محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

وقد تحصل مما ذكرناه ان نتيجة البداء الّذي تقول به الشيعة الإمامية وتعتقد به هي الاعتراف الصريح بأن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته حدوثاً وبقاء وان مشيئة الله تعالى نافذة في جميع الأشياء وانها بشتى ألوانها بأعمال قدرته واختياره.

وقد تقدم الحديث من هذه الناحية في ضمن نقد نظريتي الجبر والتفويض هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان في الاعتقاد بالبداء يتضح نقطة الفرق بين العلم الإلهي وعلم غيره ، فان غيره وان كان نبياً أو وصياً كنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يمكن أن يحيط بجميع ما أحاط به علمه تعالى وان كان عالما بتعليم الله إياه بجميع عوالم الممكنات إلا انه لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون المعبر عنه باللوح المحفوظ وبأم الكتاب حيث انه لا يعلم بمشيئة الله تعالى لوجود شيء أو عدم مشيئته الا حيث يخبره الله الله تعالى به على نحو الحتم.

ومن ناحية ثالثة ان القول بالبداء يوجب توجه العبد إلى الله تعالى وتضرعه إليه وطلبه إجابة دعائه وقضاء حوائجه ومهماته وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية كل ذلك انما نشأ من الاعتقاد بالبداء وبان عالم المحو

__________________

ـ الخبر لفرض ان أخباره عن الوقوع للناس ليس على سبيل الحتم والجزم وانما كان على نحو التعليق ولا يتصف مثل هذا الخبر بالكذب إلا في فرض عدم الملازمة بين المعلق والمعلق عليه والمفروض ان الملازمة بينهما موجودة وبذلك يظهر ان حقيقة البداء عند الشيعة هي إلا بداء والإظهار وإطلاق لفظ البداء عليه مبنى على التنزيل وبعلاقة المشاكلة واسناده إليه تعالى باعتبار ان علمه منشأ لوقوعه وجريانه.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنه لا مناص من الالتزام بالبداء بالمعنى الّذي ذكرناه على ضوء الروايات وحكم العقل.

٣٤١

عدم الملازمة في مرتبة ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء فمرده إلى التخصيص في المقام وان كان في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة فمرده إلى التخصص وحيث ان تلك الطائفة يعني الروايات الدالة على طهارة الثوب لا تدل على تعيينه أي تعيين عدم الملازمة في إحدى المرتبتين خاصة فلا محالة لا ظهور لها في طهارة ماء الاستنجاء ولا دلالة لها عليها ، فإذاً لا مانع من الرجوع إلى عموم الطائفة الأولى حيث ان قضيته انفعال الماء القليل بملاقاة النجس وقد تحصل من ذلك ان الأظهر حسب القاعدة نجاسة ماء الاستنجاء وتترتب عليها آثارها ما عدا انفعال الملاقي له.

ولكن مع ذلك لا يمكن رفع اليد عن الروايات الظاهرة في الطهارة ولا سيما معتبرة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام «عن الرّجل يقع ثوبه على الماء الّذي استنجى به أينجس ذلك ثوبه قال لا» فانها تدل بمقتضى الفهم العرفي على عدم نجاسة ماء الاستنجاء ويزيد على ذلك وخصوصاً ملاحظة حال المفتي والمستفتى. فانه إذا سأل العامي مقلده عما أصابه ماء الاستنجاء وأجابه بأنه غير منجس فهل يشك السائل في طهارة ماء الاستنجاء عندئذ.

وعليه فهذه الروايات تعيين عدم الملازمة في ملاقاة ماء الاستنجاء لعين النجاسة ـ وهي العذرة في مفروض المقام ـ نظراً إلى انها واردة في مورد خاص ، دون ما دل على نجاسة العذرة ، فانه يدل بالالتزام على نجاسة ملاقيها مطلقاً في هذا المورد وغيره ، وهذه الروايات تخصص هذه الدلالة الالتزامية في غير هذا المورد.

بقي هنا شيء وهو ان ما علم بخروجه عن حكم العام إذا دار أمره بين فردين أحدهما فرد للعام والآخر ليس فرداً له كما إذا تردد أمر زيد في مثل (لا تكرم زيداً) بين زيد العالم وغيره من ناحية الشبهة المفهومية

٣٤٢

القول بأن الله تعالى غير قادر على أن يغير ما جرى عليه فلم التقدير (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) حيث انه مخالف لصريح الكتاب والسنة وحكم العقل الفطري كما عرفت.

ومن المعلوم ان ذلك يوجب بأس العبد من إجابة دعائه وهو يوجب تركه وعدم توجهه إلى ربه في قضاء مهماته وطلباته.

إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بالنتائج التالية :

الأولى : ان ما عن العامة من نسبة تجويز الجهل عليه سبحانه وتعالى إلى الشيعة باعتبار التزامهم بالبداء فقد عرفت انه افتراء صريح عليهم وان الالتزام بالبداء لا يستلزم ذلك ، بل هو تعظيم وإجلال لذاته تعالى وتقدس.

الثانية : ان العالم بأجمعه وبشتى اشكاله تحت سلطان الله تعالى وقدرته كما أنه تعالى عالم به بجميع أشكاله منذ الأزل ، وقد عرفت ان هذا العلم لا ينافي ولا يزاحم قدرته واختياره.

