محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٢

سلسلة الأفعال الاختيارية وقد تقدم الحجر الأساسي للفرق بين السلسلتين في ضمن نقد مذهب التفويض بشكل موسع وقلنا هناك باختصاص القاعدة بالسلسلة الأولى فحسب دون الثانية ، وعليه فلا تنطبق على ما نحن فيه ، وذلك لما ذكرناه غير مرة من أن الأحكام الشرعية بأجمعها أمور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدى اعتبار المعتبر وليست بأمور تكوينية وانها فعل اختياري للشارع وصادرة منه باختياره وأعمال قدرته وليس للأمور الخارجية دخل وتأثير فيها أصلا وإلا لكانت أموراً تكوينية بقانون التطابق والسنخية. نعم لها موضوعات خاصة وقد استحال انفكاكها عنها في مرحلة الفقهية ولكن هذه الاستحالة انما هي من ناحية لزوم الخلف لا من ناحية انفكاك المعلول عن العلة التامة ، لفرض أنه ليس لها أي تأثير في الأحكام أبداً.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : ان ما نحن فيه ليس من موارد تلك القاعدة في شيء ليتمسك بها لإثبات ان الشرط هو الجامع بين الأمرين ، وعليه فكما يمكن أن يكون الشرط هو الجامع بينهما ، يمكن أن يكون الشرط هو مجموعهما من حيث المجموع. (وثالثاً) أنه قد لا يعقل الجامع لما هوى بينهما وذلك كما إذا افترضنا كون أحد الشرطين من مقولة والشرط الآخر من مقولة أخرى ، فاذن لا يعقل أن يكون بينهما جامع حقيقي ، لاستحالة وجود الجامع كذلك بين المقولتين.

وأما ما أفاده (قده) بقوله : الا أن يكون ما أبقي على المفهوم أظهر فلعله سهو من قلمه الشريف ، وذلك لأن مجرد رفع اليد عن مفهوم أحدهما وبقاء الآخر على مفهومه لا يوجب علاج التعارض والتنافي بين القضيتين ، وذلك لأن التنافي انما هو بين مفهوم كل واحدة منهما ومنطوق الأخرى ورفع اليد عن مفهوم إحداهما فحسب انما يرفع التنافي بين مفهومها ومنطوق الأخرى ، وأما التنافي بين مفهوم الأخرى ومنطوق تلك باق على حاله

١٠١

ومن هنا قال بعض أصحاب الحواشي أنه ضرب في النسخة المصححة الخطّ المحو على هذه العبارة لحد الآن قد تبين ان ما تمسك به المحقق صاحب الكفاية (قده) لإثبات كون الشرط هو الجامع بين الأمرين غير تام هذا.

وقد اختار شيخنا الأستاذ (قده) ان الشرط هو مجموع الأمرين لا كل واحد منهما وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك لفظه : التحقيق ان دلالة كل من الشرطيتين على ترتب الجزاء على الشرط المذكور فيهما باستقلاله من غير انضمام شيء آخر إليه انما هي بالإطلاق المقابل بالعطف بالواو كما ان انحصار الشرط بما هو مذكور فيهما مستفاد من الإطلاق المقابل للعطف بأو ، وبما أنه لا بد من رفع اليد عن أحد الإطلاقين ولا مرجح لأحدهما على الآخر يسقط كلاهما عن الحجية ، لكن ثبوت الجزاء كوجوب القصر في المثال يعلم بتحققه عند تحقق مجموع الشرطين على كل تقدير ، واما في فرض انفراد كل من الشرطين بالوجود فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكاً فيه ، ولا أصل لفظي في المقام على الفرض ، لسقوط الإطلاقين بالتعارض فتصل النوبة إلى الأصل العملي ـ فتكون النتيجة موافقة لتقييد الإطلاق المقابل بالعطف بالواو. وأما ما ربما يقال من لزوم رفع اليد عن خصوص الإطلاق المقابل بالعطف بأو ، لكونه متأخراً في الرتبة عن الإطلاق المقابل بالعطف بالواو ، ضرورة ان انحصار الشرط متأخر رتبة عن تعينه وتشخصه ـ فيدفعه ان تقدم أحد الإطلاقين على الآخر في الرتبة لا يوجب صرف التقييد إلى المتأخر ، لأن الموجب لرفع اليد عن الإطلاقين انما هو وجود العلم الإجمالي بعدم إرادة أحدهما ، ومن الواضح ان نسبة العلم الإجمالي إلى كليهما على حد سواء فلا موجب لرفع اليد عن أحدهما بخصوصه دون الآخر».

