محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

لما عرفت من ان دلالتها على العموم بعينها هي دلالتها على إطلاق المدخول وعدم أخذ خصوصية فيه ، ومن الطبيعي أنه لا يفرق فيه بين ان يكون مدخولها في نفسه من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف ، فان السعة انما تلاحظ بالإضافة إلى دائرة المدخول فلا فرق بين قولنا (أكرم كل رجل وقولنا (أكرم كل رجل عالم) فان تقييده بهذا القيد لا ينافي دلالته على العموم فان معنى دلالته عليه هو انها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة سواء أكانت دائرة المدخول سعة أو ضيقاً في مقابل القول بأن دلالته عليه تتوقف على إجراء المقدمات فيه ولو كانت دائرته ضيقاً وبما ان المدخول هو المقيد فهو لا محالة يدل على عمومه ولو لا ما ذكرناه من الدلالة على العموم لما أمكن التصريح به في مورد ما أبداً مع أنه واضح البطلان.

وأما النقطة الثالثة : فسيأتي الكلام فيها في مبحث المطلق والمقيد ان شاء الله تعالى :

نلخص نتائج هذا البحث في عدة نقاط : ١ ـ الظاهر ان العام في كلمات الأصوليين مستعمل في معناه اللغوي والعرفي ـ وهو الشمول. ٢ ـ ان الفرق بين العام والمطلق هو أن دلالة الأول على العموم بالوضع والثاني بالإطلاق ومقدمات الحكمة. ٣ ـ ما هو المنشأ. والموجب لتقسيم العام إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي ذكر صاحب الكفاية (قده) ان منشائه انما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم به ، ولكن عرفت نقده وانه ليس منشأ لذلك ، بل منشؤه ما ذكرناه آنفاً بشكل موسع.

٤ ـ ان العشرة وأمثالها من مراتب الاعداد ليست من ألفاظ العموم فان دلالتها بالإضافة إلى هذه العشرة وتلك بالإطلاق ، وبالإضافة إلى الآحاد التي تتركب منها العشرة ضمنية ، كما هو الحال في كل مركب بالإضافة إلى أجزائه على تفصيل تقدم. ٥ ـ لا شبهة في ان للعموم صيغ

١٦١

تخص به وتدل عليه بالوضع ، ولا موجب لدعوى انها موضوعة للخصوص باعتبار أنه القدر المتيقن أو أنه المناسب من جهة كثرة استعمال العام في الخاصّ على ما تقدم بشكل موسع. ٦ ـ ان دلالة العام على العموم كلفظة (كل) أو ما شاكلها لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة في مدخوله كما زعم صاحب الكفاية (قده) ، بل هو يدل بالوضع على إطلاق مدخوله وعدم أخذ خصوصية ما فيه.

(عدة مباحث)

المبحث الأول : اختلف الأصحاب في جواز التمسك بالعامّ بعد ورود التخصيص عليه على أقوال : بيان هذه الأقوال في ضمن ثلاثة بحوث تالية :

الأول : يفرض الكلام في الشبهة الحكمية يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في الحكم الشرعي ، كما إذا افترض ورود عام مثل (أكرم كل عالم) وورد مخصص عليه مثل (لا تكرم المرتكب للكبائر منهم) وشك في خروج المرتكب للصغائر عن حكم العام من ناحية أخرى لا من ناحية الشك في دخوله تحت عنوان المخصص للقطع بعدم دخوله فيه.

الثاني : يفرض الكلام في الشبهة المفهومية يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في مفهوم الخاصّ أي دورانه بين السعة والضيق كما إذا ورد (أكرم كل عالم) ثم ورد (لا تكرم الفساق منهم) وافترضنا ان مفهوم الفاسق مجمل يدور أمره بين السعة والضيق أي أنه عبارة عن خصوص مرتكب الكبائر أو الجامع بينه وبين مرتكب الصغائر ، والشك انما هو في شمول حكم العام لمرتكب الصغائر

١٦٢

ومنشؤه انما هو إجمال مفهوم الخاصّ وشموله له وأما في طرف العام فلا إجمال في مفهومه أصلا.

الثالث : يفرض الكلام في الشبهة المصداقية يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في الأمور الخارجية كما إذا دل دليل على وجوب (إكرام كل هاشمي) ودل دليل آخر على حرمة (إكرام الفاسق منهم) وشككنا في أن زيد الهاشمي هل هو فاسق أولا فيقع الكلام في إمكان التمسك بالعامّ بالإضافة إليه وعدم إمكانه.

أما الكلام في الأول فالظاهر ان عمدة الخلاف فيه انما يكون بين العامة حيث نسب إلى بعضهم عدم جواز التمسك بالعامّ مطلقاً ، ونسب إلى بعضهم الآخر التفصيل بين ما كان المخصص منفصلا وما كان متصلا فذهب إلى عدم جواز التمسك بالعامّ على الأول دون الثاني هذا.

والصحيح هو جواز التمسك به مطلقاً أي بلا فرق بين المخصص المتصل والمنفصل أما في الأول فهو واضح حيث أن دائرة العام كانت من الأول ضيقاً نظراً إلى أن المخصص المتصل يكون مانعاً عن ظهور العام في العموم من الابتداء ، بل يوجب استقرار ظهوره من الأول في الخاصّ.

