محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

ولكن من المعلوم ان هذا القبيح قابل للرفع ، ضرورة ان المصلحة الأقوى إذا اقتضت إلقاء المكلف في المفسدة أو تفويت المصلحة عنه أو إلقائه في الكلفة والمشقة فلا قبح فيه أصلا.

فإذاً لا يكون قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة كقبح الظلم ليستحيل انفكاكه عنه ، بل هو كقبح الكذب يعني أنه في نفسه قبيح مع قطع النّظر عن طرو أي عنوان حسن عليه.

فإذا افترضنا أن المصلحة تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة وكانت أقوى من مفسدة تأخيره أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى منها فبطبيعة الحال لا يكون تأخيره عندئذ قبيحاً ، بل هو حسن ولازم كما هو الحال في الكذب ، فان قبحه انما هو في نفسه وذاته مع قطع النّظر عن عروض أي عنوان حسن عليه.

فإذا فرضنا ان إلجاء مؤمن في مورد يتوقف عليه لم يكن قبيحاً ، بل هو حسن يلزم العقل به ، وكذا حسن الصدق فانه ذاتي بمعنى الاقتضاء وانه صفة المؤمن كما في الكتاب العزيز ، ومع ذلك قد يعرض عليه عنوان ذو مفسدة موجب لاتصافه بالقبح كما إذا كان الصدق موجباً لقتل مؤمن أو ما شاكل ذلك ، فان مثله لا محالة يكون قبيحاً عقلا ومحرماً شرعاً ، فما لا ينفك عنه القبح ـ هو الظلم ـ حيث انه علة تامة له فيستحيل تحقق عنوان الظلم في مورد بدون اتصافه بالقبح ، كما ان حسن العدل ذاتي بهذا المعنى أي بمعنى العلة التامة فيستحيل انفكاكه عنه.

فالنتيجة أن قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بما انه ذاتي بمعنى الاقتضاء دون العلة التامة فلا مانع من تأخيره عن وقت الحاجة إذا اقتضته المصلحة الملزمة التي تكون أقوى من مفسدة التأخير أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره ولا يكون عندئذ قبيحاً.

٣٢١

وبكلمة أخرى ان حال تأخير البيان عن وقت الحاجة في محل الكلام كحال تأخيره في أصل الشريعة المقدسة حيث ان بيان الأحكام فيها كان على نحو التدريج واحداً بعد واحد لمصلحة التسهيل على الناس ، نظراً إلى أن بيانها دفعة واحدة عرفية يوجب المشقة عليهم وهي طبعاً توجب النفرة والاعراض عن الدين وعدم الرغبة إليه.

ومن الطبيعي ان هذا مفسدة تقتضي أن يكون بيانها على نحو التدريج ليرغب الناس إليه رغم ان متعلقاتها مشتملة على المصالح والمفاسد من الأول فتأخير البيان وتدريجيته انما هو لمصلحة تستدعي ذلك ـ وهي التسهيل على الناس ورغبتهم إلى الدين ـ ومن الواضح ان هذه المصلحة أقوى من مصلحة الواقع التي تفوت عن المكلف.

ومن هنا قد ورد في بعض الروايات ان أحكاماً بقيت عند صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف وهو عليه‌السلام بعد ظهوره ببين تلك الأحكام للناس ، ومن المعلوم ان هذا التأخير انما هو لمصلحة فيه أو لمفسدة في البيان وما نحن فيه كذلك حيث أنه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة عند اقتضاء المصلحة ذلك أو كان في تقديم البيان مفسدة ملزمة ولا يفرق في ذلك بين تأخيره عن وقت الحاجة في زمان قليل كساعة مثلا أو أزيد فانه إذا جاز تأخيره لمصلحة ساعة واحدة جاز كذلك سنين متطاولة ضرورة ان قبحه لو كان كقبح الظلم لم يجز تأخيره أبداً حتى في آن واحد لاستحالة صدور القبيح من المولى الحكيم.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي انه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كانت فيه مصلحة مقتضية لذلك أو كانت في تقديمه مفسدة مانعة عنه.

وعلى ضوء هذه النتيجة يتعين كون الخاصّ المتأخر الوارد بعد حضور

٣٢٢

وقت العمل بالعامّ مخصصاً لا ناسخاً ، وعليه فلا إشكال في تخصيص عمومات الكتاب والسنة الواردة في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمخصصات الواردة في عصر الأئمة الأطهار عليهم‌السلام حيث ان المصلحة تقتضي تأخيرها عن وقت الحاجة والعمل أو كانت في تقديمها مفسدة ملزمة تمنع عنه.