ومن هنا قلنا ان ما ذهب إليه اليهود من أن قلم التقدير والقضاء إذا جرى على الأشياء في الأزل استحال ان تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا ، فان قلم التقدير والقضاء لا ينافي قدرته ولا يزاحم اختياره.

الثالثة : ان قضائه تعالى على ثلاثة أنواع : ١ ـ قضائه الّذي لم يطلع عليه أحد من خلقه. ٢ ـ قضائه الّذي اطلع بوقوعه أنبيائه وملائكته على سبيل الحتم والجزم. ٣ ـ قضائه الّذي اطلع بوقوعه أنبيائه وملائكته معلقاً على أن لا تتعلق مشيئته على خلافه ، ولا يعقل جريان البداء في القضاء الأول والثاني وانما يكون ظرف جريانه هو الثالث ، وهذا التقسيم قد ثبت على ضوء الروايات وحكم العقل الفطري.

٣٤٣

الرابعة : أنه لا يلزم من الالتزام بالبداء أي محذور كتجويز الجهل عليه سبحانه أو ما ينافي عظمته وإجلاله أو الكذب ، بل في الاعتقاد به تعظيم لسلطانه وإجلال لقدرته ، كما لا يلزم منه محذور بالإضافة إلى أنبيائه وملائكته ، بل فيه امتياز علم الخالق عن علم المخلوق.

الخامسة : ان حقيقة البداء عند الشيعة الإمامية هي بمعنى الإبداء أو الإظهار وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل وبعلاقة المشاكلة.

السادسة : ان فائدة الاعتقاد بالبداء هي الاعتراف الصريح بأن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) وتوجه العبد إلى الله تعالى وتضرعه إليه في قضاء حوائجه ومهماته وعدم يأسه من ذلك ، وهذا بخلاف القول بإنكار البداء ، فانه يوجب يأس العبد ولا يرى فائدة في التضرع والدعاء وهذا هو السر في اهتمام الأئمة عليهم‌السلام بشأن البداء في الروايات الكثيرة.

(المطلق والمقيد)

المطلق في اللغة بمعنى المرسل الّذي لم يقيد بشيء في مقابل المقيد الّذي هو مقيد به ومنه يقال أن فلاناً مطلق العنان يعني أنه غير مقيد بشيء ، وأما عند الأصوليين فالظاهر انه ليس لهم في إطلاق هذين اللفظين اصطلاح جديد ، بل يطلقونهما بما لهما من المعنى اللغوي والعرفي. ثم انه يقع الكلام في جملة من الأسماء وهل انها من المطلق أولا. منها أسماء الأجناس من الجواهر والاعراض وغيرهما.

وقبل بيان ذلك ينبغي لنا التعرض لأقسام الماهية فنقول : الماهية تارة يلاحظ بما هي هي يعني أن النّظر مقصور إلى ذاتها وذاتياتها ولم يلحظ

٣٤٤

معها شيء زائد وتسمى هذه الماهية بالماهية المهملة نظراً إلى عدم ملاحظة شيء من الخصوصيات المتعينة معها فتكون مهملة بالإضافة إلى جميع تلك الخصوصيات حتى خصوصية عنوان كونها مقسماً للاقسام الآتية.

وبكلمة أخرى ان النّظر لم يتجاوز عن حدود ذاتها وذاتياتها إلى شيء خارج عنها حتى عنوان إهمالها وقصر النّظر عليها ، فان التعبير عنها بالماهية المهملة باعتبار واقعها الموضوعي ، لا باعتبار أخذ هذا العنوان في مقام اللحاظ معها.

فالنتيجة ان هذه الماهية مهملة ومبهمة بالإضافة إلى جميع طوارئها وعوارضها الخارجية والذهنية.

وتارة أخرى يلاحظ معها شيء خارج عن مقام ذاتها وذاتياتها ، وذلك الشيء ان كان عنوان مقسميتها للاقسام التالية دون غيره سميت هذه الماهية بالماهية اللابشرط المقسمي ، وان كان ذلك الشيء الخارج عنوان تجردها في وعاء العقل عن جميع الخصوصيات والعوارض سميت هذه الماهية بالماهية المجردة وفي الاصطلاح بالماهية بشرط لا ، وهي بهذا العنوان غير قابلة للحمل على شيء من الموجودات الخارجية ، لوضوح انها لو حملت على موجود خارجي لكانت مشتملة على خصوصية من الخصوصيات وهذا خلف الفرض ، وهذه الماهية تسمى بالأسماء التالية : النوع ، الجنس ، الفصل ، العرض العام ، الغرض الخاصّ ، حيث انها عناوين للماهيات الموجودة في أفق النّفس فلا تصدق على الموجود الخارجي ، وان كان ذلك الشيء خصوصية من الخصوصيات الخارجية سميت هذه الماهية بالماهية المخلوطة ، وفي الاصطلاح بالماهية بشرط شيء ، وهذه الخصوصية تارة وجودية وأخرى عدمية ، والأول كلحاظ ماهية الإنسان مثلا مع العلم ، فانها لا تنطبق الا على هذه الحصة فحسب يعني الإنسان

٣٤٥

العالم دون غيرها ، والثاني كلحاظها مثلا مع عدم العلم أو عدم الفسق فهي على هذا لا تنطبق في الخارج الا على الحصة التي لا تكون متصفة بالعلم أو بالفسق ، فهذان القسمان معاً من الماهية الملحوظة بشرط شيء.

