محاضرات في أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٠

١
٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة على خير خلقه محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين.

وبعد فهذا هو الجزء الاول من كتابنا (محاضرات في اصول الفقه) وهو مشتمل على ما استفدته من تحقيقات عالية ومطالب شامخة وافكار مبتكرة من مجلس درس سيدنا الاستاذ الافخم فقيه الطائفة سماحة آية الله العظمى سيد ابوالقاسم الخوئي ، اذ عكفت ضمن المئات من الطلاب على مجلس درسه الشريف في جامعة العلم الكبرى (النجف الاشرف) التي اسندت اليه زعامتها ، والقت بين يديه مقاليدها ، فقام بالعبا خير قيام في محاضراته وبحوثه ، وتربى على يديه الكريمتين جيل بعد جيل من الافضل الاعلام.

وانى اذ ابتهل الى المولى سبحانه ان يوفقني لالحاق الجزء الثاني بهذا الجزء في الطبع أسأله تعالى أن يمتعنا وعموم المسلمين بدوام وجود استاذنا الافخم ويديم أيام افاداته العامرة.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه انيب.

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تمهيد

من الضروري الّذي لا يشك فيه أحد إن الشريعة الإسلامية المقدسة تشتمل على أحكام إلزامية ، من وجوبات وتحريمات تتكفل بسعادة البشر ومصالحهم المادية والمعنوية ، ويجب الخروج عن عهدتها وتحصيل الأمن من العقوبة من ناحيتها بحكم العقل.

وهذه الأحكام ليست بضرورية لكل أحد بحيث يكون الكل عالمين بها ، من دون حاجة إلى تكلف مئونة الإثبات وإقامة البرهان عليها. نعم عدة منها أحكام ضرورية أو قطعية فيعلمها كل مسلم من دون حاجة إلى مئونة الإثبات والاستدلال ، ولكن جلها نظريات تتوقف معرفتها وتمييز موارد ثبوتها عن موارد عدمها على البحث والاستدلال ، وان ذلك يتوقف على معرفة قواعد ومبادئ تكون نتيجتها معرفة الوظيفة الفعلية وتشخيصها في كل مورد ، وان هذه القواعد هي القواعد الأصولية فهي مباد تصديقية لعلم الفقه المتكفل لتشخيص الوظيفة الفعلية في كل مورد بالنظر والدليل ، وان المباحث الأصولية قد مهدت وأسست لمعرفة هذه القواعد وتنقيحها.

٥

وينبغي التنبيه على أمور

الأمر الأول : إن هذه القواعد والمبادئ على أقسام :

القسم الأول ما يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي بعلم وجداني ، وبنحو البت والجزم ، وهي مباحث الاستلزامات العقلية : كمبحث مقدمة الواجب ، ومبحث الضد ، ومبحث اجتماع الأمر والنهي ، ومبحث النهي في العبادات ، فانه بعد القول بثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ـ مثلا ـ يترتب عليه العلم الوجداني بوجوب المقدمة عند وجوب ذيها بعد ضم الصغرى إلى هذه الكبرى. وكذا يحصل العلم البتي بفساد الضد العبادي عند الأمر بضده الآخر ، إذا ضم ذلك إلى كبرى ثبوت الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده.

القسم الثاني ما يوصل إلى الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي بعلم جعلي تعبدي ، وهي مباحث الحجج والأمارات ، وهذه على ضربين :

الضرب الأول ـ ما يكون البحث فيه عن الصغرى بعد إحراز الكبرى والفراغ عنها ؛ وهي مباحث الألفاظ بأجمعها ، فان كبرى هذه المباحث وهي مسألة حجية الظهور محرزة ومفروغ عنها وثابتة من جهة بناء العقلاء وقيام السيرة القطعية عليها ، ولم يختلف فيها اثنان ، ولم يقع البحث عنها في أي علم ؛ ومن هنا قلنا انها خارجة عن المسائل الأصولية.

نعم وقع الكلام في موارد ثلاثة : الأول في أن حجية الظهور هل هي مشروطة بعدم الظن بالخلاف أم بالظن بالوفاق أم لا هذا ولا ذاك؟ الثاني في ظواهر الكتاب وانها هل تكون حجة أم لا؟ الثالث في أن حجية الظواهر هل تختص بمن قصد افهامه أم تعم غيره أيضاً؟ والصحيح فيها على ما يأتي بيانه هو حجية الظهور مطلقاً بلا اختصاص لها بالظن بالوفاق ولا بعدم الظن بالخلاف ، ولا بمن قصد افهامه. كما انه لا فرق فيها بين ظواهر الكتاب وغيرها.

