محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

الإطلاقين معاً ويرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه طهارة ماء الاستنجاء ، ولكن هذا مجرد فرض لا واقع موضوعي له ، فالصحيح هو عدم جريانها في نفسها في أمثال المقام.

الثانية : ان مقتضي الارتكاز العرفي هو التلازم بين نجاسة شيء ونجاسة ملاقيه وعلى ضوء هذا التلازم فما دل على طهارة الملاقي (بالكسر) يدل بالالتزام العرفي على طهارة الملاقي (بالفتح) وفيما نحن فيه بما أن الطائفة الثالثة تدل على طهارة الملاقي لماء الاستنجاء فبطبيعة الحال تدل بالالتزام العرفي على طهارة ماء الاستنجاء. فتكون مخصصة للطائفة الأولى.

ويرد على هذه الدعوى : أولا ان هذه الدلالة الالتزامية معارضة بالدلالة الالتزامية الموجودة فيما دل على نجاسة العذرة الشامل بإطلاقه للعذرة عند ملاقاة ماء الاستنجاء لها جزماً حيث أنه يدل بالدلالة الالتزامية على نجاسته بالملاقاة ، فان مقتضى تلك الدلالة الالتزامية نجاسة ماء الاستنجاء ومقتضى هذه طهارته فلا يمكن الجمع بينهما للتدافع.

نعم على هذا فالنتيجة هي القول بالطهارة حيث ان كلتا الدلالتين الالتزاميتين تسقط فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة الطهارة وثانياً ان المستفاد من روايات الباب وهي الطائفة الثالثة ـ عدم وجود هذه الدلالة الالتزامية حيث ان محط السؤال فيها عن حكم الملاقي لماء الاستنجاء.

ومن الطبيعي ان السؤال عن حكمه من حيث الطهارة أو النجاسة مساوق لعدم الجزم بالملازمة بين نجاسة شيء ونجاسة ملاقيه اما في مرتبة ملاقاة الثوب أو البدن لماء الاستنجاء أو في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة بعد اليقين بنجاسة العذرة ، وحكم الإمام عليه‌السلام في تلك الروايات بطهارة الثوب الملاقي لا محالة يدل على عدم الملازمة في إحدى المرتبتين فان كان

٢٤١

عدم الملازمة في مرتبة ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء فمرده إلى التخصيص في المقام وان كان في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة فمرده إلى التخصص وحيث ان تلك الطائفة يعني الروايات الدالة على طهارة الثوب لا تدل على تعيينه أي تعيين عدم الملازمة في إحدى المرتبتين خاصة فلا محالة لا ظهور لها في طهارة ماء الاستنجاء ولا دلالة لها عليها ، فإذاً لا مانع من الرجوع إلى عموم الطائفة الأولى حيث ان قضيته انفعال الماء القليل بملاقاة النجس وقد تحصل من ذلك ان الأظهر حسب القاعدة نجاسة ماء الاستنجاء وتترتب عليها آثارها ما عدا انفعال الملاقي له.

ولكن مع ذلك لا يمكن رفع اليد عن الروايات الظاهرة في الطهارة ولا سيما معتبرة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام «عن الرّجل يقع ثوبه على الماء الّذي استنجى به أينجس ذلك ثوبه قال لا» فانها تدل بمقتضى الفهم العرفي على عدم نجاسة ماء الاستنجاء ويزيد على ذلك وخصوصاً ملاحظة حال المفتي والمستفتى ، فانه إذا سأل العامي مقلده عما أصابه ماء الاستنجاء وأجابه بأنه غير منجس فهل يشك السائل في طهارة ماء الاستنجاء عندئذ.

وعليه فهذه الروايات تعيين عدم الملازمة في ملاقاة ماء الاستنجاء لعين النجاسة ـ وهي العذرة في مفروض المقام ـ نظراً إلى انها واردة في مورد خاص ، دون ما دل على نجاسة العذرة ، فانه يدل بالالتزام على نجاسة ملاقيها مطلقاً في هذا المورد وغيره ، وهذه الروايات تخصص هذه الدلالة الالتزامية في غير هذا المورد.

بقي هنا شيء وهو ان ما علم بخروجه عن حكم العام إذا دار أمره بين فردين أحدهما فرد للعام والآخر ليس فرداً له كما إذا تردد أمر زيد في مثل (لا تكرم زيداً) بين زيد العالم وغيره من ناحية الشبهة المفهومية

٢٤٢

ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بأصالة العموم بالإضافة إلى زيد العالم لفرض ان الشك كان في خروجه عن حكم العام ، وبذلك يثبت التخصص يعني ان الخارج هو زيد الجاهل بناء على ان مثباتها حجة ، والوجه فيه هو ان هذا المورد من موارد التمسك بها ، حيث ان فرديته للعام محرزة والشك انما هو في خروجه عن حكمه ، وهذا بخلاف المسألة المتقدمة حيث انها بعكس ذلك تماماً يعني ان هناك كان خروج الخارج عن حكم العام معلوماً والشك انما هو في فرديته له وقد تقدم أنه لا دليل في مثل ذلك على جريان أصالة العموم لإثبات التخصص.

