محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

الشرعية فقد تقدم مضافاً إلى انها ليست مسببة عن شيء أن النهي عنها غير معقول وان أراد به الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة المبرزة في الخارج بالصيغ المزبورة أو نحوها فقد عرفت أن النهي عنها لا يوجب فساد المعاملة وان فرض تعلقه بها بوصف كونها مبرزة في الخارج بمبرز ما كما هو مفروض الكلام هنا ، ضرورة أنه لا ملازمة بين حرمة معاملة تكليفاً وفسادها وضعاً فلا مانع من أن تكون المعاملة محرمة شرعاً كما إذا أوقعها أثناء الصلاة مثلا ، فانها محرمة على المشهور ، ومع ذلك يترتب عليها أثرها. ومن هنا لو أوقع شخص طلاق زوجته أثناء الصلاة لم يشك أحد في صحته إذا كان واجداً لسائر شرائط الصحة ، وكذا لو باع داره أثناءها مع أنه منهي عنه على المشهور ومحرم.

وعلى الجملة فالنهي المولوي عن الأمر الاعتباري بوصف كونه مبرزاً في الخارج ، وكذا النهي عن المبرز بالكسر بوصف كونه كذلك لا يدلان بوجه على فساد المعاملة لعدم التنافي بين حرمتها وصحتها أصلا وانما يدل النهي على فساد العبادة من ناحية التنافي بينهما وعدم إمكان الجمع كما عرفت.

وبكلمة أخرى أن النهي عن المسبب بالمعنى المتقدم في باب المعاملات لا يوجب تقييد إطلاق دليل الإمضاء بغير الفرد المنهي عنه إذا كان له إطلاق يشمله بنفسه ، وذلك لما عرفت من عدم التنافي بين حرمته تكليفاً وإمضاء الشارع إياه وضعاً حيث ان كلا منهما في إطاره الخاصّ تابع لملاك كذلك ولا تنافي بين الملاكين أصلا.

والسر فيه واضح وهو أنه إذا كان لدليل الإمضاء كقوله تعالى : «أحل الله البيع» أو نحوه إطلاق أو عموم فالنهي تكليفاً عن معاملة في مورد لا يوجب تقييد إطلاقه أو تخصيص عمومه بغيرها لعدم كونه مانعاً

٤١

عن شموله لها كيف حيث انه لا تنافي بين كون معاملة محكومة بالحرمة تكليفاً وكونها محكومة بالصحّة وضعاً ، ولذا صح تصريح المولى بذلك فإذا لم تكن منافاة بينهما فلا مانع من التمسك بإطلاقه أو عمومه لإثبات صحتها.

ومن هنا يظهر أن مثل هذا النهي لا يوجب حجر المكلف ومنعه عن إيجاده وعدم إمضاء الشارع إياه عند تحققه فان ما يوجب ذلك انما هو النهي الوضعي دون التكليفي.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أن قياس المقام بموارد ثبوت الحجر الوضعي خاطئ جداً وأنه قياس مع الفارق ، وذلك لأن النهي عن المعاملة في تلك الموارد إرشاد إلى فسادها حيث ان المكلف ممنوع من التصرف فيها وضعاً. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان ما رتبه (قده) من الفروع على ما ذكره من الضابط أيضا قابل للنقد بيان ذلك :

أما الفرع الأول ـ وهو تسالم الفقهاء على بطلان الإجارة على الواجبات المجانية ـ فانه وإن كان صحيحاً إلا أن البطلان غير مستند إلى ما أفاده (قده) من كون تلك الواجبات مملوكة له سبحانه وتعالى ، بل هو مستند إلى نقطة أخرى ، فلنا دعويان : (الأولى) ان بطلان الإجارة غير مستند إلى ما ذكره (الثانية) أنه مستند إلى نقطة أخرى.

أما الدعوى الأولى : فلأن نحو ملكه تعالى لشيء يغاير نحو الملك الاعتباري فلا يوجب بطلان العقد عليه ، فان معنى كون هذه الواجبات مملوكة له تعالى هو إضافتها إليه سبحانه ، ومن البديهي ان مجرد هذه الإضافة لا يقتضي بطلان الإجارة عليها والا لزم بطلانها في كل مورد يتصف متعلقها بالوجوب ولو كان الوجوب كفائياً كما في الصناعات الواجبة كذلك ، وهذا مما لا نظن أن يلتزم به أحد حتى هو (قده).

فالنتيجة : ان مقتضى القاعدة صحة الإجارة على الواجبات فالوجوب

٤٢

بما هو لا يقتضي سلب المالية عنها ولا يوجب خروجها عن قابلية التمليك.

وأما الدعوى الثانية : فلأن المانع من صحة الإجارة عليها انما هو إلزام الشارع بالإتيان بها مجاناً ، ومن الطبيعي أن هذا العنوان لا يجتمع مع عنوان الإجارة عليها.

ويكلمه أخرى قد عرفت أن مقتضى القاعدة الأولية جواز الإجارة على كل واجب الا ما قامت القرينة من الخارج على لزوم الإتيان به مجاناً وبلا عوض. وعلى هذا فبما اننا علمنا من الخارج بوجوب الإتيان بتلك الواجبات مجاناً ومن دون عوض فبطبيعة الحال لا تصح الإجارة عليها ، فالنتيجة أن البطلان مستند إلى هذه النقطة دون ما أفاده (قده).

