محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

في فسقه. وعلى الثاني يستلزم العلم بتقييد الموضوع بعدم اتصافه بأحد الوصفين على نحو الإجمال ، ولازم ذلك إجمال العام وعدم جواز التمسك به لإثبات وجوب الإكرام للعالم الفاسق أو للنحوي.

نعم إذا علم ان المانع من تحقق الملاك هو صفة الفسق ولكنها بحسب المفهوم مجمل ويدور أمره بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه وفاعل الصغيرة أو احتمل ان المانع من تحقق الملاك هو اجتماع الوصفين معا لا كل واحد منهما ، أو مع إضافة وصف آخر إليهما اقتصر في جميع هذه الفروض في تخصيص العام على القدر المتيقن ويتمسك في غيره بأصالة العموم ، كما كان هو الحال بعينه فيما دار أمر المخصص اللفظي بين الأقل والأكثر.

فالنتيجة في نهاية الشوط هو انه لا فرق بين المخصص اللفظي واللبي في شيء من الأحكام المزبورة فيما إذا كانت القضية المتكفلة لإثبات حكم العام من القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق الموضوع على افراده في الخارج بنظر نفس المكلف.

وأما إذا كانت القضايا من قبيل القضايا الخارجية فان كان المخصص لفظيا لم يجز التمسك بالعامّ في موارد الشبهات المصداقية حيث ان المخصص اللفظي يكون قرينة على ان المولى أو كل إحراز موضوع حكمه في الخارج إلى نفس المكلف ، وبما أن موضوعه صار مقيداً بقيد بمقتضى التخصيص فبطبيعة الحال إذا شك في تحقق قيده في الخارج لم يمكن التمسك بالعموم لفرض عدم كونه ناظراً إلى وجوده فيه أو عدم وجوده كما سبق. واما إذا كان المخصص لبياً فان علم من الخارج ان المولى يوكل إحراز موضوع العام إلى نفس المكلف فحاله حال المخصص اللفظي ، كما إذا ورد في دليل (أعط لكل طالب علم في النجف الأشرف كذا وكذا ديناراً) وعلم من الخارج ان مراد المولى هو المعيل دون المجرد ، ولازم ذلك بطبيعة الحال

٢٠١

هو العلم بتقيد موضوع العام بعدم كونه مجرداً ، فعندئذ إذا شك في طالب علم أنه معيل أو مجرد لم يمكن التمسك بعمومه ، لعدم إحراز انه من مصاديق العام.

وان لم يعلم من الخارج ذلك صح التمسك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية ، والسبب فيه ان ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن أنه بنفسه أحرز انطباق موضوع حكمه على جميع الافراد ولم يكل ذلك إلى المكلف ، ومن المعلوم ان هذا الظهور حجة على المكلف في الموارد المشكوك فيها ، فإذا أمر المولى خادمه بإكرام جميع جيرانه ، فان ظهور كلامه في العموم كاشف عن أنه لاحظ جميع أفراد موضوع حكمه وأحرز وجود الملاك في الجميع ، ومن الطبيعي ان هذا الظهور حجة عليه ولا يجوز له التعدي عن مقتضاه إلا إذا علم خلافه ، كما إذا علم بأن زيداً مثلا الّذي يسكن في جواره عدوه وانه لا ملاك لوجوب الإكرام فيه جزما وسكوت المولى عن بيانه لعله لأجل مصلحة فيه أو مفسدة في البيان أو غفل عنه أو كان جاهلا بعدم وجود الملاك فيه ، وكيف ما كان فالمكلف متى ما علم بعدم وجود الملاك فيه فهو معذور في ترك إكرامه ، لأن قطعه هذا عذر له وهذا بخلاف ما إذا شك في فرد أنه عدوه أو لا فلا عذر له في ترك إكرامه حيث انه لا أثر لهذا الشك في مقابل الظهور نظراً إلى أنه حجة فلا يجوز له رفع اليد عنه من دون قيام دليل وحجة أقوى بخلافه.

واما الخطّ الثالث فهو صحيح فيما إذا لم يكن إحراز الموضوع موكولا إلى نظر المكلف كما هو الحال في مثل قوله عليه‌السلام (لعن الله بني أمية قاطبة) فان هذه القضية بما انها قضية خارجية صادرة من الإمام عليه‌السلام من دون قرينة تدل على إيكال إحراز الموضوع فيها في الخارج إلى نظر المكلف فبطبيعة الحال تدل على أن المتكلم لاحظ الموضوع بتمام افراده

٢٠٢

وأحرز أنه لا مؤمن بينهم ، وعليه فلا مانع من التمسك بعمومه لإثبات جواز لعن الفرد المشكوك في إيمانه أو فقل انا إذا علمنا من الخارج ان فيهم مؤمنا فهو خارج عن عمومه فلا يجوز لعنه جزماً ، وأما إذا شك في فرد انه مؤمن أو ليس بمؤمن فلا مانع من التمسك بعمومه لإثبات جواز لعنه ، ويستكشف منه بدليل لأن انه ليس بمؤمن.