٦

ثم أن البحث في هذا الضرب يقع من جهتين : الجهة الأولى في إثبات ظهور الألفاظ بحد ذاتها وفي أنفسها مع قطع النّظر عن ملاحظة اية ضميمة خارجية أو داخلية كمباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم ؛ ومعظم مباحث العموم والخصوص والمطلق والمقيد كالبحث عن ان الجمع المحلى باللام هل هو ظاهر في نفسه في العموم أم لا؟ وعن ان النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي هل هي ظاهرة في العموم بحد ذاتها؟ وعن ان الفرد المعرف باللام هل هو ظاهر بنفسه في الإطلاق بلا معونة قرينة خارجية ما عدا مقدمات الحكمة أم لا؟

الجهة الثانية ـ في إثبات ظهورها مع ملاحظة معونة خارجية كبعض مباحث العام والخاصّ والمطلق والمقيد كالبحث عن ان العام والمطلق إذا خصصا بدليلين منفصلين ، فهل هما بعد ذلك ظاهران في تمام الباقي أم لا؟ والبحث عن ان المخصص والمقيد المنفصلين المجملين ، هل يسرى إجمالهما إلى العام والمطلق أم لا؟ ونحوهما.

الضرب الثاني ـ ما يكون البحث فيه عن الكبرى وهي مباحث الحجج (بعد إحراز الصغرى والفراغ عنها) كمبحث حجية خبر الواحد والإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائية وظواهر الكتاب. ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي ـ بناء على الكشف ـ ومبحث التعادل والترجيح ، فان البحث فيه في الحقيقة ، عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال.

القسم الثالث : ما يبحث عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلفين في حال العجز عن معرفة الحكم الواقعي واليأس عن الظفر بأي دليل اجتهادي ، من عموم أو إطلاق بعد الفحص بالمقدار الواجب ، وما هو وظيفة العبودية في مقام الامتثال ؛ وهي مباحث الأصول العملية الشرعية ، كالاستصحاب والبراءة والاشتغال.

القسم الرابع : ما يبحث عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال في فرض فقدان ما يؤدى إلى الوظيفة الشرعية ، من دليل اجتهادي أو أصل عملي شرعي ؛ وهي مباحث الأصول العملية العقلية ، كالبراءة والاحتياط العقليين ؛

٧

ويدخل فيه مبحث الظن الانسدادي ـ بناء على الحكومة ـ.

فالنتيجة المتحصلة إلى الآن هي ان المسائل الأصولية وقواعدها ، على أقسام أربعة : الأول ما يثبت الحكم الشرعي بعلم وجداني. الثاني ما يثبته بعلم جعلي تعبدي ، وهذا القسم على ضربين ـ كما مر ـ. الثالث ما يعين الوظيفة العملية الشرعية بعد اليأس عن الظفر بالقسمين المتقدمين. الرابع ما يعين الوظيفة العلمية بحسب حكم العقل في فرض فقدان الوظائف الشرعية (يعني الأقسام الثلاثة المتقدمة) ، وعدم الظفر بشيء منها. فهذا كله فهرس المسائل الأصولية وترتيبها الطبيعي.

ومن هنا ظهر فائدة علم الأصول وهي : (تعيين الوظيفة في مقام العمل الّذي هو موجب لحصول الأمن من العقاب). وحيث ان المكلف الملتفت إلى ثبوت الأحكام في الشريعة يحتمل العقاب وجدانا ، فلا محالة يلزمه العقل بتحصيل مؤمن منه ، وحيث أن طريقه منحصر بالبحث عن المسائل الأصولية ، فإذاً يجب الاهتمام بها ، وبما ان البحث عنها منحصر بالمجتهدين دون غيرهم فيجب عليهم تنقيحها وتعيين الوظيفة منها في مقام العمل لنفسهم ولمقلديهم حتى يحصل لهما الأمن في هذا المقام.

الأمر الثاني : في تعريف علم الأصول ، وهو : (العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها) وعليه فالتعريف يرتكز على ركيزتين وتدور المسائل الأصولية مدارهما وجوداً وعدماً :

الركيزة الأولى : ان تكون استفادة الأحكام الشرعية الإلهية من المسألة من باب الاستنباط والتوسيط لا من باب التطبيق (أي تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها) كتطبيق الطبيعي على افراده.

والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الأصول ، هي الاحتراز عن القواعد الفقهية فانها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية ، ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيط بل من باب التطبيق ، وبذلك خرجت عن التعريف.