نعم قد يعبر عن القسم الثاني في الأصول بالماهية بشرط لا ولكنه مجرد اصطلاح من الأصوليين ولا مناقشة فيه.

وان كان ذلك الشيء عنوان الإطلاق والإرسال سميت هذه الماهية بالماهية اللا بشرط القسمي حيث انها ملحوظة مطلقة ومرسلة بالإضافة إلى جميع ما تنطبق عليه في الخارج.

وقد ذكرنا في غير مورد أن الإطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم أخذ شيء منها مع الماهية وإلا لم تكن الماهية ماهية مطلقة ، ولنأخذ لذلك بمثال وهو ان الكلمة إذا لو حظت بما هي بأن يكون النّظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها فحسب فهي ماهية مهملة ومبهمة بالإضافة إلى جميع التعيّنات الخارجية والذهنية حتى تعين قصر النّظر عليها يعني أن هذه الخصوصية أيضا لم تلحظ معها ، فالكلمة في إطار هذا اللحاظ لا تصلح أن يحمل عليها شيء الا الذات أو الذاتيات نعم انها تصلح أن تكون محلا لعروض كل من الاسم والفعل والحرف.

وان لو حظت معها خصوصية زائدة عن ذاتها وذاتياتها فان كانت تلك الخصوصية هي عنوان كونها مقسماً لهذه الأقسام فهي ماهية لا بشرط المقسمي ، حيث انها في إطار هذا اللحاظ مقسم لتلك الأقسام يعني أنه لا تحقق لها الا في ضمن أحد أقسام الماهية كالمجردة والمخلوطة والمطلقة.

كما انها تمتاز بهذا اللحاظ عن الماهية المهملة وان لو حظت معها خصوصية زائدة على تلك الخصوصية أيضا فان كانت تلك الخصوصية الزائدة عنوان تجردها في أفق النّفس عن جميع العوارض والطوارئ التي يمكن أن تلحقها في الخارج من خصوصيات أفرادها وأصنافها فهي

٣٤٦

ماهية مجردة وإن كانت تلك الخصوصية خصوصية خارجية كخصوصية الاسم أو الفعل أو الحرف فهي ماهية مخلوطة وان كانت تلك الخصوصية عنوان الإطلاق والإرسال فهي ماهية مطلقة المسماة في الاصطلاح بالماهية لا بشرط القسمي.

وبعد ذلك نقول : ان اسم الجنس موضوع للماهية المهملة دون غيرها من أقسام الماهية وهي الجامعة بين جميع تلك الأقسام بشتى لحاظاتها وقد عرفت انها معراة من تمام الخصوصيات والتعينات (الذهنية والخارجية) حتى خصوصية قصر النّظر عليها ، والسبب فيه هو انه لو كان موضوعاً للماهية المأخوذ فيها شيء من تلك الخصوصيات لكان استعماله في غيرها مجازاً ومحتاجاً إلى عناية زائدة حتى ولو كانت تلك الخصوصية قصر النّظر على ذاتها وذاتياتها ، لما عرفت من انه نحو من التعين وهو غير مأخوذ في معناه الموضوع له فالمعنى الموضوع له مبهم من جميع الجهات.

ومن هنا يصح استعمال اسم الجنس كالإنسان أو ما شاكله في الماهية بجميع أطوارها (الذهنية والخارجية) ومن الطبيعي انه لو كان شيء منها مأخوذاً في معناه الموضوع له لكان استعماله في غير الواجد له بحاجة إلى عناية زائدة ، مع ان الأمر ليس كذلك.

ومن الواضح ان صحة استعماله فيها في جميع حالاتها وطوارئها تكشف كشفاً يقينياً عن أنه موضوع بإزاء الماهية نفسها من دون لحاظ شيء من الخصوصيات فيها حتى قصر النّظر إلى ذاتها وذاتياتها ففي مثل قولنا : (النار حارة) لم تستعمل كلمة (النار) إلا في الطبيعة الجامعة بين تلك الأقسام المهملة بالإضافة إلى تمام خصوصياتها ولحاظاتها.

وان شئت قلت : ان اللحظات الطارئة على الماهية بشتى اشكالها انما هي في مرحلة الاستعمال حيث ان في هذه المرحلة لا بد من ان تكون الماهية

٣٤٧

ملحوظة بأحد الأقسام المتقدمة نظراً إلى ان الغرض قد يتعلق بلحاظها على شكل ، وقد يتعلق به على شكل آخر وهكذا.

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن الماهية المهملة فوق جميع الاعتبارات واللحظات الطارئة عليها حيث انها مهملة حقيقة وبتمام المعنى. واما الماهية المقصور فيها النّظر إلى ذاتها وذاتياتها فليست بمهملة بتمام المعنى نظراً إلى انها متعينة من هذه الجهة أي من جهة قصر النّظر إلى ذاتها فتسمية هذه بالماهية المهملة لا تخلو عن مسامحة فالأولى ما عرفت.