وبكلمة أخرى أنه لا تخصيص في البين ، وإطلاقه مبني على المسامحة لما تقدم من أن أداة العموم كلفظة (كل) أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على عموم المدخول وشموله بماله من المعنى سواء أكان من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف فلا فرق بين قولنا (أكرم كل رجل وقولنا (أكرم كل رجل عادل) أو (كل رجل إلا الفساق منهم) فان لفظة (كل) في جميع هذه الأمثلة تستعمل في معناها ـ وهو عموم المدخول وشموله ـ غاية الأمر ان دائرة العموم فيها تختلف سعة وضيقاً كما هو الحال في سائر الموارد والمقامات ، ومن الطبيعي أنه لا صلة لذلك بدلالتها على العموم

١٦٣

أبداً. فالنتيجة ان إطلاق التخصيص في موارد التقييد بالمتصل في غير محله.

وأما الثاني ـ وهو ما كان المخصص منفصلا ـ فقد يقال ان التخصيص كاشف عن أن عموم العام غير مراد من الأول وإلا لزم الكذب فإذا انكشف ان العام لم يستعمل في العموم لم يكن حجة في الباقي لتعدد مراتبه «ومن المعلوم ان المعاني المجازية إذا تعددت فإرادة كل واحد منها معيناً تحتاج إلى قرينة ، وحيث لا قرينة على أن المراد منه تمام الباقي فبطبيعة الحال يصبح العام مجملا فلا يمكن التمسك به. وعلى الجملة ففي كل مورد كان المعنى المجازي متعدداً فإرادة أي واحد منه تحتاج إلى قرينتين : (إحداهما) قرينة صارفة (وثانيتهما) قرينة معينة ، وفي المقام وان كانت القرينة الصارفة موجودة ـ وهي المخصص إلا أن القرينة المعينة غير موجودة ، وبدونها لا محالة يكون اللفظ مجملا.

وقد أجاب عنه بوجوه : منها ما عن شيخنا الأستاذ (قده) وإليك نصه :

والتحقيق في المقام أن يقال : أنه قد ظهر مما ذكرناه ان الميزان في كون اللفظ حقيقة هو كونه مستعملا في معناه الموضوع له بحيث أن الملقى ـ في الخارج كأنه هو نفس ذلك المعنى البسيط العقلاني وهذا الميزان متحقق فيما إذا خصص العام كتحققه فيما إذا لم يخصص ، وذلك من جهة أن أداة العموم لا تستعمل إلا فيما وضعت له ، كما ان مدخولها لم يستعمل إلا فيما وضع له ، أما عدم استعمال المدخول إلا في نفس ما وضع له فلأنه لم يوضع إلا لنفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة ، ومن الواضح أنه لم يستعمل إلا فيها ، وإفادة التقييد بدال آخر كإفادة الإطلاق بمقدمات الحكمة لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر ففي موارد التخصيص بالمتصل قد استعمل اللفظ في معناه واستفيد قيده الدخيل في غرض المتكلم من دال آخر ، وأما في موارد

١٦٤

التخصيص بالمنفصل فالمذكور في الكلام وان كان منحصراً بنفس اللفظ الموضوع للطبيعة المهملة ، ولأجله كانت مقدمات الحكمة موجبة لظهوره في إرادة المطلق إلا أن الإتيان بالمقيد بعد ذلك يكون قرينة على أن المتكلم اقتصر حينما تكلم على بيان بعض مراده أما لأجل الغفلة عن ذكر القيد أو لمصلحة في ذلك ـ وعلى كل تقدير فاللفظ لم يستعمل إلا في معناه الموضوع له ، وأما عدم استعمال الأداة إلا فيما وضعت له فلأنها لا تستعمل أبداً إلا في معناها الموضوع له أعني به تعميم الحكم لجميع أفراد ما أريد من مدخولها غاية الأمر ان المراد من مدخولها ربما يكون أمراً وسيعاً وأخرى يكون أمراً ضيقاً ، وهذا لا يوجب فرقاً في ناحية الأداة أصلا.

فان قلت : انما ذكرته من عدم استلزام تخصيص العام كونه مجازاً لا في ناحية المدخول ، ولا في ناحية الأداة انما يتم في المخصصات الأنواعية فانها لا توجب الا تقييد مدخولها فلا يلزم مجاز في مواردها أصلا ، وأما التخصيصات الإفرادية فهي لا محالة تنافي استعمال الأداة في العموم فتوجب المجازية في ناحيتها. قلت ليس الأمر كذلك ، فان التخصيص الأفرادي أيضا لا يوجب إلا تقييد مدخول الأداة ، غاية الأمر أن قيد الطبيعة المهملة ربما يكون عنواناً كلياً كتقييد العالم بكونه عادلا أو بكونه غير فاسق ، وقد يكون عنواناً جزئياً كتقييده بكونه غير زيد مثلا ، وعلى كل حال فقد استعملت الأداة في معناها الموضوع له ، ولا فرق فيما ذكرناه من عدم استلزام التخصيص للتجوز بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية ، لأن الأداة في كل منهما لا تستعمل إلا في تعميم الحكم لجميع أفراد ما أريد من مدخولها ، وأما المدخول فهو أيضا لا يستعمل إلا في نفس الطبيعة اللا بشرط القابلة لكل تقييد ، وكون القضية خارجية أو حقيقية انما يستفاد من سياق الكلام ، ولا ربط له بمداليل الألفاظ نظير استفادة الأخبار

١٦٥

والإنشاء من هيئة الفعل الماضي على ما تقدم. وبالجملة أن أداة العموم لا تستعمل إلا فيما وضعت له سواء ورد تخصيص على العام أم لم يرد وسواء أكانت القضية حقيقية أم كانت خارجية فلا فرق بين موارد التخصيص وغيرها إلا ان التخصيص بالمتصل أو المنفصل يوجب تقييد مدخول الأداة ومن الظاهر أن التقييد لا يوجب كون ما يرد عليه القيد مستعملا في غير ما وضع له أصلا على ما سيجيء تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.