٨

ولكن ربما يورد بان اعتبار ذلك يستلزم خروج عدة من المباحث الأصولية المهمة ، عن علم الأصول ، كمباحث الأصول العملية الشرعية والعقلية ، والظن الانسدادي بناء على الحكومة ؛ فان الأولى منها لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي لأن إعمالها في مواردها انما هو من باب تطبيق مضامينها على مصاديقها وافرادها لا من باب استنباط الأحكام الشرعية منها وتوسيطها لإثباتها ؛ والأخيرتين منها لا تنتهيان إلى حكم شرعي أصلا لا واقعاً ولا ظاهراً. وبتعبير آخر : ان الأمر في المقام ، يدور بين محذورين : فان هذا الشرط على تقدير اعتباره في التعريف ، يستلزم خروج هذه المسائل عن مسائل هذا العلم ، فلا يكون جامعاً ، وعلى تقدير عدم اعتباره فيه يستلزم دخول القواعد الفقهية فيها ، فلا يكون مانعاً. فإذاً لا بد أن نلتزم بأحد هذين المحذورين : فاما نلتزم باعتبار هذا الشرط لتكون نتيجته خروج هذه المسائل عن كونها أصولية ، أو نلتزم بعدم اعتباره لتكون نتيجته دخول القواعد الفقهية في التعريف ؛ ولا مناص من أحدهما.

والتحقيق في الجواب عنه هو ان هذا الإشكال مبتن على ان يكون المراد بالاستنباط المأخوذ ركناً في التعريف ، الإثبات الحقيقي بعلم أو علمي ؛ إذ على هذا لا يمكن التفصي عن هذا الإشكال أصلا ، ولكنه ليس بمراد منه ، بل المراد به معنى جامعاً بينه وبين غيره ، وهو الإثبات الجامع بين ان يكون وجدانياً أو شرعياً أو تنجيزياً أو تعذيرياً ؛ وعليه فالمسائل المزبورة تقع في طريق الاستنباط ، لأنها تثبت التنجيز مرة والتعذير مرة أخرى ، فيصدق عليها حينئذ التعريف لتوفر هذا الشرط فيها ، ولا يلزم ـ إذاً ـ محذور دخول القواعد الفقهية فيه.

نعم يرد هذا الإشكال على التعريف المشهور وهو : (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية) فان ظاهرهم انهم أرادوا بالاستنباط ، الإثبات الحقيقي ؛ وعليه فالإشكال وارد ، ولا مجال للتفصي عنه ـ كما عرفت ـ.

ولو كان مرادهم المعنى الجامع الّذي ذكرناه ، فلا وقع له أصلا كما مر. وعلى

٩

ضوء هذا البيان ، ظهر الفرق بين المسائل الأصولية والقواعد الفقهية ؛ فان الأحكام المستفادة من القواعد الفقهية ، سواء كانت مختصة بالشبهات الموضوعية كقاعدة الفراغ واليد والحلية ونحوها ، أم كانت تعم الشبهات الحكمية أيضاً كقاعدتي لا ضرر ولا حرج بناء على جريانهما في موارد الضرر أو الحرج النوعيّ ، وقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن وغيرها ، إنما هي من باب تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها ، لا من باب الاستنباط والتوسيط ، مع أن نتيجتها في الشبهات الموضوعية نتيجة شخصية. هذا والصحيح انه لا شيء من القواعد الفقهية تجري في الشبهات الحكمية ، فان قاعدتي نفي الضرر والحرج لا تجريان في موارد الضرر أو الحرج النوعيّ ، وقاعدة ما يضمن أساسها ثبوت الضمان باليد مع عدم إلغاء المالك لاحترام ماله ؛ فالقواعد الفقهية نتائجها أحكام شخصية لا محالة.

وعلى كل حال فالنتيجة هي ان القواعد الفقهية من حيث عدم توفر هذا الشرط فيها ، غير داخلة في المسائل الأصولية.

وعلى هذا الأساس ، ينبغي لك ان تميز كل مسألة ترد عليك انها مسألة أصولية أو قاعدة فقهية ؛ لا كما ذكره المحقق النائيني (قده) من ان نتيجة المسألة الفقهية ، قاعدة كانت أو غيرها ، بنفسها تلقى إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل ، فيقال له : (كلما دخل الظهر وكنت واجداً للشرائط ، فقد وجبت عليك الصلاة) فيذكر في الموضوع تمام قيود الحكم الواقعي ، فيلقى إليه. وهذا بخلاف نتيجة المسألة الأصولية فانها بنفسها لا يمكن ان تلقى إلى العامي غير المتمكن من الاستنباط ، فان إعمالها في مواردها وظيفة المجتهدين دون غيرهم. نعم الّذي يلقى إليه هو الحكم المستنبط من هذه المسألة لا هي نفسها. وذلك لأن ما أفاده (قده) بالقياس إلى المسائل الأصولية وان كان كما أفاد ، فان إعمالها في مواردها وأخذ النتائج منها من وظائف المجتهدين ، فلاحظ فيه لمن سواهم ؛ إلا ان ما أفاده (قده) بالإضافة إلى المسائل الفقهية غير تام على إطلاقه ؛ إذ رب مسألة

١٠

فقهية حالها حال المسألة الأصولية من هذه الجهة : كاستحباب العمل البالغ عليه الثواب ، بناء على دلالة اخبار (من بلغ) عليه وعدم كونها إرشاداً ولا دالة على حجية الخبر الضعيف ، فانه مما لا يمكن أن يلقى إلى العامي لعدم قدرته على تشخيص موارده من الروايات وتطبيق اخبار الباب عليها.