فالنتيجة ان القضية ان كانت خارجية فان كان المخصص لفظياً أو كان لبيا وقامت قرينة على ان إحراز الموضوع في الخارج موكول إلى نظر المكلف لم يجز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية. واما إذا كان المخصص لبيا ولم تقم قرينة على ذلك فالقضية في نفسها ظاهرة في ان أمر التطبيق بيد المولى ، وانه لاحظ جميع الافراد الخارجية وجعل الحكم عليها مثلا لو قال المولى لعبده (بع جميع ما عندي من الكتب) فانه يدل بمقتضى الفهم العرفي ان المولى قد أحرز وجود ملاك البيع في كل واحد واحد من كتبه ، ومن المعلوم ان هذا الظهور حجة الا فيما حصل له القطع بالخلاف ، فحينئذ يرفع اليد عن هذا الظهور ويعمل على طبق قطعه لأن حجيته ذاتية وهو معذور في العمل به وان كان مخالفا للواقع واما في موارد الشك في وجود الملاك فالظهور حجة فيها ، ولو خالف ولم يعمل به استحق المؤاخذة واللوم ، إذ لا أثر لشكه بعد ما كان أمر التطبيق وإحراز الملاك بيد المولى.

ومن ضوء هذا البيان يظهر نقد التفصيل الّذي اختاره شيخنا الأستاذ (قدس‌سره) وحاصل ما اختاره ان المخصص اللبي بحسب مقام الإثبات على أنحاء ثلاثة :

أحدها : ما يوجب تقييد موضوع حكم العام وتضييقه نظير تقييد الرّجل في قوله عليه‌السلام «فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا ونظر في حلالنا

٢٠٣

وحرامنا إلخ» بكونه عادلا لقيام الإجماع على ذلك فحال هذا القسم حال المخصص اللفظي في عدم جواز التمسك بالعموم معه في الافراد المشكوك فيها ، ولا فرق في ذلك بين كون المخصص اللبي من قبيل القرينة المتصلة كما إذا كان حكما عقليا ضروريا ، أو من قبيل القرينة المنفصلة كما إذا كان حكما عقليا نظريا ، أو إجماعا ، فانه على كلا التقديرين لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية.

وثانيها : ما يكون كاشفا عن ملاك الحكم وعلته من دون أن يوجب ذلك تقييد موضوع الحكم به ، حيث انه لا يصلح تقييد موضوع الحكم بما هو ملاكه ، فان كان المخصص اللبي من هذا القبيل فلا إشكال في جواز التمسك بالعموم عندئذ في الشبهات المصداقية ، وكشف هذا العموم بطريق الآن عن وجود الملاك في تمام الافراد ، فإذا شك في وجود الملاك في فرد كان عموم الحكم كاشفا عن وجود الملاك فيه ورافعا للشك من هذه الناحية كما أنه إذا علم بعدم الملاك في فرد كان ذلك الفرد خارجا عن العام من باب التخصيص ، فيكون سكوت المولى عن حكم ذلك الفرد اما لأجل مصلحة مقتضية له أو مفسدة في بيانه كما في المولى الحقيقي أو لجهله بعدم الملاك فيه كما ربما يتفق ذلك في الموالي العرفية.

فالنتيجة أن المخصص اللبي على هذا سواء أكان حكما ضروريا أم نظريا أم إجماعا لا يوجب تقييد موضوع الحكم في طرف العام ، حيث ان ملاك الحكم كما عرفت لا يصلح أن يكون قيداً لموضوعه. والسبب في ذلك هو أن إحراز اشتمال الافراد على الملاك انما هو وظيفة نفس المولى فبعموم الحكم يستكشف انه أحرز وجود الملاك في تمام الافراد فيتمسك به في الموارد المشكوكة.

وثالثها : ما لا يكشف عن شيء من الأمرين المزبورين يعني لا يعلم

٢٠٤

أنه يكشف عن تقييد موضوع حكم العام أو عن ملاكه فيدور أمره بينهما ، فإذا كان حال المخصص اللبي كذلك فهل يمكن التمسك بالعموم حينئذ في موارد الشك فقد فصل (قده) بين ما إذا كان المخصص اللبي حكماً عقليا ضرورياً بحيث يمكن للمولى الاتكال عليه في مقام البيان وما إذا كان حكماً عقلياً نظريا أو إجماعاً ، فعلى الأول لا يجوز التمسك بالعموم في موارد الشبهة المصداقية حيث ان المقام يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فيسقط ظهوره في العموم لا محالة ، فان هذا المخصص اللبي ان كان كاشفاً عن الملاك لم يكن مانعاً عن انعقاد ظهوره في العموم ، وان كان كاشفاً عن تقييد موضوع العام كان مانعاً عنه ، وبما أنه مردد بين الأمرين فلا محالة يكون مانعاً عن انعقاد الظهور ، وعلى الثاني فلا مانع من التمسك بالعموم حيث ان ظهور الكلام في العموم قد انعقد فلا مانع من التمسك به في الشبهات المصداقية ، والسبب في ذلك هو ان أمر المخصص بما أنه يدور بين الأمرين المزبورين فبطبيعة الحال لا علم لنا بتقييد الموضوع به في الواقع ، بل هو مجرد الاحتمال ، ومن الطبيعي ان ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن عدم تقييده به وهو حجة. ولا يمكن رفع اليد عنه بمجرد الاحتمال.

وجه الظهور أي ظهور النقد هو ما عرفت من أنه لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية في القضايا الحقيقية بشتى أنواعها وأشكالها ومن دون فرق بين كون المخصص له لفظياً أو لبياً ، واما في القضايا الخارجية فان كان المخصص لفظيا أو كان لبيا وقامت قرينة على ان المولى أو كل أمر التطبيق وإحراز الموضوع إلى نفس المكلف فأيضاً لا يمكن التمسك بالعموم فيها في موارد الشك في المصداق. نعم إذا كان المخصص لها لبيا ولم تقم قرينة على إيكال المولى أمر التطبيق إلى نفس المكلف كانت

٢٠٥

القضية بنفسها ظاهرة في ان المولى لاحظ بنفسه الافراد الخارجية واشتمالها على الملاك ثم جعل الحكم عليها ، ومن المعلوم ان هذا الظهور حجة ولا يمكن رفع اليد عنه إلا فيما علم بعدم اشتمال فرد على الملاك فيكون سكوت المولى عن استثنائه لعله لأجل مصلحة في السكوت أو لأجل مفسدة في الاستثناء ، أو لأجل جهل المولى به ، أو غفلته عنه كما ربما يتفق ذلك في الموالي العرفية ، وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة.

