محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

ولا يكون أخص منه ، فعندئذ يمكن تقييد إطلاق التعليل بخصوص الكثير يعني ان مطهرية المادة تختص بما إذا كان الماء في نفسه كثيراً.

والسبب في خطأ ذلك ان هذا التقييد مضافاً إلى انه خلاف الارتكاز جزماً حيث ان المرتكز عرفاً بمناسبة الحكم والموضوع انه لا فرق في مطهرية المادة بين كون الماء كثيراً في نفسه وكونه قليلا ولا يرون للكثرة أية دخل في المطهرية. أو فقل : ان العرف بمقتضى المناسبات الارتكازية يرون الملازمة في مطهرية المادة بين كون الماء المطهر (بالفتح) كثيراً في نفسه وكونه قليلا فلا يمكن التفكيك بينهما في نظرهم ان ذلك التقييد انما يمكن فيما إذا لم يكن ارتفاع النجاسة عنه بالمادة من آثار سببيتها لاعتصامه واما إذا كان من آثارها كما استظهرناه بمقتضى الفهم العرفي فلا يمكن هذا التقييد ، لما عرفت من أن سببيتها للاعتصام تختص بخصوص القليل حيث لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة فيكون أخص مطلقاً من دليل انفعال القليل.

وبكلمة أخرى ان للمادة أثرين (الأول) كونها سبباً للاعتصام (الثاني) كونها سبباً لارتفاع النجاسة ودليل انفعال الماء القليل انما يكون معارضاً للتعليل باعتبار أثرها الأول دون أثرها الثاني كما هو ظاهر وقد عرفت انه بهذا الاعتبار أي باعتبار أثرها الأول أخص منه مطلقاً فلا محالة يخصصه بغير مورده.

وأما ان كان الاستدلال فيها بلحاظ صدر الصحيحة مع قطع النّظر عن التعليل الوارد في ذيلها نظراً إلى انه لا مانع من الاستدلال به على طهارة ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة ولو كان قليلا فهو حينئذ لا محالة يكون معارضاً بالعموم من وجه مع ما دل على انفعال الماء القليل سواء أكان راكداً أو بئراً ويتعين عندئذ تقديم إطلاق صدر الصحيحة على إطلاق

٣٠١

دليل الانفعال في مورد الالتقاء والاجتماع بنكتة اننا إذا قدمنا الصدر فلا يلزم منه إلغاء عنوان الماء القليل عن الموضوعية للانفعال رأساً ، بل يلزم منه تضييق دائرة دليل الانفعال وتقييده بغير ماء البئر ، وهذا لا مانع منه.

واما إذا عكسنا الأمر وقدمنا إطلاق دليل انفعال الماء القليل على صدر الصحيحة فهو يستلزم إلغاء عنوان البئر عن الموضوعية للاعتصام رأساً حيث لا يكون عندئذ فرق بين ماء البئر وغيره من المياه أصلا ، فان اعتصام الجميع انما هو بالكثرة وببلوغه حد الكر ، فإذاً يصبح أخذ عنوان ماء البئر في الصحيحة لغواً محضاً ، وحيث انه لا يمكن بمقتضى الارتكاز العرفي لاستلزامه حمل كلام الحكيم على اللغو فلا محالة يكون قرينة على تقديم الصحيحة على دليل الانفعال.

وثانيهما ما دل على طهارة بول الطير وخرئه مطلقاً ولو كان غير مأكول اللحم كقوله عليه‌السلام في معبرة أبي بصير (كل شيء يطير فلا بأس ببوله وخرئه) معارض بما دل على نجاسة بول غير المأكول مطلقاً ولو كان طيراً ، ومورد التعارض والالتقاء بينهما هو البول من الطير غير المأكول ففي مثل ذلك لا بد من تقديم دليل طهارة بول الطير وخرئه على دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه حيث ان العكس يؤدي إلى إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع دليل الطهارة ، نظراً إلى أن الحكم بتقيده حينئذ بما إذا كان الطير محلل الأكل.

ومن الواضح ان مرد ذلك إلى إلغاء عنوان الطير رأساً وجعل الموضوع للطهارة عنواناً آخر ـ وهو عنوان ما يؤكل لحمه ـ وهو قد تكون طيراً وقد يكون غيره ، وهذا بخلاف ما لو قيد دليل نجاسة بول غير المأكول بما إذا لم يكن طيراً ، إذ غاية ما يلزم هو رفع اليد عن إطلاق موضوعيته النجاسة.

٣٠٢

ومن الطبيعي انه كلما دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق موضوعية عنوان للحكم ورفع اليد عن أصل موضوعيته له رأساً يتعين الأول بنظر العرف ، وما نحن فيه كذلك ، فان تقديم دليل نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه على دليل طهارة بول الطير يستلزم إلغاء عنوان الطير المأخوذ في موضوع الطهارة رأساً ، وأما العكس فلا يستلزم الا تقييد إطلاق موضوعية عنوان غير المأكول للنجاسة ، وهذا أخف مئونة من الأول بمقتضى فهم العرف وارتكازهم.