وكقاعدة نفوذ الصلح والشرط باعتبار كونهما موافقين للكتاب أو السنة أو غير مخالفين لهما ، فان تشخيص كون الصلح أو الشرط في مواردهما موافقاً لأحدهما أو غير مخالف ، مما لا يكاد يتيسر للعامي.

وكقاعدتي ما يضمن وما لا يضمن ، فان تشخيص مواردهما وتطبيقهما عليها لا يمكن لغير المجتهد. إلى غيرها من القواعد التي لا يقدر العامي على تشخيص مواردها وصغرياتها ليطبق القاعدة عليها ؛ بل رب مسألة فقهية في الشبهات الموضوعية تكون كذلك كبعض فروع العلم الإجمالي ، فان العامي لا يتمكن من تشخيص وظيفته فيه مثلا إذا فرضنا ان المكلف علم إجمالا ، بعد الفراغ من صلاتي الظهر والعصر ، بنقصان ركعة من إحداهما ، ولكنه لا يدرى انها من الظهر أو من العصر ، ففي هذا الفرع وأشباهه لا يقدر العامي على تعيين وظيفته في مقام العمل ، بل عليه المراجعة إلى مقلده ؛ بل الحال في كثير من فروع العلم الإجمالي كذلك.

شبهة ودفع

أما الشبهة فهي توهم ان مسألتي البراءة والاحتياط الشرعيين ، خارجتان عن تعريف علم الأصول ، لعدم توفر الشرط المتقدم فيهما ، إذ الحكم المستفاد منهما في مواردهما انما هو من باب التطبيق لا من باب الاستنباط ، وقد سبق ان المعتبر في كون المسألة أصولية هو أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب الاستنباط دون الانطباق.

واما الدفع فلأن المراد بالاستنباط ليس خصوص الإثبات الحقيقي ، بل الأعم منه ومن الإثبات التنجيزي والتعذيري ، وقد سبق انهما يثبتان التنجيز والتعذير

١١

بالقياس إلى الأحكام الواقعية ، وهذا نوع من الاستنباط ، وإطلاقه عليه ليس بنحو من العناية والمجاز ، بل على وجه الحقيقة ، فان المعنى الظاهر منه عرفا هو المعنى الجامع لا خصوص حصة خاصة.

ولو تنزلنا عن ذلك وفرضنا ان وقوعهما في طريق الحكم ليس من باب الاستنباط ، وإنما هو من باب التطبيق والانطباق ، كانطباق الطبيعي على مصاديقه وافراده ، فلا نسلم انهما خارجتان من مسائل هذا العلم ؛ وذلك لأنهما واجدتان لخصوصية بها امتازتا عن القواعد الفقهية ، وهي كونهما مما ينتهى إليه أمر المجتهد في مقام الإفتاء بعد اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي كإطلاق أو عموم ، وهذا بخلاف تلك القواعد فانها ليست واجدة لها ، بل هي في الحقيقة أحكام كلية إلهية استنبطت من أدلتها لمتعلقاتها وموضوعاتها ، وتنطبق على مواردها بلا أخذ خصوصية فيها أصلا ؛ كاليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي ونحوه. فهما بتلك الخصوصية امتازتا عن القواعد الفقهية ، ولأجلها دونتا في علم الأصول وعدتا من مسائله. هذا تمام الكلام في الركيزة الأولى.

الركيزة الثانية : ان يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى أصولية أخرى ؛ وعليه فالمسألة الأصولية هي المسألة التي تتصف بذلك. ثم ان النكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الأصول أيضاً هي ان لا تدخل فيه مسائل غيره من العلوم ، كعلم النحو والصرف واللغة والرّجال والمنطق ونحوها ، فانها وان كانت دخيلة في استنباط الأحكام الشرعية واستنتاجها من الأدلة ، فان فهم الحكم الشرعي منها يتوقف على علم النحو ومعرفة قوانينه من حيث الإعراب والبناء ؛ وعلى علم الصرف ومعرفة أحكامه من حيث الصحة والاعتلال ؛ وعلى علم اللغة من حيث معرفة معاني الألفاظ وما تستعمل فيه ؛ وعلى علم الرّجال من ناحية تنقيح أسانيد الأحاديث وتمييز صحيحها عن سقيمها وجيدها عن رديئها ؛ وعلى علم المنطق لمعرفة صحة الدليل وسقمه ؛ ولكن كل ذلك بالمقدار اللازم في