وأما توهم ان ـ التخصيص إذا كان راجعاً إلى تقييد مدخول أداة العموم ورافعاً لإطلاقه كان حال العام حال المطلق الشمولي في ان استفادة العموم منه تحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مورده ، وعليه فلا وجه لما تقدم سابقاً من تقدم العام على المطلق عند التعارض. وبالجملة ان شمول الحكم لكل فرد من أفراد العام إن كان مستنداً إلى الدلالة الوضعيّة كان التخصيص الكاشف عن عدم الشمول مستلزماً لكون العام مجازاً ، وان لم يكن الشمول المزبور مستنداً إلى الوضع ، بل كان مستفاداً من مقدمات الحكمة لم يكن موجب لتقدم العام على المطلق عند المعارضة ـ فهو مدفوع بما مر في بحث مقدمة الواجب من ان إحراز لحاظ الماهية مطلقة وان كان يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في كل من المطلق والعام إلا ان وجه تقدم العام على المطلق انما هو من جهة أن أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم بالإضافة إلى كل ما يمكن أن ينقسم إليه مدخولها ، وهذا بخلاف المطلق ، فان سراية الحكم فيه إلى الأقسام المتصورة له إنما هي من جهة حكم العقل بتساوي أفراد المطلق وحيث ما فرض هناك عام دل بمدلوله اللفظي على عدم تسوية افراد المطلق فهو يكون بياناً له ومانعاً من سراية الحكم الثابت له إلى تمام أفراده».

نلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط :

الأولى : ان تخصيص العام لا يوجب التجوز لا في أداة العموم ،

١٦٦

لا في مدخولها ، أما في الأولى فلأنها دائماً تستعمل في معناها الموضوع له وهو تعميم الحكم لجميع ما يراد من مدخولها أي سواء أكان ما يراد منه معنى وسيعاً أو ضيقاً ، وسواء أكان الدال على الضيق القرينة المتصلة أم كانت القرينة المنفصلة ، فانها في جميع هذه الحالات والفروض مستعملة في معناها الموضوع له بلا تفاوت أصلا ، وأما في الثاني فالامر واضح حيث ان المدخول كالرجل ونحوه وضع للدلالة علي الماهية المهملة التي لم تلحظ معها خصوصية من الخصوصيات منها الإطلاق والتقييد فهما كبقية الخصوصيات خارجان عن حريم المعنى ، فاللفظ لا يدل الا على معناه ، ولم يستعمل إلا فيه ، وإفادة التقييد انما هي بدال آخر ، كما ان إفادة الإطلاق بمقدمات الحكمة.

الثانية : أنه لا فرق فيما ذكرناه من أن تخصيص العام لا يوجب تجوزاً لا في ناحية الأداة ولا في ناحية المدخول بين كون المخصصات ذات عناوين نوعية وكونها ذات عناوين فردية ، ولا بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية ...

الثالثة : ان العام والمطلق يشتركان في نقطة ويفترقان في نقطة أخرى أما نقطة الاشتراك فهي ان إحراز إطلاق الماهية بجريان مقدمات الحكمة مشترك فيه بين العام والمطلق واما نقطة الافتراق فهي ان أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم إلى جميع ما يراد من مدخولها من الأقسام والأصناف وأما المطلق فان سراية الحكم فيه إلى جميع الأقسام المتصورة له تتوقف على مقدمة أخرى وهي حكم العقل بتساوي افراده في انطباقه عليها.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أما النقطة الأولى : فهي في غاية الصحة والمتانة حتى بناء على نظريتنا

١٦٧

من أن أداة العموم بنفسها متكفلة لإفادة العموم وعدم دخل خصوصية ما في حكم المولى وغرضه.

بيان ذلك ان الدلالات على ثلاثة أقسام :

الأول : الدلالة التصورية (الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ) وهي لا تتوقف على شيء ما عدا العلم بالوضع فهي تابعة له ، وليس لعدم القرينة دخل فيها ، فالعالم بوضع لفظ خاص لمعنى مخصوص ينتقل إليه من سماعه ولو افترضنا ان المتكلم نصب قرينة على عدم إرادته ، بل ولو افترضنا صدوره عن لافظ بلا شعور واختيار أو عن شيء آخر كاصطكاك حجر بحجر مثلا ، وقد ذكرنا في محله أن هذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع بل هي من جهة الأنس الحاصل من كثرة استعمال اللفظ في معناه أو غيره مما يوجب هذه الدلالة.