الصورة الرابعة ما إذا ورد العام بعد الخاصّ وقبل حضور وقت العمل به ففي هذه الصورة يتعين كون الخاصّ المتقدم مخصصاً للعام المتأخر حيث انه لا مقتضى للنسخ هنا أصلا وإلا لزم كون جعل الحكم لغواً محضاً وهو لا يمكن من المولى الحكيم على ما تقدم تفصيله.

الصورة الخامسة : ما إذا ورد العام بعد الخاصّ وبعد حضور وقت العمل به ففي هذه الصورة يقع الكلام في ان الخاصّ المتقدم مخصص للعام المتأخر أو ان العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم ، وتظهر الثمرة بينهما حيث أنه على الأول يكون الحكم المجعول في الشريعة المقدسة هو حكم الخاصّ دون العام ، وعلى الثاني ينتهي حكم الخاصّ بعد ورود العام فيكون الحكم المجعول في الشريعة المقدسة بعد وروده هو حكم العام.

ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ان الأظهر أن يكون الخاصّ مخصصاً وأفاد في وجه ذلك ان كثرة التخصيص في الأحكام الشرعية حتى اشتهر ما من عام إلا وقد خص وندرة النسخ فيها جداً أوجبتا كون ظهور الخاصّ في الدوام والاستمرار وان كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة أقوى من ظهور العام في العموم وان كان بالوضع ، وعليه فلا مناص من تقديمه عليه هذا.

وأورد عليه شيخنا الأنصاري (قده) بما ملخصه : ان دليل الحكم يستحيل أن يكون متكفلا لاستمرار ذلك الحكم ودوامه أيضا ، ضرورة ان استمرار الحكم في مرتبة متأخرة عن نفس الحكم فلا بد من فرض

٣٢٣

حاجة إليه.

وان شئت قلت : ان للصلاة إلى القبلة لوازم متعددة ، فانها تستلزم في بلدتنا هذه كون يمين المصلي في طرف الغرب ويساره في طرف الشرق وخلفه في طرف الشمال ، بل لها لوازم غير متناهية ، ومن الطبيعي كما أنه لا معنى لإطلاقها بالإضافة إليها كذلك لا معنى لتقييدها بها حيث انها قد أصبحت ضرورية التحقق عند تحقق الصلاة إلى القبلة ومعها لا محالة يكون كل من الإطلاق والتقييد بالإضافة إليها لغوا ، حيث أنهما لا يعقلان إلا في المورد القابل لكل منهما لا في مثل المقام ، فان تقييدها إلى القبلة يغني عن تقييدها بها كما هو الحال في كل من المتلازمين في الوجود الخارجي فان تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر حيث أنه لغو صرف بعد التقييد الأول ، كما ان الأمر بأحدهما يغني عن الأمر بالآخر حيث أنه لغو محض بعد الأمر الأول ، ولا يترتب عليه أي أثر فلو أمر المولى بالفعل المقيد بالقيام كالصلاة مثلا فبطبيعة الحال يغني هذا التقييد عن تقييده بعدم جميع أضداده كالقعود والركوع والسجود وما شاكل ذلك ، فان تقييده به بعد التقييد الأول لغو محض.

فالنتيجة : ان ما ذكرناه سار في جميع الأمور المتلازمة وجوداً سواء كانت من قبيل اللازم والملزوم أم كانت من قبيل المتلازمين لملزوم ثالث فان تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر ، كما ان الأمر يغني عن الأمر بالآخر. وعليه فلا معنى لإطلاق المأمور به بالإضافة إليه فان إطلاقه بحسب مقام الواقع والثبوت غير معقول ، لفرض تقييده به قهرا ، واما إطلاقه بحسب مقام الإثبات فانه لغو ، وكذلك تقييده به في هذا المقام ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان العدم النعتيّ ملازم للعدم المحمولي ، وعليه فتقييد موضوعي العام بعدم كونه متصفاً بعنوان الخاصّ

٣٢٤

أفراده العرضية يعني كلما ينطبق عليه عنوان الخمر في الخارج سواء أكان متخذاً من العنب أو التمر أو ما شاكل ذلك فالقضية تدل على حرمة شربه كذلك يدل عليه بالإضافة إلى افراده الطولية يعني بحسب الأزمان. لإطلاق المتعلق والموضوع وعدم تقييده بزمان خاص دون زمان ، مع كون المتكلم في مقام البيان.