فالنتيجة في نهاية المطاف هي ان المفهوم ان كان حاكماً على المنطوق فلا شبهة في تقديمه عليه وان كانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، وكذا لا شبهة في تقديمه عليه إذا كان تقديم المنطوق عليه موجباً لإلغاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم فيه رأساً دون العكس ، وأما إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا بد من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض ان كانت وإلا فالحكم هو التساقط على تفصيل يأتي في مبحث التعادل والترجيح.

وأما لو كانت النسبة بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً فلا شبهة في تقديم الخاصّ على العام حيث انه يكون بنظر العرف قرينة على التصرف فيه ، ومن المعلوم ان ظهور القرينة يتقدم على ظهور ذيها وان افترض ان ظهورها بالإطلاق ومقدمات الحكمة وظهور ذاك بالوضع ، كما إذا افترضنا ورود دليل يدل بالوضع على ان كل ماء طاهر لا ينفعل بالملاقاة الا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه ، فانه مع ذلك لا يقاوم مفهوم روايات الكر على الرغم من أن دلالته على انفعال الماء القليل بالملاقاة بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة وهي ان حال التعارض بين المفهوم والمنطوق بعينه حاله بين المنطوقين من دون تفاوت في البين أصلا.

٣٠٣

(تعقب الاستثناء للجملات)

إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة فهل الظاهر هو رجوعه إلى الجميع أو إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في شيء منهما فيه وجوه بل أقوال :

ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) بقوله : والظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أي حال ، ضرورة ان رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة ، وكذا في صحة رجوعه إلى الكل وان كان المتراءى من صاحب المعالم (ره) حيث مهد مقدمة لصحة رجوعه إليه انه محل الإشكال والتأمل ، وضرورة ان تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتاً أصلا في ناحية الأداة بحسب المعنى كان الموضوع له في الحروف عاماً أو خاصاً وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعدداً هو المستعمل فيه فيما كان واحداً كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال ، وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوماً ، وبذلك يظهر أنه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة وان كان الرجوع إليها متيقناً على كل تقدير.

نعم غير الأخيرة أيضا من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهراً فيه فلا بد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الأصول إلا أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبداً لا من باب الظهور فيكون المرجع عليه أصالة العموم إذا كان وضعياً ، لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة فانه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع

٣٠٤

أنه يكشف عن تقييد موضوع حكم العام أو عن ملاكه فيدور أمره بينهما ، فإذا كان حال المخصص اللبي كذلك فهل يمكن التمسك بالعموم حينئذ في موارد الشك فقد فصل (قده) بين ما إذا كان المخصص اللبي حكماً عقليا ضرورياً بحيث يمكن للمولى الاتكال عليه في مقام البيان وما إذا كان حكماً عقلياً نظريا أو إجماعاً ، فعلى الأول لا يجوز التمسك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية حيث ان المقام يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فيسقط ظهوره في العموم لا محالة ، فان هذا المخصص اللبي ان كان كاشفاً عن الملاك لم يكن مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ، وان كان كاشفاً عن تقييد موضوع العام كان مانعاً عنه ، وبما أنه مردد بين الأمرين فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد الظهور ، وعلى الثاني فلا مانع من التمسك بالعموم حيث ان ظهور الكلام في العموم قد انعقد فلا مانع من التمسك به في الشبهات المصداقية ، والسبب في ذلك هو ان أمر المخصص بما أنه يدور بين الأمرين المزبورين فبطبيعة الحال لا علم لنا بتقييد الموضوع به في الواقع ، بل هو مجرد الاحتمال ، ومن الطبيعي ان ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن عدم تقييده به وهو حجة. ولا يمكن رفع اليد عنه بمجرد الاحتمال.

وجه الظهور أي ظهور النقد هو ما عرفت من أنه لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية في القضايا الحقيقية بشتى أنواعها وأشكالها ومن دون فرق بين كون المخصص له لفظياً أو لبياً. واما في القضايا الخارجية فان كان المخصص لفظيا أو كان لبيا وقامت قرينة على ان المولى أو كل أمر التطبيق وإحراز الموضوع إلى نفس المكلف فأيضاً لا يمكن التمسك بالعموم فيها في موارد الشك في المصداق. نعم إذا كان المخصص لها لبيا ولم تقم قرينة على إيكال المولى أمر التطبيق إلى نفس المكلف كانت

٣٠٥

والثاني كقولنا (زيد عادل) و (زيد متكلم) فالصور ثلاث (الأولى) : أن يكون تعددها بتعدد الموضوع فحسب. (الثانية) أن يكون تعددها بتعدد المحمول كذلك (الثالثة) أن يكون تعددها بتعدد الموضوع والمحمول معاً.

