محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

انحل بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ـ وهو الأقل ـ ولازمه هو عدم وجوب الفحص عن المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر إلا أن هذا الأكثر طرف للعلم ـ الإجمالي الثاني وهو يقتضي وجوب الفحص عنه في ضمنه فلا يزاحم ما لا اقتضاء له ـ وهو العلم الإجمالي الأول ـ ما له اقتضاء ـ وهو العلم الإجمالي الثاني ـ.

الرابعة : ما إذا علم شخص إجمالا بأنه مديون لزيد مثلا بمقدار مضبوط في الدفتر يمكن العلم به تفصيلا بالمراجعة إليها لم يجز له الرجوع إلى أصالة البراءة عن الزائد بعد العلم التفصيليّ بالمقدار المتيقن من الدين ، وليس هذا إلا من ناحية أن المعلوم بالإجمال في هذا العلم الإجمالي ذات علامة وتعين في الواقع فهو لا محالة يوجب تنجز الواقع المعنون بهذا العنوان على ما هو عليه في نفس الأمر من الكمية والمقدار.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أما النقطة الأولى : فهي خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلا.

والسبب فيه هو ان الضابط في انحلال العلم الإجمالي انما هو الظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال تفصيلا بالعلم الوجداني أو العلم التعبدي ، فانه إذا ظفر المكلف بهذا المقدار واحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه كما هو كذلك فبطبيعة الحال ينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيليّ بالإضافة إلى المقدار المعلوم بالإجمال والشك البدوي بالإضافة إلى غيره فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى الأصل في غير موارد العلم التفصيليّ.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون المعلوم بالإجمال ذات علامة وتعين في الواقع وان لا يكون كذلك ، ضرورة أن المعلوم بالإجمال إذا احتمل انطباقه على المعلوم بالتفصيل أو على المعلوم بالإجمال في علم إجمالي آخر فضلا عن إحرازه فقد انحل ولو كان ذا علامة وتعين في الواقع ولا تبقى

٢٦١

القضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو ، بل تنحل إلى قضيتين حمليتين : إحداهما : متيقنة ـ والأخرى : مشكوك فيها ، وليس لانحلاله نكتة أخرى سوى ما ذكرناه ، وما أفاده (قده) من النكتة سوف يأتي بطلانها بشكل موسع في ضمن البحوث التالية.

وأما النقطة الثانية : فيرد عليها أن فرض القضية المتشكلة في موارد العلم الإجمالي مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها بعينه هو فرض انحلال العلم الإجمالي. أو فقل : ان في كل مورد كان المعلوم بالإجمال مردداً بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ففيه صورة للعلم الإجمالي لا واقعه الموضوعي.

نعم فيما إذا كان الأقل والأكثر ارتباطيين فالعلم الإجمالي في مواردهما وان كان موجوداً إلا ان القضية الشرطية فيها ليست مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها ، بل هي مركبة من قضيتين مشكوكتين حيث ان العلم الإجمالي في موردهما قد تعلق بالجامع بين الإطلاق والتقييد وكل منها مشكوك فيه ، وبما أن الأصل في طرف الإطلاق غير جار لعدم الكلفة فيه فلا مانع من جريانه في طرف التقييد ، وبذلك ينحل العلم الإجمالي حكماً لما حققناه في الأصول من أن تنجيز العلم الإجمالي انما يقوم على أساس عدم جريان الأصول في أطرافه وسقوطها من جهة المعارضة.

وأما إذا افترضنا ان الأصل قد جرى في بعض أطرافه بلا معارض فلا يكون العلم الإجمالي مؤثراً وما نحن فيه من هذا القبيل. فالنتيجة ان ما فرضه (قده) من تركب القضية في مورده أي مورد العلم الإجمالي هو فرض انحلاله لا فرض وجوده.

وأما النقطة الثالثة : فهي لو تمت فانما تتم في المثال الّذي ذكرناه لا في المقام ، والسبب فيه هو ان المعلوم بالإجمال هنا وان كان ذا علامة

٢٦٢

وتعين في الواقع إلا انه انما يمنع من انحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المتيقن فيما إذا لم يكن في نفسه مردداً بين الأقل والأكثر كالمثال الّذي قدمناه آنفاً.

وأما إذا كان ماله العلامة والتعين مردداً أيضا بين الأقل والأكثر فبطبيعة الحال يكون حاله حال ما ليس له العلامة والتعين في الواقع ، فكما أن ما ليس له العلامة والتعين فيه ينحل بالظفر بالمقدار المتيقن والمعلوم ، فكذلك ماله العلامة والتعين ، وما نحن فيه كذلك ، فان ماله العلامة والتعين فيه حاله حال ما ليس له العلامة والتعين فلا فرق بينهما من هذه الناحية يعني من ناحية الانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن.

وان شئت فقل : كما ان العلم الإجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في الشريعة المقدسة ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن ، كذلك العلم الإجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في خصوص الكتب المعتبرة ينحل بذلك ، والنكتة فيه ان المعلوم بالإجمال في هذا العلم الإجمالي كالمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الأول يعني أن أمره دائر بين الأقل والأكثر.