ملخص ما أفاده (قده) هو ان الإطلاقين بما أنه لا يمكن الأخذ

١٠٢

بكليهما معاً من ناحية العلم الإجمالي بعدم إرادة أحدهما فيسقطان معاً فلا يكون في المسألة أصل لفظي من عموم أو إطلاق ليتمسك به لإثبات الجزاء وهو وجوب القصر في المثال عند افتراض تحقق أحد الشرطين في الخارج فاذن بطبيعة الحال تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وبما ان وجوب القصر في مفروض المقام عند انفراد كل من الشرطين بالوجود مشكوك فيه فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة البراءة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب بقاء وجوب التمام لفرض شك المكلف في هذا الحال في تبدل الوظيفة من التمام إلى القصر ، ومعه لا قصور في أدلة الاستصحاب عن شمول المقام. وان شئت قلت أنه لا شبهة في وجوب التمام على المكلف قبل خفاء الأذان والجدران معاً كما أنه لا إشكال في وجوب القصر عليه بعد خفائهما كذلك ، فهاتان الصورتان خارجتان عن محل الكلام ولا إشكال فيهما ، وانما الإشكال والكلام في الصورة الثالثة وهي ما إذا خفي أحدهما دون الآخر ففي هذه الصورة بما ان إطلاق كل منهما قد سقط عن الاعتبار من ناحية العلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فبطبيعة الحال ينتهي الأمر إلى الأصل العملي وهو في المقام استصحاب بقاء وجوب التمام ، للشك في بقائه وتبدله بالقصر ، فاذن النتيجة هي نتيجة التقييد بالعطف بالواو.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قده) صغرى وكبرى : أما بحسب الصغرى فلأن مورد الكلام ليس من صغريات ما أفاده (قده) من الكبرى وهي الرجوع إلى الأصل العملي ، بل هو من صغريات كبراً أخرى وهي الرجوع إلى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق فلنا دعويان : (الأولى) ان المقام ليس من موارد الرجوع إلى الأصل العملي. (الثانية) أنه من موارد الرجوع إلى الأصل اللفظي.

١٠٣

أما الدعوى الأولى : فلأن وجوب القصر وجواز الإفطار في حال السفر قد ثبتا في الشريعة المقدسة بالكتاب والسنة هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان السفر المأخوذ في موضوعها أمر عرفي وهو بهذا المعنى العرفي مأخوذ فيه على الفرض ومن ناحية ثالثة أنه لا شبهة في صدق عنوان المسافر على من خرج من البلد قاصداً السفر ولا يتوقف هذا الصدق على وصوله إلى حد الترخص. فالنتيجة على ضوء هذه النواحي ان مقتضى إطلاق الكتاب والسنة وجوب القصر وجواز الإفطار مطلقاً ولو قبل وصوله إلى حد الترخص أي بمجرد صدق عنوان المسافر عليه ولكن قد قيد هذا المطلق في عدة من النصوص به يعني حدد وجوب القصر وجواز الإفطار فيها بخفاء الأذان والتواري عن الجدران الّذي عبر عنه في كلمات الفقهاء بخفاء الجدران نظراً إلى أنه لا طريق للمسافر إلى تواريه عن الجدران الا بخفائه وإلا فهذه الكلمة لم ترد في نصوص الباب. فالنتيجة ان هذه الروايات توجب تقييده بما ذكر ، وعليه فما لم يصل المسافر إلى الحد الترخص لم يجب عليه التقصير وعلى ضوء هذا البيان فإذا خفي أحدهما دون الآخر فالمكلف وان شك في وجوب القصر وجواز الإفطار الا ان المرجع فيه ليس أصالة البراءة عنه واستصحاب بقاء التمام ، بل المرجع الأصل اللفظي وهو الإطلاق المتقدم ومقتضاه وجوب القصر في هذا الفرض دون التمام.

وأما الدعوى الثانية : وهي ان المورد داخل في كبرى الرجوع إلى الأصل اللفظي دون العملي فيظهر حالها مما بيناه في الدعوى الأولى ، وتوضيحه : هو ان القدر الثابت من تقييد هذه المطلقات الدالة على وجوب القصر وجواز الإفطار مطلقاً هو ما إذا لم يخف الأذان والجدران معاً حيث ان الواجب عليه في هذا الفرض هو التمام وعدم جواز الإفطار ، وأما إذا خفي أحدهما دون الآخر فلا نعلم بتقييدها ، ومعه لا مناص من الرجوع

١٠٤

إليها لإثبات وجوب القصر وجواز الإفطار ، لفرض عدم الدليل على التقييد في هذه الصورة بعد سقوط كلا الإطلاقين من ناحية المعارضة فتكون النتيجة هي نتيجة العطف بأو على عكس ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) وقد تحصل من ذلك ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من الكبرى لا ينطبق على المقام.