١٢

الاستنباط لا بنحو الإحاطة التامة ؛ فلو لم يكن الإنسان عارفاً بهذه العلوم كذلك ؛ أو كان عارفاً ببعضها دون بعضها الآخر ، لم يقدر على الاستنباط ؛ إلا ان وقوعها ودخلها فيه لا يكون بنفسها وبالاستقلال ، بل لا بد من ضم كبرى أصولية وبدونه لا تنتج نتيجة شرعية أصلا ، ضرورة أنه لا يترتب أثر شرعي على وثاقة الراوي ما لم ينضم إليها كبرى أصولية وهي حجية الرواية ، وهكذا. وبذلك قد امتازت المسائل الأصولية عن مسائل سائر العلوم ، فان مسائل سائر العلوم وان كانت تقع في طريق الاستنباط كما عرفت ؛ إلا انها لا بنفسها بل لا بد من ضم كبرى أصولية إليها. وهذا بخلاف المسائل الأصولية ، فانها كبريات لو انضمت إليها صغرياتها ، لاستنتجت نتيجة فقهية من دون حاجة إلى ضم كبرى أصولية أخرى.

ومن هنا يتضح ان مرتبة علم الأصول فوق مرتبة سائر العلوم ودون مرتبة علم الفقه ، وحد وسط بينهما ؛ كما انه يظهر ان مبحث المشتق ، ومبحث الصحيح والأعم ، وبعض مباحث العام والخاصّ : كمبحث وضع أداة العموم ، كلها خارجة عن مسائل هذا العلم ، لعدم توفر هذا الشرط فيها ؛ إذ البحث في هذه المباحث عن وضع ألفاظ مفردة (مادة) كما في بعضها ، و (هيئة) كما في بعضها الآخر ؛ ومن الواضح جداً أنه لا تترتب آثار شرعية على وضعها فقط ـ مثلا ـ أي أثر شرعي يترتب على وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ بالفعل أو للجامع بينه وبين المنقضى عنه المبدأ؟ وعلى وضع أسامي العبادات أو المعاملات لخصوص المعاني الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة؟ وعلى وضع الأدوات للعموم ـ مثلا ـ من دون أن تنضم إليها مسألة أصولية؟ فالصحيح هو انها من المسائل اللغوية ، ولكن حيث انها لم تدون في علم اللغة ، دونت في الأصول.

ونتيجة ما ذكرناه : ان المسائل الأصولية يعتبر فيها امران : الأول أن يكون وقوعها في طريق الحكم من باب الاستنباط لا من باب الانطباق ، وبها تتميز عن المسائل الفقهية. الثاني ان يكون وقوعها فيه بنفسها وبالاستقلال ، من دون

١٣

حاجة إلى ضم مسألة أخرى ، وبها تتميز عن مسائل سائر العلوم.

شبهات ودفوع

الشبهة الأولى : توهم ان مسألة اجتماع الأمر والنهي بناء على اعتبار الشرط الثاني ، تخرج عن مسائل هذا العلم ، إذ على القول باستحالة الاجتماع وعدم إمكانه ، لا يترتب عليها أثر شرعي ما عدا القطع بعدم فعلية كلا الحكمين ، وإنما نحتاج في ترتبه عليها ، إلى ضم مسألة أخرى وهي إجراء قوانين باب التعارض التي يكون المقام من صغرياتها على القول بالامتناع ، وهذا ليس شأن المسألة الأصولية بمقتضى هذا الشرط كما عرفت.

ويدفعها : انه يكفي في كون المسألة أصولية ، وقوعها في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل بأحد طرفيها ، وان كانت لا تقع كذلك بطرفها الآخر ، إذ لو لم يكن ذلك كافياً في الاتصاف بكونها مسألة أصولية ، للزم خروج كثير من المسائل الأصولية عن تعريف علم الأصول بمقتضى الشرط المزبور ، منها : مسألة حجية خبر الواحد ، فانه على القول بعدمها ، لا يترتب عليها أثر شرعي أصلا. ومنها : مسألة حجية ظواهر الكتاب ، على القول بعدم حجيتها ؛ إلى غيرها من المسائل. فالنتيجة هي ان الملاك في كون المسألة أصولية ، وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها ؛ في قبال ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة ، كمسائل بقية العلوم ؛ والمفروض ان هذه المسألة كذلك ، فانه يترتب عليها أثر شرعي على القول بالجواز ، وهو صحة العبادة ؛ وان لم يترتب على القول بالامتناع.

الشبهة الثانية : توهم خروج مسألة الضد عن التعريف ، لعدم توفر هذا الشرط فيها ، إذ لا يترتب أثر شرعي على نفس ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضده لتكون المسألة أصولية. وأما حرمة الضد فهي وان ثبتت بثبوت

١٤

الملازمة ، إلا انها حرمة غيرية لا تقبل التنجيز ، كي تصلح لأن تكون نتيجة فقهية للمسألة الأصولية. وأما فساد الضد فهو لا يترتب على ثبوت هذه الملازمة بلا ضم كبرى أصولية أخرى ، وهي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها.