وعليه فبطبيعة الحال ينحل بالظفر بالمقدار الأقل تفصيلا فلا علم بعده بوجود المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر ، والشاهد عليه هو اننا لو أفرزنا ذلك المقدار من الكتب المعتبرة فلا علم لنا بعده بوجود المخصص أو المقيد فيها ، وهذا معني انحلال العلم الإجمالي.

وعلى الجملة ان قوام العلم الإجمالي انما هو بالقضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو فإذا انحلت هذه القضية إلى قضيتين حمليتين : إحداهما : متيقنة والأخرى : مشكوك فيها فقد انحل العلم الإجمالي ولا يعقل بقائه.

والمفروض في المقام قد انحلت هذه القضية إلى هاتين القضيتين ،

٢٦٣

ومجرد كون المعلوم بالإجمال فيه ذا علامة وتعين في الواقع لا يمنع عن انحلاله بعد ما كان في نفسه مردداً بين الأقل والأكثر كالمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الأول. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان ما أفاده (قده) لا يتم في المثال الّذي ذكرناه أيضا بناء على ضوء نظريته (قده) من أن العلم الإجمالي مقتض للتنجيز دون العلة التامة ، والوجه في ذلك هو ان المكلف إذا علم بوجود نجس بين إناءات متعددة مردد بين الواحد والأكثر وعلم أيضا بنجاسة إناء زيد بالخصوص المعلوم وجوده بين هذه الإناءات فانه إذا علم بعد ذلك وجداناً أو تعبداً بنجاسة أحد تلك الإناءات بعينه فهذا العلم التفصيليّ كما يوجب انحلال العلم الإجمالي الأول المتعلق بوجود النجس بينها المردد بين الأقل والأكثر كذلك يوجب ارتفاع أثر العلم الثاني لاحتمال أن الإناء المعلوم نجاسته تفصيلا ـ هو إناء زيد ـ فلا علم بوجود إناء زيد بين الإناءات الباقية ، كما لا علم بوجود النجس بينها ، فإذاً لا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة في الإناءات الباقية ، ولا يلزم من جريانها فيها مخالفة قطعية عملية.

والمفروض ان المانع عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي انما هو لزوم المخالفة القطعية العملية فإذا افترضنا ان جريانها في أطرافه لا يستلزم تلك المخالفة فلا مانع منه.

وبكلمة أخرى أن تنجيز العلم الإجمالي يتوقف على تعارض الأصول في أطرافه بتقريب ان جريانها في الجميع مستلزم للمخالفة القطعية العملية وفي البعض دون الآخر ترجيح من غير مرجح فلا محالة تسقط في الجميع وأما إذا افترضنا أنه لا يلزم من جريانها في أطرافه المخالفة القطعية العملية التي هي المانع الوحيد عنه فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً ، وحينئذ لا مانع

٢٦٤

من جريانها فيها ، وما نحن فيه كذلك حيث أنه لا مانع من جريان أصالة الطهارة في الإناءات الباقية بأجمعها لفرض عدم لزوم المخالفة القطعية العملية منه التي هي ملاك المعارضة بين جريانها فيها الموجبة لسقوطها فإذا جرت أصالة الطهارة فيها فبطبيعة الحال ينحل العلم الإجمالي فيصبح وجوده كعدمه.

وفي نهاية الشوط قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنه بناء على أساس نظريته (قده) من أن العلم الإجمالي يكون مقتضياً للتنجيز لا العلة التامة كما قوينا أيضا هذه النظرية لا يفرق بين كون المعلوم بالإجمال ذا علامة وتعين في الواقع وما لا علامة والتعين له ، وما له العلامة لا يفرق فيه بين أن يكون مردداً بين الأقل والأكثر وما لا يكون مردداً بينهما فان العلم الإجمالي في جميع هذه الصور ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم يعني أنه لا مانع بعد ذلك من الرجوع إلى الأصول فيما عدا هذا المقدار المتيقن تفصيلا ، حيث ان المانع من الرجوع إليها في أطرافه انما هو وقوع المعارضة بينها وحيث ان منشأه لزوم المخالفة القطعية العملية وهي غير لازمة في المقام في تمام هذه الشقوق.

وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه ان العلم الإجمالي بوجود المخصصات أو المقيدات لا يصلح أن يكون ملاكاً لوجوب الفحص وإلا لكان لازمه عدم وجوبه بعد انحلاله مع أن الأمر ليس كذلك.

وأما النقطة الرابعة : فقد ظهر خطأها مما ذكرناه ، فان مجرد العلم الإجمالي بكون مقدار الدين مضبوطاً في الدفتر لا يوجب الاحتياط والفحص بعد الظفر بالمقدار المتيقن ثبوته ، لفرض أنه قد انحل بعد الظفر بهذا المقدار إلى قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها.