الثاني : الدلالة التفهمية ويعبر عنها بالدلالة التصديقية أيضا من جهة تصديق المخاطب المتكلم بأنه أراد تفهيم المعنى للغير ، وهي عبارة عن ظهور اللفظ في كون المتكلم به قاصداً لتفهيم معناه ، وهذه الدلالة تتوقف زائداً على العلم بالوضع على إحراز أن المتكلم في مقام التفهيم وانه لم ينصب قرينة متصلة في الكلام على الخلاف ولا ما يصلح للقرينية وإلا فلا دلالة له على الإرادة التفهمية ، وقد ذكرنا في أول الأصول بشكل موسع أن هذه الدلالة مستندة إلى الوضع. أما على ضوء نظريتنا في حقيقة الوضع حيث أنه عبارة عن التعهد والالتزام النفسانيّ فالاستناد إليه واضح ، ضرورة أنه لا معنى للتعهد والالتزام بكون اللفظ دالا على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار ، فان هذا أمر غير اختياري فلا معنى لكونه طرفاً للالتزام والتعهد ، حيث أنهما لا يتعلقان إلا بما هو تحت اختيار الإنسان وقدرته ، وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعيّة

١٦٨

بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته سواء أكانت الإرادة تفهمية محضة أم كانت جدية أيضا ، وتمام الكلام من هذه الناحية هناك وأما على ضوء نظرية القوم في هذا الباب فالأمر أيضا كذلك على ما ذكرناه هناك فالنتيجة أن هذه الدلالة هي الدلالة الوضعيّة.

الثالث : الدلالة التصديقية وهي دلالة اللفظ على أن الإرادة الجدية على طبق الإرادة الاستعمالية يعني أنهما متحدتان في الخارج ، وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء وتتوقف زائداً على ما مرّ على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف أيضا ، ومع وجودها لا يكون ظهور الكلام كاشفاً عن المراد الجدي ، فهذه القرينة إنما هي تمنع عن كشف هذا الظهور عن الواقع وحجيته لا عن أصله ، فان الشيء إذا تحقق لم ينقلب عما هو عليه والحاصل ان بناء العقلاء قد استقر على أن الإرادة التفهيمية مطابقة للإرادة الجدية ما لم تقم قرينة على الخلاف.

وبعد ذلك نقول : ان العام إذا ورد في كلام المتكلم من دون نصبه قرينة على عدم إرادة معناه الحقيقي ، فهو لا محالة يدل بالدلالة الوضعيّة على أن المتكلم به أراد تفهيم المخاطب لتمام معناه الموضوع له كما أنه يدل ببناء العقلاء على أن إرادته تفهيم المعنى إرادة جدية ناشئة عن كون الحكم المجعول على العام ثابتاً له واقعاً ، ولكن هذه الدلالة أي الدلالة الثانية كما تتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام الإفادة وعدم نصبه قرينة على اختصاص الحكم ببعض أفراد العام في نفس الكلام ، كذلك تتوقف على عدم إتيانه بقرينة تدل على الاختصاص بعد تمامية الكلام ومنفصلة عنه ، فان القرينة المنفصلة تكون مانعة عن كشف ظهور العام في كون الحكم المجعول له انما هو بنحو العموم في الواقع ونفس الأمر ، حيث انها تزاحم حجية ظهور العام في العموم التي هي ثابتة ببناء العقلاء وتعهدهم

١٦٩

ولا تزاحم أصل ظهوره في ذلك الّذي هو ثابت بمقتضى ما ذكرناه من التعهد والالتزام يعني ظهوره في الإرادة التفهمية وكشفه عنها ، وعليه فلا ملازمة بين رفع اليد عن حجية الظهور لدليل ورفع اليد عن أصله ، بداهة انه لا ملازمة بين كون المعنى مراداً للمتكلم في مقام التفهيم وكونه مراداً له في مقام الواقع والجد ، فإذا افترضنا أن المولى في الواقع لا يريد في مثل قوله (أكرم كل عالم) الا إكرام العالم العادل دون غيره ، ولكن لم يتمكن من تقييده بذلك في نفس الكلام أما لوجود مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره من ناحية ولم يتمكن من تأخير بيان الحكم في الواقعة إلى زمان يتمكن من تقييده من ناحية أخرى فبطبيعة الحال يلقى الكلام على نحو العموم ، ومن المعلوم أنه بمقتضى الوضع يدل على إرادة تفهيم المعنى العام فإذا جاء بعد ذلك بالمخصص المنفصل الدال على اختصاص الحكم بغير افراد الخاصّ في الواقع ، فانه لا محالة يكشف عن ان الداعي إلى إرادة تفهيم المعنى العام ليس هو الإرادة الجدية الناشئة من ثبوت المصلحة في جميع أفراد العام في نفس الأمر بل الداعي لها شيء آخر.

وعلى الجملة فاللفظ بمقتضى تعهد الواضع والتزامه بأنه متى ما أراد معنى خاصاً أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً يدل على إرادة تفهيم معناه إذا كان المتكلم في مقام بيان ذلك ولم يأت بقرينة متصلة في الكلام ، وأما إذا لم يكن في مقام بيان ذلك بل كان في مقام عدّ الجملات مثلا أو كان في مقام البيان ولكنه أتى بقرينة متصلة فيه ففي مثل ذلك على الأول لا تعهد له أصلا ، لا بالإضافة إلى إرادة تفهيم المعنى الحقيقي ، ولا بالإضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي. وعلى الثاني فله تعهد بالإضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي دون الحقيقي. واما دلالة اللفظ على إرادة المعنى عن جد فهي دلالة أخرى غير الدلالة الأولى حيث ان الأولى مستندة إلى الوضع دون