ثم ان الظاهر ان الكلي الطبيعي عبارة عن الماهية المهملة دون غيرها خلافاً لشيخنا الأستاذ (قده) حيث قد صرح بأن الكلي الطبيعي الصادق على كثيرين هو اللا بشرط القسمي دون المقسمي بدعوى ان اللا بشرط المقسمي عبارة عن الطبيعة الجامعة بين الكلي المعبر عنه باللابشرط القسمي الممكن صدقه على كثيرين ، والكلي المعبر عنه بالماهية المأخوذة بشرط لا الممتنع صدقه على الافراد الخارجية ، والكلي المعبر عنه الماهية بشرط شيء الّذي لا يصدق إلا على افراد ما اعتبر فيه الخصوصية.

ومن الطبيعي أنه يستحيل أن يكون الجامع بين هذه الأقسام هو الكلي الطبيعي ، لأن الكلي الطبيعي هو الكلي الجامع بين الافراد الخارجية الممكن صدقه عليها فهو حينئذ قسيم للكلي العقلي الممتنع صدقه على الافراد الخارجية ولا يعقل أن يكون قسيم الشيء مقسماً له ولنفسه ضرورة أن المقسم لا بد من أن يكون متحققاً في ضمن جميع أقسامه ، ولا يعقل أن تكون الماهية المعتبرة فيها خصوصية على نحو تصدق على الأفراد الخارجية متحققة في ضمن الماهية المعتبرة فيها خصوصية على نحو يمتنع صدقها على ما في الخارج وعليه فلا مناص من الالتزام بكون الجامع بين الأقسام هو الماهية الجامعة بين ما يصح صدقه على ما في الخارج وما يمتنع صدقه عليه ، فالمقسم أيضا

٣٤٨

وإن كان قابلا للصدق على الافراد الخارجية لفرض أنه متحقق في ضمن الماهية المأخوذة على نحو اللا بشرط القسمي وحيث انها صادقة على ما في الخارج ، فالمقسم أيضا كذلك إلا أنه حيث يكون قابلا للصدق على الكلي العقلي أيضا فيستحيل أن يكون الجامع بين الأقسام هو نفس الجهة الجامعة بين الافراد الخارجية المعبر عنها بالكلي الطبيعي.

ما أفاده (قده) يحتوي على عدة نقاط :

الأولى : ان الماهية اللا بشرط المقسمي هي نفس الماهية من حيث هي هي.

الثانية : ان الكلي الطبيعي ليس هو الماهية اللا بشرط المقسمي حيث أنه (قده) قد اعتبر في كون الشيء كلياً طبيعياً صدقه على الافراد الخارجية فحسب دون غيرها.

ومن المعلوم ان هذه النكتة غير متوفرة في الماهية اللا بشرط المقسمي لفرض صدقها على الماهيات المجردة التي لا موطن لها إلا العقل ، وعليه فلا يمكن أن تكون تلك الماهية كلياً طبعياً ،

الثالثة : ان ما يصلح أن يكون كلياً طبعياً هو الماهية اللا بشرط القسمي حيث ان النكتة المتقدمة وهي الصدق على الافراد الخارجية فحسب دون غيرها متوفرة فيها.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أما النقطة الأولى : فهي وان كانت معروفة بينهم إلا انها خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها ، وذلك لما عرفت من أن الماهية من حيث هي هي بعينها هي الماهية المهملة التي كان النّظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها وغير ملاحظ معها شيء خارج عنهما ، بل قلنا انها مهملة بالإضافة إلى جميع الخصوصية (الذهنية والخارجية) حتى عنوان إهمالها وقصر النّظر عليها

٣٤٩

ولذا لا يصح حمل شيء عليها في إطار هذا اللحاظ إلا الذات فيقال : (الإنسان حيوان ناطق). وهذا بخلاف الماهية اللا بشرط المقسمي ، فان عنوان المقسمية قد لو حظ معها فلا يكون النّظر مقصوراً على الذات والذاتيات ، فإذاً كيف تكون الماهية اللا بشرط المقسمي هي الماهية المهملة ومن حيث هي هي.

وأما النقطة الثانية فهي وان كانت صحيحة إلا انها ليست من ناحية ما أفاده (قده) بل من ناحية أخرى وهي ان الماهية اللا بشرط المقسمي لا تحقق لها إلا في ضمن أحد أقسامها من الماهية المجردة والمخلوطة والمطلقة كما هو الحال في كل مقسم بالإضافة إلى أقسامه وما يعرض عليه أحد اللحظات المتقدمة هو الماهية المهملة دون الماهية اللا بشرط المقسمي نظراً إلى أنه لا وجود لها ولا تحقق في أفق النّفس مع قطع النّظر عن هذه التقسيمات ، ضرورة أن عنوان المقسمية عنوان انتزاعي وهو منتزع بلحاظ عروض هذه التقسيمات على الماهية ومتفرع عليها فكيف يعقل أن تعرض تلك التقسيمات عليها بلحاظ هذا العنوان الانتزاعي وتكون متفرعة عليه أو فقل ان عروض هذا العنوان (المقسمية) على الماهية انما هو في مرتبة متأخرة عن عروض تلك التقسيمات عليها ، ومعه كيف يعقل أن تكون تلك التقسيمات عارضة على الماهية المعنونة بهذا العنوان.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي ان الماهية اللا بشرط المقسمي يعني : المعنونة بهذا العنوان كما لا تصلح أن تكون محلا لعروض الأقسام المتقدمة ، كذلك لا تصلح أن تكون كلياً طبيعياً.