وأما ما أفاده (قده) من ان إحراز اشتمال المتعلق على الملاك وظيفة الحاكم فهو وان كان صحيحا إلا ان العلم بعدم اشتمال فرد على الملاك لا ينفك عن العلم بعدم كونه واجداً لخصوصية موجودة في بقية الافراد وان كانت تلك الخصوصية أمراً عدميا ، ومن الطبيعي ان العلم بدخل هذه الخصوصية في ملاك الحكم ملازم للعلم بأخذها في موضوعه ، وعليه فلا يجوز التمسك بالعموم لا محالة فيما إذا شك في انطباق الموضوع بتمام قيوده على فرد ما في الخارج إذا لم يكن أمر التطبيق بيد المولى هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن ما أفاده (قده) من ان المخصص اللبي قد يدور أمره بين أن يكون كاشفا عن ملاك الحكم وان يكون قيداً للموضوع لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، والسبب فيه أنه لا يوجد مورد يشك في كون ما أدركه العقل من قبيل قيود الموضوع أو من قبيل الملاك المقتضى لجعل الحكم على موضوعه ، حيث أن كل ما يمكن انقسام الموضوع بالنسبة إليه إلى قسمين أو أزيد يستحيل أن يكون من قبيل ملاكات الأحكام ، بل لا بد من أن يكون الموضوع بالإضافة إليه مطلقا أو مقيدا بوجوده أو بعدمه ، كما أن كل ما يكون مترتبا على فعل المكلف في الخارج من المصالح أو المفاسد يستحيل كونه قيداً لموضوع الحكم وانما هو متمحض في كونه ملاكا له ومقتضيا لجعله على موضوعه.

٢٠٦

فالنتيجة ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من التفصيل خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا ، وما اخترناه من التفصيل هو الصحيح.

(تكملة)

هل يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في افراد العام بإجراء الأصل في العدم الأزلي بعد عدم إمكان التمسك بعموم العام بالإضافة إليه فيه قولان : فذهب المحقق صاحب الكفاية (قده) إلى القول الأول ، وشيخنا الأستاذ (قده) إلى القول الثاني. فهنا نظريتان : والصحيح هو النظرية الأولى دون الثانية. ثم ليعلم ان محل الكلام في جريان هذا الأصل وعدم جريانه انما هو فيما إذا كان المخصص ذات عنوان وجودي وموجباً لتقييد موضوع العام بعدمه كقولنا (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) أو قولنا (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم) واما إذا كان المخصص موجباً لتقييد موضوع العام بعنوان وجودي كقوله (أكرم العلماء العدول) أو (أكرم العلماء) ثم قال (فليكونوا عدولا) فهو خارج عن محل الكلام فلو شك في فرد أنه عادل أو ليس بعادل فلا أصل لنا لإحراز عدالته. نعم لو شك في بقائها فالاستصحاب وان كان يقتضي ذلك إلا انه خارج عن مفروض الكلام ، حيث ان الكلام في وجود الأصل المحرز لعدالته مطلقاً وفي جميع الموارد ومثل هذا الأصل غير موجود ، ونظير ذلك ، ما ذكرناه في الفقه من أن ما دل من الروايات على عدم انفعال الماء مطلقاً إلا بالتغير بأحد أوصاف النجس قد قيد بروايات الكر الدالة على اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة دون القليل وإلا لكان عنوان الكر المأخوذ في لسان الروايات لغواً محضاً ، وعليه فيكون موضوع عدم انفعال الماء بالملاقاة

٢٠٧

إلا إذا تغير هو الماء المقيد بالكر دون مطلق الماء ، فإذا شك في ماء أنه كرّام لا فلا أصل هنا لإحراز أنه كر إلا إذا كانت لكريته حالة سابقة.

فالنتيجة ان في كل مورد يكون المخصص موجبا لتعنون العام بعنوان وجودي وتقيده به فهو خارج عن محل الكلام ولا يمكن إثباته بالأصل : فمحل الكلام انما هو فيما إذا كان المخصص موجبا لتقيد العام بعنوان عدمي من دون فرق في ذلك بين المخصص المتصل والمنفصل كتقييد ما دل على انفعال الماء مطلقا بالملاقاة بما دل على أن الماء الكر لا ينفعل بها فيكون موضوع الانفعال بالملاقاة هو الماء الّذي لا يكون كراً ، وعليه فإذا شك في ماء أنه كر أو ليس بكر ، فالصحيح أنه لا مانع من الرجوع إلى الأصل لإثبات عدم كريته يعني عدمها الأزلي ، فان الموضوع على هذا مركب من أمرين : أحدهما عنوان وجودي. والآخر عنوان عدمي ، والأول محرز بالوجدان ، والثاني بالأصل فبضم الوجدان إلى الأصل يتحقق الموضوع المركب فيترتب عليه أثره ففي المثال المزبور يكون الموضوع أي موضوع الانفعال مركباً من الماء ، وعدم اتصافه بالكرية والأول محرز بالوجدان والثاني بالأصل حيث أنه في زمان لم يكن ماء ولا اتصافه بالكرية ثم وجد الماء في الخارج فنشك في اتصافه بالكرية وانه هل وجد أم لا فتستصحب عدمه أي عدم اتصافه بها.