١٧٠

تلك ، فانها مستندة إلى تباني العقلاء وتعهدهم ، ومن هنا قد يشك في هذه الدلالة مع القطع بالدلالة الأولى ، وهذا يكشف عن انه لا ملازمة بين الدلالتين يعني ان هدم الدلالة الثانية بالقرينة لا يلازم هدم الدلالة الأولى والسر فيه ما عرفت من ان الدلالة الأولى مستندة إلى تعهد الواضع والدلالة الثانية مستندة إلى تعهد العقلاء ، ولذا لو ادعى المتكلم خلاف التعهد الأول أو الثاني لم يسمع منه ما لم ينصب قرينة على ذلك ، فان نصب قرينة متصلة فهي تدل على أنه أراد خلاف تعهد الواضع وان نصب قرينة منفصلة فهي تدل على أنه أراد خلاف تعهد العقلاء ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن ملاك الحقيقة هو كون استعمال اللفظ في المعنى على طبق مقتضى الوضع وملاك المجاز هو كون استعمال اللفظ في المعنى على خلاف مقتضاه من جهة قرينة تدل عليه ، وقد عرفت ان اللفظ بمقتضى الوضع انما يدل على إرادة تفهيم المعني فحسب دون أزيد من ذلك ، وهذه الدلالة دلالة حقيقية حيث انها استعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، وأما كون هذا المعنى مراداً بإرادة جدية أيضا فهو متوقف على عدم قرينة منفصلة والا فلا دلالة له على ذلك أصلا ، فالقرينة المنفصلة انما هي تمنع عن حجية الظهور وكشفه عن المراد الجدي والواقعي ، ولا تمنع عن ظهوره في إرادة تفهيمه الّذي هو مستند إلى الوضع ، وعليه فإذا ورد عام من المولى ثم ورد مخصص منفصل فهذا المخصص المنفصل انما يزاحم حجية ظهور العام في العموم ومانع عن كشفه عن الواقع ، دون أصل ظهوره «ضرورة ان ظهوره في ان المولى أراد تفهيم المعني العام باق على حاله ، والمفروض ان هذا الظهور كاشف عن ان المتكلم استعمل اللفظ في معناه الموضوع له.

فالنتيجة : ان إرادة المتكلم تفهيم المخاطب لمعنى اللفظ الموضوع له أمر ، وكون هذه الإرادة جدية وناشئة عن ثبوت الحكم لجميع أفراد

١٧١

المستعمل فيه أمر آخر ، والمفروض ان المخصص المنفصل انما يكون كاشفاً عن عدم ثبوت الحكم لجميع أفراد العام في الواقع ونفس الأمر ، لا عن كون استعمال العام استعمالا مجازياً ، ضرورة انك قد عرفت ملاك الاستعمال المجازي والاستعمال الحقيقي وانه لا صلة للمخصص المنفصل بهما أصلا ، لا وجوداً ، ولا عدماً.

قد يقال كما قيل : أن المخصص المنفصل إذا كان كاشفاً عن المراد الجدي وانه غير مطابق للمراد الاستعمالي ـ وهو العموم ـ فما هو فائدة التكلم بالعامّ واستعماله في العموم ، وما هو الأثر المترتب على عموم المراد الاستعمالي بعد ما لم يكن مراداً جداً وواقعاً : وفيه مضافاً إلى ان استعمال العام في العموم كما عرفت قد يكون مما لا بد منه نظراً إلى أن المتكلم قد لا يتمكن من التكلم بالخاص لأجل مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره أو تقية أو ما شاكل ذلك ان استعماله فيه انما هو ضرباً للقاعدة والقانون ، حيث أنه لا يجوز التعدي عنه والخروج عن مقتضاه إلا بقيام دليل على خلافه فهو حجة بهذا العنوان العام بالإضافة إلى جميع موارده وصغرياته إلا ما قام الدليل على خروجه عنه فنأخذ به ، وفي الزائد نرجع إلى عمومه قاعدة وقانوناً.

وأما النقطة الثانية : فالامر فيها أيضا كذلك يعني أنه لا فرق بين كون المخصص ذا عنوان نوعي أو فردي ، فعلى كلا التقديرين لا يوجب التجوز في ناحية العام.

وأما النقطة الثالثة : فيردّها ما تقدم منا بشكل موسع من أن أداة العموم بنفسها تدل على أن مدخولها ملحوظ مطلقاً أي بدون أخذ خصوصية ما فيه من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : وهي ان التخصيص في العام

١٧٢

لا يوجب تجوزاً فيه ، بل هو مستعمل في معناه الموضوع له مطلقاً وان لم يكن المستعمل فيه مراداً للمتكلم بالإرادة الجدية.

وعلى ضوء ما ذكرناه يظهر فساد ما أورده شيخنا الأستاذ (قده) على هذا الوجه ، وحاصله ان الإرادة الاستعمالية ان أريد بها إرادة إيجاد المعنى البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والإرادة مغفولين عنها حين الاستعمال باعتبار ان النّظر إليهما آلي فهذه بعينها هي الإرادة الجدية التي يتقوم بها استعمال اللفظ في المعنى. وان أريد بها الإرادة الهزلية في مقابل الإرادة الجدية فهي وان كانت لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له لوضوح ان الاستعمال الحقيقي لا يدور مدار كون الداعي إلى الاستعمال هو خصوص الإرادة الجدية إلا أنه لا يعقل الالتزام بكون الداعي إلى استعمال العمومات الواردة في الكتاب والسنة في معانيها هو الإرادة الهزلية وجه الظهور ما عرفت من أن الإرادة الاستعمالية وان كانت قد تتحد مع الإرادة الجدية إلا انها قد تفترق عنها فيكون المعنى مراداً استعمالياً ولم يكن مراداً عن جد ، ولا يلزم حينئذ أن تكون تلك الإرادة إرادة هزلية ، ضرورة أنه لا ملازمة بين عدم كون الإرادة جدية وكونها هزلية فان إرادة الاستعمال والتفهيم إرادة حقيقية وليست بهزلية وناشئة عن داع من الدواعي ولم يكن ذلك الداعي الإرادة الجدية ، وقد عرفت ما هو الداعي لهذه الإرادة وما هو الفائدة المترتبة عليها ، ومع هذا كيف تكون هزلية.