أما الأول فلا أمرين : (الأول) ما عرفت من ان لحاظها مع هذا العنوان في مرتبة متأخرة عن لحاظ تلك الأقسام ومتفرع عليه ، ومعه كيف تكون محلا لعروض تلك الأقسام (الثاني) انها مع هذا العنوان غير قابلة

٣٥٠

للانطباق على ما في الخارج حيث أنه لا موطن له إلا العقل.

وأما الثاني فيظهر وجهه مما عرفت فان الكلي الطبيعي ما هو قابل للانطباق على ما في الخارج ، والمفروض انها مع هذا العنوان غير قابلة لذلك ومعه كيف تكون كلياً طبيعياً ، واما مع قطع النّظر عن ذلك العنوان فهي ليست الماهية اللا بشرط المقسمي ، بل هي الماهية المهملة.

وعلى الجملة فالماهية مع هذا العنوان أي عنوان المقسمية غير قابلة للانطباق على ما في الخارج حيث لا وجود لها الا في الذهن فلا تصلح أن تكون كلياً طبيعياً وأما مع قطع النّظر عن هذا العنوان فهي وان كانت قابلة للانطباق على الخارجيات وتصلح أن تكون كلياً طبيعياً إلا انها ليست حينئذ الماهية اللا بشرط المقسمي ، بل هي ماهية مهملة التي قد عرفت انها عارية عن جميع الخصوصيات ولم تلحظ معها أية خصوصية من الخصوصيات (الذهنية والخارجية).

وقد تقدم ان اسم الجنس موضوع لها وان الخصوصيات بشتى أشكالها وألوانها طارئة عليها في ظرف الاستعمال ، حيث ان الغرض قد يتعلق بالماهية المجردة ، وقد يتعلق بالماهية المخلوطة ، وقد يتعلق بالماهية المطلقة ، وهذه الماهية هي التي تصلح أن تكون محلا لعروض اللحاظات المتقدمة ، فانها بأجمعها ترد عليها.

وأما النقطة الثالثة : فيظهر حالها مما تقدم بيان ذلك ان المعتبر في الماهية اللا بشرط القسمي هو انطباقها بالفعل على جميع أفرادها ومصاديقها حيث ان السريان الفعلي قد لو حظ فيها رغم أنه غير ملحوظ في الكلي الطبيعي ، إذ لا يعتبر فيه إلا إمكان انطباقه على الخارجيات دون فعليته ، ونقصد بالفعلية والإمكان لحاظ الماهية فانية بالفعل في جميع مصاديقها وعدم

٣٥١

لحاظها كذلك فعلى الأول هي اللا بشرط القسمي وعلى الثاني هي الكلي الطبيعي.

فالنتيجة في نهاية المطاف ان الكلي الطبيعي هو الماهية المهملة لا الماهية اللا بشرط المقسمي كما عن السبزواري ولا الماهية اللا بشرط القسمي كما عن شيخنا الأستاذ (قده) هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد ظهر مما تقدم ان أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة دون غيرها.

ومن ناحية ثالثة قد تبين مما ذكرناه ان ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) من ان الماهية المطلقة لا وجود لها إلا في الذهن وانها كلي عقلي خاطئ جداً ، ومنشأ الخطأ تخيل ان لحاظ السريان قد أخذ قيداً لها.

ومن الطبيعي ان الماهية المقيدة به لا موطن لها إلا الذهن ، ولكنه تخيل فاسد ، فان معنى لحاظ سريانها هو لحاظها فانية في جميع مصاديقها وافرادها الخارجية بالفعل من دون أخذ اللحاظ قيداً لها. فالمعتبر فيها هو واقع السريان الفعلي لا لحاظه الذهني ووجوده في أفق النّفس فمعنى الإرسال والإطلاق هو عدم دخل خصوصية من الخصوصيات الخارجية في الحكم الثابت لها ، لما ذكرناه غير مرة من أن معنى الإطلاق هو رفض القيود وعدم دخل شيء منها فيه.

ومن البديهي ان السريان الفعلي من لوازم لحاظ الماهية كذلك ففي مثل قولنا (النار حارة) الملحوظ فيه هو طبيعة النار مطلقة أي مرفوضة عنها جميع القيود والخصوصيات وعدم دخل شيء منها في ثبوت هذا الحكم لها ـ وهو الحرارة ـ.

ومن المعلوم ان السريان الفعلي وانطباقها على جميع افرادها الخارجية بالفعل من لوازم إطلاقها وإرسالها كذلك ، وكذا قولنا (الإنسان كاتب)

٣٥٢

بالقوة أو (مركب من الروح والبدن) حيث لم يلحظ فيه إلا طبيعة الإنسان مطلقة أي من دون لحاظ أية خصوصية معها كالقصير والطويل والشاب والشيخ والعرب والعجم والذّكر والأنثى وما شاكل ذلك.

