محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

الناقصة ، فإذاً يتعين القسم الثالث ـ وهو تقيده بالعدم النعتيّ ـ فإذا قيد الموضوع به فهو أغنانا عن تقييده بالعدم المحمولي حيث أنه يستلزم لغوية التقييد به فالنتيجة هي أنه لا مناص من تقييد موضوع العام بعد ورود التخصيص عليه بالعدم النعتيّ ، ومعه لا يمكن التمسك بالاستصحاب في العدم الأزلي.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قده) أولا ان النكتة التي ذكرها (قده) لاستلزام التخصيص تقييد موضوع حكم العام بالعدم النعتيّ لو تمت لم تختص بخصوص ما نحن فيه بل تجري في الموضوعات المركبة بشتى أنواعها حتى فيما إذا كان مركبا من جوهرين أو عرضين لمحل واحد أو محلين. والسبب فيه هو ان انقسام كل جزء من أجزاء الموضوع المركب بمقارنته للجزء الآخر زماناً أو مكاناً وعدمها بما أنه من الانقسامات الأولية والاعراض القائمة بالجوهر فلا بد من لحاظها في الواقع ، لاستحالة الإهمال فيه ، وعليه فبطبيعة الحال لا يخلو الأمر من ان يلحظ كل جزء مقيداً بالإضافة إلى الاتصاف بالمقارنة للجزء الآخر زماناً أو مكانا أو مقيداً بالإضافة إلى الاتصاف بعدم المقارنة له كذلك أو مطلقا لا هذا ولا ذاك ، ومن المعلوم ان الثاني والثالث كليهما غير معقول ، أما الثاني فلفرض ان تقييد جزء الموضوع يجزئه الآخر قد ثبت في الجملة ومعه كيف يعقل أخذه فيه متصفاً بعدم مقارنته له ، ضرورة أنه في طرف النقيض معه ، وكذا الحال في الثالث ، لوضوح أن فرض الإطلاق فيه بالإضافة إلى الاتصاف بالمقارنة وعدمه يستلزم التدافع بينه وبين التقييد المزبور ، فإذاً لا مناص من الالتزام بالأول ، ومن الطبيعي ان مع اعتبار التقييد بالاتصاف بالمقارنة بمفاد كان الناقصة يلزم لغوية تقييد كل جزء بنفس وجود الجزء الآخر بمفاد كان التامة.

٢٢١

والنكتة فيه ان مفاد كان الناقصة هو مفاد كان التامة مع اشتماله على خصوصية زائدة ـ وهي إضافته إلى موضوعه ومحله ـ وعليه فبطبيعة الحال إذا افترضنا تقييد جزء موضوع بالإضافة إلى جزئه الآخر بمفاد كان الناقصة لزم لغوية تقييده بالإضافة إليه بمفاد كان التامة. ويترتب على ذلك أنه لا يمكن إحراز الموضوع بجريان الأصل في نفس وجود أحد الجزءين مع إحراز الآخر بالوجدان الا على القول باعتبار الأصل المثبت. ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين :

الأول : ما إذا افترضنا ان الموضوع مركب من جوهرين كوجودي زيد وعمر مثلا ، فان وجود كل منهما بالإضافة إلى الآخر لا يخلو من من أن يكون ملحوظا مقيدا بالإضافة إلى الاتصاف بالمقارنة له أو مقيداً بالإضافة إلى الاتصاف بعدم المقارنة له أو مطلقا بالإضافة إلى كل منهما لاستحالة الإهمال في الواقع ، وحيث ان الشقي الثاني والثالث غير معقول فلا محالة يتعين الشق الأول ، ومعه يكون تقييده بوجود الجزء الآخر بمفاد كان التامة لغوا محضا كما عرفت ، وعليه فلا يمكن إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل.

الثاني : ما إذا افترضنا ان الموضوع مركب من عرضين في محلين كإسلام الوارث وموت المورث حيث ان موضوع الإرث مركب منهما ، وعليه فبطبيعة الحال أما ان يلحظ كل منهما بالإضافة إلى الآخر مقيداً باتصافه بالمقارنة له بمفاد كان الناقصة أو مقيداً باتصافه بعدم المقارنة له بمفاد ليس الناقصة أو مطلقاً بالإضافة إلى كل منهما ولا رابع لها ، وذلك لاستحالة الإهمال في الواقع ، وقد تقدم ان القسمي الأول والثاني يستلزمان التدافع والتناقض فلا يمكن الأخذ بشيء منهما ، وأما القسم الثالث فلا مناص من الأخذ به ، ومعه لا محالة يكون تقييد أحدهما بالآخر بمفاد

٢٢٢

كان التامة لغواً محضاً بعد ثبوت التقييد بينهما بمفاد كان الناقصة ، فإذاً لا يمكن إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل كما إذا كان الموت محرزاً بالوجدان وشك في بقاء إسلام الوارث فباستصحاب بقائه لا يثبت الاتصاف بالمقارنة الا على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

فالنتيجة ان لازم ما أفاده (قده) هو أنه لا يمكن إحراز الموضوعات المركبة بشتى أنواعها واشكالها بضم الوجدان إلى الأصل.