وكذا الحال في المثال الّذي جاء به صاحب الكفاية (قده) وهو ما إذا شك في المرأة انها قرشية أولا فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم اتصافها بالقرشية وعدم انتسابها بها ، حيث ان في زمان لم تكن هذه المرأة ولا اتصافها بالقرشية ثم وجدت المرأة فنشك في انتسابها إلى القريش فلا مانع من استصحاب عدم انتسابها إليه ، وبضم هذا الاستصحاب إلى الوجدان يثبت ان هذه مرأة لم تكن قرشية ، والأول بالوجدان ، والثاني بالأصل فتدخل في موضوع العام.

٢٠٨

ولكن أنكر ذلك شيخنا الأستاذ (قده) وقال بأن الاستصحاب لا يجري في العدم الأزلي ، واستدل على ذلك بعدة مقدمات :

الأولى : ان التخصيص سواء أكان بالمتصل أو بالمنفصل وسواء أكان استثناء أو غيره انما يوجب تقييد موضوع العام بغير عنوان المخصص فإذا كان المخصص أمراً وجوديا كان الباقي تحت العام معنوناً بعنوان عدمي. وان كان المخصص امراً عدمياً الباقي تحته معنوناً بعنوان وجودي ، والوجه فيه هو ما تقدم من ان موضوع كل حكم أو متعلقه بالنسبة إلى كل خصوصية يمكن أن ينقسم باعتبار وجودها وعدمها إلى قسمين مع قطع النّظر عن ثبوت الحكم له لا بد من أن يؤخذ في مقام الحكم عليه أما مطلقاً بالإضافة إلى وجودها وعدمها فيكون من الماهية اللا بشرط القسمي أو مقيداً بوجودها فيكون من الماهية بشرط شيء ، أو مقيداً بعدمها فيكون من الماهية بشرط لا ، لأن الإهمال في الواقع في موارد التقسيمات الأولية مستحيل ، مثلا العالم في نفسه ينقسم إلى العادل والفاسق مع قطع النّظر عن ثبوت الحكم له ، وعليه فإذا جعل المولى الملتفت إلى ذلك وجوب الإكرام له فهو لا يخلو من ان يجعل له مطلقاً وغير مقيد بوجود العدالة أو بعدمها ، أو يجعل له مقيداً بإحدى الخصوصيّتين ، ضرورة أنه لا يعقل جهل الحاكم بموضوع حكمه وانه غير ملاحظ له لا على نحو الإطلاق ولا على نحو التقييد ، ولا فرق في ذلك بين أنواع الخصوصيات وأصنافها ، وعليه فإذا افترضنا خروج قسم من الأقسام عن حكم العام فلا يخلو من أن يكون الباقي تحته بعد التخصيص مقيداً بنقيض الخارج فيكون دليل المخصص مقيداً لإطلاقه ورافعاً له ، أو يبقى على إطلاقه بعد التخصيص أيضا ، ولا ثالث لهما ، وبما ان الثاني باطل جزماً لاستلزامه التناقض والتهافت بين مدلولي دليل العام ودليل الخاصّ فيتعين الأول.

٢٠٩

نعم إذا كان المخصص متصلا فهو مانع من انعقاد ظهور العام في العموم من الأول ، فإطلاق التقييد والتخصيص عليه مبني على ضرب من المسامحة حيث أنه لا تقييد ولا تخصيص في العموم ، فان الظهور من الأول قد انعقد في الخاصّ ، وانما التقييد والتخصيص فيه بحسب المراد الواقعي الجدي فهو من هذه الناحية كالمخصص المنفصل فلا فرق بينهما في ذلك أصلا ، وان كان فرق بينهما من ناحية أخرى كما لا يخفى.

ثم انه لا فرق فيما ذكرناه بين كون التخصيص نوعياً أو صنفياً أو فرديا أصلا فالكل يوجب تعنون العام بعنوان عدمي.

وقد ناقش في هذه المقدمة بعض الأعاظم (قدس الله أسراره) بما ملخصه : من ان التخصيص لا يوجب تعنون العام بأي عنوان ، حيث انه ليس الا كموت أحد افراد العام ، فكما انه لا يوجب تعنون العام بأي عنوان ، فكذلك التخصيص ، غاية الأمر ان الأول موت تكويني والثاني موت تشريعي.

ويرده ان هذا القياس خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا ، والسبب فيه ان الموت التكويني يوجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه في مرحلة التطبيق ، لما ذكرناه غير مرة من ان الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية التي مردّها إلى القضايا الشرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، مثلا قولنا الخمر حرام يرجع إلى قولنا إذا وجد مائع في الخارج وصدق عليه انه خمر فهو حرام ، وإذا لم يوجد مائع كذلك فلا حرمة ، فالحرمة تنتفي في مرحلة التطبيق بانتفاء موضوعها وهذا ليس تقييداً للحكم في مرحلة الجعل ، ضرورة انه مجعول في هذه المرحلة للموضوع المفروض وجوده في الخارج فمتى وجد تحقق حكمه والا فلا حكم في هذه المرحلة أي مرحلة التطبيق والفعلية ، وهذا بخلاف

٢١٠

التخصيص ، فانه يوجب تقييد الحكم في مرحلة الجعل في مقام الثبوت يعني أن دليل المخصص يكشف عن ان الحكم من الأول خاص ، وفي مقام الإثبات يدل على انتفاء الحكم مع بقاء الموضوع يعني عن الموضوع الموجود فيكون من السالبة بانتفاء المحمول لا الموضوع كما هو الحال في الموت التكويني.