ومن الطبيعي ان الإنسان الملحوظ كذلك ينطبق على جميع افراده ومصاديقه بالفعل ، وعليه فالحكم الثابت له لا محالة يسرى إلى جميع افراده في الخارج من دون اعتبار خصوصية من الخصوصيات فيه ،

فالنتيجة ان السريان ليس خصوصية وجودية مأخوذة في الماهية لتصبح الماهية المطلقة الماهية بشرط شيء بل هو عبارة عن انطباق نفس الماهية على أفرادها في الخارج ولا واقع موضوعي له ما عدا هذا ، وعليه فما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من أن الماهية المطلقة غير قابلة للانطباق على الخارجيات حيث لا موطن لها إلا الذهن خاطئ جداً ولا واقع له أصلا هذا كله في أسماء الأجناس.

وأما أعلام الأجناس فقد قال جماعة أنه لا فرق بينها وبين أسماء الأجناس إلا في نقطة واحدة وهي ان أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة من جميع الجهات والخصوصيات الذهنية والخارجية ، وأعلام الأجناس موضوعة لتلك الماهية لكن بشرط تعيينها في الذهن ، ومن هنا يعاملوا معها معاملة المعرفة دون أسماء الأجناس.

وقد أورد على هذه النقطة المحقق صاحب الكفاية (قده) ببيان ان أعلام الأجناس لو كانت موضوعة للماهية المتعينة في الذهن فلازم ذلك انها بما لها من المعنى غير قابلة للحمل على الخارجيات حيث لا موطن لها إلا الذهن.

ومن الطبيعي ان ما لا موطن له إلا الذهن فهو غير قابل للانطباق على ما في الخارج ، مع أنه لا شبهة في صحة انطباقها بما لها من المعنى على

٣٥٣

الخارجيات من دون تصرف ولحاظ تجرد فيها أصلا على الرغم من أن الخصوصية الذهنية لو كانت مأخوذة في معانيها لم يمكن انطباقها عليها بدون التصرف ولحاظ التجرد.

ومن الواضح ان صحة الانطباق بدون ذلك تكشف كشفاً قطعياً عن أن تلك الخصوصية غير مأخوذة فيها ، هذا مضافاً إلى ان وضعها لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن الخصوصية في مقام الاستعمال لا يصدر عن جاهل فضلا عن الواضع الحكيم حيث انه لغو محض ، ومن الطبيعي أنه لا معنى لوضع لفظ لمعنى لم يستعمل فيه أبداً.

ومن هنا قال (قده) التحقيق انه لا فرق بين أسماء الأجناس وأعلام الأجناس فكما ان الأولى موضوعة لصرف الطبيعة من دون لحاظ شيء من الخصوصية معها (الذهنية أو الخارجية) فكذلك الثانية يعني أعلام الأجناس.

والدليل على عدم الفرق بينهما ما عرفت من أنه لا يمكن أن تكون الخصوصية الذهنية مأخوذة في معناها الموضوع له ، والخصوصية الخارجية مفروضة العدم ، فإذاً بطبيعة الحال لا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا وأما انهم يعاملون معها معاملة المعرفة دون أسماء الأجناس فالظاهر ان التعريف فيها لفظي كتأنيث اللفظي فكما ان العرب قد يجري على بعض الألفاظ حكم التأنيث مع أنه ليس فيه تأنيث حقيقة كلفظ اليد والرّجل والاذن والعين وما شاكلها ، فكذلك قد يجري على بعض الألفاظ حكم التعريف وآثاره مع أنه ليس فيه تعريف أصلا كلفظ (أسامة) حيث انه لا فرق بينه وبين لفظ (أسد) في المعنى الموضوع له فالفرق بينهما انما هو من ناحية جريان أحكام التعريف على الأول لفظاً فقط يعني لا يدخل عليه اللف واللام ولا يقع مضافاً دون الثاني.

٣٥٤

وعلى الجملة فاللغة تتبع السماع ولا قياس فيها ، وحيث ان المسموع والمنقول فيها من أهلها كذلك فلا بد من متابعته مع عدم الفرق بينهما بحسب المعنى في الواقع والحقيقة ، كما هو الحال في المؤنث اللفظي السماعي حيث ان المسموع منهم جريان أحكام التأنيث عليه مع عدم التأنيث فيه حقيقة فلا بد من متابعته.

وهذا الّذي أفاده (قده) متين جداً نعم يمكن المناقشة في البرهان الّذي ذكره على عدم أخذ التعين الذهني في المعنى الموضوع له لأعلام الأجناس بيان ذلك ان أخذه في المعنى الموضوع له تارة يكون على نحو الجزئية يعني كل من التقيد والقيد داخل فيه وتارة أخرى يكون على نحو الشرطية بمعنى ان القيد خارج عن المعنى الموضوع له والتقيد داخل فيه فالتعين الذهني على الأول مثل أجزاء الصلاة التي هي داخلة فيها قيداً أو تقيداً كالتكبيرة والفاتحة والركوع والسجود وما شاكل ذلك وعلى الثاني كشرائطها التي هي داخلة فيها إلا قيداً كاستقبال القبلة وطهارة البدن والثوب وما شاكلها ، وثالثة يكون على نحو المرآتية والمعرفية فحسب من دون دخله في المعنى الموضوع له لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية.