ومنها ما قيل من أن تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه لا مكان أن يراد العموم من العام المخصص إرادة تمهيدية ليكون ذكر العام توطئة لبيان مخصصه ، وحيث ان العموم لم يكن مراداً من اللفظ فبطبيعة الحال يكون اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي. وأورد عليه شيخنا الأستاذ (قدس‌سره) بما حاصله ان ذكر العام للدلالة على معناه الموضوع له دلالة

١٧٣

تصورية توطئة للدلالة التصديقية على المعنى المستفاد من مجموع الكلام بعد ضم بعضه إلى بعضه الآخر وان كان صحيحاً إلا انه لا ينطبق إلا في موارد التخصيص بالمتصل فتبقى موارد التخصيص بالمنفصل بلا دليل ، على ان التخصيص فيها لا يستلزم المجاز. وفيه ان ما أفاده (قده) خلاف ظاهر هذا الوجه ، فان الظاهر من إرادة العموم من العام إرادة تمهيدية هو ان العام قد استعمل فيه وأريد منه هذا المعني بإرادة المقومة للاستعمال يعني الإرادة التفهيمية ، والتعبير عنها بالإرادة التمهيدية نظراً إلى أن ذكر العام تمهيد وتوطئة لذكر مخصصه بعده ، وكيف كان فالظاهر ان مرد هذا الوجه إلى ما ذكرناه وليس وجهاً آخر في قباله.

ومنها ان العام انما يستعمل في العموم دائماً من باب جعل القانون والقاعدة في ظرف الشك فلا ينافيه ورود التخصيص عليه بعد ذلك. وأورد عليه شيخنا الأستاذ (قده) أيضا بأن ورود العام في بعض الموارد لبيان حكم الشك ضرباً للقاعدة وان كان مما لا ينكر كما في الاستصحاب وقاعدة الطهارة ونحوهما ، الا أن التخصيص في هذه الموارد قليل جداً حيث أن تقدم شيء عليها غالباً يكون بنحو الحكومة أو الورود وأما العمومات المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية من دون نظر إلى حال الشك وعدمه فلا يكون عمل أهل العرف بها حال الشك كاشفاً عن كونها واردة في مقام جعل القانون والقاعدة حيث أن عملهم بها حال الشك في ورود التخصيص عليها انما هو من باب العمل بالظهور الكاشف عن كون الظاهر مراداً واقعاً وعن ان المتكلم ألقى كلامه بياناً لما أراده في الواقع ، وعليه فلا يعقل كون هذه العمومات واردة لضرب القانون والقاعدة في ظرف الشك كما هو ظاهر. وفيه ان الظاهر من هذا الوجه ليس هو جعل الحكم على العام في ظرف الشك ليرد عليه ما أفاده شيخنا

١٧٤

الأستاذ (قده) ، بل الظاهر منه ان الداعي إلى استعمال العام في معناه الموضوع له قانوناً وقاعدة انما هو كون العام بياناً للمراد ما لم يكن هناك قرينة على التخصيص ففي كل مورد شك في التخصيص فيه فالمرجع هو عموم العام ، فالنتيجة أن هذا الوجه أيضا يرجع إلى ما ذكرناه فليس وجهاً على حده.

ومنها ما ذكره شيخنا الأنصاري (قده) من أن التخصيص لا يوجب إجمال العام على تقدير استلزامه المجاز ، ولا يمنع من التمسك به في غير ما خرج منه من الافراد أو الأصناف ، وقد أفاد في وجه ذلك ان المجاز فيه انما يلزم من ورود التخصيص عليه وخروج بعض أفراده أو أصنافه عنه ، لا من بقاء بقية الافراد أو الأصناف تحته ، ضرورة أنها داخله فيه سواء خصص العام به أم لا. وان شئت قلت ان المقتضي لبقاء البقية تحت العام موجود وهو عمومه وشموله لها من الأول ـ فالخروج يحتاج إلى دليل ، فإذا ورد مخصص على العام فقد خرج أفراده عن تحت العام لا محالة ، وأما خروج غيرها من الافراد أو الأصناف عن تحته فهو بلا مقتض وموجب ، حيث ان المقتضى للبقاء موجود فالخروج يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا ، وعليه فإذا شككنا في خروج مقدار زائد عما خرج عنه بدليل مخصص فالمرجع هو عموم العام بالإضافة إليه حيث أنه لا بد من الاقتصار على المقدار الّذي لتيقن بخروجه عنه دون الزائد عليه.