وان شئت قلت : أن المتكلم كما يلاحظ الإطلاق والتقييد بالإضافة إلى الافراد العرضية وهذا يعني أنه تارة بقيد المتعلق بحصة خاصة منه ككونه متخذاً من العنب مثلا ، وأخرى لا يقيده بها فيلاحظه مطلقاً ومرفوضاً عنه القيود بشتى اشكالها فعندئذ لا مانع من التمسك بإطلاقه لإثبات الحكم لجميع ما ينطبق عليه كذلك يلاحظ الإطلاق والتقييد بالإضافة إلى الافراد الطولية يعني تارة يقيده بزمان خاص دون آخر ، وأخرى لا يقيده به فيلاحظه مطلقاً بالإضافة إلى جميع الأزمنة ، فعندئذ بطبيعة الحال يدل على دوام الحكم واستمراره من جهة الإطلاق ومقدمات الحكمة فيتمسك به في كل زمان يشك في ثبوت الحكم له ، فإذاً ما أفاده صاحب الكفاية (قده) من أن الخاصّ يدل على الدوام والاستمرار بالإطلاق ففي غاية الصحة والمتانة من هذه الناحية.

نعم يرد على ما أفاده (قده) من ان الخاصّ يتقدم على العام وان كانت دلالته على الدوام والاستمرار بالإطلاق ومقدمات الحكمة ودلالة العام على العموم بالوضع ، والسبب فيه هو انه لا يمكن الحكم بتقديم الخاصّ على العام في هذه الصورة حيث ان العام يصلح أن يكون بياناً على خلاف الخاصّ ، ومعه كيف تجري مقدمات الحكمة فيه.

وبكلمة أخرى : ان دلالة الخاصّ على الدوام والاستمرار تتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، ومن الطبيعي ان عموم العام بما أنه مستند

٣٢٥

إلى الوضع مانع عن جريانها ، فإذاً كيف يحكم بتقديم الخاصّ عليه ، وكثرة التخصيص وندرة النسخ فيما إذا دار الأمر بينهما لا توجبان إلا الظن بالتخصيص ولا أثر له أصلا ، على ان فيما نحن فيه لا يدور الأمر بينهما حيث ان الخاصّ هنا لا يصلح أن يكون مخصصاً للعام. فان صلاحيته للتخصيص تتوقف على جريان مقدمات الحكمة وهي غير جارية على الفرض ـ فعندئذ بطبيعة الحال يقدم العام على الخاصّ فيكون ناسخاً له ،

ولكن هذا الّذي ذكرناه انما يتم في الأحكام الصادرة من المولى العرفي ، فانه إذا صدر منه خاص ثم صدر عام بعد حضور وقت العمل به فلا محالة يكون العام مقدماً على الخاصّ إذا كان ظهوره في العموم مستنداً إلى الوضع وظهور الخاصّ في الدوام والاستمرار مستنداً إلى الإطلاق ومقدمات الحكمة.

وأما في الأحكام الشرعية الصادرة من المولى الحقيقي فهو غير تام ، والسبب في ذلك هو أن الأحكام الشرعية بأجمعها ثابتة في الشريعة الإسلامية المقدسة حيث انها هي ظرف ثبوتها فلا تقدم ولا تأخر بينها في هذا الظرف ، وانما التأخر والتقدم بينها في مرحلة البيان فقد يكون العام متأخراً عن الخاصّ في مقام البيان ، وقد يكون بالعكس ، مع أنه لا تقدم والتأخر بينهما بحسب الواقع.

وعلى هذا الضوء فالعام المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل بالخاص وان كان بيانه متأخراً عن بيان الخاصّ زماناً إلا انه يدل على ثبوت مضمونه في الشريعة المقدسة مقارناً لثبوت مضمون الخاصّ فلا تقدم ولا تأخر بينهما في مقام الثبوت والواقع.

ومن هنا تكشف العمومات الصادرة عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام عن ثبوتها من الأول لا من حين صدورها ، ولذا لو صلى أحد في الثوب

٣٢٦

النجس نسياناً ثم بعد مدة مثلا تذكر وسئل الإمام عليه‌السلام عن حكم صلاته فيه فأجاب عليه‌السلام بالإعادة فهل يتوهم أحد أنه عليه‌السلام في مقام بيان حكم صلاته بعد ذلك لا من الأول ،

فالنتيجة ان الروايات الصادرة من الأئمة الأطهار عليهم‌السلام من العمومات والخصوصات بأجمعها تكشف عن ثبوت مضامينها من الأول ، ولا إشكال في هذه الدلالة والكشف ، ومن هنا يصح نسبة حديث صادر عن الإمام المتأخر إلى الإمام المتقدم كما في الروايات.

ومن الطبيعي أنه لم تكن النسبة صحيحة ، فما فيها من انهم عليهم‌السلام جميعاً بمنزلة متكلم واحد انما هو ناظر إلى هذا المعنى يعني أن لسان جميعهم لسان حكاية الشرع.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي ان العام المتأخر زماناً عن الخاصّ انما هو زمان بيانه فحسب لا ثبوت مدلوله ، فانه مقارن للخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما بحسبه ، مثلا العام الصادر عن الصادق عليه‌السلام ، مقارن مع الخاصّ الصادر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والتأخير انما هو في بيانه.