نعم إذا افترضنا قضيتين شرطيتين في مورد كانتا واردتين لبيان الحكم الابتدائي تم ما أفاده (قده) ، وذلك كما إذا ورد في دليل (إذا خفي الأذان فتصدق) وورد في دليل آخر (إذا خفي الجدران فتصدق) وبما أنه لا يمكن الجمع بين الإطلاقين معاً للعلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فيسقطان فالمرجع عندئذ بطبيعة الحال هو الأصل العملي ـ وهو أصالة البراءة عن وجوب التصدق عند خفاء أحدهما دون الآخر ـ لا في مثل المقام حيث انهما واردتان لبيان تقييد الحكم الثابت بالعموم والإطلاق فحينئذ لا محالة يكون المرجع في مورد الشك في التقييد والتخصيص هو ذاك العموم والإطلاق كما عرفت.

واما بحسب الكبرى : فالصحيح ، ان القاعدة تقتضي تقييد الإطلاق المقابل للعطف بأو دون العطف بالواو كما اختاره شيخنا الأستاذ (قده) والسبب في ذلك هو أنه لا منافاة بين منطوقي القضيتين الشرطيتين المتقدمتين ضرورة أن وجوب القصر عند خفاء الأذان لا ينافي وجوبه عند خفاء الجدران أيضا ، لفرض ان ثبوت حكم لشيء لا يدل على نفيه عن غيره وكذا لا منافاة بين مفهوميهما لوضوح أن عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان لا ينافي عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدران ، إذ عدم ثبوت حكم عند عدم شيء لا يقتضي ثبوته عند عدم شيء آخر ليكون بينهما تنافي. فالنتيجة أن المنافاة انما هي بين إطلاق مفهوم إحداهما ومنطوق الأخرى

١٠٥

مع قطع النّظر عن دلالتها على المفهوم ، ولذا لو كان الوارد في الدليلين (إذا خفي الأذان فقصر) و (يجب تقصير الصلاة عند خفاء الجدران) كان بين ظهور القضية الأولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة ، فان مقتضى إطلاق مفهوم الأولى عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان وان فرض خفاء الجدران ، ومقتضى القضية الثانية وجوب القصر في هذا الفرض ، وقد تحصل من ذلك ان المعارضة في مورد الكلام انما هي بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الأخرى الدال على ثبوت الجزاء عند تحقق شرطه فاذن لا بد لنا من علاج هذه المعارضة وقد ذكروا في مقام علاجها وجوهاً :

الأول : ما تقدم من المحقق صاحب الكفاية (قده) وهو رفع اليد عن مفهوم إحداهما دون الأخرى. وفيه ما عرفت من أنه لا تعارض بين المفهومين حتى يعالج بذلك ومن هنا قلنا ان هذا سهو من قلمه (قده).

الثاني : ما تقدم من شيخنا الأستاذ (قده) وهو رفع اليد عن كلا الإطلاقين معاً والرجوع إلى الأصل العملي. أقول ان ما أفاده (قده) وان أمكن علاج المعارضة به إلا أن الأخذ به بلا موجب بعد إمكان الجمع العرفي بين الدليلين ، والسبب في ذلك هو انه إذا أمكن في مورد علاج المعارضة بين الدليلين على ضوء الجمع العرفي وما هو المرتكز عندهم لم تصل النوبة إلى علاجها بطريق آخر خارج عنه وليس معهوداً ومرتكزاً بينهم وبما أن ما أفاده من الجمع هنا خارج عن المتفاهم العرفي فلا يمكن المساعدة عليه ولتوضيح ذلك نضرب مثالا وهو ما إذا ورد الأمر بإكرام العلماء الظاهر في وجوب إكرامهم ثم ورد في دليل آخر أنه لا يجب إكرام زيد العالم ، فان التنافي بينهما وان كان يرتفع بحمل الأمر في الدليل العام على الاستحباب إلا أنه بلا مقتضى حيث ان العرف لا يساعد على

١٠٦

ذلك ، فان الموجب للتنافي في المقام ليس الا ظهور الدليل الأول في العموم ، ومن المعلوم ان المرتكز العرفي في أمثال ذلك هو رفع اليد عن عموم وتخصيصه بالدليل الثاني ، لا حمل الأمر في الدليل الأول على الاستحباب فانه خارج عن المرتكز العرفي.