فما أفاده صاحب الكفاية (قده) من البرهان على عدم أخذ التعين الذهني في المعنى الموضوع له ـ وهو انه لو كان مأخوذاً فيه لم يكن المعنى قابلا للانطباق على الخارجيات ـ انما يتم إذا كان أخذه فيه على أحد النحوين الأولين.

وأما إذا كان أخذه على النحو الثالث فهو غير مانع عن انطباقه على الخارجيات ، فإذاً لو كان مراد القائلين بأخذه في المعنى الموضوع له لا علام الأجناس هو النحو الثالث لم يرد عليه ما أورده (قده) من عدم الانطباق على الخارجيات ، وكيف كان فما أفاده (قده) من أنه لا فرق

٣٥٥

بين اسم الجنس وعلم الجنس في المعنى الموضوع له متين جداً ، لأنه مطابق للمرتكزات الوجدانية من ناحية والاستعمالات المتعارفة من أهل اللسان من ناحية أخرى ضرورة أن لفظ (أسامة) استعمل في المعنى الّذي استعمل فيه بعينه لفظ (أسد) فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، وانما الفرق بينهما في اللفظ فقط بترتيب آثار المعرفة على لفظ (أسامة) دون لفظ (أسد) كما عرفت.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : انه لا فرق بين أسماء الأجناس وأعلام الأجناس وان كلتيهما موضوعة للماهية المهملة من دون أخذ خصوصية من الخصوصيات فيها ، والخصوصيات الطارئة عليها من ناحية الاستعمال لا دخل لها في المعنى الموضوع له. وأما ترتيب آثار المعرفة على أعلام الأجناس دون أسمائها فهو لا يتجاوز عن حدود اللفظ فحسب كالمؤنثات اللفظية التي لا يتجاوز تأنيثها عن حدود اللفظ فحسب.

ومنها : المفرد المعرف باللام أقول المعروف بينهم ان اللام على أقسام الجنس والاستغراق والعهد بأقسامه من الذهني. والذكري. والخارجي ، كما ان المعروف بينهم ان كلمة (اللام) موضوعة للدلالة على التعريف والتعيين في غير العهد الذهني.

وأورد على ذلك المحقق صاحب الكفاية (قده) بقوله : وأنت خبير بأنه لا تعين في تعريف الجنس إلا الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً ، ولازمه أن لا يصح حمل المعرف باللام بما هو معرف على الافراد ، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن إلا بالتجريد ، ومعه لا فائدة في التقييد ، مع ان التأويل والتصرف في القضايا المتداولة في العرف غير حال عن التعسف ، هذا مضافاً إلى أن الوضع لما لا حاجة إليه ، بل لا بد من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات

٣٥٦

المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه كان لغواً ، كما أشرنا إليه ، فالظاهر ان اللام مطلقاً يكون للتزيين كما في الحسن والحسين واستفادة الخصوصيات انما تكون بالقرائن التي لا بد منها لتعيينها على كل حال ولو قبل بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى ، ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة لو لم تكن مخلة ، وقد عرفت إخلالها فتأمل جيداً.

ما أفاده (قده) يتضمن عدة نقاط :

الأولى : ان كلمة (اللام) لو كانت موضوعة للدلالة على التعريف والتعيين فلازمه عدم إمكان حمل المفرد المعرف باللام على الخارجيات ، وذلك لأن الجنس المعرف بها لا تعين له في الخارج على الفرض ، وعليه فلا محالة يكون تعيّنه في أفق النّفس يعني ان كلمة (اللام) تدل على تعيينه وتمييزه من بين أثر المعاني في الذهن.

ومن المعلوم ان الموجود الذهني غير قابل للحمل على الموجود الخارجي إلا بالتجريد.

الثانية : ان لازم ذلك هو التصرف والتأويل في القضايا المتعارفة المتداولة بين العرف ، حيث ان الحمل فيها على هذا غير صحيح بدون ذلك مع أن التأويل والتصرف فيها لا يخلوان عن التعسف لفرض صحة الحمل فيها بدونهما.

الثالثة : ان وضع كلمة (اللام) لذلك لغو محض فلا يصدر من الواضع الحكيم.

الرابعة : ان كلمة (اللام) تدل على التزيين فحسب من دون أن تكون موضوعة للدلالة على التعريف والتعيين.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط : أما النقطة الأولى فهي تبتني على

٣٥٧

كون كلمة (اللام) موضوعة للدلالة على تعين مدخولها في أفق الذهن بنحو يكون التعين الذهني جزء معناه الموضوع له أو قيده ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان وضعها للدلالة على التعريف والتعيين لا يستلزم كون التعين جزء معنى مدخولها أو قيده ، ضرورة ان اسم الجنس موضوع لمعنى واحد سواء أكان مع اللام أو بدونه وانه مع اللام لم يوضع لمعنى آخر غيره. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى اننا إذا راجعنا في مرتكزاتنا الذهنية نرى ان كلمة (اللام) تدل على معنى هي موضوعة بإزائه ـ وهو التعريف والإشارة ـ وليس بحيث يكون وجودها وعدمها سيان وانه لا أثر لها ما عدا التزيين فيكون حالها حال الأسماء الإشارة والضمائر من هذه الناحية فكما ان اسم الإشارة موضوع للدلالة على تعريف مدخوله وتعيينه في موطنه حيث قد يشار به إلى الموجود الخارجي كقولنا (هذا زيد) وقد يشار به إلى الكلي كقولنا هذا الكلي يعني الإنسان مثلا أخص من الكلي الآخر. وهو الحيوان ـ بل قد يشار به إلى المعدوم كقولنا (هذا الشيء معدوم) ولا وجود له أو هذا القول معدوم وغير موجود بين الأقوال ، فكذلك كلمة (اللام) فقد يشار بها إلى الجنس كقولنا (أكرم الرّجل وقد يشار بها إلى الاستغراق كقولنا (أكرم العلماء) بناء على دلالة الجمع المعرف باللام على العموم ، وقد يشار بها إلى العهد الخارجي ، وقد يشار بها إلى العهد الحضوري فهي في جميع هذه الموارد قد استعملت في معنى واحد ، والاختلاف انما هو في المشار إليه بها.