وعليه فلا موجب لتوهم كونه ناسخاً للخاص ، بل لا مناص من جعل الخاصّ مخصصاً له. ومن هنا قلنا ان العام الصادر عن الصادق عليه‌السلام يصح نسبته إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومن المعلوم انه لو كان صادراً في زمانه عليه‌السلام لم تكن شبهة في كون الخاصّ مخصصاً له ، فكذا الحال فيما إذا كان صادراً في زمان الصادق عليه‌السلام بعد ما عرفت من أنه لا أثر للتقدم والتأخر من ناحية البيان وان الصادر في زمانه عليه‌السلام كالصادر في زمان الأمير عليه‌السلام أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن هنا يكون دليل المخصص كاشفاً عن تخصيص الحكم العام من الأول لا من

٣٢٧

حين صدوره وبيانه.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر نقطة الفرق بين الأحكام الشرعية والأحكام العرفية فان صدور الحكم من المولى العرفي لا يدل على ثبوته من الأول وانما يدل على ثبوته من حين صدوره فإذا افترضنا صدور خاص منه وبعد حضور وقت العمل به صدر منه عام فلا محالة يكون العام ظاهراً في نسخه للخاص ، وهذا بخلاف ما إذا صدر حكم المولى الحقيقي في زمان متأخر فانه يدل على ثبوته من الأول لا من حين صدوره والتأخير انما هو في بيانه لأجل مصلحة من المصالح أو لأجل مفسدة في تقديم بيانه ، ولأجل هذه النقطة تفترق الأحكام الشرعية عن الأحكام العرفية فيما تقدم من النسخ والتخصيص في بعض الموارد.

فالنتيجة في نهاية المطاف ان المتعين هو التخصيص في جميع الصور المتقدمة ولا مجال لتوهم النسخ في شيء منها.

(النسخ)

وهو في اللغة بمعنى الإزالة ومنه نسخت الشمس الظل وفي الاصطلاح هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه ، ولا يفرق فيه بين أن يكون حكماً تكليفياً أو وضعياً ، ومنه يظهر ان ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ووجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان وهكذا ليس من النسخ في شيء ، والوجه في ذلك هو انا قد ذكرنا غير مرة ان للحكم المجعول في الشريعة المقدسة مرتبتين :

الأولى : مرتبة الجعل وهي مرتبة ثبوت الحكم في عالم التشريع والإنشاء ، وقد ذكرنا في غير مورد ان الحكم في هذه المرتبة مجعول على

٣٢٨

نحو القضايا الحقيقية التي لا تتوقف على وجود موضوعها في الخارج ، فان قوام تلك القضايا انما هو بفرض وجود موضوعها فيه سواء أكان موجوداً حقيقة أم لم يكن ، مثلا قول الشارع (شرب الخمر حرام) ليس معناه ان هنا خمراً في الخارج وان هذا الخمر محكوم بالحرمة في الشريعة ، بل مرده هو ان الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة فيها سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن.

الثانية : مرتبة الفعلية وهي مرتبة ثبوت ذلك الحكم في الخارج بثبوت موضوعه فيه ، مثلا إذا تحقق الخمر في الخارج تحققت الحرمة المجعولة له في الشريعة المقدسة.

ومن الطبيعي ان هذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها خارجاً فلا يعقل انفكاكها عنه حيث ان نسبة الحكم إلى الموضوع من هذه الناحية نسبة المعلول إلى العلة التامة ، وعليه فإذا انقلب الخمر خلا فبطبيعة الحال ترتفع تلك الحرمة الفعلية الثابتة له في حال خمريته ، ضرورة انه لا يعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وإلا لزم الخلف.

وبعد ذلك نقول : ان ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شيء ولا كلام في إمكانه ووقوعه في الخارج ، وانما الكلام في إمكان ارتفاع الحكم عن موضوعه (المفروض وجوده) في عالم التشريع والجعل ، المعروف والمشهور بين المسلمين هو إمكان النسخ بالمعنى المتنازع فيه (رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والجعل) ، وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ واستندوا في ذلك إلى شبهة لا واقع موضوعي لها ، وحاصلها هو ان النسخ يستلزم أحد محذورين لا يمكن الالتزام بشيء منهما.

أما عدم حكمة الناسخ أو جهله بها وكلاهما مستحيل في حقه تعالى ،

٣٢٩

والسبب فيه ان تشريع الأحكام وجعلها منه سبحانه وتعالى لا محالة يكون على طبق الحكم والمصالح التي هي تقتضيه ، بداهة ان جعل الحكم جزافاً وبدون مصلحة ينافي حكمة الباري تعالى فلا يمكن صدوره منه.