وعلى الجملة فالتنافي في المثال المزبور انما هو بين ظهور العام في العموم وظهور الخاصّ في التخصيص به وعدم كون العام بعمومه مراداً ولا تنافي بين ظهور الخالص في التخصيص به وبين ظهور الأمر في طرف العام في الوجوب مع قطع النّظر عن ظهوره في العموم ، وعليه فبطبيعة الحال يحمل العام على الخاصّ نظراً إلى أن ظهوره أقوى منه فيكون قرينة عليه عرفاً ، كما هو الحال في جميع موارد تعارض الظهورات بعضها مع بعضها الآخر. وأما التصرف في ظهور الأمر في طرف العام وحمله على الاستحباب فهو بلا ضرورة ، تستدعيه وان كان يرتفع به التعارض كما هو يرتفع بحمل أحدهما على التقية مع أنه لم يقل به أحد فيما نعلم أو بحمل الخاصّ على أفضل أفراد الواجب أو ما شاكل ذلك.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : ان كل ما يمكن به دفع التنافي والتعارض بين الدليلين لا يمكن الأخذ به ما لم يساعد عليه العرف وعلى ضوء هذا البيان يظهر ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) في المقام من رفع اليد عن كلا الإطلاقين والرجوع إلى الأصل العملي لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لأن التعارض وان كان يدفع بما ذكره (قده) إلا انك عرفت ان كل ما يمكن به دفع التعارض والتنافي بين الدليلين لا يمكن الأخذ به إلا فيما إذا ساعد عليه العرف يعني يكون الجمع بينهما جمعاً عرفياً ومن الطبيعي ان رفع اليد عن كلا الإطلاقين فيما نحن فيه والرجوع إلى

١٠٧

دليل آخر ليس من الجمع العرفي في شيء ، والسبب في ذلك هو ما تقدم من أن التعارض بينهما انما هو بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الأخرى وان افترض عدم دلالتها على المفهوم فلو كان الوارد في الدليلين (إذا خفي الأذان فقصر) (ويجب التقصير عند خفاء الجدران) لكان بين ظهور القضية الأولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة ، وحيث ان نسبة المنطوق إلى المفهوم نسبة الخاصّ إلى العام فبطبيعة الحال يقيد إطلاقه به ، وبما أن التصرف في المفهوم بدون التصرف في المنطوق لا يمكن ، لما عرفت من أنه لازم عقلي له فيدور مداره سعة وضيقاً فلا يمكن انفكاكه عنه ولو بالإطلاق والتقييد فلا محالة يستلزم التصرف فيه التصرف في المنطوق هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان التصرف في إطلاق مفهوم كل من القضيتين بهذا الشكل لا محالة يستدعي التصرف في إطلاق منطوق كل منهما بنتيجة العطف بكلمة (أو) ولازم ذلك هو ان الشرط أحدهما ، والسر فيه هو اننا إذا قيدنا إطلاق مفهوم قوله عليه‌السلام إذا خفي الأذان فقصر بمنطوق قوله عليه‌السلام إذا خفي الجدران فقصر وبالعكس أي تقييد إطلاق مفهوم القضية الثانية بمنطوق القضية الأولى.

فالنتيجة هي عدم وجوب التقصير الا إذا خفي أحدهما وهذا معنى أن ذلك نتيجة تقييد إطلاق كل من القضيتين بالعطف بكلمة (أو) وأما التقييد بالعطف بكلمة (واو) فلا مقتضى له أصلا وان كان يرتفع به التعارض.

وقد تحصل من ذلك عدة أمور : (الأول) ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) في المقام خاطئ صغراً وكبراً فلا واقع موضوعي له

١٠٨

(الثاني) ان ما ذكرناه من الجمع هنا هو المطابق للارتكاز العرفي في أمثال المقام دون غيره. (الثالث) ان الجمع بين ظواهر الأدلة لا بد أن يكون في إطار مساعدة العرف عليه والا فهو غير مقبول (الرابع) ان التعارض في محل الكلام انما هو بين إطلاق مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الأخرى (الخامس) ان نسبة مفهوم كل منهما إلى منطوق الأخرى نسبة عموم مطلق (السادس) ان التصرف في المفهوم لا يمكن بدون التصرف في المنطوق.

الأمر الثالث : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء وثبت من الخارج أو من نفس ظهور القضيتين أو القضايا كون كل شرط مستقلا في ترتب الجزاء عليه فهل القاعدة في مثل ذلك تقتضي تداخل الشروط في تأثيرها أثراً واحداً أولا مثلا ، إذا اجتمع أسباب عديدة للوضوء أو الغسل في شخص واحد كالنوم والبول وخروج الريح والجنابة ومس الميت والحيض وما شاكل ذلك فهل تستدعي أثراً واحداً أو متعدداً وعلى تقدير اقتضائها التعدد فهل القاعدة تقتضي تداخل الجزاء أو لا ، ونقصد بتداخل الجزاء الاكتفاء بوضوء واحد أو غسل في مقام الامتثال ، وبعدم تداخله عدم الاكتفاء به في هذا المقام ، بل لا بد من الإتيان به متعدداً حسب تعدد الشرط.