ولكن قد يقال : بأن العلم الإجمالي بحرمة إكرام زيد المردد بين العالم وغيره موجب لترك إكرامهما وأصالة العموم لا توجب انحلاله نظراً إلى انها غير متكفلة لبيان حال الافراد ، وليس حالها كقيام أمارة على أن زيد العالم يجب إكرامه حيث أنه يوجب انحلاله جزماً نظراً إلى انها متكفلة لبيان حال الفرد دونها ، فإذاً تسقط عن الحجية بالإضافة إلى زيد العالم أيضا.

وغير خفي ما في هذا القول ، فان أصالة العموم وان لم تكن ناظرة إلى بيان حال الافراد إلا انها مع ذلك توجب انحلال هذا العلم الإجمالي بيان ذلك هو أن لها دلالة مطابقية ودلالة التزامية ، فبالأولى تدل على وجوب إكرام زيد العالم ، وبالثانية تدل على انتفاء الحرمة عنه وإثباتها لزيد الجاهل باعتبار أن مثبتاتها حجة ، وعلى هذا فلا محالة ينحل هذا العلم الإجمالي إلى علمين تفصيليين هما : العلم بوجوب إكرام زيد العالم ، والعلم بحرمة إكرام زيد الجاهل فلا تردد حينئذ.

وفي نهاية المطاف قد استطعنا أن نخرج بالنتيجة التالية وهي ان مسألة دوران الأمر بين التخصيص والتخصص إذا كانت بالإضافة إلى فرد واحد فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة أنه لا دليل على جريان أصالة العموم

٢٤٣

فيها لإثبات التخصص ، فإثبات كل منهما يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه إلا إذا كان هناك أصل موضوعي يحرز به ان المشكوك فرد للعام أو ليس بفرد له. فعلى الأول يثبت التخصيص ، وعلى الثاني التخصص ، ولكنه خارج عن مفروض الكلام.

نعم قد يكون مقتضى دليل آخر التخصيص كما في مسألة ماء الاستنجاء فان نتيجة التمسك بعموم ما دل على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس هي نجاسة ماء الاستنجاء ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم بطهارة الملاقي له تخصيصاً في دليل انفعال الملاقي لماء النجس. وقد سبق تفصيل ذلك بشكل موسع. وأما إذا كانت «كبرى مسألة دوران الأمر بينهما» بالإضافة إلى فردين يكون أحدهما فرداً للعام والآخر ليس بفرد له فقد عرفت أنه لا مانع من الرجوع إلى أصالة العموم لإثبات التخصص.

إلى هنا قد انتهينا إلى عدة نقاط :

الأولى : ان الكلام في جواز التمسك بالعامّ بعد ورود التخصيص عليه يقع في موارد ثلاثة ١ ـ في الشبهات الحكمية. ٢ ـ في الشبهات المفهومية. ٣ ـ في الشبهات المصداقية اما في الأولى فلا خلاف في جواز التمسك بالعامّ فيها الا ما نسب إلى بعض العامة من عدم جوازه مطلقاً أو التفصيل بين المخصص المنفصل والمخصص المتصل فلا يجوز في الأول دون الثاني ،

الثانية : الصحيح هو جواز التمسك بالعامّ مطلقاً يعني بلا فرق بين كون المخصص منفصلا أو متصلا. ودعوى ان المخصص إذا كان منفصلا يوجب التجوز في العام المستلزم لإجماله فلا يمكن التمسك به خاطئة جداً وذلك لعدة وجوه : منها ما عن شيخنا الأستاذ (قدس‌سره) على تفصيل تقدم.

٢٤٤

الثالثة : ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) يرجع إلى عدة نقاط وقد ناقشنا في النقطة الثالثة منها فحسب دون غيرها.

الرابعة : ان العام دائماً يستعمل في معناه الموضوع له وان لم يكن مراداً واقعاً وجداً فان الإرادة الجدية قد تكون مطابقة للإرادة الاستعمالية وقد لا تكون مطابقة لها وما أورده شيخنا الأستاذ (قده) من انا لا تعقل للإرادة الاستعمالية في مقابل الإرادة الجدية معنى معقولا قد ذكرنا خطائه وانه لا واقع موضوعي له.

الخامسة : ان الوجه الثاني والثالث كليهما يرجع إلى ما حققناه في المقام وليس وجهاً آخر في قبال ما ذكرناه.

السادسة : ان ما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قده) من أن التخصيص في العام وان استلزم المجاز فيه إلا أنه لا يمنع من التمسك به بالإضافة إلى غير ما هو الخارج عنه من الافراد لا يمكن المساعدة عليه بوجه على ما عرفت بشكل موسع.

السابعة : ان المخصص المجمل بحسب المفهوم تارة يدور أمره بين الأقل والأكثر وأخرى بين المتباينين وعلى كلا التقديرين مرة أخرى يكون متصلا وأخرى يكون منفصلا فان كان متصلا منع عن أصل انعقاد ظهور العام في العموم من دون فرق بين أن يكون دائراً بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين وان كان منفصلا فان كان أمره دائراً بين الأقل والأكثر فيما أنه لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهور العام في العموم فبطبيعة الحال يقتصر في تخصيصه بالمقدار المتيقن ـ وهو خصوص الأقل ـ وفي الزائد عليه يرجع إلى عموم العام وان كان دائراً بين المتباينين فهو وان لم يوجب إجمال العام حقيقة الا انه يوجب إجماله حكماً فلا يمكن التمسك به.