ومجرد كون المعلوم بالإجمال هنا ذا علامة وتعين في الواقع لا يمنع

٢٦٥

عن انحلاله كما عرفت آنفاً ولا سيما فيما إذا كان مردداً بين الأقل والأكثر كما هو كذلك في المثال ، فانه ينحل لا محالة بالظفر بالمقدار المتيقن.

وعليه فوجوب الفحص عن الزائد على هذا المقدار يحتاج إلى دليل آخر يدل عليه بعد عدم الاطمئنان باشتمال الدفتر على الزائد عنه.

ومن هنا لو لم يتمكن من الرجوع إلى الدفتر لضياعه أو نحو ذلك لم يجب عليه الاحتياط جزماً بأداء ما يقطع معه بفراغ الذّمّة واقعاً ، بل يرجع إلى أصالة البراءة بالإضافة إلى الزائد على المقدار المعلوم والمتيقن ، لفرض الشك في اشتغال الذّمّة به ، وهذا دليل على أن العلم الإجمالي المزبور لا يكون منجزاً للواقع على ما هو عليه.

ثم ان شيخنا الأستاذ (قده) بين وجهاً آخر لوجوب الفحص وحاصله هو أن حجية أصالة العموم انما هي لكشفها عن مراد المتكلم في الواقع وهو متقوم بجريان مقدمات الحكمة في مدخوله التي تكشف عن عدم دخل قيد ما في مراده نظراً إلى أن أداة العموم انما وضعت للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها ولا تكون متكفلة لبيان ان المراد من مدخولها هو الطبيعة المطلقة دون المقيدة ، فان إثبات ذلك يتوقف على جريان مقدمات الحكمة كما تقدم ذلك في ضمن البحوث السالفة موسعاً.

هذا من ناحية : ومن ناحية أخرى حيث اننا قد علمنا بعد مراجعة الأدلة الشرعية ان طريقة الشارع قد استقرت على إبراز مراداته وبيان مقاصده من ألفاظه الصادرة منه في هذا المقام بالقرائن المنفصلة حتى قبل أنه لم يوجد عام في الكتاب والسنة إلا وقد ورد عليه تخصيص منفصل عنه لا يكون العمومات الواردة فيهما ظهور تصديقي كاشف عن المراد قبل الفحص عن مخصصاتها.

ومن الطبيعي أن ما لم يكن لها هذا الظهور يعني الظهور التصديقي

٢٦٦

الكاشف عن المراد قبل الفحص عنها لا محالة لا تكون حجة يصح الاعتماد عليها.

وعلى ضوء هذا العلم يعني العلم بأن ديدن الشارع قد استقر على ذلك فقد انهدم أساس جريان مقدمات الحكمة في مدخول الأداة أي أداة العموم فانها انما تجري في مدخول العمومات التي يكون المتكلم بها في مقام بيان مراداته منها ولم تستقر سيرته على بيان مقاصده بالقرائن المنفصلة كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة حيث انها واردة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخصصاتها قد وردت في عصر الأئمة عليهم‌السلام ، وكذا الحال في العمومات الصادرة منهم عليهم‌السلام ، فان بنائهم ليس على إبراز مقاصدهم ومراداتهم في مجلس واحد لمصلحة دعت إلى ذلك أو لمفسدة في البيان.

ومن الطبيعي ان هذا العلم أوجب هدم أساس المقدمات فلا يعقل جريانها في مدخول مثل هذه العمومات لفرض ان من مقدمات الحكمة عدم نصب المتكلم القرينة على الخلاف فإذا علمنا من الخارج أن ديدن هذا المتكلم قد جرى على نصب القرينة المنفصلة على الخلاف فكيف تجري المقدمات في كلامه.

فإذا لم تجر المقدمات لم ينعقد له ظهور تصديقي في العموم حتى يكون كاشفاً عن مراده الجدي في الواقع.

فالنتيجة ان عدم جواز التمسك بالعمومات أو المطلقات الواردة في الكتاب أو السنة قبل الفحص انما هو لأجل هذه النكتة.

ولنأخذ بالنقد على هذا الوجه بأمرين :

الأول : ما ذكرناه سابقاً بشكل موسع من أن أداة العمومات بنفسها متكفلة لإثبات إطلاق مدخولها يعني انها تدل بمقتضى وضعها على تسرية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها من دون حاجة إلى إجراء

٢٦٧

مقدمات الحكمة فيه.

الثاني : سوف ما نذكره إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق والمقيد ان مقدمات الحكمة انما تجري لإثبات ظهور المطلق في الإطلاق فإذا صدر كلام مطلق عن متكلم في مجلس ولم يصدر منه قرينة على الخلاف جرت مقدمات الحكمة فيه ، وبها يثبت ظهوره في الإطلاق والعلم بأن سيرة المتكلم قد جرت على إبراز مراداته ومقاصده بالقرائن المنفصلة ، وليس بنائه على إبرازها في مجلس واحد لا يمنع عن جريان مقدمات الحكمة في كلامه إذا لم ينصب قرينة متصلة على الخلاف.