وبعد ذلك نقول : ان الكلام يقع في مقامين : (الأول) في تداخل الأسباب (الثاني) في تداخل المسببات. وقبل البحث عنها ينبغي تقديم خطوط تالية :

الأول : ان الكلام في التداخل أو عدمه انما هو فيما إذا لم يعلم من الخارج ذلك وإلا فهو خارج عن محل الكلام ، كما هو الحال في بابي الوضوء والغسل حيث علم من الخارج أنه لا يجب على المكلف عند اجتماع أسبابه الا وضوء واحد ، وكذا الحال في الغسل ومنشأ هذا العلم

١٠٩

هو الروايات الدالة على ذلك في كلا البابين : أما في باب الوضوء فلأن الوارد في لسان عامة رواياته هو التعبير بالنقض مثل : لا ينقض الوضوء إلا حدث وما شاكل ذلك ، ومن الطبيعي ان صفة النقض لا تقبل التكرر والتكثر ، وعليه فبطبيعة الحال يكون المتحصل من نصوص الباب ان أسباب الوضوء انما تؤثر في وجود صفة واحدة وهي المعبر عنها بالحدث ان اقترنت أثر مجموعها في هذه الصفة على نحو يكون كل واحد منها جزء السبب لا تمامه ، وان ترتبت تلك الأسباب استند الأثر إلى المتقدم منها دون المتأخر كما هو الحال في العلل المتعددة التي لها معلول واحد.

فالنتيجة على ضوء هذا البيان ان التداخل في باب الوضوء انما هو في الأسباب دون المسببات.

وأما في باب الغسل فلأن الوارد في لسان عدة من رواياته هو أجزاء غسل واحد عن المتعدد كصحيحة زرارة (إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة فإذا أجمعت عليك حقوق (الله) أجزأها عنك غسل واحد ثم قال ، ولذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها) وموثقته عن أبي جعفر عليه‌السلام قال (إذا حاضت المرأة وهي جنب أجزأها غسل واحد) وصحيحة شهاب بن عبد ربه قال : (سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يغسل الميت أو من غسل ميتاً له أن يأتي أهله ثم يغتسل فقال سواء لا بأس بذلك إذا كان جنباً غسل يده وتوضأ وغسل الميت وهو جنب وان غسل ميتاً توضأ ثم أتى أهله ويجزيه غسل واحد لهما) ونحوها غيرها.

فالنتيجة ان المستفاد من هذه الروايات هو أن التداخل في باب الغسل انما هو في المسببات لا في الأسباب. هذا فيما إذا علم بالتداخل

١١٠

في الأسباب أو المسببات وأما إذا لم يعلم بذلك كما إذا أفطر الصائم مثلا في نهاية شهر رمضان بالأكل أو الشرب أو الجماع أو نحو ذلك مرات عديدة فالمرجع فيه ما تقتضيه القاعدة ، وسيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

الثاني : إذا فرض انه لا الدليل على التداخل ولا على عدمه فما هو قضية الأصل العملي فهل هي التداخل أو عدمه أو التفصيل بين الأسباب والمسببات يعني يقتضي التداخل في الأولى دون الثانية وجوه الصحيح هو الوجه الأخير ـ وهو التفصيل بينهما ـ والسبب في ذلك هو أن مرد الشك في تداخل الأسباب وعدمه إلى الشك في ثبوت تكليف زائد على التكليف الواحد المتيقن ، ومن الطبيعي ان مقتضى الأصل عدمه ، ومثال ذلك ما إذا علم المكلف بحدوث وجوب الوضوء عند حدوث سببه كما إذا بال أو نام ولكن شك في ثبوته زائداً على هذا المتيقن كما إذا بال أو نام مرة ثانية فحينئذ لا محالة يكون مقتضى الأصل عدم ثبوته ، وهذا بخلاف الشك في تداخل المسببات ، فانه حيث أنا نعلم بتعدد التكليف هناك والشك انما هو في سقوط كلا التكليفين بسقوط أحدهما بالامتثال فبطبيعة الحال يكون مقتضى الأصل عدم سقوطه.

ثم ان هذا الّذي ذكرناه في كلا الموردين لا يفرق فيه بين الأحكام الوضعيّة والتكليفية ، لوضوح ان الشك إذا كان في وحدة الحكم وتعدده عند تعدد شرطه فمقتضى الأصل عدم تعدده يعني عدم حدوث حكم آخر زائداً على المتيقن ، ومن المعلوم أنه لا يفرق فيه بين أن يكون المشكوك حكماً تكليفياً أو وضعياً ، كما أنه إذا شك في سقوطه بعد العلم بثبوته فمقتضى الأصل عدم سقوطه ، ولا يفرق فيه أيضا بين كونه حكماً تكليفياً أو وضعياً فالنتيجة ان مقتضى الأصل العملي هو التداخل في موارد الشك في تأثير

١١١

الأسباب وعدم التداخل في موارد الشك فيه في المسببات. ومن هنا يظهر أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من أنه لا ضابط كلي لجريان الأصل في موارد الأحكام الوضعيّة فلا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه والرجوع فيه إلى ما يقتضيه الأصل لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لما عرفت من أنه لا فرق في جريانه في كلا المقامين بين الحكم التكليفي والوضعي أصلا.