وأما الفرع الثاني ـ وهو بيع منذور الصدقة ـ فان النذر إذا لم يكن نذر النتيجة فلا يكون بطلان بيع المنذور مما تسالم عليه الفقهاء ، بل هو محل خلاف بينهم ، فاذن كيف يجوز الاستشهاد به على بطلان المعاملة فيما نحن فيه. وبقول آخر ان النذر المتعلق بشيء على قسمين : (أحدهما) نذر النتيجة (وثانيهما) نذر الفعل أما الأول فعلى تقدير تسليم صحته فهو وإن كان يوجب بطلان البيع نظراً إلى ان المال المنذور قد انتقل من ملك الناذر إلى ملك المنذور له ، وعليه فلا محالة يكون بيع الناذر إياه بيع لغير ملكه فيلحقه حكمه إلا أن هذا الفرض خارج عن مورد كلامه (قده) حيث ان كلامه ناظر إلى أن المانع عن صحة بيعه هو وجوب الوفاء به ، لا صيرورة المال المنذور ملكاً للمنذور له هذا.

والصحيح ان وجوب الوفاء به غير مانع عنها ، والسبب في ذلك هو أن وجوب الوفاء بالنذر لا ينافي إمضاء البيع حيث أنه لا منافاة بين لزوم إبقاء المال على الناذر تكليفاً بمقتضى التزامه به وصحة البيع وضعاً على تقدير تحققه في الخارج ، غاية الأمر انه يترتب على البيع المزبور استحقاق

٤٣

العقاب على المخالفة ولزوم الكفارة ، ومن الطبيعي ان شيئاً منهما لا يستلزم بطلان البيع بل إذا افترضنا ان المال المنذور قد انتقل إليه ثانياً بعد بيعه وفي ظرف الوفاء بالنذر لم يلزم الحنث أيضا من هذه الناحية أي من ناحية بيعه إياه.

وعلى الجملة حيث انه كان وجوب الوفاء بالنذر وجوباً تكليفياً محضاً فبطبيعة الحال أنه لا يستلزم بطلان البيع أصلا. فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من أن الناذر من جهة لزومه الوفاء بنذره يكون محجوراً عن التصرف في المال المنذور خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له.

ومن هنا يظهر حال الفرع الثالث ـ وهو ما إذا اشترط البائع على المشتري أن لا يبيع المال المشتري من غيره ـ فان غاية ما يترتب على هذا وجوب الوفاء به. وقد عرفت أنه لا ينافي صحة البيع وإمضائه على تقدير تحققه في الخارج فلا بد في الحكم بفساده من التماس دليل آخر وإلا لكان مقتضى الإطلاق صحته وترتب الأثر عليه.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي : أن النهي المتعلق بالمعاملة إذا كان إرشاداً إلى مانعية شيء عنها فلا إشكال في دلالته على فسادها من دون فرق في ذلك بين أن يكون النهي متعلقاً بنفس العقد أو الإيقاع كالنهي عن بيع الوقف وما لا يملك وبيع المجهول والنكاح في العدة والطلاق في طهر المواقعة وما شاكل ذلك وأن يكون متعلقاً بآثاره كقوله عليه‌السلام (ثمن العذرة سحت ، وثمن الكلب سحت) ونحو ذلك ، فهذه الطائفة من النواهي بكلا نوعها تدل على فساد المعاملة جزما وبلا خلاف وإشكال.

ومن هنا قلنا بخروجها عن محل الكلام. وأما إذا كان النهي نهياً مولوياً ودالا على حرمتها ومبغوضيتها فقد عرفت أنه لا يدل على فسادها بوجه سواء أكان متعلقاً بأحد جزئي المعاملة أو بكلا جزأيها ثم لا يخفى ان هذا القسم من

٤٤

النهي في باب المعاملات من العقود والإيقاعات قليل جداً والغالب فيه انما هو القسم الأول.

بقي الكلام حول الروايات الواردة في عدم نفوذ نكاح العبد بدون اذن سيده.

قد يتوهم ان تلك الروايات تدل على عدم الملازمة بين حرمة المعاملة وفسادها ببيان ان مفادها هو ان عصيان السيد لا يستلزم بطلان نكاح العبد رأساً وانما يوجب ذلك أن تتوقف صحته على إجازته واذنه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان عصيان السيد بما أنه يستلزم عصيانه تعالى فبطبيعة الحال تدل تلك الروايات من جهة هذه الملازمة على عدم استلزام عصيانه سبحانه وتعالى بطلان النكاح. ومن ناحية ثالثة ان ما دل على ان عصيانه تعالى مستلزم ـ لفساده وهو مفهوم قوله عليه‌السلام انه لم يعص الله وانما عصى سيده إلخ ـ فلا بد أن يراد به العصيان الوضعي بمعنى ان العبد لم يأت بالنكاح غير المشروع في نفسه كالنكاح في العدة على ما مثل الإمام عليه‌السلام له بذلك لئلا يكون قابلا للصحة ، بل جاء بأمر مشروع في نفسه وقابل للصحة بإجازة المولى. فالنتيجة على ضوء هذه النواحي ان هذه الروايات تدل على أن النهي التكليفي لا يدل على فساد المعاملة بوجه واما النهي الوضعي فانه يدل على فسادها جزماً.

تفصيل الكلام حول هذه المسألة فنقول : ان الأقوال فيها ثلاثة : (الأول) ان صحة نكاح العبد تتوقف على إجازة السيد فإذا أجاز جاز (الثاني) انه فاسد مطلقاً أي سواء أجاز سيده أم لا وإليه ذهب كثير من العامة. (الثالث) التفصيل بين ما إذا أوقع العبد العقد لنفسه وما إذا أوقع فضولة ومن قبل غيره فانه على الأول فاسد مطلقاً دون الثاني هذه هي الأقوال في المسألة.