وبكلمة أخرى ان ما دلت عليه كلمة (اللام) من التعريف والإشارة فهو غير مأخوذ في المعنى الموضوع له لمدخولها لا جزء ولا شرطا ، ولذا لا تختلف معنى المفرد المعرف باللام عما إذا كان مجرداً عنها فشأنها الإشارة

٣٥٨

إلى معنى مدخولها. فان كان جنساً فهي تشير إليه ، وان كان استغراقاً فهي تشير إليه وهكذا ، وكيف كان فالظاهر ان دلالتها على هذا المقدار من المعنى غير قابلة للإنكار وانها مطابقة للارتكاز والوجدان في الاستعمالات المتعارفة وان لم يكن لها مرادف في سائر اللغات كي نرجع إلى مرادفها في تلك اللغات ونعرف معناها حيث انه من أحد الطرق لمعرفة معاني الألفاظ الا ان في المقام لا حاجة إلى هذا الطريق لوجود طريق آخر فيه وهو التبادر والارتكاز.

وأما العهد الذهني فالظاهر ان دخول كلمة (اللام) عليه لا يفيد شيئاً فيكون وجودها وعدمها سيان فلا فرق بين قولنا (لقد مررت على اللئيم) وقولنا (لقد مررت على لئيم) بدون كلمة (اللام) ، فان المراد منه واحد على كلا التقديرين ـ وهو المبهم غير المعين في الخارج ـ ولا تدل كلمة (اللام) على تعيينه فيه وأما دخولها عليه فهو انما يكون من ناحية ان أسماء المعرب في كلمات العرب لم تستعمل بدون أحد أمور ثلاثة : التنوين. الألف واللام. والإضافة لا أنها تدل على شيء ففي مثل ذلك صح أن يقال ان (اللام) للتزيين فحسب كاللام الداخل على أعلام الأشخاص. وببالي ان المحقق الرضي ذهب إلى ذلك أي كون اللام للتزيين في خصوص العهد الذهني.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس‌سره) من ان كلمة (اللام) لم توضع للدلالة على معنى وانما هي للتزيين فحسب خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له على إطلاقه ، وانما يتم في خصوص العهد الذهني فقط.

ومنها الجمع المعرف باللام ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ان دلالته على العموم لا تخلو من أن تكون من جهة وضع المجموع لذلك

٣٥٩

أو وضع خصوص كلمة (اللام) لها يعني انها إذا دخلت على الجمع تدل على ذلك.

وأما ما ذكره بعض الأصحاب من ان كلمة (اللام) بما انها موضوعة بإزاء التعريف والإشارة فلا بد أن يراد جميع أفراد مدخولها حيث لا تعيين لسائر مراتبها (الافراد) الا تلك المرتبة يعني المرتبة الأخيرة فهو غير تام وذلك لأنه كما ان لتلك المرتبة تعين في الواقع كذلك للمرتبة الأولى وهي أقل مرتبة الجمع ، فإذاً لا دليل على تعيين تلك دون هذه هذا.

ولكن الظاهر ان ما ذكره هذا البعض هو الصحيح والسبب فيه ما ذكرناه في ضمن البحوث السالفة من ان هذه المرتبة أي أقل مرتبة الجمع أيضا لا تعين لها في الخارج وان كان لها تعيين بحسب مقام الإرادة فان الثلاثة التي هي أقل مرتبة الجمع تصدق في الخارج على الافراد الكثيرة ولها مصاديق متعددة فيه كهذه الثلاثة وتلك وهكذا.

وبكلمة أخرى ان كل مرتبة من مراتب الاعداد كالثلاثة والأربعة والخمسة والستة وهكذا كان قابلا للانطباق على لافراد الكثيرة في الخارج فلا تعين لها فيه حيث انا لا نعلم ان المراد منها فيه هذه الثلاثة أو تلك وهكذا.

نعم لها تعين في أفق النّفس وفي إطار الإرادة دون أفق الخارج وإطاره هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان كلمة (اللام) تدل على التعين الخارجي ، ومن ناحية ثالثة ان التعين الخارجي منحصر في المرتبة الأخيرة من الجمع وهي إرادة جميع افراد مدخوله حيث ان له مطابقاً واحداً في الخارج فلا ينطبق الا عليه ، فإذاً يتعين إرادة هذه المرتبة من الجمع يعني المرتبة الأخيرة دون غيرها بمقتضى دلالة كلمة (اللام) على التعريف والتعيين.

٣٦٠