الثالث : ان محل الكلام في تداخل الأسباب أو المسببات انما هو فيما إذا كان الجزاء قابلا للتعدد كالوضوء أو الغسل أو ما شاكل ذلك ، واما إذا لم يكن قابلا لذلك فهو خارج عن محل الكلام كالقتل ، فان من يستحق ذلك بارتداد أو نحوه فلا معنى للبحث عن تداخل الأسباب أو المسببات فيه وفي أمثاله نعم قد يكون قتله مورداً لحقوق متعددة متباينة كما إذا افترض أنه قتل عدة اشخاص متعمداً ، فانه يثبت لولي كل من المقتولين حق قتله على نحو الاستقلال فلو أسقط أحد الأولياء حقه لم يسقط حق الآخرين فلهم اقتصاصه. نعم لو اقتصه أحدهم سقط حق الباقين قصاصاً بسقوط موضوعه ، ولكن لهم عندئذ ان يأخذوا الدية من أمواله ، هذا بالإضافة إلى حقوق الناس ، وكذلك الحال بالإضافة إلى حقوق الله كما إذا افترضنا ان أحداً زنى بأحد محارمه كأخته أو أمه أو بنته أو ما شاكل ذلك مرتين أو أزيد ، فانه بطبيعة الحال لا يترتب على الزنى في المرة الثانية الا تأكد الجزاء حيث أن القتل غير قابل للتعدد. ثم أنه ربما لا يكون الجزاء قابلا للتأكد أيضا كإباحة شيء مثلا أو طهارته نظرا إلى أن الطهارة كالإباحة غير قابلة للشدة والتأكد فضلا عن الزيادة ، مثلا إذا غسل الثوب المتنجس في الماء الكر وطهر فلا أثر لغسله ثانياً في الماء الجاري ولا يوجب ذلك تأكد طهارته وشدتها ، وكذا إذا افترضنا إباحة شيء بعدة أسباب مجتمعة عليه دفعية أو تدريجية كاجتماع الإكراه والاضطرار

١١٢

وما شاكلهما في مادة شخص واحد حيث انه لا يوجب شدة إباحة الفعل المضطر إليه أو المكره عليه على الرغم من كون كل واحد منها سبب تام لذلك.

الرابع ما نسب إلى فخر المحققين من ان القول بالتداخل وعدمه يبتنيان على كون العلل الشرعية أسباب أو معرفات ، فعلى الأول لا يمكن القول بالتداخل ، وعلى الثاني لا مانع منه حيث ان اجتماع معرفات عديدة على شيء واحد بمكان من الوضوح.

وغير خفي ان القول بكون الأسباب الشرعية معرفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا ، والسبب فيه انه ان أريد بكونها معرفات انها غير دخيلة في الأحكام الشرعية كدخل العلة في المعلول فهو وان كان متيناً جداً ، لما ذكرناه في بحث الشرط المتأخر من انه لا دخل للأمور التكوينية في الأحكام الشرعية أصلا ، ولا تكون مؤثرة فيها كتأثير العلة في المعلول وإلا لكانت تلك الأحكام معاصرة لتلك الأمور التكوينية ومسانخة لها بقانون التناسب والسنخية ، والحال ان الأمر ليس كذلك ، بداهة ان وجوب صلاتي الظهرين مثلا ليس معلولا لزوال الشمس وإلا لكان معاصراً له من ناحية وامراً تكوينياً من ناحية أخرى بقانون التناسب ، وكذا الحال في وجوب صلاتي المغرب والعشاء ، فانه ليس معلولا لغروب الشمس ووجوب صلاة الفجر ، فانه ليس معلولا لطلوع الفجر ، ووجوب الحج فانه ليس معلولا للاستطاعة ونحوها ، ووجوب الصوم ، فانه ليس معلولا لدخول شهر رمضان ونحوه من شرائطه.