٤٥

أما القول الأول : فانه في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عن الالتزام به ، وذلك لأنه مضافاً إلى أن صحته بالإجازة على طبق القاعدة قد دلت عليها روايات الباب بالصراحة ، وسيأتي توضيح ذلك في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

وأما القول الثاني : فهو واضح البطلان فانه مضافاً إلى أن الالتزام به بلا موجب خلاف صريح الروايات المشار إليها.

وأما القول الثالث فقد اختاره شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ونسبه إلى الشيخ التستري (ره) ، ونسبه شيخنا الأستاذ (قده) إلى المحقق القمي (قده) وكيف كان فقد ذكر في وجهه ان العقد الصادر منه لنفسه لا يمكن تصحيحه بإجازة المولى المتأخرة ، لفرض أنه من حين صدوره يقع فاسداً. ومن الطبيعي ان الشيء لا ينقلب عما هو عليه ، فاذن كيف يعقل انقلابه من الفساد إلى الصحة بالإجازة المتأخرة ، وهذا بخلاف العقد الصادر منه لغيره فانه وإن كان فضولياً حيث أنه بدون اذن سيده الا ان السيد إذا أجازه جاز نظراً إلى استناده إلى من له العقد من هذا الحين أي من حين الإجازة فتشمله الإطلاقات والعمومات. والسر في ذلك هو ان هذا العقد لم يقع من الأول فاسداً ، بل فساده كان مراعى بعدم إجازة المولى ، نظير بقية العقود الفضولية ، فإذا أجاز صح.

وبتعبير آخر : ان النكاح الصادر من العبد لنفسه بدون اذن مولاه كالنكاح الصادر من الصبي أو المجنون أو السفيه لنفسه بدون اذن وليه فكما انه غير قابل للتصحيح بإجازته نظراً إلى أنه فاسد من حين صدوره فكذلك نكاح العبد وهذا بخلاف ما إذا كان لغيره فان من له العقد بما انه غيره فصحته تتوقف على استناده إليه والمفروض ان الإجازة المتأخرة مصححة له هذا.

٤٦

ولنأخذ بالمناقشة على هذا التفصيل ملخصها أمران :

الأول : أنه لا فرق بين هذه الموارد وسائر موارد الفضولي ، فان صحته بالإجازة على القاعدة في جميع الموارد بلا فرق بين مورد دون مورد بل لا يبعد أن يكون الحكم بالصحّة في هذه الموارد أولى من غيرها ، وذلك لأن الاستناد هنا إلى مالك العقد موجود ولا قصور فيه إلا من ناحية ان صحته وترتب الأثر عليه شرعاً تتوقف على إجازة السيد أو الولي وعلى الجملة فلا فرق في صحة عقد الفضولي بالإجازة المتأخرة بين أن يكون عدم صحته من ناحية عدم استناده إلى المالك أو من هو في حكمه أو من ناحية عدم إجازة من يكون لإجازته دخل في صحته ، ففي جميع هذه الموارد يكون حكم الشارع بفساد العقد معلقاً على عدم الإجازة ، فإذا أجاز من له الإجازة جاز وصح. ومن الطبيعي أن هذا ليس من انقلاب الشيء عما وقع عليه فان الحكم بالفساد انما هو من جهة عدم تحقق شرط الصحة وهو الإجازة فإذا تحقق حكم بها لا محالة وهذا ليس من الانقلاب في شيء على ان إشكال لزوم الانقلاب لو تم لا يختص بمورد دون مورد بل يعم تمام موارد العقد الفضولي كما هو ظاهر.

الثاني : لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان مقتضى القاعدة عدم صحة العقد الفضولي والصحة تحتاج في كل مورد إلى دليل خاص إلا أن روايات الباب تكفينا دليلا على الصحة في المقام فان هذه الروايات وان وردت في خصوص نكاح العبد بغير اذن سيده إلا أنه يستفاد منها الكبرى الكلية وهي ان المعاملات إذا كانت في أنفسها ممضاة شرعاً لم يضر عصيان السيد بصحتها أصلا سواء أكانت نكاحاً أم كانت غيره. ضرورة أنه لا خصوصية النكاح في ذلك هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه لا خصوصية لعصيان السيد بما هو سيد إلا من جهة أن صحة المعاملة تتوقف على إجازته واذنه فإذا

٤٧

أجاز جازت. وعلى ذلك فكل من كانت إجازته دخيلة في صحة معاملة فعصيانه لا يضر بها فإذا أجاز المعاملة جازت.

وعلى الجملة فهذه الروايات في مقام بيان الفرق بين المعاملات الممضاة شرعاً في أنفسها والمعاملات غير ممضاة كذلك ، كالنكاح في العدة ونحوه وتدل على أن الطائفة الأولى إذا وقعت في الخارج فضولة وبدون إجازة من له الإجازة صحت بإجازته المتأخرة دون الثانية ، مثلا لو باع شخص مال غيره فضولة أو تزوج بامرأة كذلك فعندئذ ان أجازه المالك صح العقد.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : ان المراد من العصيان في تلك الروايات هو العصيان الوضعي لا العصيان التكليفي كما سيأتي بيانه بشكل موسع. فاذن تلك الروايات أجنبية عن محل الكلام في المسألة بالكلية فانها كما لا تدل على أن النهي عن المعاملة يدل على الصحة كذلك لا تدل على أن النهي عنها يدل على الفساد.