الثانية : ان الوجود والعدم مرة يضافان إلى الماهية يعني أنها اما موجودة أو معدومة.

وبكلمة أخرى ان الماهية سواء أكانت من الماهيات المتأصلة كالجواهر والاعراض أو كانت من غيرها فبطبيعة الحال لا تخلو من أن تكون موجودة أو معدومة ولا ثالث لهما ، ضرورة أنه لا يعقل خلو الماهية عن أحدهما والا لزم ارتفاع النقيضين ، فكما يقال أن الجسم الطبيعي اما موجود أو معدوم ، فكذلك يقال : ان البياض اما موجود أو معدوم ، ولا فرق بينهما من هذه الناحية ، ويسمى هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم المحمولين نظراً إلى انهما محمولان على الماهية وبمفادي كان وليس التامتين. وأخرى يلاحظ وجود العرض بالإضافة إلى معروضه لا ماهيته ، أو عدمه بالإضافة إليه ، ويعبر عن هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم النعتيين تارة ، وبمفاد كان الناقصة وليس الناقصة تارة أخرى ، وهذا الوجود والعدم يحتاجان في تحققهما إلى وجود موضوع محقق في الخارج ويستحيل تحققهما بدونه ، فهما من هذه الناحية كالعدم والملكة يعني ان التقابل بينهما يحتاج إلى وجود موضوع محقق في الخارج ، ويستحيل التقابل بدونه ، اما احتياج الملكة إليه فظاهر حيث لا يعقل وجودها الا في موضوع موجود ، واما احتياج العدم فلأن المراد منه ليس العدم المطلق ، بل المراد منه عدم خاص وهو العدم المضاف إلى محل قابل للاتصاف بالملكة ، مثلا

٢١١

العمى ليس عبارة عن عدم البصر على الإطلاق ، ولذا لا يصح سلبه عما لا يكون قابلا للاتصاف به فلا يقال للجدار مثلا أنه أعمى يعني ليس ببصير ومن هنا يصح ارتفاعهما معاً عن موضوع غير موجود من دون لزوم ارتفاع النقيضين ، فان زيد غير موجود لا بصير ولا أعمى.

وقد تحصل من ذلك ان اتصاف شيء بكل منهما يحتاج إلى وجوده وتحققه في الخارج ، بداهة استحالة وجود الصفة بدون وجود موصوفها لأن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وما نحن فيه كذلك ، فان الوجود والعدم النعتيين يستحيل ثبوتهما بدون وجود منعوت وموصوف في الخارج. ومن هنا يمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم ارتفاع النقيضين ، فان الفرد الخارجي من العالم اما أن يكون عادلا أو فاسقاً ، واما المعدوم فلا يعقل اتصافه بشيء منهما ، وهذا بخلاف الوجود والعدم المحموليين حيث لا يمكن ارتفاعهما معاً ، فانه من ارتفاع النقيضين ، لما عرفت من ان الماهية إذا قيست إلى الخارج فلا تخلو من أن تكون موجودة أو معدومة ولا ثالث لهما ، فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان الوجود والعدم إذا كانا نعتيين أمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما ، حيث ان الشيء قبل وجوده لا يكون متصفاً بوجود الصفة ولا بعدهما ، ضرورة ان الاتصاف فرع وجود المتصف ، واما إذا كانا محمولين فلا يمكن ارتفاعهما عن موضوع ، ضرورة انه من ارتفاع النقيضين المستحيل ذاتاً.

الثالثة : ان الموضوع المركب من شيئين لا يخلو من أن يكون مركباً من جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض فلا رابع لها ، أما إذا كان من قبيل الأول كان يكون مركباً من وجودي زيد وعمرو مثلا فتارة يكون كلاهما محرزاً بالوجدان ، وأخرى يكون كلاهما محرزاً بالأصل ، وثالثة يكون

٢١٢

وتعين في الواقع إلا انه انما يمنع من انحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المتيقن فيما إذا لم يكن في نفسه مردداً بين الأقل والأكثر كالمثال الّذي قدمناه آنفاً.

وأما إذا كان ماله العلامة والتعين مردداً أيضا بين الأقل والأكثر فبطبيعة الحال يكون حاله حال ما ليس له العلامة والتعين في الواقع ، فكما أن ما ليس له العلامة والتعين فيه ينحل بالظفر بالمقدار المتيقن والمعلوم ، فكذلك ماله العلامة والتعين ، وما نحن فيه كذلك ، فان ماله العلامة والتعين فيه حاله حال ما ليس له العلامة والتعين فلا فرق بينهما من هذه الناحية يعني من ناحية الانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن.

وان شئت فقل : كما ان العلم الإجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في الشريعة المقدسة ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن ، كذلك العلم الإجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في خصوص الكتب المعتبرة ينحل بذلك ، والنكتة فيه ان المعلوم بالإجمال في هذا العلم الإجمالي كالمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الأول يعني أن أمره دائر بين الأقل والأكثر.

وعليه فبطبيعة الحال ينحل بالظفر بالمقدار الأقل تفصيلا فلا علم بعده بوجود المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر ، والشاهد عليه هو اننا لو أفرزنا ذلك المقدار من الكتب المعتبرة فلا علم لنا بعده بوجود المخصص أو المقيد فيها ، وهذا معنى انحلال العلم الإجمالي.