وبكلمة أخرى : ان دلالة العام على ثبوت الحكم لكل واحد من أفراد مدخوله ليست متوقفة على دلالته على ثبوت الحكم لغيره من الافراد جزماً فكما ان ثبوت الحكم لكل فرد غير منوط بثبوته لغيره من الافراد ، فكذلك دلالته على ثبوته لكل فرد غير منوط على دلالته على ثبوته لغيره

١٧٥

من الافراد. والسبب في ذلك واضح وهو أن المجعول في مقام الثبوت والواقع أحكام متعددة بعدد أفراد مدخوله (المحققة والمقدرة) فيكون كل فرد منها في الواقع محكوم بحكم مستقل بحيث لو خالف إياه استحق العفوية وان كان ممتثلا للحكم الثابت لغيره من الافراد واما في مقام الإثبات فدلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة في عرض واحد ، ونقصد به عدم توقف دلالة بعضها على بعضها الآخر ، ومن الطبيعي ان سقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لدليل خارجي لا يستلزم سقوط غيره من الدلالات عن الحجية ، بل هي باقية عليها ، لفرض أن هذه الدلالات دلالات عرضية لا ترتبط إحداها بغيرها فإذا سقطت إحداها عن الحجية بقيت الباقية عليها لا محالة لعدم الموجب لسقوطها ، وعليه فخروج افراد العام عن حكمه لا يوجب ارتفاع دلالته على ثبوت الحكم لبقية الافراد التي لا يعمها المخصص.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين المجاز اللازم فيما نحن فيه والمجاز المتحقق في غير المقام كقولنا (رأيت أسداً يرمي) فان المجاز اللازم هنا انما هو من ناحية خروج بعض ما كان داخلا في عموم العام حيث أنه يستلزم كونه مجازاً في الباقي ، وأما دخول الباقي فهو غير مستند إلى كون استعماله فيه مجازاً ، فانه داخل فيه من الأول يعني قبل التخصيص ، وعليه فالمجاز مستند إلى خروج ما كان داخلا فيه لا إلى دخول الباقي ، ونتيجة ذلك هي ان المعنى المجازي في المقام لا يكون مبايناً للمعنى الحقيقي ، فان الباقي قبل التخصيص داخل في المعنى الحقيقي وبعده صار معنى مجازياً ، وهذا بخلاف المعنى المجازي في مثل قولنا (رأيت أسداً يرمي) فانه مباين للمعنى الحقيقي ، وعلى ذلك فالمعنى المجازي وان كان متعدداً في المقام نظراً إلى تعدد مراتب الباقي تحت العام إلا أن المتعين بعد ورود التخصيص

١٧٦

عليه هو إرادة تمام الباقي دون غيره من المراتب ، لما عرفت من ان الخروج عن حكم العام يحتاج إلى دليل دون دخول الباقي ، فان المقتضى له موجود والمانع مفقود ، فإذاً لا يحتاج إرادته من بين غيره من المراتب إلى قرينة معينة ، وهذا بخلاف ما إذا كان المجاز متعدداً في غير المقام كالمثال المزبور ، فانه لا يمكن تعيين بعض منه بلا قرينة معينة ، مثلا إذا قامت القرينة الصارفة على ان المراد من الأسد ليس هو الحيوان المفترس ، ودار أمره بين أن يكون المراد منه الرّجل الشجاع أو صورته على الجدار مثلا أو غيرهما من المعاني المجازية له فبطبيعة الحال يحتاج تعيين كل واحد منها إلى قرينة معينة ، وبدونها فاللفظ مجمل فلا يدل على شيء منها ، وقد قرب شيخنا الأستاذ (قده) هذا الوجه بهذا التقريب وقال إنه على تقدير تسليم كون التخصيص مستلزما للمجاز فلا إجمال في العام أيضا وان المرجع في غير أفراد المخصص هو عموم العام.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لما ذكره في الكفاية من أن الدلالة لا بد لها من مقتض وهو أما الوضع أو القرينة ولا ثالث لهما ، أما الأول فهو مفقود على الفرض ، حيث ان العام لم يوضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام الباقي ، وانما وضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام أفراد مدخوله. واما القرينة فكذلك ، فان القرينة انما قامت على ان العام لم يستعمل في معناه الموضوع له ، ولا قرينة أخرى تدل على أنه استعمل في تمام الباقي ، فما ذكره (قده) من ان دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد غير منوطة بدلالته على ثبوته لغيره من الافراد وان كان متيناً جداً الا ان ذلك يحتاج إلى مقتض وهو وضع العام للدلالة على العموم ، فإذا افترضنا ان دلالته على العموم قد سقطت من ناحية التخصيص فلا مقتضى لدلالته على إرادة تمام الباقي ، لفرض ان دلالته عليها انما هي

١٧٧

من جهة دلالته على العموم لا مطلقاً ، وعلى الجملة فالمقتضي ـ وهو دلالته على العموم ـ قد سقط على الفرض ، ولا ظهور له بعد ذلك في إرادة تمام الباقي ، فانه يرتكز على أحد أمرين : الوضع أو القرينة المعينة ، وكلاهما مفقود كما عرفت ، فإذاً ما هو مقتضى لظهوره فيها ، فما في كلامه (قده) من أن المقتضى لدخول الباقي موجود والخروج يحتاج إلى دليل لا يرجع بالتأمل والتحليل إلى معنى صحيح على ضوء نظرية ان التخصيص يستلزم المجاز ، فان المقتضى ـ وهو عموم العام ـ قد سقط بالتخصيص فإذاً ما هو المقتضى لدخوله ، إذ من المحتمل أنه قد استعمل بعد التخصيص في بعض مراتب الباقي لا في تمامه ، فالتعيين يحتاج إلى قرينة.