أما الصورة الأولى فان لم يتكرر فيها عقد الحمل كما إذا قيل : (أكرم العلماء والأشراف والسادة إلا الفساق منهم) أو قيل (أكرم الفقهاء والأصوليين والمتكلمين إلا من كان فاسقاً منهم) فالظاهر بل لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع حيث ان ثبوت الحكم الواحد لهم جميعاً قرينة عرفاً على ان الجميع موضوع واحد في مقام اللحاظ والجعل وان كان متعدداً في الواقع ، والتكرار لا يخلو من أن يكون لنكتة فيه أو لعدم وضع لفظ للجامع بين الجميع. وان شئت قلت : ان القضية في مثل ذلك وان كانت متعددة صورة إلا انها في حكم قضية واحدة قد حكم فيها بحكم واحد ـ وهو وجوب إكرام كل فرد من الطوائف الثلاث الا الفساق منهم ـ فمرد هذه القضية بنظر العرف إلى قولنا (أكرم كل واحد من هذه الطوائف الثلاث الا من كان منهم فاسقاً.

وأما إذا كرر فيها عقد الحمل كما إذا قيل (أكرم العلماء والاشراف) و (أكرم الشيوخ إلا الفساق منهم) فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكررة فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت لأن تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة بنظر العرف على أنه كلام آخر منفصل عما قبله من الجملات ، وبذلك يأخذ الاستثناء محله من الكلام فيحتاج تخصيص الجملات السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الحمل إلى دليل آخر ، وحيث أنه مفقود على الفرض فلا مانع من التمسك بأصالة العموم في تلك الجملات.

٣٠٦

ودعوى انها داخلة في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، ومعه لا ينعقد لها ظهور في العموم حتى يتمسك به خاطئة جداً وذلك لأن كبرى احتفاف الكلام بذلك انما هي فيما إذا صح اعتماد المتكلم عليه وان كان مشتبه المراد عند المخاطب والسامع كلفظ الفاسق مثلا إذا افترضنا أنه مجمل عند المخاطب فلا يعلم أنه موضوع لخصوص مرتكب الكبائر أو للأعم منه ومن الصغائر ، فانه إذا ورد في كلام المولى مقترناً بعام أو مطلق كقوله : (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم لدخوله في الكبرى المتقدمة حيث أنه يصح للمتكلم أن يعتمد عليه في بيان مراده الواقعي ، ومعه لا ينعقد لكلامه ظهور في العموم حتى يتمسك به.

فالنتيجة ان مورد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية انما هي موارد إجماله واشتباه المراد منه للسامع ، وهذا بخلاف المقام حيث لا إجمال في الاستثناء في مفروض المسألة ، فانه ظاهر في رجوعه إلى خصوص الجملة المتكررة فيها عقد الحمل ، وما بعدها من الجمل لو كانت دون الجمل السابقة عليها ، فإذاً لا مانع من انعقاد ظهورها في العموم والتمسك به.

وعلى الجملة فلو أراد المولى تخصيص الجميع ، ومع ذلك قد اكتفى في مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الحمل في البين لكان مخلا ببيانه حيث ان الاستثناء المزبور ظاهر بمقتضى الفهم العرفي إلى خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده دون ما كان سابقاً عليه ، ومعه لا موجب لرجوعه إلى الجميع ، فإذاً كيف يكون المقام داخلا في تلك الكبرى.

نعم لو كان الاستثناء مجملا وغير ظاهر لا في رجوعه إلى خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده ولا إلى الجميع وكان صالحاً لرجوعه إلى كل منهما لكان المقام داخلا فيها لا محالة.

٣٠٧

وأما الصورة الثانية : ـ وهي ما إذا كان تعدد القضية بتعدد المحمول فحسب ـ فان كان الموضوع فيها غير متكرر كما في مثل قوله تعالى : «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا» فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى الجميع نظير ما إذا قال المولى لعبده (بع كتبي وأعرها وأجرها إلا ما كان مكتوباً على ظهره أنه مخصوص لي) فانه ظاهر في رجوعه إلى الجميع ولا شبهة في هذا الظهور. والوجه فيه واضح وهو رجوع الاستثناء إلى الموضوع حيث انه يوجب تضييق دائرته وتخصيصه بحصة خاصة.

وعليه فبطبيعة الحال يكون استثناء من الجميع ، ويدل بمقتضى الارتكاز العرفي ان هذه الأحكام المتعددة ثابتة لهذه الحصة دون الأعم ، مثلا لو قال المولى (أكرم العلماء وأضفهم وجالسهم إلا الفساق منهم) فلا يشك أحد في رجوع هذا الاستثناء إلى العلماء وتخصيصهم بخصوص العدول وان هذه الأحكام ثابتة لهم خاصة دون الأعم منهم ومن الفساق.

وعلى الجملة فالقضية في المقام وان كانت متعددة بحسب الصورة إلا انها في حكم قضية واحدة فلا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون القضية واحدة حقيقة وان تكون متعددة صورة ، فانها في حكم الواحدة ، والتعدد انما هو من جهة عدم تكفل القضية الواحدة لبيان الأحكام المتعددة.

فالنتيجة أنه لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع في هذا الفرض وأما إذا كرر الموضوع فيها ثانياً كما في مثل قولنا (أكرم العلماء وأضفهم وجالس العلماء إلا الفساق منهم) فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكررة فيها عقد الوضع وما بعدها من الجمل ان كانت ، والسبب فيه هو ان تكرار عقد الوضع قرينة عرفاً على قطع الكلام عما قبله ، وبذلك

٣٠٨

يأخذ الاستثناء محله من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة المتكررة فيها عقد الوضع إلى دليل آخر وهو مفقود على الفرض.