٢٤٥

الثامنة : أنه لا يجوز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية مطلقاً أي سواء أكان المخصص متصلا أم كان منفصلا أما على الأول فواضح كما تقدم بشكل موسع وأما على الثاني فكذلك حيث ان القضية سواء أكانت حقيقية أم كانت خارجية لا تتكفل لبيان موضوعها نفياً وإثباتياً وانما هي متكفلة لبيان الحكم عليه على تقدير تحققه في الخارج وما نسب إلى المشهور من انهم يجوّزون التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية مبني على الحدس والاستنباط ولعله لا أصل له وأما ما نسب إلى السيد الطباطبائي (قده) من جواز التمسك به فيها لا أصل له كما عرفت بشكل مفصل.

التاسعة : ان شيخنا الأستاذ (قده) قد ذكر ان المشهور حكموا بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عادية أو غير عادية واحتمل ان وجه فتواهم بذلك أحد أمور ثم ناقش في جميع هذه الأمور وبعد ذلك بين (قده) وجهاً آخر لذلك وقد تقدم ان ما ذكره (قده) من الوجه متين جداً. نعم فيما إذا كان المالك راضياً بتصرف ذي اليد في ماله ولكنه يدعى ضمانه بعوضه وهو يدعى فراغ ذمته عنه ففي مثل ذلك مقتضى الأصل عدم الضمان على تفصيل تقدم.

العاشرة : ان ما يمكن ان يستدل به على جواز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية هو أن ظهور العام في العموم قد انعقد والمخصص المنفصل لا يكون مانعاً عن انعقاده على الفرض والمفروض ان هذا الظهور حجة ما لم يقم دليل على خلافه ولا دليل عليه بالإضافة إلى الافراد المشكوكة حيث ان الخاصّ لا يكون حجة فيها وقد عرفت بشكل موسع خطأ هذا الاستدلال فلاحظ.

الحادية عشرة : ان شيخنا العلامة الأنصاري (قده) فصل بين ما كان المخصص لفظياً وما كان لبياً فعلى الأول لا يجوز التمسك بالعامّ

٢٤٦

دون الثاني وتبعه فيه المحقق صاحب الكفاية (قده) أيضا وقد أفاد في وجه ذلك ما يرجع إلى عدة خطوط وقد فصلنا الكلام حول هذه الخطوط بشكل موسع وقلنا ان هذا التفصيل لا يرجع إلى معنى محصل فالصحيح هو تفصيل آخر وهو ان في كل مورد ثبت أن أمر التطبيق أيضا بيد المولى يجوز التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية وكل مورد كان أمر التطبيق بيد المكلف لا يجوز التمسك به.

الثانية عشرة : الصحيح جريان الأصل في الاعدام الأزلية وعليه فيمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام وترتب حكمه عليه ولكن الكر ذلك شيخنا الأستاذ (قده) وشدد ذلك ببيان مقدمات ؛ وقد ذكرنا ان المقدمات التي ذكرها (قده) بأجمعها في غاية الصحة والمتانة إلا انها لا تقتضي عدم جريان هذا الأصل وان المأخوذ في موضوع العام بعد التخصيص هو العدم النعتيّ لا المحمولي وقد عرفت ان المأخوذ فيه هو العدم المحمولي وعليه فلا مانع من جريان هذا الأصل لإحراز ان الفرد المثبتة داخل في أفراد العام ومحكوم بحكمه.

الثالثة عشرة : أنه يعتبر في صحة النذر أن يكون متعلقه راجحاً فلو شك في ذلك لم يجز التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر لأن الشبهة مصداقية فلا يجوز التمسك بالعامّ فيها ، وأما صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر وكذلك الصوم في السفر فانما هي من جهة الروايات الخاصة لا من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر.

الرابعة عشرة : إذا علم بخروج فرد عن حكم العام وشك في ان خروجه من باب التخصيص أو من باب التخصص فلا يمكن التمسك بأصالة عدم التخصيص لإثبات ان خروجه من باب التخصص فان الأصول اللفظية وان كانت مثبتاتها حجة إلا أنه لا دليل على جريانها في مثل المقام.

٢٤٧

الخامسة عشرة : ان الأقوال في ماء الاستنجاء ثلاثة الصحيح بمقتضى الفهم العرفي انه طاهر فان ما دل على طهارة ماء الاستنجاء بالملازمة العرفية يتقدم على ما دل على نجاسته كذلك ، لوروده في مورد خاص.

(الفحص عن المخصص)

قبل التكلم في أدلته ينبغي تقديم ـ ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) تبعاً للمحقق صاحب الكفاية ـ وهو نقطة الفرق بين الفحص هنا والفحص في موارد الأصول العملية وحاصلها هو ان الفحص في المقام انما هو عن المانع والمزاحم لحجية الدليل مع ثبوت المقتضي لها ـ وهو ظهوره في العموم ـ حيث أنه قد انعقد لفرض عدم الإتيان بالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد ظهوره في العموم ، والفحص انما هو عن وجود قرينة منفصلة وهي انما تزاحم حجية العام لا ظهوره ، فالمقتضي للعمل به موجود ـ وهو الظهور ـ والفحص انما هو لرفع احتمال وجود المانع عنه في الواقع ، وهذا بخلاف الفحص في الشبهات البدوية في موارد التمسك بالأصول العملية ، فانه لتتميم المقتضى ، أما بالإضافة إلى أصالة البراءة العقلية فواضح حيث ان العقل لا يستقل بقبح العقاب بدون بيان ما لم يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى المتوجهة إليه ، لوضوح أنه لا يجب على المولى إيصال الأحكام إلى المكلفين على نحو لا يخفى عليهم شيء منها ، بل الّذي هو وظيفة المولى بيان الأحكام لهم على النحو المتعارف بحيث انهم لو قاموا بما هو وظيفتهم وهي الفحص عنها لو صلوا إليها.