وعلى هذا الضوء فرفع الحكم الثابت في الشريعة المقدسة لموضوعه لا يخلو من أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من جهة المصلحة وعلم الناسخ بها أو يكون من جهة البداء وكشف الخلاف كما يقع ذلك غالباً في الأحكام والقوانين العرفية ولا ثالث لهما ، والأول ينافي حكمة الحكيم المطلق فان مقتضى حكمته استحالة صدور الفعل منه جزافاً.

ومن المعلوم ان رفع الحكم مع بقاء مصلحته المقتضية لجعله أمر جزاف فيستحيل صدوره منه والثاني يستلزم الجهل منه تعالى وهو محال في حقه سبحانه.

فالنتيجة ان وقوع النسخ في الشريعة المقدسة بما أنه يستلزم المحال فهو محال لا محالة.

والجواب عنها ان الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة من قبل الحكيم تعالى على نوعين : (أحدهما) ما لا يراد منه البعث أو الزجر الحقيقيّين كالاحكام الصادرة لغرض الامتحان أو ما شاكله.

ومن الواضح أنه لا مانع من إثبات هذا النوع من الأحكام أولا ثم رفعه حيث ان كلا من الإثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة فلا يلزم من رفعه خلاف الحكمة ، لفرض ان حكمته ـ وهي الامتحان ـ قد حصلت في الخارج ومع حصولها فلا يعقل بقائه ، ولا كشف الخلاف المستحيل في حقه تعالى حيث لا واقع له غير هذا. (وثانيهما) ما يراد منه البعث أو الزجر الحقيقي يعني ان الحكم المجعول حكماً حقيقياً ومع ذلك لا مانع من نسخه بعد زمان ، والمراد من النسخ كما عرفت هو

٣٣٠

انتهاء الحكم بانتهاء أمده يعني ان المصلحة المقتضية لجعله تنتهي في ذلك الزمان فلا مصلحة له بعد ذلك.

وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم المجعول على طبقها بحسب مقام الثبوت مقيداً بذلك الزمان الخاصّ المعلوم عند الله تعالى المجهول عند الناس ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الّذي قيد به في الواقع وحلول أجله الواقعي الّذي أنيط به ، وليس المراد منه رفع الحكم الثابت في الواقع ونفس الأمر حتى يكون مستحيلا على الحكيم تعالى العالم بالواقعيات.

فالنتيجة ان النسخ بالمعنى الّذي ذكرناه أمر ممكن جزماً ولا يلزم منه شيء من المحذورين المتقدمين ، بيان ذلك أنه لا شبهة في دخل خصوصيات الأفعال في ملاكات الأحكام وانها تختلف باختلاف تلك الخصوصيات سواء أكانت تلك الخصوصيات زمانية أو مكانية أو نفس الزمان كأوقات الصلاة والصيام والحج وما شاكل ذلك ، فان دخلها في الأحكام المجعولة لهذه الأفعال مما لا يشك فيه عاقل فضلا عن فاضل فإذا كانت خصوصيات الزمان دخيلة في ملاكات الأحكام وانها تختلف باختلافها فلتكن دخيلة في استمرارها وعدمه أيضا ، ضرورة انه لا مانع من أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة في مدة معينة وفي قطعة خاصة من الزمان فلا يكون مشتملا عليها بعد انتهاء تلك المدة.

وعليه فبطبيعة الحال يكون جعل الحكم له من الحكيم المطلق العالم باشتماله كذلك محدوداً بأمد تلك المصلحة فلا يعقل جعله منه على نحو الإطلاق والدوام ، فإذاً لا محالة ينتهي الحكم بانتهاء تلك المدة حيث انها أمده.