ولكن شيخنا الأستاذ (قده) قد استدل بهذه الروايات على دلالة النهي على الفساد ببيان ان المراد من عصيان الله تعالى فيها المستلزم للفساد بمقتضى مفهومها هو العصيان التكليفي. وأما ما ذكر من تحقق عصيانه سبحانه وتعالى في المقام نظراً إلى أن عصيان السيد يستلزم عصيانه تعالى فانه وان كان صحيحاً إلا ان المنفي في روايات الباب ليس مطلق عصيانه ولو كان مع الواسطة ، بل خصوص عصيانه المتحقق بمخالفة نهيه الراجع إلى حقه تعالى على عبيده مع قطع النّظر عن حقوق الناس بعضهم على بعض ، فيكون المتحصل من الروايات هو أن عصيان العبد بنكاحه لسيده من دون اذنه لو كان ناشئاً من مخالفة نهي متعلق بذلك النكاح من حيث هو في نفسه لما فيه من المفسدة المقتضية لذلك لا وجب ذلك فساده لا محالة كالنهي عن النكاح في العدة أو عن النكاح الخامس ، وهكذا ، وذلك لأن متعلق هذا النهي مبغوض للشارع حدوثاً وبقاء ، لفرض استمرار مفسدته

٤٨

المقتضية للنهي عنه ، وهذا بخلاف عصيان العبد الناشئ من مخالفة النهي عن التمرد على سيده فانه بطبيعة الحال يدور مدار تمرده عليه حدوثاً وبقاء ، فإذا افترضنا أن سيده رضى بما عصاه ارتفع النهي عنه بقاء ، وعليه فلا يبقى موجب لفساده أصلا ولا مانع من الحكم بصحته.

فالنتيجة ان المستفاد من الروايات هو : أن الفساد يدور مدار النهي الإلهي حدوثاً وبقاء ، غاية الأمر أنه إذا كان ناشئاً من تفويت حق الغير فهو انما يوجب فساد المعاملة فيما إذا كان النهي باقياً ببقاء ملاكه وموضوعه وأما إذا ارتفع حق الغير بارتفاع موضوعه بإجازة من له الحق تلك المعاملة ارتفع النهي عنها أيضا.

وقد تحصل من ذلك ان هذه الروايات تدل على أن النهي عن المعاملة ذاتاً يوجب فسادها وان صحتها لا تجتمع مع عصيانه تعالى. نعم إذا كان العصيان ناشئاً من تفويت حق من له الحق توقفت صحة المعاملة على إجازته كما عرفت.

ومن ضوء هذا البيان يظهر حال التعليل الوارد فيها وهو قوله عليه‌السلام (انه لم يعص الله وانما عصى سيده فإذا أجاز جاز) فان المراد من انه لم يعص الله يعني أنه لم يأت بما هو منهي عنه بالذات ومبغوض له تعالى من ناحية اشتماله على مفسدة ملزمة وانما أتى بما هو مبغوض لسيده فحسب من جهة تفويت حقه فلا يكون مبغوضاً له تعالى إلا بالتبع. ومن هنا يرتفع ذلك برضا سيده بما فعله وعصاه فيه.

أو فقل : ان نكاح العبد بما أنه ليس من أحد المحرمات الإلهية في الشريعة المقدسة ، بل هو أمر سائغ في نفسه ومشروع كذلك وانما هو منهي عنه من ناحية إيقاعه خارجاً بدون اذن سيده ، وعليه فبطبيعة الحال يرتفع النهي عنه بإذن سيده وإجازته ، ومع الارتفاع لا موجب للفساد أصلا.

٤٩

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قده) وهو : انه لا يمكن أن يراد من العصيان في الروايات العصيان التكليفي ، بل المراد منه العصيان الوضعي في كلا الموردين والسبب في ذلك هو ان النكاح المزبور بما أنه مشروع في نفسه في الشريعة المقدسة لا يكون مانع من صحته ونفوذه بمقتضى العمومات الا عدم رضا السيد به وعدم إجازته له فإذا ارتفع المانع بحصول الإجازة جاز النكاح هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد تقدم منا في ضمن البحوث السالفة ان حقيقة المعاملات عبارة عن الاعتبارات النفسانيّة المبرزة في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل أو كتابة أو نحو ذلك ، ومن الطبيعي ان إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفسانيّ في الخارج بمبرز ما ليس من التصرفات الخارجية ليقال انه حيث كان بدون اذن السيد فهو محكوم بالحرمة بداهة أنه لا يحتمل إناطة جواز تكلم العبد بإذن سيده. ومن هنا لو عقد العبد لغيره لم يحتج نفوذه إلى اذن سيده جزماً فلو كان مجرد صدور العقد منه بدون اذنه معصية له فبطبيعة الحال كان نفوذه يحتاج إلى اذنه بمقتضى روايات الباب مع ان الأمر ليس كذلك.

وعلى الجملة فلا نحتمل أن يكون تكلم العبد بصيغة النكاح بدون اذن سيده محرماً شرعاً ، كما انا لا نحتمل ان اعتباره الزوجية في أفق النّفس بدون اذنه من أحد المحرمات في الشريعة ومن هنا تكون النسبة بين توقف نفوذ العقد على إجازة السيد وبين صدور العقد من العبد عموماً من وجه ، فانه قد يصدر العقد من العبد ومع ذلك لا يتوقف نفوذه على إجازة سيده كما إذا أوقعه لغيره ، وقد يصدر العقد من غيره ولكن مع ذلك يتوقف نفوذه على إجازته كما إذا أوقعه للعبد مع أنه لا عصيان هنا من أحد وقد يجتمع الأمران كما إذا أوقع العبد العقد لنفسه.