والسبب فيه واضح هو ان القرينة المنفصلة لا تمنع عن انعقاد ظهور المطلق في الإطلاق وانما هي تمنع عن حجية ظهوره فيه ، والمفروض ان جريان مقدمات الحكمة انما هو لإثبات ظهوره فلا يكون العلم المزبور مانعاً عنه.

وعلى الجملة فبناء على تسليم نظريته (قده) من أن دلالة أدوات العموم على إرادته من مدخولها تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه فما أفاده (قده) في المقام غير تام ، فان القرائن المنفصلة لا تمنع عن جريان مقدمات الحكمة في المطلق لإثبات ظهوره في الإطلاق ، والمانع عنه انما هو القرينة المتصلة فالمراد من عدم البيان الّذي هو من إحدى مقدماتها هو عدم البيان المتصل لا المنفصل فلا يتوقف انعقاد ظهوره في الإطلاق على عدم بيانه أيضا.

وعليه فلا محالة ينعقد ظهور العام في العموم ، مع ان لازم ما أفاده (قدس‌سره) هو عدم جواز التمسك بالعموم فيما إذا كان المخصص المنفصل مجملا حيث أنه يصلح أن يكون مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة في مدخوله فإذا لم تجر لم ينعقد ظهور للعام في العموم.

٢٦٨

أو فقل ان عمومات الكتاب والسنة لا تخلو من أن ينعقد لها ظهور في العموم ولا يتوقف انعقاده فيه على عدم وجود القرائن المنفصلة أو لا ينعقد لها ظهور فيه.

فعلى الأول لا بد من التزام شيخنا الأستاذ (قده) بعدم وجوب الفحص حيث ان ملاكه على ما ذكره (قده) انما هو عدم ظهور لها في العموم فإذا افترضنا ان الظهور لها قد انعقد فيه فلا مقتضى له بعد ذلك.

وعلى الثاني لا بد له من الالتزام بعدم جواز التمسك بها حتى فيما إذا كان المخصص المنفصل مجملا ، ضرورة أنه لو توقف انعقاد ظهور العام في العموم على عدم البيان أصلا حتى المنفصل فبطبيعة الحال لا يفرق في المخصص المجمل بين كونه متصلا أو منفصلا فكما أن إجمال الأول يسري إلى العام ويمنع عن انعقاد ظهوره في العموم ، فكذلك الإجمال الثاني مع أنه (قده) غير ملتزم به.

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن هذه الوجوه التي ذكرت لوجوب الفحص لا يتم شيء منها.

فالصحيح في المقام ان يقال : ان ما دل على وجوب الفحص عن الحجة في موارد الأصول العملية بعينه هو الدليل على وجوبه في موارد الأصول اللفظية فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا فالملاك لوجوبه في كلا البابين واحد ، وذكرنا هناك ان ما دل على وجوبه أمران :

الأول : حكم العقل بذلك حيث أنه يستقل بأن وظيفة المولى ليست إلا تشريع الأحكام وإظهارها على المكلفين بالطرق العادية ولا يجب عليه تصديه لجميع ماله دخل في الوصول إليهم بحيث يجب على المولى إيصال التكليف إلى العبد ولو بغير الطرق العادية المتعارفة إذا امتنع العبد من الاطلاع على تكاليف مولاه بتلك الطرق كما أنه يستقل بأن وظيفة العبد

٢٦٩

لإطلاق الإرادة أو تقييدها في مقام الواقع والثبوت.

وعلى الجملة فالإرادة التفهيمية هي العلة لإبراز الكلام وإظهاره في مقام الإثبات ، فان المتكلم إذا أراد تفهيم شيء يبرزه في الخارج بلفظ ، فعندئذ ان لم ينصب قرينة منفصلة على الخلاف كشف ذلك عن ان الإرادة التفهيمية مطابقة للإرادة الجدية والا لم تكن مطابقة لها.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي ان المتكلم إذا كان متمكناً من الإتيان بقيد وكان في مقام البيان ومع ذلك لم يأت بقرينة على الخلاف لا متصلة ولا منفصلة كشف ذلك عن الإطلاق في مقام الثبوت وهذا مما قد قامت السيرة القطعية من العقلاء على ذلك الممضاة شرعاً ، ولا نحتاج في التمسك بالإطلاق إلى أزيد من هذه المقدمات الثلاث فهي قرينة عامة على إثبات الإطلاق ، واما القرائن الخاصة فهي تختلف باختلاف الموارد فلا ضابط لها.

بقي في المقام أمران : الأول ان القدر المتيقن بحسب التخاطب هل يمنع عن التمسك بالإطلاق فيه وجهان : ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) انه يمنع عنه وتفصيل الكلام في المقام انه يريد تارة بالقدر المتيقن القدر المتيقن الخارجي يعني انه متيقن بحسب الإرادة خارجاً من جهة القرائن منها مناسبة الحكم والموضوع.