فالنتيجة انه يختلف الحال بين ما إذا لم يكرر الموضوع أصلا وانما كرر الحكم فحسب ، وما إذا كرر الموضوع أيضا ، فعلى الأول يرجع الاستثناء إلى الموضوع المذكور في الجملة الأولى فيوجب تخصيصه بالإضافة إلى جميع الأحكام الثابتة له ، وعلى الثانية يرجع إلى ما أعيد فيه الموضوع وما بعده على تفصيل تقدم في ضمن البحوث السالفة.

وعليه فلا مانع من جواز التمسك بالعموم في الجملة الأولى ، وكذا الثانية إذا كان ما أعيد فيه الموضوع هو الجملة الثالثة وهكذا ، لما عرفت من ظهور رجوع الاستثناء إليه دون ما سبقه من الجمل ، ومعه لا محالة تكون أصالة العموم محكمة. وأما ما قيل : من احتفافها بما يصلح للقرينية ومعه لا ينعقد الظهور لها في العموم فقد عرفت خطأه وان المقام غير داخل في هذه الكبرى كما عرفت بشكل موسع.

وأما الصورة الثالثة ـ وهي ما إذا تعددت القضية بتعدد الموضوع والمحمول معاً ـ فيظهر حالها مما تقدم يعني ان الاستثناء فيها أيضا يرجع إلى الجملة الأخيرة دون ما سبقها من الجملات لعين ما عرفت حرفاً بحرف.

(تخصيص الكتاب بخبر الواحد)

والظاهر أنه لا خلاف بين الطائفة الإمامية في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد فيما نعلم ، والمخالف في المسألة انما هو العامة : وهم بين من أنكر تخصيصه به مطلقاً ، وبين من فصل تارة بما إذا خصص العام الكتابي بمخصص قطعي قبله ، وما إذا لم يخصص به كذلك فقال

٣٠٩

بالجواز على الأول دون الثاني ولعل وجهه هو تخيل ان التخصيص يوجب التجوز في العام فإذا صار العام مجازاً بعد التخصيص جاز تخصيصه ثانياً بخبر الواحد نظراً إلى أن التخصيص الثاني لا يوجب شيئاً زائداً على ما فعله فيه التخصيص الأول ، وعليه فلا مانع منه وفيه ما عرفت من ان التخصيص لا يوجب التجوز في العام. وتارة أخرى بين المخصص المتصل والمنفصل فقال بالجواز في الأول دون الثاني ، ولعل وجهه هو أن الأول لا يوجب التجوز في العام دون الثاني ، وفيه ما مر من أن التخصيص مطلقاً لا يوجب التجوز فيه. ومنهم من توقف في المسألة وهو الباقلاني. فالنتيجة ان هذه الأقوال منهم لا ترتكز على أساس صحيح.

والتحقيق هو ما ذهب إليه علمائنا قدس الله أسرارهم من جواز تخصيصه بخبر الواحد مطلقاً ، والسبب في ذلك هو اننا إذا أثبتنا حجية خبر الواحد شرعاً بدليل قطعي فبطبيعة الحال لا يكون رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه به الا رفع اليد عنه بالقطع لفرض انا نقطع بحجيته. وبكلمة أخرى ان التنافي انما هو بين عموم الكتاب وسند الخبر ، ولا تنافي بينه وبين دلالته لتقدمها عليه بمقتضى فهم العرف حيث انها تكون قرينة عندهم على التصرف فيه ،

ومن الواضح انه لا تنافي بين ظهور القرينة وظهور ذيها ، وعلى هذا فإذا أثبتنا اعتبار سنده شرعاً بدليل فلا محالة يكون مخصصاً لعمومه أو مقيداً لإطلاقه ، ولا يكون مرد هذا إلى رفع اليد عن سند الكتاب حتى لا يمكن ضرورة انه لا تنافي بين سنده وبين الخبر لا سنداً ولا دلالة وانما التنافي كما عرفت بين دلالته على العموم أو الإطلاق وبين سند الخبر ، وأدلة اعتبار السند حاكمة عليها ورافعة لموضوعها ـ وهو الشك في إرادة العموم ـ حيث أنه بعد اعتباره سنداً مبين لما هو للمراد من الكتاب في نفس الأمر

٣١٠

والواقع فيكون مقدماً عليه وهذا واضح.

وانما الكلام في عدة من الشبهات التي توهمت في المقام :

منها ان الكتاب قطعي السند والخبر ظني السند فكيف يجوز رفع اليد عن القطعي بالظني. ويرده ما عرفت الآن من أن القطعي انما هو سند الكتاب وصدوره بألفاظه الخاصة ، والمفروض ان الخبر لا ينافي سنده أصلا لا بحسب السند ولا بحسب الدلالة وأما دلالته على العموم أو الإطلاق فلا تكون قطعية ، ضرورة اننا نحتمل عدم إرادته تعالى العموم أو الإطلاق من عمومات الكتاب ومطلقاته ، ومع هذا الاحتمال كيف يكون رفع اليد عنه من رفع اليد عن القطعي بالظني فلو كانت دلالة الكتاب قطعية لم يمكن رفع اليد عنها بالخبر ، بل لا بد من طرحه في مقابلها. وعلى الجملة فحجية أصالة الظهور انما هي ببناء العقلاء.