وثانيا حل ذلك بصورة عامة وهو ما ذكرناه في ضمن بعض البحوث السالفة من ان موضوع الحكم أو متعلقه بالإضافة إلى ما يلازمه وجوداً في الخارج لا مطلق ولا مقيد ولا مهمل ، أما الإطلاق فهو غير معقول حيث ان مرده إلى ان ما افترضناه من الموضوع أو المتعلق للحكم ليس موضوعا أو متعلقا له فان معنى إطلاقه بالإضافة إليه هو انه لا ملازمة بينهما وجوداً وخارجا وهو خلف ، واما التقييد فهو لغو محض نظراً إلى ان وجوده في الخارج ضروري عند وجود الموضوع أو المتعلق ، ومعه لا معنى لتقييده به وأما الإهمال فهو انما يتصور في مورد القابل لكل من الإطلاق والتقييد فان المولى الملتفت إليه لا يخلو من ان يلاحظ متعلق حكمه أو موضوعه بالإضافة إليه مطلقاً أو مقيدا ، لاستحالة الإهمال في الواقع ، وأما إذا لم يكن المورد قابلا لذلك كما فيما نحن فيه فلا موضوع للإهمال فيه.

وبكلمة أخرى ان الإطلاق والتقييد انما يتصوران في المحل القابل لهما يعني ما يمكن لحاظ الموضوع أو المتعلق بالإضافة إليه مطلقاً تارة ومقيداً أخرى كالقبلة مثلا بالنسبة إلى الصلاة حيث يمكن لحاظ الصلاة مطلقة بالإضافة إليها ويمكن لحاظها مقيدة بها ولكن بعد تقييد الصلاة بها كما امتنع إطلاقها بالإضافة إليها كذلك امتنع تقييدها بعدم كونها إلى دبر القبلة فان هذا التقييد أصبح ضروريا بعد تقييد الأول يعني ان التقييد الأول يغني عنه ويلازمه وجوداً بلا

٢٢٣

حاجة إليه.

وان شئت قلت : ان للصلاة إلى القبلة لوازم متعددة ، فانها تستلزم في بلدتنا هذه كون يمين المصلي في طرف الغرب ويساره في طرف الشرق وخلفه في طرف الشمال ، بل لها لوازم غير متناهية ، ومن الطبيعي كما أنه لا معنى لإطلاقها بالإضافة إليها كذلك لا معنى لتقييدها بها حيث انها قد أصبحت ضرورية التحقق عند تحقق الصلاة إلى القبلة ومعها لا محالة يكون كل من الإطلاق والتقييد بالإضافة إليها لغوا ، حيث أنهما لا يعقلان إلا في المورد القابل لكل منهما لا في مثل المقام ، فان تقييدها إلى القبلة يغني عن تقييدها بها كما هو الحال في كل من المتلازمين في الوجود الخارجي فان تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر حيث أنه لغو صرف بعد التقييد الأول ، كما ان الأمر بأحدهما يغني عن الأمر بالآخر حيث أنه لغو محض بعد الأمر الأول ، ولا يترتب عليه أي أثر فلو أمر المولى بالفعل المقيد بالقيام كالصلاة مثلا فبطبيعة الحال يغني هذا التقييد عن تقييده بعدم جميع أضداده كالقعود والركوع والسجود وما شاكل ذلك ، فان تقييده به بعد التقييد الأول لغو محض.

فالنتيجة : ان ما ذكرناه سار في جميع الأمور المتلازمة وجوداً سواء أكانت من قبيل اللازم والملزوم أم كانت من قبيل المتلازمين لملزوم ثالث فان تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر ، كما ان الأمر يغني عن الأمر بالآخر. وعليه فلا معنى لإطلاق المأمور به بالإضافة إليه فان إطلاقه بحسب مقام الواقع والثبوت غير معقول ، لفرض تقييده به قهرا ، واما إطلاقه بحسب مقام الإثبات فانه لغو ، وكذلك تقييده به في هذا المقام ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان العدم النعتيّ ملازم للعدم المحمولي ، وعليه فتقييد موضوعي العام بعدم كونه متصفاً بعنوان الخاصّ

٢٢٤

كالقرشية مثلا لا يبقى مجال لتقييده باتصافه بعدم ذلك العنوان الخاصّ ولا لإطلاقه بالإضافة إليه ، فكما أن تقييد المرأة مثلا باتصافها بعدم القرشية يغني عن تقييدها بعدم اتصافها بالقرشية ، كذلك التقييد بعدم اتصافها بالقرشية يغني عن التقييد باتصافها بعدم القرشية ، ضرورة انه مع وجود المرأة في الخارج كان كل من الأمرين المزبورين ملازماً لوجود الآخر لا محالة فلا يبقى مع التقييد بأحدهما مجال للإطلاق والتقييد بالإضافة إلى الآخر أصلا.

وعلى الجملة فحيث ان العدم النعتيّ والعدم المحمولي متلازمان في الخارج ولا ينفك أحدهما عن الآخر فبطبيعة الحال إذا قيد الموضوع أو المتعلق بأحدهما لم يبق مجال للتقييد أو الإطلاق بالإضافة إلى الآخر. نعم انما تظهر الثمرة بين التقييد بالعدم المحمولي والتقييد بالعدم النعتيّ في صحة جريان الأصل وعدمها فعلى الأول لا مانع من جريان الأصل في نفس العدم وإحراز تمام الموضوع بضمه إلى الوجدان كما هو الحال في بقية موارد تركب الموضوع من جزءين أو أكثر وعلى الثاني فلا يمكن إحراز الموضوع بجريان الأصل في نفس العدم بمفاد ليس التامة إلا على القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي ان أخذ كل من العدم المحمولي والعدم النعتيّ في الموضوع أو المتعلق يغني عن أخذ الآخر فيه بحسب مقام الثبوت والواقع فلا مجال للإطلاق أو التقييد بالإضافة إليه أصلا ، نعم في ظرف الشك فيه تظهر النتيجة بينهما في جريان الأصل وعدمه نظراً إلى ان المأخوذ في الموضوع أو المتعلق إذا كان العدم المحمولي أمكن إحرازه بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، وأما إذا كان المأخوذ فيه العدم النعتيّ فلا يمكن إحرازه

٢٢٥

بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إلا على القول بالأصل المثبت. نعم لو كانت حالة سابقة لنفس ذلك العدم جرى الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يلتئم الموضوع المركب.