ومن الواضح ان مثل هذا المتيقن لا يمنع عن التمسك بالإطلاق ، ضرورة أنه لا يخلو مطلق في الخارج عن ذلك الا نادراً فلو قال المولى (أكرم عالماً) فان المتيقن منه هو العالم الهاشمي الورع التقي ، إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه ، واما احتمال أن يكون المراد منه ذلك دون غيره فهو موجود.

ومن هذا القبيل قوله تعالى : «أحل الله البيع» فان القدر المتيقن

٢٧٠

ومنها قوله تعالى : «فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين إلخ» وغيرهما من الآيات. وأما الثانية : فمنها قوله عليه‌السلام (ان الله تعالى يقول لعبده في يوم القيامة هلا عملت فقال ما عملت فيقول هلا تعلمت) وغيرها من الروايات.

ومن الواضح ان هذا الوجه لا يختص بموارد الرجوع إلى الأصول العملية ، بل يعم غيرها من موارد الرجوع إلى الأصول اللفظية أيضا ، ضرورة أنه لا يكون في الآيات والروايات ما يوجب اختصاصهما بها.

فالنتيجة أنهما لا تختصان بمورد دون مورد وتدلان على وجوب التعلم والفحص مطلقاً بلا فرق بين موارد الأصول العملية وموارد الأصول اللفظية هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص.

وأما مقداره فهل يجب الفحص على المكلف بمقدار يحصل له العلم الوجداني بعدم وجود المخصص أو المقيد في مظانه وان احتمل وجوده في الواقع ، أو بمقدار يحصل له الاطمئنان بذلك ، أو لا هذا ولا ذاك بل تكفي تحصيل الظن به فيه وجوه :

أما الأول : فهو غير لازم جزماً لأن تحصيل العلم الوجداني بعدم وجوده بالفحص يتوقف على الفحص عن جميع الكتب المحتمل وجوده فيها وان لم يكن الكتاب من الكتب الحديث.

ومن الطبيعي أن هذا يحتاج إلى وقت طويل بل لعله لا يفي العمر بالفحص كذلك في باب واحد من أبواب الفقه فضلا في جميع الأبواب ، هذا مضافاً إلى عدم الدليل على وجوبه كذلك.

وأما الثاني : فهو الصحيح نظراً إلى أنه حجة فيجوز الاكتفاء به هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أن تحصيله لكل من يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بمكان من الإمكان نظراً إلى أن الاطمئنان يحصل

٢٧١

بعدم وجوده بالفحص عنه في الأبواب المناسبة ولا يتوقف على الفحص عن الزائد عنها ، والمفروض أن تحصيل الزائد على مرتبة الاطمئنان غير واجب.

وأما الثالث : فلا يجوز الاكتفاء به لعدم الدليل بعد ما لم يكن حجة شرعاً.

فالنتيجة ان المقدار الواجب من الفحص هو ما يحصل الاطمئنان منه بعدم وجود المخصص أو المقيد في مظانه دون الزائد ولا أثر لاحتمال وجوده في الواقع بعد ذلك ، كما أنه لا يجوز الاكتفاء بما دونه يعني الظن لعدم الدليل عليه.

ولصاحب الكفاية (قده) في المقام كلام وحاصله هو ان عمومات الكتاب والسنة بما انها كانت في معرض التخصيص فالمقدار اللازم من الفحص هو ما به يخرج عن المعرضية له.

وغير خفي ان ما أفاده (قده) لا يرجع بظاهره إلى معنى محصل فان تلك العمومات إذا كانت في معرض التخصيص لم تخرج عن المعرضية بالفحص عن مخصصاتها ، لأن الشيء لا ينقلب عما هو عليه ، بل القطع الوجداني بعدم المخصص لها لا يوجب خروجها عن المعرضية فضلا عن الاطمئنان» ولعله (قدس‌سره) أراد الاطمئنان من ذلك وكيف كان فالصحيح ما ذكرناه من أن الفحص الواجب انما هو بمقدار يحصل منه الاطمئنان بالعدم دون الزائد عليه.

٢٧٢

الخطابات الشفاهية :

ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ان النزاع فيها يتصور على وجوه : (الأول) أن يكون النزاع في ان التكليف المتكفل له الخطاب هل يمكن تعلقه بالمعدومين أو الغائبين أو يختص بالحاضرين في مجلس الخطاب ولا يفرق فيه بين كون الخطاب شفاهياً أو غيره كقوله تعالى : «لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» وقوله تعالى : «أحل الله البيع» وما شاكلهما : (الثاني) أن يكون النزاع في إمكان المخاطبة مع المعدومين أو الغائبين وعدم إمكانها يعني أنه هل يمكن توجيه الخطاب إليهما أم لا فالنزاع على هذين الوجهين يكون عقلياً (الثالث) أن يكون في وضع أدوات الخطاب يعني أنها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس الخطاب.

وبعد ذلك نقول : الّذي ينبغي أن يكون محلا للنزاع هو هذا الوجه يعني الوجه الأخير دون الوجهين الأوليين ، لأنهما غير قابلين لأن يجعلها محلا للنزاع والكلام.