وعلى هذا الضوء فلا يكون موضوع أصالة البراءة العقلية محرزاً قبل الفحص ، فان موضوعها عدم البيان فلا بد في جريانها من إحرازه ، ومن

٢٤٨

المعلوم أنه قبل الفحص غير محرز حيث يحتمل وجود بيان في الواقع بحيث لو تفحصنا عنه لوجدناه ، ومع هذا الاحتمال كيف يكون محرزاً.

فالنتيجة ان عدم جريانها قبل الفحص انما هو لعدم المقتضي لها والفحص انما هو لتميمه وإحراز موضوعها. وعلى الجملة فمن البديهي ان العقل يستقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول إذا لم يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى مع احتمال قيام المولى بما هو وظيفته من بيان أحكامه المتوجهة إلى عبده بحيث ان العبد لو تفحص عنها لظفر بها ، ومعه كيف يكون العقل مستقلا بعدم استحقاق العقاب عليها ، وقد ذكرنا في محله أنه لا تنافي بين هذه القاعدة وقاعدة قبح العقاب من دون بيان لاختلافهما مورداً وموضوعاً. أما مورداً فلأن مورد تلك القاعدة ما كان التكليف الواقعي فيه منجزاً بمنجز ما ، دون مورد هذه القاعدة أي قاعدة قبح العقاب حيث ان التكليف الواقعي فيه غير منجز لفرض عدم قيامه منجز عليه ، واما موضوعاً فلأن موضوع تلك القاعدة هو ما قام بيان على التكليف ومنجز عليه ولو كان ذلك البيان والمنجز نفس احتماله في الواقع ، حيث انه منجز بحكم العقل إذا كان قبل الفحص وأما موضوع هذه القاعدة هو ما لا يقوم بيان ومنجز عليه.

وأما البراءة الشرعية فأدلتها على تقدير تماميتها سنداً وان كانت مطلقة وغير مقيدة بالفحص إلا ان إطلاقها قد قيد باستقلال العقل بوجوب الفحص وانه لا يجوز العمل بإطلاقها وإلا لزم كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً. ضرورة انه لو لم يجب الفحص بحكم العقل والنّظر لم يمكن إثبات أصل النبوة حيث ان إثباتها يتوقف على وجوب النّظر إلى المعجزة وبدونه لا طريق لنا إلى إثباتها. وعلى الجملة فكما ان ترك النّظر إلى المعجزة قبيح بحكم العقل المستقل لاستلزامه نقض الغرض الداعي إلى بعث

٢٤٩

الرسل وإنزال الكتب ، فكذلك ترك الفحص عن الأحكام الشرعية المتوجهة إلى العباد بعين هذا الملاك.

فالنتيجة ان موضوع أدلة البراءة الشرعية قد قيد بما بعد الفحص فالفحص في مواردها انما هو متمم لموضوعها ، ومن ذلك يظهر حال دليل الاستصحاب أيضا حرفاً بحرف.

ولنأخذ بالنظر على ما أفاداه (قدهما) بيان ذلك ان هذه النظرية وان كانت لها صورة ظاهرية إلا أنه لا واقع موضوعي لها ، فان الفحص في كلا المقامين كان مرة عن ثبوت المقتضي والموضوع ، ومرة أخرى عن وجود المزاحم والمانع ، توضيح ذلك أن العمومات الواردة في الكتاب أو السنة أو من الموالي العرفية ان كانت في معرض التخصيص بحيث قد قامت قرينة من الخارج على أن المتكلم بها قد اعتمد في بيان مراداته منها على القرائن المنفصلة والبيانات الخارجية المتقدمة أو المتأخرة زماناً حيث ان دأبه انما هو على عدم بيان مراده في مجلس واحد أو أخَّر البيان لأجل مصلحة مقتضية لذلك كما هو الحال في عمومات الكتاب حيث ان الله تعالى أوكل بيان المراد منها إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليه‌السلام.

ومن هنا قد ورد من الأئمة الأطهار عليهم‌السلام مخصصات بالإضافة إلى عمومات الكتاب والسنة أو ورد منهم عليهم‌السلام عمومات ولكن أخر بيانها إلى أمد آخر لأجل مصلحة تقتضي ذلك أو مفسدة في البيان كخلاف تقية أو نحوها.