فالنتيجة في نهاية المطاف هي : انه لا مناص من القول بأن المراد

٥٠

من العصيان في الروايات العصيان الوضعي وعلى هذا الضوء فحاصل معنى الروايات هو ان النكاح لو كان غير مشروع في نفسه كما إذا كان العقد في العدة أو ما شاكل ذلك لكان باطلا وغير قابل للصحة أصلا ، وأما إذا كان مشروعاً في نفسه ، غاية الأمر يتوقف نفوذه خارجاً وترتب الأثر عليه على رضا السيد به فهو بطبيعة الحال يدور فساده مدار عدم رضاه به حدوثاً وبقاء فإذا رضى صح ونفذ.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النقطة وهي : ان هذه الروايات كما لا تدل على أن النهي عن المعاملات يقتضي الفساد كذلك لا تدل على أنه يقتضي الصحة فهي ساكتة عن ذلك بالكلية. فالصحيح هو ما حققناه من عدم الملازمة بين حرمة المعاملة شرعاً وفسادها. ومما يؤكد ذلك اننا إذا افترضنا حرمة المعاملة بعنوان ثانوي كما إذا أوقع العقد قاصداً به وقوع الضرر على غيره أو نحو ذلك لم يحكم بفساده جزماً مع انه محرم شرعاً.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط :

الأولى : ان الجهة البحوث عنها في مسألتنا هذه تغاير الجهة المبحوث عنها في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة حيث انها في تلك المسألة في الحقيقة عن إثبات الصغرى لمسألتنا هذه.

الثانية : ان مسألتنا هذه من المسائل الأصولية العقلية أما كونها أصولية فلتوفر ركائز المسألة الأصولية فيها ، وأما كونها عقلية فلان الحاكم بها هو العقل ولا صلة لها باللفظ.

الثالثة : ان القضايا العقلية على شكلين : المستقلة وغير المستقلة ، وتقدم ما هو ملاك الاستقلال وعدمه.

الرابعة : ان محل النزاع في المسألة انما هو في النواهي المولوية المتعلقة بالعبادات والمعاملات. واما النواهي الإرشادية فهي خارجة عن

٥١

محل النزاع حيث لا نزاع بين الأصحاب في دلالتها على الفساد.

الخامسة : لا شبهة في أن النهي التحريمي المتعلق بالعبادة داخل في محل النزاع ، وكذا النهي التنزيهي المتعلق بها إذا كان ناشئاً عن حزازة ومنقصة في ذاتها. نعم إذا كان ناشئاً عن حزازة ومنقصة في تطبيقها على حصة خاصة منها فهو خارج عن محل الكلام. وأما النهي الغيري فهو أيضا خارج عنه ولا يوجب الفساد.

السادسة : ان المراد من العبادة في محل الكلام هو العبادة الشأنية لا الفعلية ، لاستحالة اجتماعها مع النهي الفعلي. والمراد من المعاملات كل أمر اعتباري قصدي بحيث يتوقف ترتب الأثر عليه شرعاً أو عرفاً على قصد إنشائه واعتباره ، فما لا يتوقف ترتيب الأثر عليه على ذلك فهو خارج عن محل الكلام.

السابعة : ان الصحة والفساد أمران منتزعان في العبادات ومجعولان شرعاً في المعاملات وعلى كلا التقديرين فهما صفتان عارضتان على الموجود المركب في الخارج باعتبار ما يترتب عليه من الأثر وعدمه فالماهية لا تتصف بهما كالبسيط.

الثامنة : ان النهي تارة يتعلق بذات العبادة ، وأخرى بجزئها ، وثالثة بشرطها ، ورابعة بوصفها الملازم لها ، وخامسة بوصفها المفارق. أما الأول فلا شبهة في استلزامه الفساد من دون فرق بين كونه ذاتياً أو تشريعياً ، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى. وأما الثاني فالصحيح انه لا يدل على فساد العبادة. نعم لو اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة من جهة كونها فاقدة للجزء. وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أن النهي عنه يدل على فساد العبادة فقد تقدم نقده بشكل موسع. وأما الثالث فحاله حال النهي عن الجزء من ناحية عدم انطباق الطبيعة

٥٢

المأمور بها على الحصة المنهي عنها على تفصيل قد سبق. وأما الرابع فهو يرجع إلى أحد هذه الأقسام وليس قسماً آخر في قبالها. وأما الخامس فهو خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي نعم على القول بالامتناع يدخل مورد الاجتماع في أحد الأقسام المزبورة.

التاسعة : إنه لا أصل في المسألة الأصولية ليعتمد عليه عند الشك وعدم قيام الدليل عليها إثباتاً أو نفياً. نعم الأصل في المسألة الفرعية موجود ، ومقتضاه الفساد مطلقاً في العبادات والمعاملات.

العاشرة : نسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي عن المعاملة على صحتها واختاره المحقق صاحب الكفاية (قده) وقد تقدم نقده بصورة موسعة والصحيح هو أن النهي عنها لا يدل على صحتها ولا على فسادها يعني لا ملازمة بين حرمتها وفسادها.