وعلى الجملة فالأحكام الشرعية بأجمعها أمور اعتبارية فرفعها ووضعها بيد الشارع ، وفعل اختياري له ، ولا يؤثر فيها شيء من الأمور الطبيعية نعم الملاكات الموجودة في متعلقاتها وان كانت أموراً تكوينية الا ان دخلها

١١٣

في الأحكام الشرعية ليس كدخل علة طبيعية في معلولها ، بل هي داعية لجعل الشارع واعتباره إياها. أو فقل انها تدعو الشارع لجعلها واعتبارها كبقية الدواعي للافعال الاختيارية ، لا انها تؤثر في نفسها. وان أريد من كون الأسباب الشرعية معرفات ذلك فهو وان كان متيناً من هذه الناحية إلا أنه يرد عليه من ناحية أخرى ، وهي انه لا ملازمة بين عدم دخلها في الأحكام الشرعية وكونها معرفات ، بل هنا أمر ثالث وهو كونها موضوعات لها يعني ان الشارع جعل الأحكام على تلك الموضوعات في مرحلة الاعتبار والإنشاء على نحو القضية الحقيقة ، مثلا أخذ الشارع زوال الشمس مع بقية الشرائط في موضوع وجوب صلاتي الظهرين في تلك المرحلة ، وكذا أخذ الاستطاعة مع سائر الشرائط في موضوع وجوب الحج ، وهكذا هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انا قد ذكرنا غير مرة ان القضية الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي ان عدم دخل الأسباب الشرعية في أحكامها كدخل العلة الطبيعية في معلولها لا يستلزم كونها معرفات محضة ، بل هي موضوعات لها وتتوقف فعليتها على فعلية تلك الموضوعات ، ولا تنفك عنها أبداً ، ومن هنا تشبه العلة التامة من هذه الناحية أي من ناحية استحالة انفكاكها عن موضوعاتها.

وان أريد بذلك كونها معرفات لموضوعات الأحكام في الواقع ، ولا مانع من تعدد المعرف لموضوع واحد واجتماعه عليه مثلا عنوان الإفطار في نهار شهر رمضان ليس بنفسه موضوعاً لوجوب الكفارة ، بل هو معرف لما هو الموضوع له في الواقع ، وكذا الحال في مثل عنوان البول والنوم وما شاكلهما ، فان هذه العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ليست بأنفسها

١١٤

موضوعات للأحكام ، بل هي معرفات لها ، ومن الطبيعي انه لا مانع من اجتماع معرفات متعددة على موضوع واحد ـ فيرد عليه ان ذلك وان كان أمراً ممكناً في نفسه إلا ان ظواهر الأدلة لا تساعد على ذلك ، حيث ان الظاهر منها ان العناوين المأخوذة في ألسنتها بأنفسها موضوعات للأحكام ، لا انها معرفات لها ، فالحمل على المعرف يحتاج إلى قرينة وبدونها لا يمكن وعلى الجملة فالظاهر من الدليل عرفاً ان عنوان الإفطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة. لا انه معرف لما هو الموضوع له واقعاً ، وكذا عنوان البول والنوم ونحوهما. وان أريد بذلك كونها معرفات لملاكاتها الواقعية ـ ففيه انها ليست بكاشفة عنها بوجه ، فان الكاشف عنها ـ إجمالا انما هو نفس الحكم الشرعي ، واما ما سمي سبباً له فلا يكون بكاشف عنها أصلا.

فالنتيجة في نهاية المطاف ان القول بكون الأسباب الشرعية معرفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلا ، هذا إذا كان المراد من الأسباب الشرعية موضوعات الأحكام وشرائطها كما هو كذلك واما لو أريد بها ملاكاتها الواقعية فالأمر في غاية الوضوح حيث انه لا معنى لدعوى كونها معرفات كما هو ظاهر.

الرابع : ان محل الكلام في التداخل وعدمه انما هو فيما إذا كان الشرط قابلا للتعدد والتكرر ، واما إذا لم يكن قابلا له فهو خارج عن محل الكلام لعدم الموضوع عندئذ للقول بالتداخل وعدمه ، وذلك كالإفطار متعمداً في نهار شهر رمضان الّذي هو موضوع لوجوب الكفارة حيث انه من العناوين التي غير قابلة للتعدد والتكرر فلو أكل الصائم عالماً عامداً في نهار شهر رمضان مرة واحدة صدق عليه عنوان الإفطار العمدي ، وأما إذا أكل بعده مرة ثانية فلا يصدق عليه هذا العنوان ، وبما ان موضوع وجوب الكفارة بحسب لسان الروايات هو عنوان الإفطار دون الأكل أو

١١٥

الشرب فبطبيعة الحال لا يجري فيه النزاع المتقدم ، ومن هنا لو أكل أو شرب في نهار شهر رمضان مرات عديدة لم يجب عليه الا كفارة واحدة. نعم في خصوص الجماع والاستمناء تتعدد الكفارة بتعددهما نظراً إلى ان الجماع والاستمناء بعنوانهما قد أخذا في موضوع الكفارة في لسان الروايات ، ومن الطبيعي انها تتعدد بتعددهما خارجاً.