وعلى الجملة فإذا أمكن أن يكون لليوم المعين أو الأسبوع المعين أو

٣٣١

أو الشهر المعين دخل في مصلحة الفعل وتأثير فيها أو في مفسدته أمكن دخل السنة المعينة أو السنين المعينة فيها أيضا ، فإذا كان الفعل مشتملا على مصلحة في سنين معينة لم يجعل له الحكم إلا في هذه السنين فحسب فيكون أجله وأمده انتهاء تلك السنين فإذا انتهت انتهى الحكم بانتهاء أمده وحلول أجله ، هذا بحسب مقام الإثبات فالدليل الدال عليه وان كان مطلقاً إلا أنه كما يمكن تقييد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل فكذلك يمكن تقييد إطلاقه من جهة الزمان أيضا بدليل منفصل حيث ان المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الإطلاق ، مع ان المراد الجدي هو الخاصّ أو المقيد والموقت بوقت خاص ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل ، فالنسخ في مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده وفي مقام الإثبات رفع الحكم الثابت لإطلاق دليله من حيث الزمان ولا يلزم منه خلاف الحكمة ولا كشف الخلاف المستحيل في حقه تعالى ، هذا بناء على وجهة نظر العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، وأما على وجهة نظر من يرى تبعية الأحكام لمصالح في أنفسها فالامر أيضا كذلك ، فان المصلحة الكامنة في نفس الحكم تارة تقتضي جعله على نحو الإطلاق والدوام في الواقع ، وتارة أخرى تقتضي جعله في زمان خاص ووقت مخصوص فلا محالة ينتهي بانتهاء ذلك الوقت (وهذا هو النسخ) وان كان الفعل باقياً على ما هو عليه في السابق أو فقل ان في إيجاب شيء تارة مصلحة في جميع الأزمنة ، وأخرى في زمان خاص دون غيره.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنه لا ينبغي الشك في إمكان النسخ بل وقوعه في الشريعة المقدسة على وجهة نظر كلا المذهبين كمسألة القبلة أو نحوها.

٣٣٢

(البداء)

قد التزم الشيعة بالبداء في التكوينيات وخالف في ذلك العامة وقالوا باستحالة البداء فيها لاستلزامه الجهل على الحكيم تعالى ، ومن هنا نسبتها إلى الشيعة ما هم براء منه وهو تجويز الجهل عليه تعالى باعتبار التزامهم بالبداء.

ولكن من الواضح انهم لم يحسنوا في الفهم ما هو مراد الشيعة من البداء ولم يتأملوا في كلماتهم حول هذا الموضوع وإلا لم ينسبوا إليهم هذا الافتراء الصريح والكذب البين ، وممن نسب ذلك إلى الشيعة الفخر الرازي في تفسيره الكبير عند تفسير قوله تعالى : «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» قال : قالت : الرافضة البداء جائز على الله تعالى وهو ان يعتقد شيئاً ثم يظهر له ان الأمر بخلاف ما اعتقده) وهذا كما ترى كذب صريح على الشيعة ، وكيف كان فلا يلزم من الالتزام بالبداء الجهل عليه تعالى كيف فان الشيعة ملتزمون به ، فمع ذلك يقولون باستحالة الجهل عليه سبحانه وتعالى.

وقد ورد في بعض الروايات ان من زعم ان الله عزوجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرءوا منه ، وفي بعضها الآخر فأما من قال بالله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد ، وقد اتفقت كلمة الشيعة الإمامية على ان الله تعالى لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق بشتى أنواعه بمقتضى الحكم العقل الفطري وطبقاً للكتاب والسنة.

بيان ذلك انه لا شبهة في أن العالم بشتى ألوانه واشكاله تحت قدرة

٣٣٣

الله تعالى وسلطانه المطلق وان وجود أي ممكن من الممكنات فيه منوط بمشيئته تعالى وأعمال قدرته فان شاء أوجده وان لم يشاء لم يوجده ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ان الله سبحانه عالم بالأشياء بشتى أنواعها وأشكالها منذ الأزل وان لها بجميع أشكالها تعييناً علمياً في علم الله الأزلي ويعبر عن هذا التعيين بتقدير الله مرة وبقضائه مرة أخرى.

ومن ناحية ثالثة ان علمه تعالى بالأشياء منذ الأزل لا يوجب سلب قدرة الله تعالى واختياره عنها ، ضرورة أن حقيقة العلم بشيء الكشف عنه على واقعه الموضوعي من دون أن يوجب حدوث شيء فيه فالعلم الأزلي بالأشياء هو كشفها لديه تعالى على واقعها من الإناطة بمشيئة الله واختياره فلا يزيد انكشاف الشيء على وقع ذلك الشيء ، وقد فصلنا الحديث من هذه الناحية في مبحث الجبر والتفويض بشكل موسع.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث هي أن معني تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها ان الأشياء بجميع ضروبها كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة الإلهية بها حسب اقتضاء الحكم والمصالح التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي.

ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان ما ذهب إليه اليهود من أن قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال ان تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه.

ومن هنا قالوا يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والإعطاء ووجه الظهور ما عرفت من ان قلم التقدير والقضاء لا يزاحم قدرة الله تعالى على الأشياء حين إيجادها حيث انه تعلق بها على واقعها الموضوعي من الإناطة بالمشيئة والاختيار فكيف ينافيها.

٣٣٤

ومن الغريب جداً انهم (لعنهم الله) التزموا بسلب القدرة عن الله ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد مع ان الملاك في كليهما واحد ـ وهو العلم الأزلي ـ فانه كما تعلق بأفعاله تعالى كذلك تعلق بأفعال العبيد.

فالنتيجة انهم التزموا بحفظ القدرة لأنفسهم وان قلم التقدير والقضاء لا ينافيها وسلب القدرة عن الله تعالى وان قلم التقدير والقضاء ينافيها ، وهذا كما ترى.