الحادية عشرة : أن نسبة صيغ العقود إلى الملكية المنشأة ليست نسبة السبب إلى المسبب ، ولا نسبة الآلة إلى ذيها بل نسبتها إليها نسبة المبرز إلى المبرز فالملكية من الأفعال القائمة بالمتعاقدين بالمباشرة لا بالتسبيب وأما نسبة الصيغ إلى الملكية الشرعية أو العقلائية نسبة الموضوع إلى الحكم لا غيرها ، وعليه فلا معنى لفرض تعلق النهي بالسبب تارة وبالمسبب أخرى.

الثانية عشرة : أن حقيقة الأحكام الشرعية بأجمعها من التكليفية والوضعيّة أمور اعتبارية لا واقع موضوعي لها الا اعتبار من بيده الاعتبار فلا دخل للفظ أو لغيره من الأمور الخارجية بها أصلا.

الثالثة عشرة : أن شيخنا الأستاذ (قده) قد فصل بين تعلق النهي بالسبب وتعلقه بالمسبب والتزم بأنه على الأول لا يدل على الفساد وعلى الثاني يدل عليه. وقد تقدم نقده بشكل مفصل فلاحظ.

الرابعة عشرة : أن الروايات الواردة في نكاح العبد بدون اذن سيده

٥٣

لا تدل على فساد النكاح ولا على صحته وأنها أجنبية عن ذلك ، وما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أنها تدل على الفساد بتقريب أن المراد من العصيان فيها هو العصيان التكليفي لا الوضعي قد سبق نقده وقلنا ان المراد منه العصيان الوضعي ولا يمكن أن يكون المراد منه العصيان التكليفي.

(مباحث المفاهيم)

قد يطلق المفهوم ويراد منه كل معنى يفهم من اللفظ فحسب سواء أكان من المفاهيم الإفرادية أو التركيبية ، وقد يطلق على مطلق ما يفهم من الشيء سواء أكان ذلك الشيء لفظاً أم كان غيره كالإشارة أو الكتابة أو نحو ذلك وغير خفي أن هذين الإطلاقين خارجان عن محل الكلام حيث أنه في المفهوم المقابل للمنطوق دون ما فهم من للشيء مطلقاً.

وعلى ذلك فلا بد لنا من بيان المراد من هذين اللفظين أي المنطوق والمفهوم فنقول : اما المنطوق فانه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة وذلك كقولنا (رأيت أسداً) فانه يدل على كون المرئي هو الحيوان المفترس بالمطابقة وكقوله تعالى «وأنزلنا من السماء ماء طهوراً» حيث أنه يدل على طهورية الماء بالمطابقة وعلى طهورية جميع أفراده بالإطلاق والقرينة العامة ، كما أن قولنا رأيت أسداً يرمي يدل على كون المرئي هو الرّجل الشجاع بالقرينة الخاصة وهكذا.

وعلى الجملة فما دل عليه اللفظ وضعاً أو إطلاقاً أو من ناحية القرينة العامة أو الخاصة فهو منطوق نظراً إلى أنه يفهم من شخص ما نطق به المتكلم. وأما المفهوم فانه يطلق على معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية نظراً إلى العلاقة اللزومية البينة بالمعنى الأخص أو الأعم بينه وبين المنطوق

٥٤

فتكون دلالة اللفظ على المنطوق أولا وبالذات وعلي المفهوم ثانيا وبالعرض ، وهذه الدلالة مستندة إلى خصوصية موجودة في القضية التي قد دلت عليها بالمطابقة أو بالإطلاق والقرينة العامة ، مثلا دلالة القضية الشرطية على المفهوم ـ وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلا ـ تقوم على أساس دلالتها على كون الشرط علة منحصرة للحكم وضعاً أو إطلاقاً على ما يأتي.

وبكلمة أخرى : أن انفهام المعنى من اللفظ لا يخلو من أن يكون أولا وبالذات أي لا يحتاج إلى شيء ما عدى الوضع أو القرينة العامة أو الخاصة أو يكون ثانياً وبالتبع أي يحتاج انفهامه زائداً على ما عرفت إلى خصوصية أخرى ، وتلك الخصوصية تستتبع ذلك ، فان القضية الشرطية كقولنا (ان جاءك زيد فأكرمه) مثلا بناء على دلالتها على المفهوم تدل على الثبوت عند الثبوت أولا وبالذات وعلى الانتفاء عند الانتفاء ثانيا وبالتبع بمعنى أن انفهامه منها تابع لانفهام المعنى الأول ومنشأ هذه التبعية هو دلالتها على الخصوصية المزبورة ـ وهي كون الشرط علة منحصرة للحكم ـ ومن الطبيعي أن لازم ذلك هو كون انفهام المفهوم تابعاً لانفهام المنطوق في مقام الإثبات والدلالة.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي أن المفهوم في محل الكلام عبارة عما كان انفهامه لازماً لانفهام المنطوق باللزوم البين بالمعنى الأخص أو الأعم فلا يحتاج إلى شيء آخر زائداً على ذلك. ومن ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل وجوب المقدمة وحرمة الضد وما شاكلهما عن محل الكلام ، فان الملازمة على القول بها وإن كانت ثابتة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، ووجوب شيء وحرمة ضده ، ونحو ذلك إلا أنها ليست على نحو اللزوم البين ، ضرورة أن النّفس لا تنتقل من مجرد تصور وجوب الشيء ومقدمته إلى وجوبها ما لم تتصور مقدمة أخرى وهي حكم العقل بالملازمة بينهما. فالنتيجة أن الملازمة في تلك الموارد لا تكون على شكل اللزوم البين.