ويدفعها : ما مر من الجواب عن الشبهة الأولى ؛ وملخصه : انه يكفى في كون المسألة أصولية ، ترتب نتيجة فقهية على أحد طرفيها وان لم تترتب على طرفها الآخر ؛ والمفروض انه يترتب على مسألتنا هذه أثر شرعي على القول بعدم الملازمة ؛ وهو صحة الضد العبادي ، وان لم يترتب على القول الآخر.

الشبهة الثالثة : دعوى ان اعتبار هذا الشرط يستلزم خروج مسألة مقدمة الواجب عن المسائل الأصولية ؛ لا من جهة ان البحث فيها عن وجوب المقدمة وهي مسألة فقهية ، فان البحث فيها كما أفاد المحققون من المتأخرين ، عن ثبوت الملازمة العقلية بين وجوب شيء ووجوب مقدماته وعدم ثبوتها ؛ بل من جهة عدم ترتب أثر شرعي عليها بنفسها وعدم توفر ذاك الشرط فيها. اما وجوب المقدمة فهو وان ترتب على ثبوت هذه الملازمة ، إلا أنه حيث كان غيرياً ، لا يصلح ان يكون أثراً للمسألة الأصولية ؛ بل وجوده وعدمه سيان من هذه الجهة ؛ واما غيره مما هو قابل لذاك ، فلم يكن حتى يترتب عليها.

ويدفعها ما سنذكره إن شاء الله تعالى في محله ، من أن لتلك المسألة ثمرة مهمة ـ غير وجوب المقدمة ـ تترتب عليها ، وبها تكون المسألة أصولية. وتفصيل الكلام فيها موكول إلى محلها فلينتظر الأمر الثالث في بيان موضوع العلم وعوارضه الذاتيّة وتمايز العلوم ؛ فيقع الكلام في جهات : الجهة الأولى : في مدرك ما التزم به المشهور من لزوم الموضوع في كل علم. الجهة الثانية : في وجه ما التزموا به من أن البحث في كل علم لا بد أن يكون عن العوارض الذاتيّة لموضوعه. الجهة الثالثة : في بيان تمايز العلوم بعضها عن بعض.

١٥

اما الكلام في الجهة الأولى فغاية ما قيل أو يمكن أن يقال في وجهه ، هو أن الغرض من أي علم من العلوم أمر واحد ؛ ـ مثلا ـ الغرض من علم الأصول : (الاقتدار على الاستنباط) ومن علم النحو : (صون اللسان عن الخطأ في المقال) ومن علم المنطق : (صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج) وحيث ان هذا الغرض الوحداني يترتب على مجموع القضايا المتباينة في الموضوعات والمحمولات التي دونت علماً واحداً وسميت باسم فارد ، يستحيل ان يكون المؤثر فيه هذه القضايا بهذه الصفة ، لاستلزامه تأثير الكثير بما هو كثير في الواحد بما هو واحد ؛ فإذاً يكشف (إناً) عن ان المؤثر فيه جامع ذاتي وحداني بينها ، بقانون ان المؤثر في الواحد لا يكون إلا الواحد بالسنخ ، وهو موضوع العلم. وبتعبير آخر : ان البرهان على اقتضاء وحدة الغرض لوحدة القضايا موضوعاً ومحمولا ، ليس إلا ان الأمور المتباينة لا تؤثر أثراً واحداً ، كما عليه جل الفلاسفة لو لا كلهم.

ويرد عليه أولا : ان البرهان المزبور وان سلم في العلل الطبعية لا في الفواعل الإرادية ، إلا ان الغرض الّذي يترتب على مسائل العلوم ، لا يخلو اما ان يكون واحداً شخصياً أو واحداً نوعياً أو عنوانياً ؛ وعلى أي تقدير لا تكشف وحدة الغرض عن وجود جامع ما هوى وحداني بين تلك المسائل.

اما على الأول فانه يترتب على مجموع المسائل من حيث المجموع ؛ لا على كل مسألة مسألة بحيالها واستقلالها ؛ فحينئذ المؤثر فيه المجموع من حيث هو ، فتكون كل مسألة جزء السبب لا تمامه ؛ نظير ما يترتب من الغرض الوحداني على المركبات الاعتبارية من الشرعية : كالصلاة ونحوها ، أو العرفية ؛ فان المؤثر فيه مجموع اجزاء المركب بما هو ، لا كل جزء جزء منه ؛ ولذا لو انتفى أحد اجزائه ، انتفى هذا الغرض. فوحدة الغرض بهذا النحو لا تكشف عن وجود جامع وحداني بينها ، بقاعدة استحالة صدور الواحد عن الكثير ، فان استناده إلى المجموع بما هو لا يكون مخالفاً لتلك القاعدة ليكشف عن وجود الجامع ، إذ

١٦

سببية المجموع من حيث هو ، سببية واحدة شخصية ، فالاستناد إليه استناد معلول واحد شخصي إلى علة واحدة شخصية لا إلى علل كثيرة ؛ ومقامنا من هذا القبيل ، فان المؤثر في الغرض الّذي يترتب على مجموع القضايا والقواعد ، المجموع من حيث المجموع ، لا كل واحدة واحدة منها ؛ والمفروض ـ كما عرفت ـ ان سببية المجموع سببية واحدة شخصية فاردة ، فاستناده إليه ، ليس من استناد الواحد إلى الكثير ، بل ـ حقيقة ـ من استناد معلول واحد شخصي إلى علة كذلك ، فاذن ، لا سبيل لنا إلى استكشاف وجود جامع ذاتي بين المسائل.