ومن هنا يظهر الفرق بين ما إذا كان المأخوذ في الموضوع أو المتعلق الوجود المحمولي وما إذا كان المأخوذ فيه الوجود النعتيّ ، فعلى الأول إذا شك في بقائه فلا مانع من جريان الأصل فيه وبه يحرز الموضوع أو المتعلق إذا كان جزؤه الآخر محرزاً بالوجدان ، كما إذا افترضنا ان الصلاة مقيدة بالطهارة بمفاد كان التامة فعندئذ إذا شك في بقائها فلا مانع من استصحاب بقائها وبه يحرز ان المكلف قد صلى في زمان كان واجداً للطهارة في ذلك الزمان ، أما الصلاة فيه فهي محرزة بالوجدان واما الطهارة فهي محرزة بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب ، وعلى الثاني إذا شك في بقائه لم يمكن إحرازه بجريان الأصل فيه الا على أساس أحد أمرين : اما القول باعتبار الأصل المثبت أو يكون لنفس هذا الوجود حالة سابقة ، ومثاله هو ما إذا افترضنا أن المأخوذ في الصلاة هو عنوان اقترانها بالطهارة واجتماعها معها وعليه فلا يمكن إحراز هذا العنوان باستصحاب بقاء الطهارة إلا على القول بحجية الأصل المثبت أو فيما إذا كانت حالة سابقة لنفس هذا العنوان.

وعلى ضوء هذه النتيجة يقع الكلام في ان التخصيص هل يوجب تعنون موضوع العام بعدم اتصافه بعنوان المخصص بمفاد ليس التامة أو يوجب تعنونه باتصافه بعدم ذلك العنوان بمفاد ليس الناقصة ، قد اختار شيخنا الأستاذ (قده) الثاني : والصحيح هو الأول فلنا دعويان.

الأولى ، بطلان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده).

الثانية : صحة ما اخترناه.

٢٢٦

اما الدعوى الأولى : لأن التخصيص ـ لا يقتضي تقييد موضوع العام بكونه متصفاً بعدم عنوان المخصص ليترتب عليه تركب الموضوع من العرض ـ وهو العدم النعتيّ ـ ومحله فان غاية ما يترتب عليه فيما إذا كان المخصص عنوانا وجودياً هو تقييد موضوع العام بعدم كونه متصفاً بذلك العنوان الوجوديّ ، بيان ذلك : أنه قد حقق في محله ان وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ويستحيل أن يتحقق بدون وجود موضوع محقق في الخارج حيث ان حقيقة وجود العرض حقيقة متقومة بالموضوع الموجود خارجا في مقابل وجود الجوهر حيث انه في ذاته غني عن الموضوع وقائم بذاته ، ولذا قيل في تعريف الجوهر بأنه ماهية إذا وجدت وجدت في نفسه في قبال تعريف العرض بأنه ماهية إذا وجدت وجدت في غيره يعني متقوماً بغيره ، ومن هنا يكون وجوده المحمولي عين وجوده النعتيّ يعني أن في الخارج وجوداً واحداً والاختلاف بينهما انما هو في الإضافة باعتبار إضافته إلى نفسه محمولي ، وباعتبار إضافته إلى موضوعه نعتي.

وعلى هذا فان كان الموضوع مركباً من جوهرين أو عرضين في محل واحد أو في محلين أو عرض مع غير محله وموضوعه ففي جميع ذلك يكون العرض مأخوذاً في الموضوع بوجوده المحمولي وبمفاد كان التامة ، فان أخذه بمفاد كان الناقصة في هذه الموارد يحتاج إلى عناية زائدة والا فالقضية في نفسها وبطبعها لا تقتضي أزيد من أخذه بمفاد كان التامة ، وأما إذا كان مركباً من العرض ومحله الخاصّ كالكرية المأخوذة في الماء والعدالة المأخوذة في زيد مثلا وهكذا ففي مثل ذلك لا محالة يكون المأخوذ فيه العرض بوجوده النعتيّ ، ضرورة ان الحكم انما يترتب على خصوص وجوده في ذلك المحل الخاصّ والموضوع المخصوص ، ومن المعلوم أنه بعينه وجود نعتي لما عرفت آنفاً ان وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه فوجود