وبعد ذلك نقول : ان المستفاد من نصوص الباب ان القضاء الإلهي على ثلاثة أنواع.

الأول : قضائه تعالى الّذي لم يطلع عليه أحداً من خلقه حتى نهينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو العلم المخزون الّذي استأثر به لنفسه المعبر عنه باللوح المحفوظ تارة وبأم الكتاب تارة أخرى ، ولا ريب ان البداء يستحيل أن يقع فيه كيف يتصور فيه البداء وان الله سبحانه عالم بجميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء ، ومن هنا قد ورد في روايات كثيرة ان البداء انما ينشأ من هذا العلم لا انه يقع فيه.

منها : ما رواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محمد النوفلي ان الرضا عليه‌السلام قال لسليمان المروزي رويت عن أبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال (ان لله عزوجل علمين علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه الا هو من ذلك يكون البداء وعلماً علمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه).

ومنها : ما عن بصائر الدرجات بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال (ان لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبيائه ونحن نعلمه).

٣٣٥

الثاني : قضاء الله الّذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سوف يقع حتماً ولا شبهة في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء ، ضرورة ان الله تعالى لا يكذب نفسه ورسله وملائكته وأوليائه فلا فرق بينه وبين القسم الأول من هذه الناحية. نعم يفترق عنه من ناحية أخرى وهي ان هذا القسم لا ينشأ منه البداء دون القسم الأول.

وتدل على ذلك عدة روايات.

منها : قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدمة عن الصدوق ان علياً عليه‌السلام كان يقول «العلم علمان فعلم علمه الله ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فانه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء».

ومنها : ما روى العياشي عن الفضيل قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : (من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يطلع على ذلك أحداً ـ يعني الموقوفة ـ فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته ،

الثالث : قضاء الله الّذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج لا بنحو الحتم بل معلقاً على أن لا تتعلق مشيئة الله على خلافه ، وفي هذا القسم يقع البداء عنه بعالم المحو والإثبات وإليه أشار بقوله (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب لله الأمر من قبل ومن بعد) وقد دلت على ذلك عدة نصوص.

منها : ما في تفسير علي بن إبراهيم عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال (إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة

٣٣٦

إلى أسماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة فإذا أراد الله أن يقدم شيئاً أو يؤخره أو ينقص شيئاً أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثم أثبت الّذي أراده ، قلت وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب الله قال : نعم قلت فأي شيء يكون بعده قال سبحان الله ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى).

ومنها : ما في تفسيره أيضا عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن عليه‌السلام عند تفسير قوله تعالى : (فيها يفرق كل أمر حكيم أي يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك السنة وله فيه البداء والمشيئة يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء).

ومنها : ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انه قال (لو لا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية) «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» ومثله ما عن الصدوق في الآمال والتوحيد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومنها : ما في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : (كان علي بن الحسين عليهما‌السلام يقول لو لا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة فقلت أية آية قال قول الله يمحو الله إلخ.

ومنها : ما في قرب الإسناد عن البزنطي عن الرضا عليه‌السلام قال : قال أبو عبد الله وأبو جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي وعلي بن أبي طالب عليهم‌السلام (لو لا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة يمحو الله إلخ.

ومنها : ما عن العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول :

٣٣٧

(ان الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب وقال فكل أمر يريد الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه ان الله لا يبدو له من جهل).

ومنها ما رواه عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام سئل عن قول الله يمحو الله إلخ قال : (ان ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت فمن ذلك الّذي يرد الدعاء القضاء وذلك الدعاء مكتوب عليه الّذي يرد به القضاء حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئاً) ومنها غيرها من الروايات الدالة على ذلك.

فالنتيجة على ضوء هذه الروايات هي أن البداء يستحيل ان يقع في القسم الأول من القضاء المعبر عنه باللوح المحفوظ وبأم الكتاب والعلم المخزون عند الله ، بداهة أنه كيف يتصور البداء فيه وان الله سبحانه عالم بكنه جميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

نعم هذا العلم منشأ لوقوع البداء يعني أن انسداد باب هذا العلم لغيره تعالى حتى الأنبياء والأوصياء والملائكة أوجب وقوع البداء في بعض إخباراتهم ، وكذا الحال في القسم الثاني من القضاء نظراً إلى أن العقل يستقل باستحالة تكذيب الله تعالى نفسه أو أنبيائه.