ومن المعلوم ان بنائهم عليها إنما هو فيما إذا لم تقم قرينة على خلافها وإلا فلا بناء منهم على العمل بها في مقابلها ، والمفروض أن خبر الواحد بعد اعتباره وحجيته يصلح أن يكون قرينة على الخلاف جزماً من دون فرق في ذلك بين أن يكون مقطوع الصدور أو مقطوع الاعتبار وقد جرت على ذلك السيرة القطعية العقلائية.

ومن الطبيعي أن عمومات الكتاب أو مطلقاته لا تمتاز عن بقية العمومات أو المطلقات من هذه الناحية أصلا ، بل حالها حالها. فالنتيجة ان رفع اليد عن عموم الكتاب أو إطلاقه بخبر الواحد ليس من رفع اليد عن القطعي بالظني.

ومنها : أنه لا دليل على اعتبار خبر الواحد الا الإجماع وبما أنه دليل لبي فلا بد من الأخذ بالمقدار المتيقن منه ، والمقدار المتيقن هو ما إذا لم يكن الخبر على خلاف عموم الكتاب أو إطلاقه والا فلا يقين بتحقق الإجماع

٣١١

على اعتباره في هذا الحال ، ومعه كيف يجوز رفع اليد به عنه ، ويرد عليه ان عمدة الدليل على اعتبار الخبر انما هو السيرة القطعية من العقلاء لا الإجماع بما هو الإجماع ، وقد عرفت ان بنائهم على العمل بالعموم أو الإطلاق انما هو فيما إذا لم يقم خبر الواحد على خلافه حيث أنه يكون بنظرهم قرينة على التصرف فيه.

ومنها : الأخبار الدالة على المنع من العمل بما خالف كتاب الله وان ما خالفه فهو زخرف أو باطل أو اضربه على الجدار أو لم أقله مما شاكل ذلك ، وهذه الأخبار تشمل الأخبار المخالفة لعمومات الكتاب ومطلقاته أيضا ، وعليه فكيف يمكن تخصيصها أو تقييدها بها.

والجواب عن ذلك هو ان الظاهر بل المقطوع به عدم شمول تلك الأخبار للمخالفة البدوية كمخالفة الخاصّ للعام والمقيد للمطلق وما شاكلهما والنكتة فيه ان هذه المخالفة لا تعد مخالفة عند العرف حيث انهم يرون الخاصّ قرينة على التصرف في العام والمقيد قرينة على التصرف في المطلق.

ومن الطبيعي أنه لا مخالفة عندهم بين القرينة وذيها ، وعليه فالمراد من المخالفة في تلك الأخبار هو المخالفة بنحو التباين للكتاب أو العموم والخصوص من وجه حيث ان هذه المخالفة تعد مخالفة عندهم حقيقة وتوجب تحيرهم في مقام العمل.

ويدل على ذلك أمران :

الأول : انا نقطع بصدور الأخبار المخالفة لعموم الكتاب أو إطلاقه من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الأطهار عليهم‌السلام بداهة كثرة صدور المخصصات والمقيدات عنهم عليهم‌السلام لعموماته ومطلقاته فلو كان مثل هذه المخالفة مشمولا لتلك الروايات فكيف يمكن صدورها عنهم عليهم‌السلام.

الثاني : ان في جعل موافقة الكتاب من مرجحات تقديم أحد الخبرين

٣١٢

أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر بالأصل فبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره ، كما إذا كان وجود زيد محرزاً بالوجدان وشك في وجود عمرو وانه باق أو مات فلا مانع من استصحاب بقائه وعدم موته ، وبذلك يحرز كلا فردي الموضوع ، حيث ان الموضوع ليس إلا ذات وجودي زيد وعمرو من دون دخل عنوان انتزاعي آخر فيه وإلا لخرج عن محل الكلام ، فان محل الكلام في الموضوعات المركبة دون البسيطة على أنه لا يمكن إحراز ذلك العنوان الانتزاعي البسيط بالأصل. وأما إذا كان من قبيل الثاني فتارة يكونا عرضين لموضوع واحد كعدالة زيد مثلا وعلمه ، حيث انهما قد أخذا في موضوع جواز التقليد يعني ذات وجودي العدالة والعلم ، ومعنى أخذهما في الموضوع كذلك هو انه إذا وجد العلم له في زمان كان عادلا في ذلك الزمان فقد تحقق الموضوع بكلا جزئيه ، حيث لم يؤخذ في موضوعه ما عدا ثبوتهما وتحققهما في زمان واحد من دون أخذ عنوان آخر فيه من التقارن وغيره ، والمفروض ان أحدهما لا يتوقف على الآخر ولا يكون نعتاً له وان كان كل واحد منهما نعتاً لموضوعه ومحتاجاً إليه ، فحالهما حال الجوهرين المأخوذين في الموضوع فلا فرق بينهما وبين هذين العرضين من هذه الناحية أصلا ، وعليه فمرة يكون كل منهما محرزاً بالوجدان كما إذا ثبت كل من علمه وعدالته بالعلم الوجداني ومرة أخرى يكون كل منها محرزاً بالتعبد كما إذا ثبت كل منهما بالبينة مثلا أو بالأصل أو أحدهما بالبينة والآخر بالأصل ، ومرة ثالثة يكون أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر محرزاً بالتعبد كما إذا كان علمه ثابتاً بالوجدان وعدالته بالبينة أو بالأصل. وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره ـ وهو جواز التقليد أو نحوه ، وأخرى يكونا عرضين لمعروضين في الخارج كإسلام الوارث مثلا وموت المورث