ونتيجة ذلك ان مثل هذه العمومات التي قد علمنا من الخارج انها في معرض التخصيص وان دأب المتكلم بها انما هو على بيان مراداته الواقعية منها بالقرائن المنفصلة المتأخرة عنها زماناً أو المتقدمة عليها كذلك لا يكون حجة قبل الفحص ، لعدم إحراز بناء العقلاء على العمل بها قبله ، وبدونه

٢٥٠

فلا يمكن التمسك بها ، حيث ان عمدة الدليل على حجيتها انما هو بناء العقلاء على التمسك بها. وبما اننا لم نحرز البناء منهم بالتمسك بتلك الطائفة من العمومات قبل الفحص عن وجود القرائن على خلافها فلا يمكن الحكم بحجيتها بدونه ، فإذاً بطبيعة الحال كان الفحص عن وجود تلك القرائن بالإضافة إلى هذه العمومات متمماً للموضوع والمقتضى للعمل بها وبدونه لا يتم ، وعليه فحالها من هذه الناحية حال أصالة البراءة فكما ان الفحص في موارد التمسك بها يكون متمماً للموضوع والمقتضى له فكذلك الفحص في موارد التمسك بهذه العمومات.

وأما إذا كانت العمومات ليست من تلك العمومات التي تكون في معرض التخصيص كما هو الحال في أكثر العمومات الواردة من الموالي العرفية بالإضافة إلى عبيدهم وخدمهم ، أو من الموكلين بالإضافة إلى وكلائهم ، أو من الأمراء بالإضافة إلى المأمورين ، فان هذه العمومات ليست في معرض التخصيص ، ولأجل ذلك لا مانع من العمل بها قبل الفحص ، حيث انها كاشفة عن أن المراد الاستعمالي مطابق للمراد الجدي وظاهرة في ذلك ، وهذا الظهور حجة ما لم تقم قرينة على الخلاف ولا يجب عليهم الفحص.

والسر في ذلك كله هو أن السيرة القطعية من العقلاء قد جرت على العمل بها قبل الفحص فالتوقف عن العمل بها قبله خلاف تلك السيرة الجارية بينهم ، وهذا بخلاف تلك العمومات ، فان السيرة لم تجر على العمل بها قبل الفحص عن وجود المخصصات والقرائن على الخلاف نظراً إلى أنها غير كاشفة عن مطابقة الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدية فإذا كانت العمومات من هذا القبيل لم يجب الفحص عنها إلا فيما إذا علم إجمالا بورود مخصص عليها فعندئذ لا محالة يجب الفحص لأجل هذا العلم الإجمالي ،

٢٥١

حيث أنه لو لم ينحل بالفحص لكان موجباً لسقوطها عن الحجية والاعتبار وضرورة ان أصالة العموم تسقط في أطرافه.

ومن الواضح أن الفحص حينئذ انما هو عن وجود المانع والمزاحم مع ثبوت المقتضي للعمل بها يعني هذا العلم الإجمالي يكون مانعاً عن العمل بها مع ثبوت المقتضي له ، ومثل هذه العمومات الأصول العملية في الشبهات الموضوعية حيث ان المقتضي للعمل بها في تلك الشبهات تام ولا قصور فيه أصلا نظراً إلى أن جريانها فيها لا يتوقف على الفحص إلا في موارد العلم الإجمالي كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين مثلا أو بخمرية أحدهما ، فانه مانع عن جريان الأصول في أطرافه مع ثبوت المقتضي لها وعدم قصور فيه أبداً ، ولذا لو انحل هذا العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ بنجاسة أحدهما وجدانا أو تعبداً فلا مانع من جريانها في الآخر.

فالنتيجة أنه لا فرق بين الأصول العملية في الشبهات الموضوعية وتلك الطائفة من العمومات وانهما من واد واحد.

إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النقطة وهي أنه لا فرق بين الفحص في موارد الأصول اللفظية والفحص في موارد الأصول العملية فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) تبعا للمحقق صاحب الكفاية (قده) من الفرق بينهما خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا.

وبعد ذلك نقول : ان المعروف والمشهور بين الأصحاب هو عدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص وهذا هو الصحيح واستدل على ذلك بعدة وجوه : ولكنها بأجمعها مخدوشة وغير قابلة للاستدلال بها.

الأول : ان الظن بمراد المولى من العموم لا يحصل قبل الفحص فلزوم الفحص انما هو لتحصيل الظن به. وان شئت قلت : ان حجية أصالة العموم ترتكز على ما أفاده الظن بمراد المولى ، بما انها لا تفيد

٢٥٢

الظن قبل الفحص عن وجود المخصصات في الواقع فيجب حتى يحصل الظن به.

ويرد عليه أولا : أنه أخص من المدعى ، فان المدعي هو وجوب الفحص مطلقاً وان فرض حصول الظن منها قبل الفحص مع أن لازم هذا الوجه هو عدم وجوبه في هذا الفرض. وثانياً : ان حجية أصالة العموم إنما هي من باب إفادة الظن النوعيّ دون الشخصي كما ذكرناه بشكل موسع في محله ، وعليه فهي حجة سواء أفادت الظن أم لم تفيد ، بل لا يضر بحجيتها قيام الظن الشخصي على الخلاف فضلا عن الظن بالوفاق.

الثاني : ان خطابات الكتاب والسنة خاصة للمشافهين فلا تعم غيرهم من الغائبين والمعدومين وعليه فلا يمكن لهم أن يتمسكوا بعموم تلك الخطابات لفرض أنها غير متوجهة إليهم ، بل لا بد في إثبات الحكم المتوجه إلى المشافهين لهم من التمسك بذيل قانون الاشتراك في التكليف.