٢٢٧

الكرية في ماء هو بعينه ثبوت الكرية له الّذي يعبر عنه باتصافه بالكرية وما هو مفاد كان الناقصة ، وكذا وجود العدالة في زيد مثلا هو بنفسه ثبوت العدالة له المعبر عنه باتصاف زيد بالعدالة الّذي هو مفاد كان الناقصة فعلى الأول لا مانع من إحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، وعلى الثاني لا يمكن ذلك ، فان استصحاب وجود العدالة بمفاد كان التامة لا يثبت اتصاف زيد بها ، وكذا استصحاب وجود الكرية كذلك لا يثبت اتصاف الماء بها الا إذا كانت لهذا الاتصاف حالة سابقة ، وأما في غير هذه الصورة فلا محال لجريان الاستصحاب وترتب آثار الوجود النعتيّ الا على القول باعتبار الأصل المثبت فالأثر المترتب على كرية ماء في الخارج أو عدالة زيد مثلا انما يترتب عليها بضم الوجدان إلى الأصل فيما إذا علم باتصاف الماء بالكرية أو اتصاف زيد بالعدالة ليستصحب بقائه عند الشك فيه ، واما مع عدم العلم بهذا الاتصاف فلا يمكن إحراز كريته أو عدالته باستصحاب وجود طبيعي الكرية أو العدالة بمفاد كان التامة ولو مع العلم بالملازمة بين وجودها في الخارج واتصافه بها حيث انه من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

فالنتيجة ان الموضوع إذا كان مركباً من العرض ومحله فلا محالة يكون المأخوذ فيه هو وجود العرض بمفاد كان الناقصة ، حيث ان ثبوته لموضوعه بعينه هو اتصافه به كما عرفت. واما إذا كان مركباً من عدم العرض ومحله فلا يلزم أن يكون العدم مأخوذاً فيه بمفاد ليس الناقصة حتى لا يمكن إحرازه بالأصل ، بل الظاهر هو انه مأخوذ فيه بمفاد ليس التامة ، والسبب في ذلك يرجع إلى الفرق بين وجود العرض وعدمه حيث ان العرض في وجوده يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج لا في عدمه فانه لا يحتاج إلى موضوع كذلك ، بداهة ان نقطة الافتقار إلى وجود

٢٢٨

الموضوع في عالم العين انما تكون من لوازم وجود العرض دون عدمه فكرية الماء مثلا وان كانت بحيث إذا تحققت في الخارج كانت لا محالة في الموضوع الا ان عدم كريته ليس كذلك ، بل هو أمر أزلي كان متحققا قبل تحقق موضوعه ، فإذا تحقق ماء في الخارج ولم يكن متصفاً بالكرية كان عدم كريته الّذي يعبر عنه بعدم اتصافه بالكرية باقياً على ما كان عليه في الأزل ، وكذا عدم عدالة زيد مثلا ، فان عدالته وان كانت بحيث إذا تحققت في الخارج كانت في الموضوع لا محالة الا ان عدم عدالته ليس كذلك ، بل هو ثابت من الأزل سواء أكان موضوعها موجوداً أم لا ، فإذا وجد زيد في الخارج ولم يكن متصفاً بالعدالة فبطبيعة الحال كان عدم عدالته المعبر عنه بعدم اتصافه بالعدالة باقياً على ما كان عليه في الأزل نعم قد يؤخذ في موضوع الحكم اتصافه بعدم شيء على نحو الموجبة المعدولة الا ان هذا الاعتبار يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة ، حيث ان صرف عدم شيء بما هو هو لم تؤخذ فيه أية خصوصية من الخصوصيات : منها كونه صفة ونعتاً لموضوع موجود في الخارج ، ضرورة أنه بطلان محض فلا بد في أخذه نعتاً لموضوع محقق فيه من اعتبار خصوصية في ذلك لموضوع الملازمة لأخذ العدم كذلك وتلك الخصوصية هي إضافته إليه ، ومن المعلوم انها خصوصية زائدة على أصل العدم وذاته.

واما على تقدير تحقق هذا الاعتبار وأخذ العدم في الموضوع كذلك فلا يجري الاستصحاب في مورده لإحراز تمام الموضوع إذا كان جزءه الآخر محرزاً بالوجدان الا إذا كان لاتصاف الموضوع به حالة سابقة ، فعندئذ لا مانع من جريان استصحاب بقائه ، وبضم الوجدان إليه يحرز الموضوع بكلا جزئيه ،

واما إذا لم تكن حالة سابقة له فلا يجري الاستصحاب فيه ، ولا

٢٢٩

يكفي في صحة جريانه العلم بعدم اتصافه أي اتصاف الموضوع بوجود ذلك الوصف قبل ذلك ، فانه وان كان يوجب صحة جريانه في عدم الاتصاف بالوصف الوجوديّ بمفاد ليس التامة ، ضرورة انه لا مانع منه في نفسه الا انه لا يجدي في إحراز موضوع الحكم في محل الفرض ، لأن المفروض ان العدم المأخوذ فيه انما هو بمفاد ليس الناقصة والعدم النعتيّ دون العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة ، ومن المعلوم ان استصحاب العدم المحمولي وما هو بمفاد ليس التامة لا يثبت العدم النعتيّ وما هو بمفاد ليس الناقصة الّذي له خصوصية وجودية زائدة ـ وهي خصوصية إضافته إلى الموضوع الموجود في الخارج ـ إلا على القول باعتبار الأصل المثبت ولا تقول به ،

فالنتيجة لحد الآن هي ان أخذ العدم النعتيّ في موضوع الحكم يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة دون العدم المحمولي.