٣١٣

لما عرفت من اننا لو قلنا بالشمول المزبور فمع ذلك لا يلزم إلغاء الخبر بالمرة ، بل له موارد كثيرة لا بد من العمل به في تلك الموارد من دون كون العمل به فيها مخالفاً للكتاب بوجه.

ومنها : لو جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به أيضا حيث انه قسم من التخصيص وهو التخصيص بحسب الا زمان فلا فرق بينهما إلا في أن التخصيص المصطلح تخصيص بحسب الافراد العرضية وذاك تخصيص بحسب الافراد الطولية.

ومن الطبيعي ان مجرد هذا لا يوجب الحكم بجواز الأول وامتناع الثاني فلو جاز الأول جاز الثاني أيضا مع أنه ممتنع جزماً فيكون هذا شاهداً على امتناع الأول كالثاني. وفيه ان الإجماع قد قام من الخاصة والعامة على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، وهذا الإجماع ليس إجماعاً تعبدياً ، بل هو من صغريات الكبرى المسلمة وهي ان الشيء الفلاني من جهة كثرة ابتلاء الناس به لو كان لبان واشتهر ولكنه لم يشتهر فيكشف عدم وجوده ، والنسخ من هذا القبيل فانه لو كان جائزاً بخبر الواحد لبان واشتهر بين العامة والخاصة بحيث يكون غير قابل للإنكار فمن عدم اشتهاره بين المسلمين أجمع يكشف كشفاً قطعياً عن عدم وقوعه وانه لا يجوز نسخ الكتاب به فلو دل خبر الواحد على نسخه لا بد من طرحه وحمله اما على كذب الراوي أو على خطائه أو سهوه كما هو الحال بالإضافة إلى إثبات قرآنية القرآن حيث انها لا تثبت بخبر الواحد حتى عند العامة ولذا لا يثبت باخبار عمر الآية : «الشيخ والشيخة إذا زنيا رجما» لأن اخباره بها داخل في خبر الواحد والقرآن لا يثبت به وانما يثبت بالخبر المتواتر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فلا بد من حمله على أحد الوجوه الآنفة الذّكر.

٣١٤

وعلى الجملة فالتزام المسلمين أجمع بعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد يكشف كشفاً جزمياً عن ان الأمر كذلك في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الأطهار عليهم‌السلام والنكتة فيه هي التحفظ على صيانة القرآن :

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنه لا مانع من تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، بل عليه سيرة الأصحاب إلى زمان الأئمة عليهم‌السلام.

(التخصيص والنسخ)

إذا ورد عام وخاص ودار الأمر بين التخصيص والنسخ ففيه صور :

الأولى : أن يكون الخاصّ متصلا بالعامّ ففي هذه الصورة لا يعقل النسخ حيث انه عبارة عن رفع الحكم الثابت في الشريعة ، والمفروض ان الحكم العام في العام المتصل بالمخصص غير ثابت فيها ليكون الخاصّ رافعاً له ، بل لا يعقل جعل الحكم ورفعه في آن واحد ودليل فارد.

الثانية : ان يكون الخاصّ متأخراً عن العام ، ولكنه كان قبل حضور وقت العمل به ففي مثل ذلك هل يمكن أن يكون الخاصّ ناسخاً له ، فذكر بعض الاعلام انه لا يمكن أن يكون ناسخاً. والنكتة فيه أنه لا يعقل جعل الحكم من المولى الملتفت إلى عدم تحققه وفعليته في الخارج بفعلية موضوعه ضرورة أنه مع علم المولى بانتفاء شرط فعليته كان جعله لغواً محضاً حيث ان الغرض من جعله انما هو صيرورته داعياً للمكلف نحو الفعل فإذا علم بعدم بلوغه إلى هذه المرتبة لانتفاء شرطه فلا محالة يكون جعله بهذا الداعي لغواً فيستحيل أن يصدر من المولى الحكيم.