٥٥

ودعوى ـ أن تبعية انفهام معنى لانفهام معنى آخر لا تعقل أن تكون جزافاً فبطبيعة الحال تكون مستندة إلى ملاك واقعي وهو وجود الملازمة بين المعنيين فلا فرق بين تبعية انفهام المفهوم لانفهام المنطوق في المقام وبين التبعية في تلك الموارد فكما أن تبعية انفهام وجوب المقدمة لانفهام وجوب ذيها مستندة إلى مقدمة خارجية ـ وهي إدراك العقل ثبوت الملازمة بينهما ـ فكذلك تبعية انفهام المفهوم في القضية الشرطية لانفهام المنطوق مستندة إلى مقدمة خارجية ـ وهي كون الشرط في القضية علة منحصرة للحكم ـ فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا. وعليه فلا يكون تعريف المفهوم مطرداً حيث تدخل فيه الموارد المذكورة ـ خاطئة جداً وذلك لأن التبعية في المقام تمتاز عن التبعية في تلك الموارد في نقطة واحدة وهي أن التبعية هنا وان كانت تستند إلى كون الشرط علة منحصرة للحكم الا أنه ليس من المقدمات الخارجية فانه مدلول للجملة الشرطية وضعاً أو إطلاقاً فلا نحتاج في انفهام المفهوم منها إلى مقدمة خارجية ، وهذا بخلاف التبعية هناك ، فانها تحتاج إلى مقدمة خارجية وهي حكم العقل المزبور زائداً على مدلول الجملة كصيغة الأمر أو ما شاكلها.

وعلى الجملة فالنقطة الرئيسية للفرق بينهما هي أن التبعية في المقام مستندة إلى الحيثية التي يكون الدال عليها هو اللفظ ، والتبعية هناك مستندة إلى الحيثية التي يكون الحاكم بها هو العقل دون اللفظ ، ولأجل ذلك تكون الملازمة هنا بين الانفهامين بينة حيث لا تحتاج إلى مقدمة خارجية ، وهناك غير بينة لاحتياجها إليها ، كما أنه ظهر بذلك خروج مثل دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة وما شاكل ذلك عن محل الكلام ، فان اللزوم في مواردها من اللزوم غير البين فيحتاج الانتقال إلى اللازم فيها إلى مقدمة خارجية ، مثلا دلالة الآيتين الكريمتين على كون أقل الحمل ستة أشهر كما أنها ليست

٥٦

من الدلالة المطابقية كذلك ليست من الدلالة الالتزامية التي يعتبر فيها كون اللزوم بيناً ، والمفروض أن الملازمة فيها غير بينة بل هي من الدلالة الاقتضائية فتحتاج إلى ضم مقدمة أخرى وبدونها فلا دلالة.

فالنتيجة : أن اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بين.

ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الأستاذ (قده) من الخلط بين اللزوم البين بالمعنى الأعم واللزوم غير البين حيث أنه (قده) مثل للأول بتلك الدلالات مع أنك عرفت أن اللزوم فيها غير بين لاحتياجها إلى ضم مقدمة خارجية ، فهذا هو نقطة الامتياز بين اللزوم البين واللزوم غير البين وأما نقطة الامتياز بين اللزوم البين بالمعنى الأعم واللزوم البين بالمعنى الأخص فهي أمر آخر وهو أنه يكفي في اللزوم البين بالمعنى الأخص نفس تعقل الملزوم في الانتقال إلى لازمه ، وهذا بخلاف اللزوم البين بالمعنى الأعم فانه لا يكفي فيه ذلك ، بل لا بد فيه من تصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما في الانتقال إليه. نعم هما يشتركان في نقطة أخرى وهي عدم الحاجة إلى ضم مقدمة خارجية.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي : أن في كل مورد لم يحتج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضم مقدمة أخرى فهو من اللزوم البين سواء أكان بالمعنى الأعم أو الأخص وفي كل مورد احتاج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضمها فاللزوم لا يكون بيناً أصلا.

فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من أن هذه الدلالات من اللازم البين بالمعنى الأعم في غير محله.

ثم أن لزوم المفهوم للمنطوق هل هو من اللزوم البين بالمعنى الأخص أو من اللزوم البين بالمعنى الأعم الظاهر هو الأول. والسبب في ذلك هو أن اللازم إذا كان بيناً بالمعنى الأعم قد يغفل المتكلم عن إرادته كما أن المخاطب قد يغفل عنه نظراً إلى أن الذهن لا ينتقل إليه من مجرد تصور

٥٧

ملزومه ولحاظه في أفق النّفس بل لا بد من تصوره وتصور اللازم والنسبة بينهما ، ومن الطبيعي أن اللازم بهذا المعنى لا ينطبق على المفهوم ، لوضوح أن معنى كون القضية الشرطية أو ما شاكلها ذات مفهوم هو أنها تدل على كون الشرط أو نحوه علة منحصرة للحكم ومن الطبيعي أن مجرد تصورها يوجب الانتقال إلى لازمها وهو الانتفاء عند الانتفاء من دون حاجة إلى تصور أي شيء آخر ، وهذا معنى اللزوم البين بالمعنى الأخص.

لحد الآن قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أن لزوم المفهوم للمنطوق من اللزوم البين بالمعنى الأخص.