وعلى ضوء هذه النتيجة فالظاهر ان عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع حكم العام بعد ورود التخصيص عليه هو العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة دون العدم النعتيّ وما هو مفاد ليس الناقصة فان أخذه فيه يحتاج إلى عناية ونصب قرينة والا فالقضية ظاهرة في ان المأخوذ هو الأول دون الثاني مثلا الظاهر في مثل قضية (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) هو تقييد موضوعها بعدم الاتصاف بالفسق لا بالاتصاف بعدمه.

وعلى الجملة إذا أخذ وجود عرض في محله موضوعاً لحكم شرعي فهو وان كان لا بد من كونه مأخوذاً فيه على وجه النعتية والصفتية وما هو مفاد كان الناقصة الا ان ذلك لا يستدعي أخذ عدم ذلك العرض نعتاً في موضوع عدم ذلك الحكم وارتفاعه ، لوضوح ان الحكم الثابت للموضوع المقيد بما هو مفاد كان الناقصة انما يرتفع عند عدم اتصافه بذلك القيد على نحو السالبة المحصلة من دون أن يتوقف ذلك على اتصاف الموضوع بعدم ذلك

٢٣٠

القيد على نحو مفاد ليس الناقصة ، وعليه فمفاد قضية (المرأة تحيض إلى خمسين الا القرشية) وان كان هو اعتبار صفة القرشية على وجه النعتية في موضوع الحكم الخاصّ ـ وهو الحكم بتحيض المرأة القرشية بعد الخمسين ـ الا ان من الواضح أنه لا يستدعي أخذ عدم القرشية في موضوع عدم الحكم بتحيض المرأة بعد الخمسين على وجه النعتية أي مفاد ليس الناقصة ، وانما يستدعي أخذه في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصلة أعني به مفاد ليس التامة فكل امرأة لا تكون متصفة بالقرشية باقية تحت العام بعد خروج خصوص المرأة المتصفة بها الا ان الباقي تحته المرأة المتصفة بعدمها أي بعدم القرشية.

والنكتة في ذلك ما عرفت من أن أخذ العدم النعتيّ في موضوع الحكم يحتاج إلى مئونة وعناية زائدة في مقام الثبوت والإثبات دون أخذ العدم المحمولي فقضية (أكرم العلماء الا الفساق منهم) في نفسها ظاهرة في ان المأخوذ في موضوعها هو العدم المحمولي ، فان دلالتها على ان المأخوذ فيه هو العدم النعتيّ تحتاج إلى رعاية نصب قرينة لكي تدل على اعتبار خصوصية زائدة على أخذ نفس العدم فيه كما ان أخذه في مقام الثبوت يحتاج إلى لحاظ عناية زائدة.

وعلى ذلك فإذا شك في كون المرأة الفلانية قرشية من جهة الشبهة الموضوعية دون الحكمية فلا مانع من التمسك باستصحاب عدمها الثابت لها قبل وجودها في عالم التكوين حيث ان في زمان لم تكن المرأة موجودة ولا اتصافها بالقرشية ثم وجدت المرأة في الخارج وشك في ان اتصافها بالقرشية هل وجد أيضاً فلا مانع فيه من استصحاب عدم اتصافها بها وانه لم يوجد وبذلك يثبت موضوع العام ، فان كونها مرأة محرزة بالوجدان وعدم اتصافها بالقرشية بالاستصحاب ، وبضمه إلى الوجدان يحرز

٢٣١

الموضوع بكلا جزئيه ويترتب عليه أثره ـ وهو انها تحيض إلى خمسين ـ ولا تحيض إلى ستين.

فالنتيجة في نهاية المطاف هي ان دعوى استلزام التخصيص بعنوان وجودي أخذ عدم ذلك العنوان في طرف العام على وجه الصفتية والنعتية كما أصر على ذلك شيخنا الأستاذ (قده) ، ولأجل ذلك منع عن جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلا حيث قد عرفت بشكل موسع ان التخصيص بعنوان وجودي سواء أكان بالاستثناء أو بمخصص منفصل انما يستلزم تقييد موضوع العام بعدم ذلك العنوان الوجوديّ بمفاد ليس التامة نظراً إلى أن أخذ عدم عرض ما في موضوع الحكم بطبعه لا يقتضي إلا أخذه كذلك ، فان تقييده به بمفاد ليس الناقصة يحتاج إلى عناية زائدة ثبوتاً وإثباتاً ، وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية ، ويترتب على جريانه فيها ثمرات في أبواب الفقه كما لا يخفى.

بقي هنا شيء وهو ان ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) من العبارة بقوله «لا يخفى ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل لما كان غير معنون بعنوان خاص بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد الا ما شذ ممكناً» ما هو مراده ومقصوده ، الظاهر ان مراده منها هو ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بما أنه كان مقيداً بعدم عنوان الخاصّ فلا محالة يكون المنافي لحكمه هو وجود هذا العنوان الخاصّ دون غيره من العناوين فان أي عنوان كان وجوديا أو عدميا فلا يكون إنصافه وتعنونه به مانعاً عن ثبوت حكمه له ، مثلا في جملة (كل مرأة تحيض إلى خمسين إلا القرشية) يكون المانع عن ثبوت هذا الحكم العام لكل مرأة

٢٣٢

انما هو هذا العنوان الوجوديّ وهو عنوان القرشية دون غيره من العناوين إذ أي عنوان فرض إمكان اتصاف المرأة به سواء أكان وجودياً أم كان عدمياً دون ذاك لا يكون مانعاً عن ثبوت هذا الحكم العام لها.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي انه لا يجوز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية الا في صورة واحدة وهي ما إذا كان عموم العام على سبيل القضية الخارجية وكان المخصص له لبياً فان لمثل هذا العام ظهوراً في نفسه في ان أمر التطبيق بيد المولى. وعليه فلا محالة يكون عمومه حجة حتى في الفرد المشكوك فيه على ما تقدم بشكل موسع.

ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) انه «ربما يظهر من بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة أخرى كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف فيكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقاً للنذر بأن يقال وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم وكلما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً للقطع بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به. وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الإحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك» ملخص ذلك هو أنه لا مانع من تصحيح عبادة لم تثبت مشروعيتها من ناحية النذر حيث ان وجوب الوفاء به يكشف عن صحتها والا لم يجب الوفاء به جزماً نظير الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات فانه كالصلاة قبل الوقت في عدم المشروعية كما في بعض الروايات ، ومع ذلك يصح بالنذر ، وكذا الصوم في السفر فانه غير مشروع ، ومع ذلك يصح بالنذر ، حري بنا أن نتكلم في هذه المسألة في مقامين : (الأول) في صحة هذا النذر وفساده (الثاني) في صحة الإحرام قبل الميقات والصوم في

٢٣٣

السفر بالنذر.

أما المقام الأول : فلا شبهة في أن صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحاً فلا يصح فيما إذا تعلق بأمر مباح فضلا عن المرجوح ، ضرورة ان ما كان لله تعالى لا بد وان يكون راجحاً حتى يصلح للتقرب به إليه تعالى فان المباح لا يصلح أن يكون مقرباً ، فإذاً لا بد أن يكون متعلقه عملا صالحاً لذلك.

وعلى ضوء ذلك فلو شك في رجحان عمل وعدمه لم يمكن التمسك بعموم أوفوا بالنذور لفرض ان الشبهة هنا مصداقية وقد تقدم أنه لا يجوز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية ، بل هو من أظهر أفراد التمسك به في الشبهة المصداقية ، ولعل من يقول به لم يقل بجوازه في المقام يعني فيما إذا كان المأخوذ في موضوع حكم العام عنواناً وجودياً كما هو المفروض هنا ، فان موضوع وجوب الوفاء بالنذر قد قيد بعنوان وجودي وهو عنوان الراجح. وعليه فلا يمكن الحكم بصحة الوضوء بمائع مضاف من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر لفرض ان الشك في رجحان هذا الوضوء ، ومعه كيف يمكن التمسك به.

فالنتيجة أنه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بمائع مضاف من ناحية عموم وجوب الوفاء بالنذر.

وأما المقام الثاني : فلأن الالتزام بصحة الإحرام قبل الميقات وصحة الصوم في السفر من جهة النذر ليس من ناحية التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر ، بل هو من ناحية الروايات الخاصة الدالة على صحتهما كذلك بالنذر.

وعلى ذلك فاما أن نجعل هذه الأدلة مخصصة لما دل على اشتراط صحة النذر برجحان متعلقه واما أن نقول بكفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته كما التزم بذلك السيد الطباطبائي (قده) في العروة

٢٣٤

ولكن أورد على ذلك شيخنا الأستاذ (قده) بأن لازم هذه النظرية إمكان تصحيح النذر في المحرمات أيضا بالرجحان الناشئ من قبله فضلا عن المكروهات وهو كما ترى.

وفيه أن ما أورده (قده) على هذه النظرية خاطئ جداً ، والسبب في ذلك ان ما دل على حرمة شيء أو كراهته بإطلاقه يشمل ما قبل النذر وما بعده يعني انه كما يدل على حرمته قبل النذر كذلك يدل عليها بعده ، بداهة ان دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يصلح أن يكون مقيداً لإطلاقه وإلا لأمكن تحليل جميع المحرمات والواجبات فعلا وتركا بالنذر كما أفاده والسر فيه ان دليل وجوب الوفاء به لا يكون ناظراً إلى ان ما تعلق به النذر راجح أو ليس براجح.

وعليه فلا بد من إحرازه من الخارج. نعم قد يكون تعلق النذر به ملازماً لانطباق عنوان راجح عليه ، فحينئذ يصح النذر ، إذ لا يعتبر في صحته أن يكون متعلقه راجحاً قبله أي قبل النذر زماناً ، بل يكفي فيها مقارنته معه زماناً.

وعلى الجملة فدليل وجوب الوفاء بالنذر لا يكون سبباً وموجباً لحدوث الرجحان في متعلقه حتى يستلزم انقلاب الواقع بأن يجعل المبغوض محبوباً والحرام راجحاً حيث انه غير ناظر إلى أن متعلقه راجح أو غير راجح حرام أو ليس بحرام وهكذا ، بل لا بد من إحراز ذلك من الخارج فان أحرزنا أنه راجح صح النذر وان لم يحرز ذلك سواء أحرزنا أنه مرجوح كالمكروه أو الحرام أم لم يحرز فهو غير صحيح.

وعليه فبما أن ما دل على حرمة شيء كشرب الخمر مثلا أو كراهته بإطلاقه يدل عليها حتى بعد تعلق النذر به أيضا فلا محالة لا يكون مثل هذا النذر صحيحاً لمرجوحية متعلقه ولا يشمله عموم وجوب الوفاء

٢٣٥

بالنذر لما عرفت ، ولا يقاس ذلك بمسألتي صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر ، فان صحتها في تلك المسألتين انما هي من ناحية الروايات الخاصة ، ومن الواضح اننا نستكشف عن هذه الروايات ان تعلق النذر بهما ملازم لانطباق عنوان راجح عليهما أو موجب له ، ولأجله يصح النذر ويجب الوفاء به فتكون تلك الروايات مقيدة لإطلاق أدلة عدم مشروعية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بغير صورة النذر.