نعم يمكن ذلك في الأوامر الامتحانية حيث ان الغرض من جعلها

٣١٥

ليس بلوغها مرتبة الفعلية ، ولذا لا مانع من جعلها مع علم المولى بعدم قدرة المكلف على الامتثال نظراً إلى ان الغرض منها مجرد الامتحان وهو يحصل بمجرد إنشاء الأمر فلا يتوقف على فعليته بفعلية موضوعه ، وهذا بخلاف الأوامر الحقيقية حيث انه لا يمكن جعلها مع علم الآمر بانتفاء شرطها وعدم تحققه في الخارج ، ولا يفرق في ذلك بين القضية الحقيقية والخارجية فكما ان جعل الحكم مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليته وامتثاله في الخارج في القضية الحقيقية من اللغو الواضح ، كذلك جعله مع علمه بانتفاء شرط امتثاله في الخارج في القضية الخارجية.

وعلى الجملة فجعل الأوامر الحقيقية التي يكون الغرض من جعلها إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل والإتيان بالمأمور به مع علم الأمر بانتفاء شرط فعليتها وامتثالها في الخارج لا محالة يكون لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك هذا.

وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ (قده) بما إليك نصه : ولكن التحقيق ان ما ذكروه في المقام انما نشأ من عدم تمييز الأحكام القضايا الخارجية من أحكام القضايا الحقيقية ، وذلك لأن الحكم المجعول لو كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية لصح ما ذكروه واما إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية الثابتة للموضوعات المقدر وجودها في الخارج كما هو الحال في أحكام الشريعة المقدسة فلا مانع من نسخها بعد جعلها ولو كان ذلك في زمان قليل كيوم واحد أو أقل ، لأنه لا يشترط في صحة جعله وجود الموضوع له أصلا ، إذ المفروض أنه جعل على موضوع مقدر الوجود.

نعم إذا كان الحكم المجعول في القضية الحقيقية من قبيل الموقتات كوجوب الصوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضية الحقيقية كان

٣١٦

نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجية قبل وقت العمل به فلا محالة يكون النسخ كاشفاً عن عدم كون الحكم المنشأ أولا حكماً مولوياً مجعولا بداعي البعث أو الزجر.

وبالجملة إذا كان معنى النسخ هو ارتفاع الحكم المولوي بانتهاء أمده فلا محالة يختص ذلك بالقضايا الحقيقية غير الموقتة وبالقضايا الخارجية والقضايا الحقيقية الموقتة بعد حضور وقت العمل بها ، وأما القضايا الخارجية أو الحقيقية الموقتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلق النسخ بالحكم المجعول فيها من الحكم الملتفت والوجه في ذلك ظاهر.

نلخص ما أفاده (قده) في نقطة وهي : ان الحكم المجعول إذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية أو القضايا الحقيقية الموقتة لم يجز نسخه قبل حضور وقت العمل به وإذا كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية غير الموقتة جاز نسخه قبل ذلك وقد تعرض (قدس‌سره) هذا التفصيل بعينه في مبحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فلاحظ.

ويرد عليه أنه لا يتم بإطلاقه والسبب فيه ما عرفت من أنه لا يكفى في الأوامر الحقيقية مجرد فرض وجود موضوعها في الخارج مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها فيه ، ضرورة ان المولى على الرغم من هذا لو جعلها بداعي البعث حقيقة لكان من اللغو الواضح فكيف يمكن صدوره منه مع التفاته إلى ذلك ، وقد مر آنفاً أنه لا يفرق في ذلك بين القضايا الحقيقية غير الموقتة ، والقضايا الحقيقية الموقتة. والقضايا الخارجية فكما ان الأمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط امتثاله وعدم تمكن المكلف منه مستحيل في القسمين الأخيرين ، فكذلك مستحيل في القسم الأول من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، ولا ندري كيف ذهب شيخنا الأستاذ (قده)

٣١٧

إلى هذا التفصيل ، مع أنه قد صرح في عدة موارد ان امتناع فعلية الحكم يستلزم امتناع جعله. هذا كله في الأوامر.

وأما النواهي فإذا علم المولى أنه لا يترتب أي أثر على جعل النهي خارجاً ولا يبلغ مرتبة الزجر لعلمه بانتفاء شرط فعليته فلا محالة يكون جعله لغواً فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك ، وأما إذا علم بأن جعل الحكم وتشريعه هو السبب لانتفاء موضوعه كما هو الشأن في جعل القصاص والدّيات والحدود حيث ان تشريع هذه الأحكام سبب لمنع المكلف وزجره عن إيجاد موضوعها في الخارج فلا مانع منه ، بل يكون تمام الغرض من جعلها ذلك فكيف يعقل أن يكون مانعاً عنه.

فالنتيجة في نهاية المطاف هي ان جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه وشرطه في الخارج لا يمكن من الحكيم الملتفت إليه من دون فرق في ذلك بين الأوامر والنواهي ، والقضايا الحقيقية والخارجية.

نعم إذا كان جعل الحكم وتشريعه في الشريعة المقدسة يكون سبباً لانتفاء موضوعه وشرطه فلا مانع منه كما عرفت.

