد وعلى الثاني يدل عليه بيان ذلك :

أما وجه عدم دلالة الأول على الفساد فلان الإنشاء في المعاملة بما أنه فعل من أفعال المكلف فالنهي عنه انما يدل على مبغوضيته فحسب ، ومن الطبيعي ان مبغوضيته لا تستلزم فساد المعاملة وعدم ترتب أثر شرعي عليها ، ضرورة أنه لا منافاة بين حرمة إنشاء المعاملة تكليفاً وصحتها وضعاً ،

وأما وجه دلالة الثاني على الفساد فلما ذكره (قده) من ان صحة المعاملة ترتكز على ركائز ثلاث : (الأولى) أن يكون كل من المتعاملين مالكاً للعين أو ما بحكمه كالوكيل أو الولي أو ما شاكل ذلك. (الثانية) ان لا يكون ممنوعاً عن التصرف بأحد أسباب المنع كالسفه أو الفلس أو الحجر لتكون له سلطنة فعلية على التصرف فيها. (الثالثة) أن يكون إيجاد المعاملة بسبب خاص وآلة خاصة. وعلى ذلك فإذا فرض تعلق النهي بالمسبب وهو الملكية المنشأة بالصيغة أو بغيرها كما هو الحال في النهي عن بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر فلا محالة يكون النهي عنه معجزاً مولوياً للمكلف عن الفعل ورافعاً لسلطنته عليه وبذلك تختل الركيزة الثانية

٣٩

المعتبرة في صحة المعاملة ـ وهي سلطنة المكلف عليها في حكم الشارع وعدم كونه ممنوعاً عن التصرف فيها ـ ويترتب على هذا فساد المعاملة لا محالة. وعلى ضوء ذلك يظهر وجه تسالم الفقهاء على فساد الإجارة على الأعمال الواجبة على المكلف مجانا ، فان العمل بما أنه مملوك لله تعالى وخارج عن سلطان المكلف فلا يمكنه تمليكه من غيره بإجارة أو نحوها وكذا وجه تسالمهم على بطلان بيع منذور الصدقة ، فان نذره أوجب حجره عن التصرف بكل ما ينافي الوفاء بنذره فلا تنفذ تصرفاته المنافية له ، وكذا وجه تسالمهم على فساد معاملة شيء إذا اشترط في ضمنها عدم معاملته من شخص آخر كما إذا فرض أنه باع داره من زيد مثلا واشترط عليه عدم بيعها من عمرو فان وجوب الوفاء بهذا الشرط يجعل المشتري محجوراً من البيع فلو خالف وباع الدار من عمرو لم يكن نافذاً. وغير ذلك من الموارد.

ولكن من ضوء ما حققناه في ضمن البحوث السالفة قد تبين نقد ما أفاده (قده) ملخص ما ذكرناه هناك هو أنه لا سببية ولا مسببية في باب المعاملات أصلا لكي يفرض تعلق النهي مرة بالسبب وأخرى بالمسبب كما انا ذكرنا هناك أن نسبة صيغ العقود إلى الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة وليست من قبيل نسبة السبب إلى المسبب ، ولا المصدر إلى اسم المصدر واما نسبتها إلى الملكية الشرعية أو العقلائية فهي من قبيل نسبة الموضوع إلى الحكم لا السبب إلى المسبب كما عرفت ولا المصدر إلى اسم المصدر بداهة أن المصدر واسم المصدر كما مر متحدان ذاتاً ووجوداً ومختلفان اعتباراً كالإيجاد والوجود ، ومن المعلوم ان صيغ العقود أو الإيقاعات تباين الملكية الإنشائية وجوداً وذاتاً فلا صلة بينهما إلا صلة الإبراز أي كونها مبرزة لها ، كما انه لا صلة بينها وبين الملكية الشرعية أو العقلائية إلا صلة الموضوع والحكم.

وعلى ذلك فان أراد شيخنا الأستاذ (قده) من المسبب الملكية

٤٠