أما الأول فلأن جعل التكليف بمعنى البعث أو الزجر الفعلي لا يعقل ثبوته للمعدومين بل للغائبين ، ضرورة أنه يقتضي ثبوت موضوعه في الخارج ـ وهو العاقل البالغ القادر ـ والتفاته إلى التكليف حتى يكون فعلياً في حقه والا استحال فعليته.

وأما جعل التكليف بمعنى الإنشاء وإبراز الأمر الاعتباري على نحو القضية الحقيقية فثبوته للمعدومين فضلا عن الغائبين بمكان من الإمكان لوضوح انه لا بأس بجعل التكليف كذلك للموجودين والمعدومين معاً حيث ان

٢٧٣

الموضوع فيها قد أخذ مفروض الوجود ولا مانع من فرض وجود الموضوع وجعل الحكم له سواءً أكان موجوداً حقيقة أم لم يكن فالوجود الفرضي لا يقتضي الوجود الحقيقي حيث لا مانع من فرض المعدوم موجوداً.

وان شئت قلت : انا قد ذكرنا في محله ان الاعتبار خفيف المئونة فكما أنه يتعلق بالأمر الحالي ، فكذلك يتعلق الأمر الاستقبالي كما هو الحال في الواجب المشروط بالشرط المتأخر.

وعليه فلا مانع من جعل الحكم للموجودين والمعدومين بنحو القضية الحقيقية التي ترجع إلى القضية الشرطية حيث ان مردّها إلى الشرط المتأخر لا محالة. ونظير ذلك مسألة الوقف على البطون المتعددة المتلاحقة حيث ان الواقف يعتبر من حين الوقف ملكية ماله لجميع البطون بطناً بعد بطن بحيث ان كل بطن لا حق يتلقى الملك من الواقف لا من البطن السابق ، ومعنى ذلك هو ان الواقف من حين الوقف يعتبر ملكيته له فيكون زمان المعتبر متأخراً عن زمان الاعتبار ، فالنتيجة ان النزاع بهذا المعنى لا يرجع إلى معنى معقول.

وأما الثاني : فان أريد من إمكان توجيه الخطاب إلى المعدومين والغائبين توجيهه إليهما بقصد التفهيم حقيقة فهو غير معقول ، ضرورة ان توجيه الخطاب الحقيقي إلى الحاضر في مجلس الخطاب إذا كان غافلا مستحيل فما ظنك بالمعدوم والغائب فيكون نظير الخطاب إلى الحجر ، فانه لا يعقل إذا قصد به تفهيمه ، وكتوجيه الخطاب باللغة العربية إلى من لا يكون عارفاً بها أو بالعكس.

وهكذا فان الخطاب الحقيقي في جميع هذه الموارد غير معقول. وان أريد بذلك شيئاً آخر كإظهار العجز أو المظلومية أو ما شاكل ذلك فتوجيه الخطاب بهذا المعنى إلى المعدومين فضلا عن الغائبين بمكان من الإمكان

٢٧٤

كما هو المشاهد في الصبي كثيراً حين ما يخاف أو يضر به شخص ، نادى يا أبا يا اما مع انه يعلم بأن أبيه أو أمه غير حاضر عنده فغرضه من هذا الخطاب إظهار العجز والتظلم.

فالنتيجة ان الخطاب الحقيقي الّذي يكون الداعي إليه ، قصد التفهيم لا يمكن توجيهه إلى الغائب بل إلى الحاضر إذا كان غافلا فضلا عن المعدوم. واما الخطاب الإنشائي الّذي يكون الداعي إليه إظهار العجز أو الشوق أو الولاء أو ما شاكل ذلك إلى المعدوم فضلا عن الغائب بمكان من الإمكان.

وهنا شق ثالث : للخطاب وهو أن يقصد التكلم تفهيم المخاطب حين ما وصل إليه الخطاب لا من حين صدوره كما إذا افترضنا ان المخاطب نائم فيكتب المتكلم ويخاطبه بقوله (إذا قمت من النوم أفعل الفعل الفلاني) أو خاطب ولده بقوله (يا ولدي إذا كبرت فافعل كذا وكذا) أو سجل خطابه في شريط ثم يرسله إلى مكان أو بلد آخر ليسمع الناس خطابه في ذلك المكان أو البلد فيكون قصده تفهيمهم من حين وصول الخطاب إليهم وسماعهم إياه ، لا من حين الصدور أو خاطب شخصاً في بلد آخر بالتلفون حيث ان خطابه لم يصل إليه من حين صدوره منه بل لا محالة وصوله إليه كان بعده بزمان وان كان ذلك الزمان قليلا جداً.

ومن الطبيعي أنه إذا جاز الفصل بين صدور الخطاب من المتكلم وبين قصده تفهيم المخاطب بزمان لم يفرق بين الزمان القليل والكثير فإذا جاز في القليل جاز في الكثير أيضا.