وعلى الجملة ان قوام العلم الإجمالي انما هو بالقضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو فإذا انحلت هذه القضية إلى قضيتين حمليتين : إحداهما : متيقنة والأخرى : مشكوك فيها فقد انحل العلم الإجمالي ولا يعقل بقائه.

والمفروض في المقام قد انحلت هذه القضية إلى هاتين القضيتين ،

٢١٣

حيث ان كلا منهما ـ وان كان نعتاً لموضوعه إلا ان أحدهما ليس نعتاً للآخر ومتوقفاً عليه ، نظير الممكن فانه في وجوده يحتاج إلى وجود الواجب بالذات ولا يحتاج إلى وجود ممكن آخر.

أو فقل ان الموضوع مركب من وجوديهما العارضين لموضوعين خارجاً من دون أخذ خصوصية فيه كالتقارن أو نحوه وعليه فحالهما حال الجوهرين وحال العرضين لموضوع واحد ، فكما أنه يمكن إحراز كليهما بالوجدان أو التعبد أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد ، فكذلك في المقام ومن هذا القبيل ركوع الإمام وركوع المأموم في زمان واحد إذا قلنا ان الموضوع مركب من ذاتي ركوع الإمام وركوع المأموم يعني ركوع المأموم تحقق في زمان كان الإمام فيه راكعاً وعليه فإذا شك المأموم حينما ركع انه هل أدرك الإمام في ركوعه أو لا فلا مانع من استصحاب بقاء الإمام فيه وبضمه إلى الوجدان ـ وهو ركوع المأموم ـ يلتئم الموضوع فيترتب عليه أثره ـ وهو صحة الاقتداء ـ واما إذا قلنا ان المستفاد من الأدلة ان الموضوع لها عنوان آخر كعنوان الحال أو التقارن أو ما شاكل ذلك لا وجود ركوع الإمام ووجود ركوع المأموم في زمان واحد فلا يمكن إثباته الا على القول بالأصل المثبت الّذي لا نقول به. وعلى الجملة فان كان المستفاد من الأدلة هو ان الموضوع ذاتي الركوعين في زمان واحد من دون أخذ خصوصية أخرى فيه فلا مانع من جريان الأصل وإثبات الموضوع به ، واما ان كان المستفاد منها أنه قد أخذ فيه خصوصية أخرى كالتقارن أو نحوه فلا أصل في المقام ليتمسك به الا إذا قلنا بالأصل المثبت ولا نقول به.

واما إذا كان من قبيل الثالث وهو ما إذا كان الموضوع مركبا من جوهر وعرض فانه تارة يكون مركبا من جوهر وعرض لموضوع آخر كما إذا افترضنا ان الموضوع مركب من وجود زيد مثلا وعدالة عمرو أو وجود

٢١٤

بكر وقيام خالد وهكذا فحال هذا الشق حال القسم الأول والثاني فلا مانع من إثباته بالأصل ، وتارة أخرى يكون مركبا من عرض وموضوعه كزيد وعدالته وعمرو وقيامه وهكذا ففي مثل هذا الشق لا محالة يكون المأخوذ في الموضوع هو وجود العرض بوجوده النعتيّ حيث ان العرض نعت لموضوعه وصفة له فعندئذ ان كان لاتصاف الموضوع به وجوداً أو عدماً حالة سابقة جرى استصحاب بقائه وإلا فلا مثلا إذا كان لاتصاف الماء بالكرية أو بعدمها حالة سابقة فلا مانع من استصحاب بقائه وأما إذا لم تكن له حالة سابقة فلا يجري الاستصحاب فان استصحاب عدم الكرية بنحو العدم المحمولي أو استصحاب وجودها بنحو الوجود المحمولي وان كان لا مانع منه في نفسه نظراً إلى ان له حالة سابقة إلا انه لا يجدي في المقام حيث أنه لا يثبت الاتصاف المزبور ـ وهو مفاد كان أو ليس الناقصة إلا على القول بالأصل المثبت.

وقد تحصل من ذلك أنه لا يمكن إثبات الوجود أو العدم النعتيّ باستصحاب الوجود المحمولي أو العدم كذلك وهذا معنى قولنا ان الوجود والعدم المحمولين مغايران للوجود والعدم النعتيين لا بمعنى ان في الخارج عدمين ووجودين أحدهما محمولي والآخر نعتي ضرورة ان في الخارج ليس الا عدم واحد ووجود كذلك ، ولكنهما يختلفان باختلاف اللحاظ والاعتبار فتارة يلحظ وجود العرض أو عدمه في نفسه ويعبر عنه بالوجود أو العدم المحمولي وأخرى يلحظ وجوده أو عدمه مضافاً إلى موضوعه ويعبر عنه بالوجود أو العدم النعتيّ فاستصحاب الوجود أو العدم المحمولي لا يثبت الموضوع والمحل الّذي هو قوام الوجود أو العدم النعتيّ مثلا استصحاب وجود الكر في الخارج لا يثبت اتصاف هذا الماء بالكر فيما إذا علم باستلزام وجوده فيه اتصافه به إلا على القول باعتبار الأصل المثبت.