ومن الطبيعي ان التمسك بهذا القانون يتوقف على تعيين حكم المشافهين من تلك الخطابات وأنه عام أو خاص ، ومن المعلوم أن تعيينه منها يتوقف على الفحص ، فإذاً يجب على غير المشافهين الفحص.

فالنتيجة ان هذه النظرية تستلزم وجوب الفحص عن القرائن والمخصصات على غير المشافهين.

ويرد عليه أولا : أنه أخص من المدعى حيث أن جميع الخطابات الواردة في الكتاب والسنة بشتى أنواعها ليس من الخطابات المشافهة ، ضرورة أن بعضها ورد على نحو القضية الحقيقية.

ومن الطبيعي أنها غير مختصة بالمشافهين كقوله تعالى : «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» وما شاكله وكقوله عليه‌السلام (كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر) (وكل مسكر حرام) وما شابهها.

٢٥٣

وثانياً : انا سنذكر في ضمن البحوث الآتية انها لا تختص بالمشافهين والحاضرين في مجلس الخطاب ، بلى تعم غيرهم من الغائبين والمعدومين أيضا.

الثالث : ان كل من يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة يعلم إجمالا بورود مخصصات كثيرة للعمومات الواردة فيهما ، وبتعبير آخر أن المتصدي لذلك يعلم إجمالا بوجود قرائن على إرادة خلاف الظواهر من الكتاب والسنة وقضية هذا العلم الإجمالي عدم جواز العمل بها إلا بعد الفحص عن المخصص والقيد كما أن قضية العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الشريعة المقدسة عدم جواز العمل بالأصول العملية الا بعد الفحص عن الحجية على التكليف.

وقد يورد عليه بان المدرك لوجوب الفحص لو كان هو العلم الإجمالي لكانت قضيته وجوب الفحص عن كل ما يحتمل أن يكون فيه مخصص أو مقيد سواء أكان من الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة أم كان من غيرها.

أو فقل ان لازم ذلك هو وجوب الفحص عن كل كتاب يحتمل أن يكون فيه مخصص أو مقيد من دون فرق بين كون ذلك الكتاب كتابا فقهيا أو أصوليا أو غيرهما.

ومن الطبيعي ان المجتهد لا يتمكن من الفحص عن كل مسألة مسألة كذلك حيث ان عمره لا يفي بذلك ، وهذا دليل على ان المدرك لوجوب الفحص ليس هذا العلم الإجمالي.

والجواب عنه ان لنا علمين إجماليين : (أحدهما) علم إجمالي بوجود مخصصات ومقيدات في ضمن الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام. (وثانيهما) علم إجمالي بوجودهما في ضمن خصوص الروايات الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة وفي الأبواب المناسبة للمسألة ، وقضية العلم

٢٥٤

الإجمالي الأول وان كانت هي وجوب الفحص عن كل كتاب أو باب يحتمل وجود المخصص أو المقيد فيه الا ان هذا العلم الإجمالي ينحل بالعلم الإجمالي الثاني ، حيث ان المعلوم بالإجمال في ذاك العلم ليس بأزيد من المعلوم بالإجمال في هذا العلم ، ومعه لا محالة ينحل العلم الإجمالي الأول بالعلم الإجمالي الثاني يعني أنه لا علم لنا بوجود مخصص أو مقيد في الخارج عن دائرة العلم الإجمالي الثاني وان كان احتماله موجوداً الا انه لا أثر له ولا يكون مانعاً عن التمسك بالعموم أو الإطلاق.

ومن الطبيعي ان الفحص عن وجود المخصص أو المقيد في كل مسألة في الأبواب المناسبة لها بمكان من الإمكان ولا يلزم منه محذور العسر والحرج عادة فضلا عن عدم إمكان ذلك ، نظير ذلك ما إذا علمنا إجمالا بنجاسة عشرة إناءات في ضمن مائة إناء ثم علمنا إجمالا بنجاسة العشرة في ضمن الخمسين ، ونحتمل ان تكون العشرة في ضمن المائة بعينها هي العشرة في ضمن الخمسين.

وعلى هذا فلا محالة ينحل العلم الإجمالي الأول بالعلم الإجمالي الثاني يعني لا علم لنا بالنجاسة الخارجة عن دائرة العلم الإجمالي الثاني وهذا هو معنى الانحلال فإذاً لا يجب الاجتناب إلا عن أطراف هذا العلم الإجمالي الثاني دون الزائد عنها ، وقد أجبنا بمثل هذا الجواب عن هذه الشبهة التي أوردها هناك أيضا على وجوب الفحص في موارد التمسك بالأصول العملية فلاحظ.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان هذا الإشكال غير وارد على هذا الوجه. نعم يرد عليه إشكال آخر هو أن المقتضى لوجوب الفحص لو كان هذا العلم الإجمالي فبطبيعة الحال أنه انما يقتضي وجوبه ما دام لم ينحل فإذا انحل العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال لم يكن مقتض لوجوب الفحص بعده لا محالة.

٢٥٥

وعليه فلا مانع من التمسك بالعموم قبل الفحص ، مع أن المدعي وجوبه مطلقاً ولو بعد الانحلال ، ومن هنا يعلم ان العلم الإجمالي بما هو لا يصلح أن يكون مدركاً لوجوبه على الإطلاق.