واما على الثاني بان كان الغرض كلياً له افراد يترتب كل فرد منها على واحدة من المسائل بحيالها واستقلالها ـ كما هو الصحيح ـ فالأمر واضح ، إذا بناء على ذلك لا محالة يتعدد الغرض بتعدد المسائل والقواعد ، فيترتب على كل مسألة بحيالها ، غرض خاص غير الغرض المترتب على مسألة أخرى ، مثلا : الاقتدار على الاستنباط الّذي يترتب على مباحث الألفاظ ، يباين الاقتدار على الاستنباط المترتب على مباحث الاستلزامات العقلية ، وهما يباينان ما يترتب على مباحث الحجج والأمارات ، فان الاقتدار على الاستنباط الحاصل من مباحث الاستلزامات العقلية اقتدار على استنباط الأحكام الشرعية على نحو البت والجزم ، وهذا بخلاف الاقتدار الحاصل من مباحث الحجج والأمارات ، وهكذا ... وإذا كان الأمر كذلك فلا طريق لنا إلى إثبات جامع ذاتي وحداني بين موضوعات هذه المسائل ؛ لأن البرهان المزبور لو تم فانما يتم في الواحد الشخصي البسيط بحيث لا يكون ذا جهتين أو جهات ، فضلا عن كونه واحداً نوعياً ؛ فإذا فرضنا ان الغرض واحد نوعي فلا يكشف إلا عن واحد كذلك ، لا عن واحد شخصي.

واما على الثالث فالحال فيه أوضح من الثاني ، فان القاعدة المزبورة لو تمت فانما تتم في الواحد الحقيقي لا في الواحد العنواني ، والمفروض ان الغرض في كثير من العلوم ، واحد بالعنوان لا بالحقيقة ؛ فان صون الفكر عن الخطأ في

١٧

الاستنتاج في علم المنطق ، وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو ، والاقتدار على الاستنباط في علم الأصول ، وهكذا ، ليس واحداً بالذات ، بل بالعنوان الّذي انتزع من مجموع أغراض متعددة بتعدد القواعد المبحوث عنها في العلوم ، ليشار به إلى هذه الأغراض ، فإذاً كيف يكشف مثل هذا الواحد عن جامع ذاتي؟ فان الواحد بالعنوان لا يكشف إلا عن واحد كذلك.

وثانياً : ان الغرض المترتب على كل علم ، لا يترتب على نفس مسائله الواقعية وقواعده النّفس الأمرية ، ليكشف عن جامع وحداني بينها ، ويقال ان ذلك الجامع الوحداني موضوع العلم ومؤثر في ذلك الغرض. وهذا ـ لعله ـ من أبده البديهيات فان لازم ذلك حصول ذلك الغرض لكل من كان عنده كتب كثيرة من علم واحد أو علوم مختلفة ، من دون أن يكون عالماً بما فيها من القواعد والمسائل بل هو مترتب على العلم بنسبها الخاصة ، وبثبوت محمولاتها لموضوعاتها ؛ فان الاقتدار على الاستنباط في علم الأصول ، إنما يترتب على معرفة قواعده : بان يعرف حجية أخبار الثقة ، وحجية ظواهر الكتاب ، والاستصحاب ، ونحوها ؛ فإذا عرف هذه القواعد ، وعلم بنسبها الخاصة ، يحصل له الاقتدار على الاستنباط. وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو ، إنما يحصل لمن يعرف مسائله وقواعده ؛ كرفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه ، ونحو ذلك وصون الفكر عن الخطأ في علم المنطق ، إنما يترتب على معرفة قوانينه وقواعده ، كإيجاب الصغرى وكلية الكبرى وتكرر الحد الأوسط ، وهكذا. فلا بد من تصوير الجامع حينئذ بين العلوم أو ـ لا أقل ـ بين النسب الخاصة ، لا بين الموضوعات.