وبعد هذه المقدمات أفاد (قده) ان ما خرج عن تحت العام من

٢١٥

العنوان لا محالة يستلزم تقييد الباقي بنقيض هذا العنوان بمقتضى المقدمة الأولى ، وان هذا التقييد لا بد أن يكون على نحو مفاد ليس الناقصة بمقتضى المقدمة الثالثة ، وان هذا العنوان المأخوذ في الموضوع يستحيل تحققه قبل وجود موضوعه بمقتضى المقدمة الثانية. وعليه فلا يمكن إحراز قيد موضوع العام بأصالة العدم الأزلي ببيان أن المستصحب لا يخلو من أن يكون هو العدم النعتيّ المأخوذ في موضوع العام أو يكون هو العدم المحمولي الملازم للعدم النعتيّ بقاء ، فعلى الأول لا حالة سابقة له ، فانه من الأول مشكوك فيه ، وعلى الثاني وان كان له حالة سابقة إلا أنه لا يمكن باستصحابه إحراز العدم النعتيّ المأخوذ في الموضوع الا على القول بالأصل المثبت.

وبكلمة أخرى ان المأخوذ في موضوع حكم العام بعد التخصيص بما أنه العدم النعتيّ فلا يمكن إحرازه بالأصل. لعدم حالة سابقة له ، والعدم المحمولي وان كان له حالة سابقة إلا أنه لا يمكن باستصحابه إثباته إلا بناء على الأصل المثبت ، وعلى ذلك فرع (قده) منع جريان أصالة العدم في المشكوك فيه من اللباس بناء على كون المانعية المجعولة معتبرة في نفس الصلاة ومن قيودها ، فان الصلاة من أول وجودها لا تخلو من أن تكون مقترنة بالمانع أو بعدمه فلا حالة سابقة حتى يتمسك باستصحابها ويحرز به متعلق التكليف بضم الوجدان إلى الأصل ، وأما العدم الأزلي فهو وان كان متحققاً سابقاً الا انك عرفت ان استصحابه لا يجدي إلا إذا قلنا باعتبار الأصل المثبت. وأما إذا كانت المانعية المجعولة معتبرة في ناحية اللباس وكانت من قيوده فمرة يكون الشك في وجود المانع لأجل الشك في كون نفس اللباس من أجزاء غير المأكول ، وأخرى لأجل الشك في عروض أجزاء غير المأكول على اللباس المأخوذ من غير ما لا يؤكل لحمه أما الأول فلا يجري فيه الأصل ، لما عرفت من ان العدم النعتيّ لا حالة

٢١٦

سابقة له والعدم الأزلي وان كان له حالة سابقة إلا ان استصحابه لا يجدي لإثبات العدم النعتيّ بناء على ما هو الصحيح من عدم اعتبار الأصل المثبت وأما الثاني فلا مانع من جريان الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يحرز متعلق التكليف في الخارج.

فالنتيجة : أنه لا يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في افراد العام بإجراء الأصل في العدم الأزلي ، فإذاً لا بد من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام من البراءة أو نحوها.

ولنأخذ بالمناقشة فيما أفاده (قده) بيان ذلك ان ما أفاده (قده) في المقدمة الأولى من أن التخصيص الوارد على العام سواء أكان متصلا أو منفصلا وسواء أكان نوعيا أو صنفيا أو فرديا لا محالة يوجب تعنون موضوع العام بعدم عنون المخصص وتقيده به في غاية الصحة والمتانة ، ضرورة ان الإهمال في الواقع غير معقول فلا بد اما من الإطلاق أو التقييد ، وحيث ان الإطلاق غير معقول لاستلزامه التهافت والتناقض بين مدلولي العام والخاصّ فلا مناص من التقييد ، فهذه المقدمة لا تقتضي كون العدم أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع العام عدماً نعتياً أصلا.

وأما ما أفاده (قده) في المقدمة الثانية من أن وجود العرض قد يضاف إلى ماهيته ويعبر عنه بالوجود المحمولي ومفاد كان التامة ، ويعبر عن عدمه البديل له بالعدم المحمولي ومفاد ليس التامة ، وقد يضاف إلى موضوعه المحقق في الخارج ويعبر عنه بالوجود النعتيّ ومفاد كان الناقصة ويعبر عن عدمه البديل له بالعدم النعتيّ ومفاد ليس الناقصة فهو في غاية الصحة والمتانة ، كما ان ما أفاده (قده) من أن الوجود والعدم إذا كانا محمولين لم يمكن ارتفاعهما عن الماهية ، ضرورة انها لا تخلو من ان تكون موجودة أو معدومة فلا ثالث لهما فيلزم من ارتفاعهما ارتفاع النقيضين وهو

٢١٧

مستحيل ، واما إذا كانا نعتيين فلا مانع من ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما حيث ان الاتصاف بكل منهما فرع وجود المتصف في الخارج فإذا لم يكن متصف فيه فلا موضوع للاتصاف بالوجود أو العدم ، وهذا معني ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم محذور ارتفاع النقيضين ـ في غاية الصحة والمتانة ، وغير خفي ان هذه المقدمة أيضا لا تقتضي كون المأخوذ في موضوع حكم العام هو العدم النعتيّ.

واما ـ ما أفاده (قده) في المقدمة الثالثة من ان الموضوع المركب لا يخلو من أن يكون مركبا من جوهرين أو عرضين أو أحد جزئيه جوهر والآخر عرض ولا رابع لها ، أما القسم الأول والثاني فقد عرفت فيهما ان إحراز كلا جزئي الموضوع أو أحدهما بالأصل إذا كان الآخر محرزاً بالوجدان بمكان من الإمكان ، واما القسم الثالث فكذلك إذا كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى جوهر آخر ، واما إذا كان مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى ذلك الجوهر فقد عرفت أنه لا يمكن إحرازه بالأصل ، فان المأخوذ في الموضوع عندئذ هو العرض بوجوده النعتيّ حيث ان العرض نعت لموضوعه وصفة له ، وحينئذ فان كان له حالة سابقة فهو والا فلا يمكن إحرازه بالأصل ، وكذا الحال إذا كان المأخوذ في الموضوع هو العدم النعتيّ ، فانه ان كانت له حالة سابقة فهو والا لم يجر الأصل فيه ، واما العدم المحمولي فهو وان كانت له حالة سابقة إلا انه لا يمكن إثبات العدم النعتيّ باستصحابه الا على القول بالأصل المثبت ـ فهو متين جداً ولا مناص عنه الا أنه لا تقتضي كون العدم أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع حكم العام هو العدم النعتيّ دون العدم المحمولي.