وبكلمة أخرى ان الظاهر كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر يعني أن تعلقه بشيء إذا كان موجباً لانطباق عنوان راجح عليه أو ملازم له ولكن إحراز ذلك يحتاج إلى دليل ففي كل مورد قد دل الدليل على ذلك ولو بالدلالة الالتزامية فلا إشكال في صحة النذر فيه كما هو الحال في تلك المسألتين ، واما إذا لم يكن دليل على ذلك فلا يمكن إحرازه وبدونه لا يمكن الحكم بصحة النذر أصلا.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : ان صحة الصوم في السفر بالنذر ، وكذا الإحرام قبل الميقات انما هي من ناحية أحد أمرين ، أما من ناحية أن ما دل على صحتهما بالنذر يكون مقيداً لإطلاق ما دل على اعتبار الرجحان في متعلقه ، وأما من ناحية كشفه عن عروض عنوان راجح عليه من جهة النذر على الشكل الّذي عرفت.

بقي هنا أمران ؛ الأول ما إذا علم بأن إكرام زيد مثلا غير واجب ولكن لا ندري ان عدم وجوب إكرامه من ناحية التخصيص أي تخصيص عموم (أكرم كل عالم) بغيره أو أنه من ناحية التخصيص يعني أن عدم وجوب إكرامه من ناحية أنه ليس بعالم فدار الأمر في المقام بين التخصيص والتخصص ، ومثال ذلك في الفقه مسألة الملاقي لماء الاستنجاء حيث أنه غير محكوم بالنجاسة إذا توفرت فيه الشرائط التي ذكرت ، لعدم تأثير

٢٣٦

(ماء الاستنجاء) فيه (الملاقي) فحينئذ لا محالة يدور بين أن يكون خروجه عن هذا الحكم بالتخصص أو بالتخصيص يعني أن ما دل على طهارة الملاقي له هل يكون مخصصاً لعموم ما دل على انفعال الملاقي للماء النجس أو يكون خروجه منه بالتخصيص فيه خلاف بين الأصحاب فذهب بعضهم إلى الأول ، وأخر إلى الثاني بدعوى أنه لا مانع من التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات طهارة ماء الاستنجاء نظراً إلى ان الأصول اللفظية كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها العقلية والعادية أيضا ، فالنتيجة أنه لا مانع من التمسك بها لإثبات التخصص.

وبكلمة أخرى ان الحري بنا أن نتكلم في كبرى المسألة فنقول إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص فهل يقدم الأول على الثاني ، فيه قولان : المعروف في الألسنة هو القول الثاني واستدل عليه بأصالة عدم التخصيص في طرف العام ، وهذه الأصالة كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها العقلية والعادية نظراً إلى ان المثبتات من الأصول اللفظية حجة ، مثلا إذا علم بخروج زيد عن عموم العام وشك في ان خروجه منه بالتخصيص أو بالتخصص فلا مانع من التمسك بأصالة عدم ورود التخصيص عليه لإثبات التخصص.

ولنأخذ بالنقد عليه وهو ان حجية أصالة عدم التخصيص لم تثبت بآية أو رواية حتى نأخذ بإطلاقها في أمثال المورد وانما هي ثابتة بالسيرة القطعية من العقلاء. فإذاً بطبيعة الحال تتبع حجيتها في كل مورد جريان السيرة منهم على العمل بها في ذلك المورد ، وقد ثبت جريان سيرتهم فيما إذا أحرز فردية شيء لعام وشك في خروجه عن حكمه ففي مثل هذا المورد لا مانع من التمسك بها ، واما إذا كان الأمر بالعكس بأن علم بخروجه عن حكمه وشك في فرديته لعام كما فيما نحن فيه حيث انا نعلم بأن زيداً

٢٣٧

مثلا خارج عن حكم العام ولكن لا نعلم أن خروجه من ناحية أنه ليس بفرد له أو من ناحية التخصيص فلا نعلم بجريان السيرة منهم على العمل بها ومع عدم إحرازه لا يمكن الحكم بحجيتها.

أو فقل : ان الأصول اللفظية وأن كانت مثبتاتها حجة ، لما ذكرناه في محله من أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاء يعني في أصل الوجود والحجية ، وقد ذكرنا غير مرة أنه لا يمكن بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية إذا سقطت الدلالة المطابقية عنها ، ضرورة انها تسقط بسقوطها كما حققنا ذلك بشكل موسع في ضمن البحث عن ثبوت الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضده ، هذا فيما إذا كانت الدلالة المطابقية موجودة من جهة ظهور اللفظ أو من جهة بناء العقلاء ، وأما إذا لم تكن دلالة مطابقية في البين فلا موضوع للدلالة الالتزامية ، لفرض انها متفرعة عليها فكيف يعقل وجودها بدون تلك.