وعليه فلا مانع من أن يكون المقصود بالتفهيم من الخطابات الواردة في الكتاب والسنة جميع البشر إلى يوم القيامة يعني كل من وصلت إليه تلك الخطابات فهو مقصود به كما هو كذلك ، وكيف ما كان فلا إشكال

٢٧٥

في إمكان ذلك أصلا.

وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه : ان النزاع في هذا الوجه أيضا لا يرجع إلى معنى محصل ، فالذي ينبغي أن يكون محلا للنزاع هو الوجه الأخير وهو ان أدوات الخطاب هل هي موضوعة للدلالة على الخطاب الحقيقي أو الإنشائي فعلى الأول لا يمكن شموله للغائبين فضلا عن المعدومين بل لا يمكن شموله للحاضر في المجلس إذا كان غافلا عنه فما ظنك بالغائب والمعدوم كما أشرنا إليه آنفاً ، وعلى الثاني فلا مانع من شموله للمعدومين والغائبين حيث ان مفادها حينئذ إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعي من الدواعي فلا مانع عندئذ من شمولها للغائب بل المعدوم بعد فرضه بمنزلة الموجود كما هو لازم كون القضية حقيقة ، هذا ، والظاهر انها موضوعة للدلالة على الخطاب الإنشائي ، فان المتفاهم العرفي من أدوات الخطاب هو إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعي من الدواعي.

ومن الواضح ان الخطابات بهذا المعنى يشمل المعدومين بعد فرضهم منزلة الموجودين فضلا عن الغائبين ، هذا مضافاً إلى أن لازم القول بكون هذه الأدوات مستعملة في الخطاب الحقيقي في موارد استعمالاتها في الخطابات الشرعية هو اختصاص تلك الخطابات بالحاضرين في مجلس التخاطب وعدم شمولها للغائبين فضلا عن المعدومين ـ وهذا مما نقطع بعدمه لأن اختصاصها بالمدركين لزمان الحضور وان كان محتملا في نفسه الا انه لا يحتمل اختصاصها بالحاضرين في المسجد جزماً.

وعليه فلا مناص من الالتزام باستعمالها في الخطاب الإنشائي ولو كان ذلك بالعناية ، فإذاً يشمل المعدومين أيضا بعد تنزيلهم منزلة الموجودين على ما هو لازم كون القضية حقيقية ، هذا كله على تقدير كون الخطابات القرآنية خطاباً من الله تعالى بلسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمته.

٢٧٦

وأما إذا قلنا بأنها نزلت على قلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل قراءته فلا موضوع عندئذ لهذا النزاع حيث انه لم يكن حال نزولها على هذا الفرض من يتوجه إليه الخطاب حقيقة ليقع النزاع في اختصاصها بالحاضرين مجلس الخطاب أو عمومها للغائبين بل المعدومين.

ومن ضوء هذا البيان يظهر ان ـ ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) في المقام من التفصيل بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية بتقريب ان الخطاب في القضايا الخارجية يختص بالمشافهين ، فان عمومه للغائبين فضلا عن المعدومين يحتاج إلى عناية زائدة وبدونها فلا يمكن الحكم بالعموم.

وأما في القضايا الحقيقية فالظاهر انه يعم المعدومين فضلا عن الغائبين حيث ان توجيه الخطاب إليهم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهم منزلة الموجودين الّذي هو المقوم لكون القضية حقيقية ـ لا يتم فان كون القضية حقيقية وان كان يقتضي بنفسه فرض الموضوع فيها موجوداً والحكم على هذا الموضوع المفروض وجوده إلا ان مجرد ذلك لا يكفي في شمول الخطاب للمعدومين ضرورة ان صرف وجود الموضوع خارجاً لا يكفي في توجيه الخطاب إليه بل لا بد فيه من فرض وجوده في مجلس التخاطب والتفاته إلى الخطاب والا لصح خطاب الغائب في القضية الخارجية من دون عناية وهو خلاف المفروض كما عرفت.

فالنتيجة ان الصحيح هو ما ذكرناه من أن أدوات الخطاب موضوعة للدلالة على الخطاب الإنشائي دون الحقيقي. وقد مر أنه لا مانع من شمول الخطاب الإنشائي للمعدومين فضلا عن الغائبين.

الكلام في ثمرة هذا البحث قد ذكر له عدة ثمرات نذكر منها ثمرتين :

إحداهما : انه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فظواهره تكون حجة عليهم بالخصوص ، وعلى القول بعدمه فلا تكون حجة عليهم

٢٧٧

كذلك. وأورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية (قده) بأنها تبتني على مقدمتين : (الأولى) اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه. (الثانية) أن يكون المقصود بالإفهام من خطابات القرآن هو خصوص الحاضرين في مجلس التخاطب.