فالنتيجة في نهاية المطاف ان هذه المقدمات الثلاث التي ذكرها (قده) لا تقتضي الالتزام بما أفاده (قده) من عدم جريان الاستصحاب في المقام

٢١٨

فأساس النزاع بيننا وبين شيخنا الأستاذ (قده) ليس في هذه المقدمات وانما هو في العام المخصص بدليل وان موضوعه بعد التخصيص هل قيد بالعدم النعتيّ أو بالعدم المحمولي ، فعلى الأول لا مناص من الالتزام بما أفاده (قده) من عدم جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية ، وعلى الثاني فلا مانع من جريانه فيها ، مثلا ما دل على ان الماء الكر لا ينفعل بالملاقاة يكون مخصصاً للعمومات الدالة على انفعال الماء بالملاقاة مطلقا ولو كان كراً ، وبعد هذا التخصيص وتقييد موضوع حكم العام ـ وهو الانفعال ـ بعدم عنوان المخصص ـ وهو الكر ـ هل يكون المأخوذ فيه هو الاتصاف بعدم كونه كراً أو المأخوذ فيه هو عدم الاتصاف بكونه كراً ، فعلى الأول ان كانت له حالة سابقة فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه والا لم يجر واستصحاب العدم الأزلي لا يثبت العدم النعتيّ الا على القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به ، وعلى الثاني فلا مانع من جريانه وبه يحرز تمام الموضوع ، غاية الأمر ان أحد جزئيه ـ وهو الماء ـ كان محرزاً بالوجدان ، وجزئه الآخر ـ وهو العدم المحمولي قد أحرز بالأصل ، وكذا إذا شك في امرأة انها قرشية أولا فان قلنا ان المأخوذ في موضوع العام بعد ورود التخصيص عليه ان كان الاتصاف بعدم القرشية لم يجر الاستصحاب فيه لعدم حالة سابقة له وان كان عدم الاتصاف بها لا مانع منه.

فالنتيجة ان محل النزاع انما هو في ان المأخوذ في موضوع حكم العام بعدم ورود التخصيص عليه ما هو؟ هل هو العدم النعتيّ أو العدم المحمولي ، وقد برهن شيخنا الأستاذ (قده) ان المأخوذ فيه هو العدم النعتيّ دون المحمولي بما حاصله ان المأخوذ في موضوع العام من جهة ورود المخصص عليه لو كان هو العدم المحمولي ليكون الموضوع مركبا من الجوهر وعدم عرضه بمفاد كان التامة. فلا محالة اما أن يكون ذلك مع بقاء

٢١٩

إطلاق الموضوع بالإضافة إلى كون العدم نعتاً أو يكون ذلك مع التقييد من جهة كون العدم نعتاً أيضا. وبكلمة أخرى ان العدم النعتيّ بما أنه من نعوت موضوع العام وأوصافه ولذا ينقسم الموضوع باعتباره إلى قسمين مثلا العالم الّذي هو موضوع في قضية (أكرم كل عالم الا إذا كان فاسقا) له انقسامات :

منها انقسامه إلى اتصافه بالفسق مثلا ، واتصافه بعدمه فلا محالة ، اما أن يكون الموضوع ملحوظاً بالإضافة إليه مطلقاً أو مقيداً به أيضا أو مقيداً بنقيضه بداهة ان الإهمال في الواقع مستحيل.

أما القسم الأول ـ وهو ما إذا كان الموضوع بالإضافة إلى العدم النعتيّ مطلقا ـ فهو غير معقول للزوم التناقض والتهافت بين إطلاق موضوع العام بالإضافة إلى العدم النعتيّ وتقييده بالإضافة إلى العدم المحمولي ، فان الجمع بينهما غير ممكن حيث ان العدم النعتيّ ذاتا هو العدم المحمولي مع زيادة شيء عليه وهو إضافته إلى الموضوع الموجود في الخارج ـ فلا يعقل أن يكون الموضوع في مثل قضية (كل مرأة ترى الدم إلى خمسين الا القرشية) مثلا مطلقا بالإضافة إلى العدم النعتيّ ـ وهو اتصافه بعدم القرشية ـ بعد فرض تقييده بالعدم المحمولي ـ وهو عدم القرشية بمفاد ليس التامة ـ بداهة ان مرد إطلاق الموضوع في القضية هو ان المرأة مطلقاً أي سواء أكانت متصفة بالقرشية أم لم تكن تحيض إلى خمسين ، وهذا الإطلاق كيف يجتمع مع الاستثناء وتقييد المرأة بعدم كونها قرشية بمفاد ليس التامة فالنتيجة ان إطلاق موضوع العام بالإضافة إلى العدم النعتيّ بعد تقييده بالعدم المحمولي غير معقول.

وأما القسم الثاني فهو أيضا كذلك ، ضرورة ان الموضوع قد قيد بعدم الفسق بمفاد ليس التامة فكيف يعقل تقييده بوجوده بمفاد كان

٢٢٠