وبعد ذلك نقول : ان ما ثبت حجية هذه الأصالة فيه هو ما إذا كان الشيء فرداً لعام وشك في خروجه عن حكمه ففي مثل ذلك تكون هذه الأصالة حجة فلا مانع من الأخذ بدلالتها الالتزامية أيضا لما عرفت من أنها تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والحجية وأما في محل الكلام وهو عكس هذا الفرض تماماً فلا تجري هذه الأصالة لعدم إحراز بناء العقلاء عليها فيه فما ظنك بدلالتها الالتزامية مثلا لو قال المولى لعبده (بع جميع كتبي) الموجودة في مكتبتنا هذه فباع جميعها فليس المولى الاعتراض عليه بقوله لما ذا بعت الكتاب الفلاني ، بل له إلزام المولى بظهور العام في العموم وعدم نصبه قرينة على الخلاف ، وأما إذا قال له بع جميع كتبي ثم قال لا تبع الكتاب الفلاني ونشك في أنه وقف أو عارية أو أنه ملكه فعلى الأول يكون خروجه من باب التخصص وعلى الثاني من باب التخصيص فلا يمكن التمسك بأصالة

٢٣٨

العموم لإثبات التخصص ، لعدم إحراز جريان السيرة على التمسك بها في مثل المقام ، ومن هذا القبيل الملاقي لماء الاستنجاء حيث ان أمره يدور بين أن يكون خروجه عن عموم ما دل على انفعال الملاقي للماء النجس بالتخصيص أو التخصص.

بيان ذلك : ان في ماء الاستنجاء أقوال ثلاثة : (الأول) : النجاسة (الثاني) : الطهارة ونسب هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب (الثالث) النجاسة لكن مع العفو بمعنى عدم انفعال الشيء بملاقاته.

أما القول الأول فلا أصل له حيث انه يقوم على أساس الأخذ بعموم ما دل على انفعال الملاقي للماء النجس لما نحن فيه أيضا ، ولكن فساده بمكان من الوضوح ، فان الملاقي لماء الاستنجاء قد خرج عن هذا العموم جزماً للنصوص الخاصة الدالة على عدم انفعاله بملاقاته ، فإذاً هذا القول على تقدير القائل به خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا ، فيدور الحق بين القولين الأخيرين ، ونقول : ان هنا طوائف من الروايات :

(الأولى) : ما دلت على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس كمفهوم أخبار الكر ونحوه من الروايات المتفرقة الواردة في الموارد الخاصة بعد إلغاء خصوصيات الموارد بنظر العرف.

(الثانية) : ما دلت على انفعال الملاقي للماء النجس.

(الثالثة) : ما دلت على عدم انفعال الملاقي لماء الاستنجاء فحسب ثم ان هذه الطائفة لا تخلو من أن تكون مخصصة للطائفة الأولى بغير ماء الاستنجاء ونتيجة هذا التخصيص هي طهارته وعدم انفعاله بملاقاة النجس كالبول أو العذرة ، وحينئذ تكون طهارة ملاقيه على القاعدة ومن باب التخصص ، أو تكون مخصصة للطائفة الثانية فتكون نتيجة هذا التخصيص نجاسة ماء الاستنجاء من دون تأثيره في انفعال ملاقيه كالبدن أو الثوب

٢٣٩

ولا ثالث لهما ، فالاحتمال الأول يقوم على أساس إحدى دعويين :

الأولى : ان الحكم بطهارة الملاقي لماء الاستنجاء ان كان لطهارته فلا تخصيص في الطائفة الثانية الدالة على انفعال الملاقي للماء النجس ، وان كان مع نجاسة ماء الاستنجاء لزم التخصيص في هذه الطائفة فبأصالة عدم التخصيص تثبت طهارة ماء الاستنجاء.

ويرد على هذه الدعوى أولا : ان أصالة العموم في هذه الطائفة معارضة بأصالة العموم في الطائفة الأولى ، للعلم الإجمالي بتخصيص إحداهما بالطائفة الثالثة بناء على ما هو الصحيح من ان مثبتاتها حجة ، فان لازم أصالة العموم في الطائفة الأولى تخصيص الطائفة الثانية ، كما ان لازم أصالة العموم في الطائفة الثانية تخصيص الطائفة الأولى من ناحية ، وإثبات التخصص من ناحية أخرى يعني خروج الملاقي لماء الاستنجاء عن عموم الطائفة الثانية موضوعياً لا حكمياً فلا يمكن الجمع بينهما معاً ، لاستلزامه طرح الطائفة الثالثة رأساً. وثانياً ان هذه الأصالة لا تجري في مثل المقام في نفسها للعلم التفصيليّ بسقوطها اما تخصيصاً واما تخصصاً فلا تجري لإثبات التخصص.

وبكلمة أخرى : ان أصالة العموم انما تجري فيما إذا علم بفردية شيء للعام وشك في خروجه عن حكمه ، واما إذا علم بخروجه عن حكمه وشك في فرديته له ففي مثل ذلك لا مجال للتمسك بها أصلا وما نحن فيه من هذا القبيل. نعم بناء على جريانها في نفسها تقع المعارضة بين إطلاق الطائفة الأولى وإطلاق الطائفة الثانية ، ودعوى ان الطائفة الثانية واردة في موارد خاصة فلا إطلاق لها خاطئة جداً ، فانها وان كانت كذلك الا أن إلغاء خصوصيات الموارد بالارتكاز العرفي مما لا شبهة فيه ، وبضم هذا الارتكاز إليها يثبت الإطلاق ، وحيث لا ترجيح في البين فيسقط كلا

٢٤٠