ولكن كلتا المقدمتين : خاطئة وغير مطابقة للواقع اما المقدمة الأولى فلما حققناه في محله من عدم اختصاص حجية الظواهر بخصوص المقصودين بالإفهام بل تعم الجميع من المقصودين وغيرهم ، وذلك لعدم الفرق في السيرة العقلائية القائمة على العمل بها بين من قصد افهامه من الكلام ومن لم يقصد وتمام الكلام في محله. واما المقدمة الثانية فلأن المقصود بالإفهام من خطابات القرآن جميع الناس إلى أن تقوم الساعة من الحاضرين والغائبين والمعدومين ، والنكتة في ذلك ان القرآن لا يختص بطائفة دون طائفة وبزمان دون زمان بل هو يجري كما يجري الليل والنهار وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا ، ولا يمكن القول بأن المقصود بالإفهام من خطاباته هو الحاضرين في مجلس التخاطب دون غيرهم حيث أنه لا يناسب مكانة القرآن وعظم شأنه وانه كتاب إلهي نزل لهداية البشر جميعاً فلا محالة يكون المقصود بالإفهام منها جميع البشر ، غاية الأمر ان من يكون حاضراً في مجلس التخاطب يكون مقصوداً بالإفهام من حين صدورها ومن لم يكن حاضراً أو كان معدوماً فهو مقصود به حين ما وصلت إليه الآيات والخطابات.

ثانيتهما : انه على القول بالعموم والشمول يصح التمسك بعمومات الكتاب والسنة بالإضافة إلى الغائبين والمعدومين كقوله تعالى مثلا : «إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله» فانه لا مانع من التمسك بعمومه على هذا القول لإثبات وجود السعي لهما.

٢٧٨

وأما على القول بالاختصاص وعدم العموم فلا يصح التمسك بها لفرض ان وجوب السعي في الآية عندئذ غير متوجه إلينا لنتمسك بعمومه عند الشك في تخصيصه ، بل هو خاص للحاضرين في المجلس فإثباته للمعدومين يحتاج إلى تمامية قاعدة الاشتراك في التكليف هنا ، وهذه القاعدة انما تثبت الحكم لهم إذا كانوا متحدين مع الحاضرين في الصنف.

وأما مع الاختلاف فيه فلا مورد لتلك القاعدة ، مثلا الحكم الثابت للمسافر لا يمكن إثباته بهذه القاعدة للحاضر وبالعكس.

نعم إذا ثبت حكم لشخص خاص بعنوان كونه مسافراً ثبت لجميع من يكون متحداً معه في هذا العنوان ببركة تلك القاعدة.

وأما في المقام فهل يمكن التمسك بهذه القاعدة لإثبات الحكم الثابت للحاضرين في ذلك العصر للمعدومين فيه وجهان : الأظهر عدم إمكان التمسك بها ، وذلك لعدم إحراز اشتراكهم معهم في الصنف ، لاحتمال ان لوصف الحضور دخلا فيه ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن التمسك بهذه القاعدة.

وعلى الجملة فلا شبهة في أنه لا يمكن اختلاف أهل شريعة واحدة في أحكام تلك الشريعة.

نعم هم مختلفون فيها حسب اختلافهم في الصنف فيثبت لكل صنف منهم حكم خاص لا يثبت للآخر ، مثلا للحائض حكم وللجنب حكم آخر وللمستطيع حكم ثالث وللمسافر حكم رابع وللحاضر حكم خامس وهكذا ولا يمكن اختلاف أفراد صنف واحد في ذلك الحكم فإذا ثبت لفرد منه ثبت للباقي فإذا دل دليل على ثبوت حكم لشخص ثبت لغيره من الافراد المتحدة معه في الصنف ، ونظير ذلك كثير في الروايات حيث ان رواية لو كانت متكفلة لحكم شخص خاص باعتبار ورودها فيه فالحكم

٢٧٩

لا يختص به «بل يعم غيره مما هو متحد معه في الصنف بقانون الاشتراك في التكليف.

وأما إذا لم يحرز الاتحاد فيه فلا يمكن التمسك بهذه القاعدة لتسرية الحكم من مورده إلى غيره مما لم يحرز اتحاده معه فيه ، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث اننا لم نحرز اتحاد المعدومين مع الحاضرين في الصنف لاحتمال دخل وصف الحضور فيه فلا يمكن التمسك بتلك القاعدة.

فالنتيجة ان الثمرة تظهر بين القولين فعلى القول بشمول الخطابات للمعدومين يجوز لهم التمسك بها ، وعلى القول بعدمه فلا يجوز لهم ذلك هذا.

وقد أورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية قده بما إليك نصه : «ولا يذهب عليك انه يمكن إثبات الاتحاد وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقداً له مما كان المشافهون واجدين له بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به ، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الإطلاق مع إرادة المقيد معه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان وان صح فيما لا يتطرق إليه ذلك.

وليس المراد بالاتحاد في الصنف الا الاتحاد فيما اعتبر قيداً في الأحكام لا الاتحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام ، بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيام والا لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين فضلا عن المعدومين حكم من الأحكام.

ودليل الاشتراك انما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به شك في شمولها لهم أيضا فلو لا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك ، ومعه كان الحكم يعم غير المشافهين ولو قبل باختصاص الخطابات بهم فتأمل جيداً.

٢٨٠