الثانية : أن مسألة المفاهيم هل هي من المسائل الأصولية العقلية أو اللفظية فيه وجهان بل قولان قد يقال كما قيل : أنها من المباحث اللفظية بدعوى أن الدال عليها اللفظ ، غاية الأمر أن دلالته المنطوق بالمطابقة وعلى المفهوم بالالتزام. ومن هنا تفترق مسألة المفاهيم عن مسألة الضد ومقدمة الواجب واجتماع الأمر والنهي وما شاكل ذلك حيث أنها من المباحث اللفظية دون تلك المسائل فأنها من المباحث العقلية ، ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.

ولكن يمكن أن يقال أنها من المسائل العقلية أيضا والوجه في ذلك هو أن الحيثية التي تقتضي المفهوم وتستلزمه وهي العلية المنحصرة وان كانت مدلولا للفظ وضعاً أو إطلاقاً حيث أن الدال عليها هو الجملة الشرطية أو نحوها الا أن هذه الحيثية نفسها ليست بمفهوم على الفرض ، فان المفهوم ما هو لازم لها وهو الانتفاء عند انتفائها ، ومن المعلوم أن الحاكم بذلك أي بانتفاء المعلول عند انتفاء علته التامة انما هو العقل ولا صلة له باللفظ.

وبكلمة أخرى أن للمفاهيم حيثيتين واقعيتين فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الأصولية العقلية ومن الأخرى تناسب أن تكون من المسائل الأصولية اللفظية وذلك لأنه بالنظر إلى كون الحاكم بانتفاء المعلول

٥٨

عند انتفاء العلة هو العقل فحسب فهي من المسائل الأصولية العقلية وبالنظر إلى كون الكاشف عن العلة المنحصرة هو الكاشف عن لازمها أيضا فهي من المسائل الأصولية اللفظية لفرض أن الكاشف عنها هو اللفظ كما عرفت ، فاذن يكون المفهوم مدلولا للفظ التزاماً وكيف كان فلا يترتب أي أثر على البحث عنها من هذه الناحية وانما الأثر مترتب على كونها أصولية سواء أكانت عقلية أم كانت لفظية والمفروض أنها من المسائل الأصولية لتوفر ركائزها فيها ـ وهي وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها من دون ضم كبرى أو صغرى أصولية إليها ـ فلا أثر للبحث عن أن الحاكم فيها هل هو العقل أو غيره أصلا.

الثالثة أن كلامنا هنا ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده بل الكلام انما هو في أصل وجوده وتحققه خارجاً بمعنى أن الجملة الشرطية أو ما شاكلها هل هي ظاهرة في المفهوم أم لا كما هي ظاهرة في المنطوق والوجه فيه أن البحث في جميع مباحث الألفاظ انما هو عن ثبوت الصغرى ـ وهي إثبات الظهور لها ـ بعد الفراغ عن ثبوت الكبرى ـ وهي حجية الظواهر في الجملة ـ.

وبعد ذلك نقول : ان الكلام يقع في عدة موارد الأول في مفهوم الشرط اختلف الأصحاب في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وعدم دلالتها عليه وليعلم أن دلالتها على المفهوم ترتكز على ركائز.

الأولى : أن يرجع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة دون المادة بأن يكون مفادها تعليق مضمون جملة على مضمون جملة أخرى.

الثانية : أن تكون ملازمة بين الجزاء والشرط.

الثالثة أن تكون القضية ظاهرة في أن ترتب الجزاء على الشرط من باب ترتب المعلول على العلة لا من باب ترتب العلة على المعلول ولا من باب ترتب

٥٩

أحد المعلولين لعلة ثالثة على المعلول الآخر.

الرابعة : أن تكون ظاهرة في كون الشرط علة منحصرة للحكم فيها فمتى توفرت هذه الركائز في القضية تمت دلالتها على المفهوم وإلا فلا ، وعلى هذا فلا بد لنا من درس كل واحدة منها :

أما الركيزة الأولى : فهي في غاية الصحة والمتانة والسبب في ذلك هو ما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أن القضايا الشرطية ظاهرة عرفاً في تعليق مفاد الجملة ـ وهي الجزاء ـ على مفاد الجملة الأخرى ـ وهي الشرط ـ مثلا قولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يدل على تعليق وجود النهار على طلوع الشمس ، كما أن قوله عليه‌السلام إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء يدل على تعليق عدم الانفعال على بلوغ الماء قدر كر وهكذا ، وكيف كان فلا شبهة في ظهور القضية الشرطية في ذلك.

نعم لو بنينا على رجوع القيد إلى المادة كما اختاره شيخنا الأنصاري (قده) فحال القضية الشرطية عندئذ حال القضية الوصفية في الدلالة على المفهوم وعدمها ، لما سيأتي من أن المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في مقابل سائر المتعلقات بل المراد منه مطلق القيد سواء أكان وصفاً أم كان غيره من القيود. ومن هنا لو عبر عن مفهوم الوصف بمفهوم القيد لكان أولى.

وعلى الجملة فعلى هذه النظرية يدخل مفهوم الشرط في مفهوم الوصف ويكون من أحد أفراده ومصاديقه. فالنتيجة أن القول بمفهوم الشرط في قبال مفهوم الوصف يقوم على أساس رجوع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة دون المادة.

وأما الركيزة الثانية : وهي دلالة القضية الشرطية على كون العلاقة بين الجزاء والشرط علاقة لزومية فانها أيضا تامة وذلك لأن استعمالها

٦٠