الثالثة : أن يكون الخاصّ المتأخر وارداً بعد حضور وقت العمل بالعامّ فهل مثل هذا الخاصّ يكون مخصصاً له أو ناسخاً فيه وجهان : فذهب جماعة إلى الثاني بدعوى أن تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح ، وعليه فيتعين كونه ناسخاً لا مخصصاً ، ولكنهم وقعوا في الإشكال بالإضافة إلى عمومات الكتاب والسنة حيث ان مخصصاتها التي صدرت عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام قد وردت بعد حضور وقت العمل بها ، ومع ذلك كيف يمكن الالتزام بتخصيصها بها ، والالتزام بالنسخ في جميع ذلك بعيد جداً بل نقطع بخلافه ، بداهة ان لازم ذلك هو نسخ كثير من الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة ، وهذا في نفسه مما يقطع ببطلانه ، لا من ناحية ما قيل

٣١٨

من ان النسخ لا يمكن بعد زمن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لانقطاع الوحي ، وذلك لأن الوحي وان انقطع بعد زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا انه لا مانع من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أو كل بيانه إلى الأئمة الطاهرين عليه‌السلام كبيان سائر الأحكام ، بل من ناحية أن نسخ تلك الأحكام بتلك الكثرة في نفسها لا يناسب مثل هذه الشريعة الخالدة التي تجعل من قبل الله تعالى وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياؤه عليه‌السلام ببيانها ، ولأجل ذلك يقطع بخلافه.

ومن هنا قد قاموا بعدة محاولات للتفصي عن هذا الإشكال أحسنها ما ذكره صاحب الكفاية (قده) تبعاً لشيخنا العلامة الأنصاري (قده) من ان هذه العمومات التي وردت مخصصاتها بعد حضور وقت العمل بها قد صدرت بأجمعها ضرباً للقاعدة يعني انها متكفلة للأحكام الظاهرية فيكون الناس مكلفين بالعمل بها ما لم يرد عليها مخصص فإذا ورد المخصص عليها كان ناسخاً بالإضافة إلى الأحكام الظاهرية ومخصصاً بالإضافة إلى الإرادة الجدية والأحكام الواقعية.

وقد ذكرنا في ضمن البحوث السالفة أن كون العموم مراداً بالإرادة الاستعمالية لا يلازم كونه مراداً بالإرادة الجدية ، كما ان كونه مراداً ظاهراً ضرباً للقانون والقاعدة لا يلازم كونه مراداً واقعاً وجداً.

وعليه فلا مانع من كون العموم في هذه العمومات مراداً ظاهراً ويكون الناس مأموراً بالعمل به في مقام الظاهر إلى أن يجيء المخصص له فإذا جاء فيكون مخصصاً بالإضافة إلى الإرادة الجدية وناسخاً بالإضافة إلى الحكم الظاهري ،

ويرد عليه ان هذه العمومات لا تخلو من أن تكون ظاهرة في إرادة العموم واقعاً وجداً في مقام الإثبات والدلالة أو لا تكون ظاهرة فيه من جهة نصب قرينة على انها مرادة في مقام الظاهر وغير مرادة بحسب مقام الواقع

٣١٩

والجد يعني أن القرينة تدل على انها وردت ضرباً للقاعدة بالإضافة إلى الحكم الظاهري دون الواقعي.

ومن الطبيعي ان هذه القرينة تمنع عن انعقاد ظهورها في إرادة العموم واقعاً وجداً فعلى الأول يبقى إشكال قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بحاله ولا يندفع به الإشكال المزبور ، ضرورة انها على هذا الفرض ظاهرة في إرادة العموم واقعاً ، والبيانات المتأخرة عنها الواردة بعد حضور وقت العمل بها على الفرض كاشفة عن عدم إرادة العموم فيها ، وهذا بعينه هو تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وعلى الثاني فلا ظهور لها في العموم في مقام الإثبات حتى يتمسك به ضرباً للقاعدة ، وعليه فلا يكون حجة في ظرف الشك. فالنتيجة ان ما ذكره صاحب الكفاية (قده) لدفع الإشكال المذكور لا يرجع إلى معنى صحيح ،

فالتحقيق في المقام أن يقال : ان قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة انما هو لأحد أمرين لا ثالث لهما :

الأول : انه يوجب وقوع المكلف في الكلفة والمشقة من دون مقتض لها في الواقع كما إذا افترضنا ان العام مشتمل على حكم إلزاميّ في الظاهر ولكن كان بعض افراده في الواقع مشتملا على حكم ترخيصي ، فانه لا محالة يوجب إلزام المكلف ووقوعه بالإضافة إلى تلك الافراد المباحة في المشقة والمكلفة من دون موجب ومقتض لها ، وهذا من الحكيم قبيح.

الثاني : أنه يوجب إلقاء المكلف في المفسدة أو يوجب تفويت المصلحة عنه كما إذا افترضنا ان العام مشتمل على حكم ترخيصي في الظاهر ، ولكن كان بعض أفراده في الواقع واجباً أو محرماً ، فانه على الأول يوجب تفويت المصلحة الملزمة عن المكلف ، وعلى الثاني يوجب إلقائه في المفسدة ، وكلاهما قبيح من المولى الحكيم.

٣٢٠