نعم لو كانت دلالة العام على العموم عقلية أو كانت ذاتية لتم ما أفاده (قده) كما هو واضح ، ولكنه مجرد افتراض لا واقع موضوعي له فالنتيجة انه لا دافع للإشكال المزبور إلا على ضوء ما ذكرناه من أن التخصيص ولو كان بالمنفصل لا يوجب المجاز ، حيث ان العام بعد التخصيص أيضا استعمل في معناه الموضوع له ، وعليه فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) تبعاً لشيخنا العلامة الأنصاري (قده) من ان المقتضي بالإضافة إلى الباقي موجود والمانع مفقود تام ولا مناص عنه ، فان المقتضي ـ وهو ظهور العام في العموم المستند إلى الوضع ـ موجود والمخصص المنفصل انما يكون مزاحماً لحجيته في مقدار سعة مدلوله دون أصل ظهوره ، فإذاً لا مانع من التمسك به بالإضافة إلى الباقي كله ، كما ان ما أفاده (قده) من أن دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة بعدد افراده ، وهذه الدلالات دلالات عرضية لا يتوقف بعضها على بعضها الآخر فإذا سقطت إحداها عن الحجية لم تسقط غيرها انما يتم على ضوء ما عرفت من أن التخصيص لا يوجب المجاز ، إذاً على هذا الأساس فسقوط بعض هذه

١٧٨

الدلالات عن الحجية لا يوجب سقوط غيرها عنها ، والسر فيه هو ان موضوع الحجية انما هو الظهور الكاشف عن مراد المولى ، والمفروض انه متحقق في المقام ، والمخصص المنفصل انما يمنع عن حجية هذا الظهور وكاشفيته بالإضافة إلى مقدار سعة مدلوله دون الزائد عليه ، فبالنسبة إلى الزائد فالعام باق على ظهوره وكاشفيته عن الواقع ، لعدم المانع عنه على الفرض ، وبدون المانع لا موجب لسقوطه أصلا.

ومن ذلك يظهر نقطة الفرق بين هذه النظرية ونظرية المجاز وهي ان المخصص المنفصل على ضوء تلك النظرية يكون مانعاً عن ظهور العام في العموم ومزاحماً له لا عن حجيته فحسب دون أصل ظهوره كما هو كذلك على ضوء هذه النظرية ، وعليه فإذا افترضنا ان ظهوره في العموم قد سقط من جهة التخصيص فبطبيعة الحال لا تبقى له دلالة على العموم بالإضافة إلى الافراد الباقية يعني غير افراد المخصص ، ونظير ما ذكرناه هنا موجود في سائر الأمارات والحجج أيضا مثلا إذا افترضنا ان البينة قامت على ان الدار الفلانية والدار المتصلة بها التي هي واقعة في طرف شرقها والدار الأخرى التي هي واقعة في طرف غربها كلها لزيد ، ثم أقر زيد بأن الدار الواقعة في طرف الشرق ملك لعمرو فلا يكون هذا الإقرار مانعاً عن حجية البينة مطلقاً ، وانما يكون مانعاً بالإضافة إلى مورده فحسب ، والسبب فيه هو أن هذه البينة تنحل في الواقع إلى بينات متعددة فسقوط بعضها عن الحجية لمانع لا يوجب سقوط غيرها عنها ، لعدم موجب لذلك أصلا ، وأمثلة ذلك في الروايات كثيرة.

وأما الكلام في البحث الثاني ـ وهو ما يفرض الشك في التخصيص فيه من ناحية الشبهة المفهومية ـ فيقع في مقامين : (الأول) فيما إذا كان أمر المخصص المجمل مفهوماً دائراً بين الأقل والأكثر. (الثاني) فيما

١٧٩

إذا كان أمره دائراً بين المتباينين.

أما المقام الأول فتارة يكون المخصص المجمل متصلا ، وأخرى يكون منفصلا. وأما إذا كان متصلا فيما أنه مانع عن انعقاد ظهور العام في العموم من الأول حيث أنه لا ينعقد للكلام الملقى للإفادة والاستفادة ظهور عرفي في المعنى المقصود الا بعد فراغ المتكلم منه فبطبيعة الحال يسري إجماله إلى العام فيكون العام مجملا حقيقة يعني كما لا ينعقد له ظهور في العموم لا ينعقد له ظهور في الخصوص أيضا وان شئت قلت : ان اتصال المخصص بالعامّ مانع عن انعقاد ظهوره التصديقي في العموم فان لم يكن مجملا انعقد ظهوره في خصوص الخاصّ وأما إذا كان مجملا فهو كما يمنع عن انعقاد ظهوره التصديقي في العموم كذلك يمنع عن ظهوره التصديقي في خصوص الخاصّ أيضا كقولنا (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) إذا افترضنا ان مفهوم الفاسق مجمل ودار أمره بين فاعل الكبيرة فحسب أو الأعم منه ومن فاعل الصغيرة ففي مثل ذلك كما أن شمول الخاصّ لفاعل الصغيرة غير معلوم حيث لا يعلم بوضعه للجامع بينه وبين فاعل الكبيرة ، كذلك شمول العام له نظراً إلى إجماله وعدم انعقاد ظهور له أصلا فلا يعلم ان الخارج منه فاعلا : الكبيرة والصغيرة معاً أو خصوص فاعل الكبيرة ، وعليه فلا محالة يكون المرجع في فاعل الصغيرة الأصل العملي ، فان كان العام متكفلا لحكم الزاي والخاصّ متكفلا لحكم غير إلزاميّ أو بالعكس فالمرجع فيه أصالة البراءة ، وأما ان كان كل منهما متكفلا لحكم إلزاميّ فيدخل في دوران الأمر بين المحذورين حيث يدور أمره بين وجوب الإكرام وحرمته فهل المرجع فيه أصالة التخيير عقلا أو أصالة البراءة : الأظهر هو الثاني فيما إذا كانت الواقعة واحدة لا مطلقاً على تفصيل يأتي في محله.

وأما إذا كان المخصص المجمل منفصلا ودار أمره بين الأقل والأكثر

١٨٠