هذا وقد تصدى شيخنا الأستاذ (قده) ان هذا العلم الإجمالي غير قابل للانحلال وأفاد في وجه ذلك ما إليك نصه : ليس الميزان في انحلال العلم الإجمالي هو مجرد وجود القدر المتيقن في البين ليترتب عليه ما ذكرت من انحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال من التكاليف أو المخصصات المستلزم لعدم وجوب الفحص وبعد ذلك عند احتمال تكليف أو تخصيص ، بل الميزان في الانحلال أمر آخر لا بد في توضيحه من بيان أمور :

الأول : أنه لا بد في موارد العلم الإجمالي من تشكيل قضية شرطية على سبيل منع الخلو ، ضرورة أنه لازم العلم بأصل وجود الشيء مع الشك في خصوصيته وانطباقه على كل واحد من أطرافه.

الثاني : أنه يختلف موارد العلم الإجمالي فتارة تكون القضية الشرطية التي لا بد منها في موارد العلم الإجمالي مؤتلفة من قضية متيقنة وقضية أخرى مشكوك فيها كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، وأخرى تكون القضية الشرطية المزبورة مؤتلفة من قضيتين يكون كل منهما مشكوكاً فيه كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين المتباينين ، وثالثة تكون تلك القضية جامعة لكلتا الخصوصيّتين فهي من جهة تكون مؤتلفة من قضية متيقنة وأخرى مشكوك فيها. ومن جهة أخرى مؤتلفة من قضيتين مشكوك فيهما ، ولازم ذلك انحلال العلم الإجمالي إلى علمين إجماليين أحدهما من قبيل القسم الأول ، والثاني من قبيل القسم الثاني.

الثالث : من القضايا التي قياساتها معها وهو استحالة أن يزاحم ما لا يقتضي

٢٥٦

خلاف شيء لما يقتضي ذلك.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم ان الانحلال في القسم الأول كعدمه وفي القسم الثاني مما لا ريب فيه ولا إشكال ، وأما القسم الثالث ففي انحلال العلم الإجمالي فيه وعدمه خلاف ، وتوهم الانحلال فيه هو الموجب لتوهم الانحلال في المقام.

ولكن التحقيق خلافه ، وتوضيحه : مع التطبيق على المقام هو ان يقال اننا إذا علمنا بعد المراجعة إلى ما بأيدينا من الكتب المعتبرة ان فيها ما يخالف الأصول اللفظية والعملية فكل ما فيها من التكاليف الإلزامية والتخصيصات الواردة على العمومات يكون منجزاً لا محالة ، لأن المفروض تعلق العلم به بهذا العنوان أعني به وروده في تلك الكتب ، وهذا العلم يوجب التنجز بمقدار عنوان متعلقه.

وعليه فالأحكام والمخصصات الواقعية الموجودة في تلك الكتب بما أنها معلومة بهذا العنوان مع قطع النّظر عن مقدار كميتها تكون ذات علامة وتعين فلا ينحل العلم بها بالظفر بمقدار يعلم بتحققه من التكاليف والمخصصات في هذه الكتب. فان العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر انما يكون منحلا إلى العلم بوجود الأقل والشك في وجود الأكثر إذا لم يكن الأكثر طرفاً لعلم إجمالي آخر متعلق بعنوان لم تلحظ فيه الكمية.

وأما فيما إذا كان كذلك كما في المقام فلا يكون للعلم بوجود الأقل موجباً للانحلال ـ لأن غاية الأمر ان العلم بالتكاليف أو المخصصات من جهة تعلقه بما هو مردد بين الأقل والأكثر لا يكون مقتضياً لتنجز الأكثر وذلك لا ينافي تنجزها من جهة تعلقه بماله تعين وعلامة.

وعليه فكل حكم احتمل المكلف جعله في الشريعة المقدسة أو كل عام احتمل أن يكون له مخصص يجب الفحص عنه في تلك الكتب

٢٥٧

لكونه من أطراف العلم الإجمالي المتعلق بماله تعين وعلامة. ولا يفرق في ذلك بين الظفر بالمقدار المتيقن من حيث الكمية والعدد وعدم الظفر به.

وبالجملة المعلوم بالإجمال في محل الكلام وإن كان مردداً بين الأقل والأكثر إلا أن ذلك بمجرده لا يكفي في عدم تنجز الأكثر بعد تعلق العلم به بعنوان آخر لم تلحظ فيه الكمية والعدد ، فغاية ما هناك هو عدم اقتضاء العلم الثاني للتنجز بالإضافة إلى المقدار الزائد على المتيقن ، لا أنه يقتضي عدم التنجز بالإضافة إلى ذلك المقدار فلا يعقل أن يزاحم اقتضاء العلم الأول للتنجز في تمام ما بأيدينا من الكتب على ما هو مقتضى المقدمة الثالثة ونظير ذلك ما إذا كنت عالماً بأنك مديون لزيد بمقدار مضبوط يمكن العلم به تفصيلا بالمراجعة إلى الدفتر فهل يساعد وجدانك على ان تكتفي بمراجعة الدفتر بمقدار يكون فيه القدر المتيقن من الدين وهل عدم الاكتفاء به إلا من جهة العلم باشتغال الذّمّة بمجموع ما في الدفتر الموجب لتنجز الواقع المعنون بهذا العنوان على ما هو عليه في نفس الأمر من الكمية والمقدار ، فاتضح مما ذكرناه ان الانحلال يتوقف زائداً على كون المعلوم مردداً بين الأقل والأكثر على أن لا يكون متعلق العلم معنوناً بعنوان آخر غير ملحوظ فيه الكمية والعدد.