وأما القسم الثالث فهو مورد لوقوع البداء ولا يلزم من الالتزام بالبداء فيه أي محذور كنسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى ولا ما ينافى عظمته وجلاله ولا الكذب حيث ان أخباره تعالى بهذا القضاء لنبيه أو وليه ليس على نحو الجزم والبت ، بل هو معلق بعدم مشيئته بخلافه ، فإذا تعلقت المشيئة على الخلاف لم يلزم الكذب ، فان ملاك صدق هذه

٣٣٨

القضية وكذبها انما هو بصدق الملازمة وكذبها ، والمفروض ان الملازمة صادقة وهي وقوعه لو لم تتعلق المشيئة الإلهية على خلافه.

مثلا أن الله تعالى يعلم بأن زيداً سوف يموت في الوقت الفلاني ويعلم بأن موته فيه معلق على عدم إعطائه الصدقة أو ما شاكلها ، ويعلم بأنه يعطي الصدقة فلا يموت فيه ، فهاهنا قضيتان شرطيتان ففي إحداهما : قد علق موته في الوقت الفلاني بعدم تصدقه أو نحوه ، وفي الأخرى قد علق عدم موته فيه على تصدقه أو نحوه.

ونتيجة ذلك ان المشيئة الإلهية في القضية الأولى قد تعلقت بموته إذا لم يتصدق ، وفي القضية الثانية قد تعلقت بعدم موته وبقائه حياً إذا تصدق.

ومن الواضح ان اخباره تعالى بالقضية الأولى ليس كذباً ، فان المناط في صدق القضية الشرطية وكذبها هو صدق الملازمة بين الجزاء والشرط وكذبها لا بصدق طرفيها ، بل لا يضر استحالة وقوع طرفيها في صدقها فعلمه تعالى بعدم وقوع الطرفين هنا لا يضر بصدق اخباره بالملازمة بينهما وكذا لا محذور في أخبار النبي أو الوصي بموته في هذا الوقت معلقاً يتعلق المشيئة الإلهية به ، فان جريان البداء فيه لا يوجب كون الخبر الّذي أخبر به المعصوم كاذباً لفرض ان المعصوم لم يخبر بوقوعه على سبيل الحتم والجزم ومن دون تعليق وانما أخبر به معلقاً على أن تتعلق المشيئة الإلهية به أو ان لا تتعلق بخلافه.

ومن الواضح ان صدق هذا الخبر وكذبه انما يدوران مدار صدق الملازمة بين هذين الطرفين وكذبها لا وقوعهما في الخارج وعدم وقوعهما فيه فالنتيجة في نهاية المطاف هي أنه لا مانع من الالتزام بوقوع البداء في بعض إخبارات المعصومين عليهم‌السلام في الأمور التكوينية ولا يلزم منه محذور لا بالإضافة

٣٣٩

إلى ذاته سبحانه وتعالى ولا بالإضافة إليهم عليهم‌السلام [١].

__________________

[١] ولو أغمضنا عن تلك الروايات وافترضنا أنه لم تكن في المسألة أية رواية من روايات الباب فما هو موقف العقل فيها الظاهر بل لا ريب في ان موقفه هو موقف الروايات الدالة على أن قضاء الله تعالى على ثلاثة أنواع والسبب في ذلك أن العقل يدرك على السبيل الحتم والجزم ان البشر مهما بلغ من الكمال ذروته كنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحيل أن يحيط بجميع ما في علم الله سبحانه وتعالى هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان جريان البداء ووقوعه في الخارج بنفسه دليل على ذلك حيث أنه يستحيل جريانه في علمه تعالى لاستلزامه الجهل بالواقع (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً).

وقد ثبت على ضوء الكتاب والسنة والعقل الفطري ان الله سبحانه عالم بجميع الكائنات بشتى أنواعها وأشكالها ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في السماء ولا في الأرض ، وكذا يستحيل جريانه في القضايا التي أخبر بوقوعها ملائكته ورسله على سبيل الحتم والجزم فان الله تعالى يستحيل أن يكذب نفسه أو ملائكته أو رسله.

وعليه فبطبيعة الحال يجري البداء في القضايا التي أخبر بوقوعها لهم معلقاً بتعلق مشيئته به أو بعدم تعلقها على خلافه المعبر عنه بعالم المحو والإثبات والنكتة في وقوعه فيها هو ان الله تعالى يعلم بعدم الوقوع من جهة علمه بعدم وقوع ما علق عليه في الخارج بعلمه المكنون والمخزون عنده لا يحيط به غيره أبداً.

وأما من أخبره تعالى بوقوعها على نحو التعليق فهو حيث لا يعلم بعدم وقوع المعلق عليه فيه فلأجل ذلك قد يظهر ويبدو خلاف ما أخبر به وهذا هو البداء بالمعنى الّذي تقول به الشيعة الإمامية ولا يستلزم كذب ذلك ـ

٣٤٠