وثالثاً : ان المحمولات التي تترتب على مسائل علم الفقه بأجمعها وعدة من محمولات مسائل علم الأصول ، من الأمور الاعتبارية التي لا واقع لها عدا اعتبار من بيده الاعتبار ؛ فان محمولات مسائل علم الفقه على قسمين : أحدهما الأحكام التكليفية : كالوجوب ، والحرمة ، والإباحة ، والكراهة ، والاستحباب

١٨

والآخر الأحكام الوضعيّة : كالملكية والزوجية والرقية ونحوها ؛ وكلتاهما من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها إلا في عالم الاعتبار. نعم الشرطية والسببية والمانعية ونحوها ، من الأمور الانتزاعية التي تنتزع من القيود الوجودية أو العدمية المأخوذة في متعلقات الأحكام أو موضوعاتها ، ولهذا لا تكون موجودة في عالم الاعتبار إلا بالتبع ، ولكن مع ذلك هي تحت تصرف الشارع رفعاً ووضعاً ، من جهة ان منشأ انتزاعها تحت تصرفه كذلك.

وإن شئت قلت : ان محمولات مسائل علم الفقه على سنخين : أحدهما موجود في عالم الاعتبار بالأصالة ، كجميع الأحكام التكليفية ، وكثير من الأحكام الوضعيّة. والآخر موجود فيه بالتبع كعدة أخرى من الأحكام الوضعيّة.

ومن هنا ظهر حال بعض محمولات علم الأصول أيضاً ، كحجية خبر الواحد والإجماع المنقول ، وظواهر الكتاب ، وأحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال ونحوها ؛ فانها من الأمور الاعتبارية حقيقة وواقعاً ، بل البراءة والاحتياط الشرعيان ، أيضاً من هذا القبيل.

نعم محمولات مثل مباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية والبراءة والاحتياط العقليين ، ليست من الأمور الاعتبارية في اصطلاح الأصوليين ، وان كانت كذلك في اصطلاح الفلاسفة ؛ فان المصطلح عندهم إطلاق الأمر الاعتباري على الأعم منه ومن الأمر الانتزاعي كالإمكان والامتناع ونحوهما. والمصطلح عند الأصوليين : إطلاق الأمر الاعتباري في مقابل الأمر الانتزاعي الواقعي.

إذا عرفت ذلك فأقول : لو سلم ترتب الغرض الواحد على نفس مسائل العلم الواحد ، فلا يكاد يعقل أن يكشف عن جامع واحد مقولي بينها ، ليقال ان ذلك الجامع الواحد يكشف عن جامع كذلك بين موضوعاتها ، بقاعدة السنخية والتطابق ؛ ضرورة انه كما لا يعقل وجود جامع مقولي بين الأمر الاعتباري والأمر التكويني ، كذلك لا يعقل وجوده بين أمرين اعتباريين أو أمور اعتبارية

١٩

فانه لو كان بينها جامع ، لكان من سنخها لا من سنخ الأمر المقولي ، فلا كاشف عن أمر وحداني مؤثر في الغرض الواحد ، فان التأثير والتأثر إنما يكونان في الأشياء المتأصلة ، كالمقولات الواقعية من الجواهر والاعراض.

ورابعاً : ان موضوعات مسائل علم الفقه على أنحاء مختلفة :

فبعضها من مقولة الجوهر : كالماء والدم والمني ، وغير ذلك.

ونحو من مقولة الوضع : كالقيام والركوع. والسجود ، وأشباه ذلك.

وثالث من مقولة الكيف المسموع : كالقراءة في الصلاة ، ونحوها.

ورابع من الأمور العدمية : كالتروك في بابي الصوم والحج وغيرهما.

وقد برهن في محله انه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين المقولات كالجواهر والاعراض ، لأنها أجناس عالية ومتباينات بتمام الذات والحقيقة ، فلا اشتراك أصلا بين مقولة الجوهر مع شيء من المقولات العرضية ، ولا بين كل واحدة منها مع الأخرى ؛ وإذا لم يعقل تحقق جامع مقولي بينها ، فكيف بين الوجود والعدم؟

وملخص ما ذكرناه أمران : الأول ـ انه لا دليل على اقتضاء كل علم وجود الموضوع ، بل سبق أن حقيقة العلم ، عبارة عن «جملة من القضايا والقواعد المختلفة بحسب الموضوع والمحمول ، التي يجمعها الاشتراك في الدخل في غرض واحد دعا إلى تدوينها علماً».

الثاني ـ ان البرهان قد قام على عدم إمكان وجود جامع مقولي بين موضوعات مسائل بعض العلوم كعلم الفقه والأصول.

وأما الكلام في الجهة الثانية ، فتفصيل القول فيها يحتاج إلى تقديم مقدمة وهي : ان المشهور قد قسموا العوارض على سبعة أقسام : فان العارض على الشيء ، أما أن يعرض ذلك الشيء ويتصف المعروض به بلا توسط أمر آخر ، كإدراك الكليات العارض للعقل ؛ أو بواسطة أمر آخر مساو للمعروض ، كصفة الضحك العارضة للإنسان بواسطة أمر مساو له وهو صفة التعجب ؛ أو هذه الصفة عارضة

٢٠