وأما إذا كان كذلك فلا يعقل فيه الانحلال ويستحيل أن يكون مجرد اليقين بمقدار معين مما يندرج تحت ذلك العنوان موجباً له ، فانه يستلزم سقوط ما فيه الاقتضاء عن اقتضائه لأجل ما لا اقتضاء فيه وهو غير معقول.

نلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط :

الأولى : ان الضابط في انحلال العلم الإجمال ليس هو الظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن ، بل له نكتة أخرى لا بد في الحكم بالانحلال من توفر تلك النكتة ، وسوف يأتي توضيحها في ضمن النقاط التالية :

٢٥٨

الثانية : ان القضية المتشكلة في مورد العلم الإجمالي مرة تكون مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها كما هو الحال فيما إذا كان المعلوم بالإجمال مردداً بين الأقل والأكثر. وأخرى تكون مركبة من قضيتين مشكوكتين كما إذا تردد المعلوم بالإجمال بين أمرين متباينين. وثالثة تكون جامعة بين الأمرين يعني أن العلم الإجمالي في هذه الصورة ينحل في الحقيقة إلى علمين إجماليين ، فالمعلوم بالإجمال في أحدهما مردد بين الأقل والأكثر وفي الآخر بين المتباينين ، فهذه الصورة في الحقيقة مركبة من الصورتين الأولتين وليست صورة ثالثة في قبالهما.

الثالثة : ان العلم الإجمالي انما بكون قابلا للانحلال فيما إذا تعلق بعنوان لوحظ فيه الكمية والعدد من دون أن يكون ذا علامة وتعين في الواقع كما هو الحال في أكثر موارد العلم الإجمالي.

وأما إذا كان متعلقاً بعنوان ذات علامة وتعين في الواقع ولم تلحظ فيه الكمية والعدد فهو غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن ، ومثال ذلك هو ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءات ، وعلم أيضا بنجاسة خصوص إناء زيد مثلا المردد بين تلك الإناءات واحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الأول هو إناء زيد كما احتمل أن يكون غيره ، وبما أن المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني ذو علامة وتعين في الواقع دون المعلوم في العلم الإجمالي الأول فلا ينحل الثاني بانحلال الأول بالظفر بالمقدار المعلوم حيث أن نسبة إناء زيد إلى كل واحد من هذه الإناءات على حد سواء من دون فرق بين المعلوم منها بالتفصيل والمشكوك منها بالشك البدوي. وان شئت قلت : ان العلم التفصيليّ بنجاسة أحدها وان كان يوجب انحلال العلم الإجمالي الأول جزماً إلا أنه لا يؤثر بالإضافة إلى العلم الإجمالي الثاني ، فان المعلوم بالإجمال فيه وان احتمل انطباقه على المعلوم بالتفصيل

٢٥٩

إلا ان مجرد ذلك لا يكفي بعد ما كانت نسبته إلى كل واحد منها نسبة واحدة فلا تنحل القضية الشرطية فيه إلى قضيتين حمليتين :

إحداهما : متيقنة ، والأخرى : مشكوك فيها حيث ان ملاك انحلال العلم الإجمالي هو انحلال هذه القضية وهي قد انحلت في العلم الإجمالي الأول على الفرض دون العلم الإجمالي الثاني ، وما نحن فيه من هذا القبيل فان لنا علمين إجماليين :

أحدهما : متعلق بوجود المخصصات والمقيدات المردد في الواقع بين الأقل والأكثر.

وثانيهما : متعلق بوجوداتهما في خصوص الكتب الأربعة مثلا فالعلم الإجمالي الثاني يمتاز عن العلم الإجمالي الأول حيث ان المعلوم بالإجمال في العلم الثاني ذات علامة وتعين في الواقع دون المعلوم بالإجمال في العلم الأول.

ونتيجة ذلك هي : ان العلم الإجمالي الأول ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم دون الثاني ، نظراً إلى ان المعلوم بالإجمال فيه ذات علامة وتعين في الواقع من دون لحاظ الكمية والعدد فيه.

وعلى الجملة فإذا ظفرنا بالمقدار من المخصص والمقيد فان لوحظ بالإضافة إلى العلم الإجمال الأول فان كان بمقدار المعلوم بالإجمال فيه فقد انحل لا محالة ، وان لوحظ بالإضافة إلى العلم الإجمالي الثاني لم يؤثر فيه أصلا حيث لم تلحظ فيه الكمية ، فما دام العلم الإجمالي متعلقاً بماله تعيّن وعلامة في الواقع فهو غير قابل للانحلال ، ولا ينتفي إلا بانتهاء تعينه وعلامته فيه ، ولازم ذلك هو وجوب الاحتياط وبالإضافة إلى كل ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال المعنون بهذا العنوان والعلامة ، وفي المقام العلم الإجمالي الأول الّذي يدور المعلوم بالإجمال فيه بين الأقل والأكثر وان

٢٦٠