وبكلمة أخرى ان غير الجماع والاستمناء من المفطرات بما انها لم تؤخذ في موضوع وجوب الكفارة بعناوينها الأولية وانما أخذت فيه بعنوان المفطر فمن الطبيعي ان عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الأكل أو الشرب في نهار شهر رمضان باعتبار ان الصوم قد أفطر ونقض به فلا يصدق هذا العنوان على وجوده الثاني ، لوضوح ان ما نقض غير قابل للنقض مرة ثانية وان كان الإمساك بعد النقض والإفطار أيضا واجباً عليه الا انه ليس بعنوان الصوم الواجب. ومن هنا يجب قضائه ولا يكون الإمساك المزبور مجزياً عنه. فالنتيجة ان عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الأكل أو الشرب فلا يصدق على وجوده الثاني والثالث ، وهكذا ، ولذا لا تتعدد الكفارة بتعدده ، وهذا بخلاف الجماع والاستمناء حيث ان المأخوذ في لسان الرواية عنوان الإتيان بالأهل في نهار شهر رمضان وعنوان الاستمناء وهما : من العناوين التي قابلة للتعدد والتكرر خارجاً ، وعليه فلا محالة تتعدد الكفارة بتعددهما فلو أتى بأهله أو استمنى في نهار شهر رمضان متعدداً وجبت عليه الكفارة كذلك. هذا.

ولكن السيد الطباطبائي صاحب العروة (قده) قال في جواب بعض المسائل التي سئلت عنه ان الكفارة تتعدد بتعدد الجماع والأكل بدعوى ان عنوان الإفطار كناية عن نفس الأكل والشرب ونحوهما من دون أن تكون له خصوصية فأخذه في لسان الروايات انما هو بعنوان المعرف لما

١١٦

هو الموضوع له واقعاً ثم قال : وتدل عليه الروايات أيضا. وفيه ما تقدم من ان ظاهر الروايات هو ان عنوان الإفطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة لا أنه كناية عن الأكل والشرب ، فحمله على المعرف والكناية يحتاج إلى قرينة ولا قرينة على الفرض. وأمّا ما أفاده (قده) من دلالة الروايات على ذلك فيرده انا لم نجد في هذا الموضوع ولا رواية واحدة تدل على ترتب وجوب الكفارة على عنوان الأكل والشرب فلا ندري ما هو مقصوده (قدس‌سره) من الروايات الدالة على ذلك.

وبعد ذلك نقول : اما الكلام في المقام الأول ـ وهو التداخل في الأسباب ـ فيقوم على أساس ان القضية الشرطية ظاهرة في نفسها في التداخل أو في عدمه فلو أتى المكلف بأهله في نهار شهر رمضان مرات عديدة فان قلنا بالأول لم تجب عليه الا كفارة واحدة وان قلنا بالثاني وجبت عليه كفارات متعددة.

وذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ما إليك نصه. «والتحقيق انه لما كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط كان الأخذ بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقة أو وجوداً محالا ، ضرورة ان لازمه ان يكون الحقيقة الواحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل (إذا بلت فتوضأ) (وإذا نمت فتوضأ) أو فيما (إذا بال مكرراً) أو (نام كذلك) محكوم بحكمين متماثلين وهو واضح الاستحالة كالمتضادين فلا بد على القول بالتداخل من التصرف فيه اما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث ، بل على مجرد الثبوت ، أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وان كان واحداً صورة الا انه حقائق متعددة حسب تعدد الشروط الا ان الاجتزاء بواحد لكونه مجمعاً لها كما في (أكرم هاشمياً) (وأضف عالماً)

١١٧

فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة ، ضرورة انه بضيافته بداعي امرين يصدق انه امتثلهما ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته وان كان له امتثال كل منهما على حدة كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة ، وأضاف العالم الغير الهاشمي ،

ما أفاده (قده) يحتوي على عدة نقاط : ١ ـ ان القضية الشرطية في نفسها ظاهرة في الحدوث عند الحدوث ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط في القضية بنفسه سبباً للجزاء أو يكون كاشفاً عن السبب. ٢ ـ ان الأخذ بهذا الظاهر لا يمكن نظراً إلى ان متعلق الجزاء بما انه حقيقة واحدة فلازم الأخذ به هو اجتماع الحكمين المتماثلين فيها وهو مستحيل كاجتماع المتضادين. ٣ ـ انه على القول بالتداخل لا بد من الالتزام بأحد أمرين : اما ان يلتزم برفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث. واما ان يلتزم بأن متعلق الجزاء وان كان واحداً صورة إلا انه متعدد واقعاً.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط : اما النقطة الأولى فهي في غاية الصحة والمتانة. وأما النقطة الثانية فيرد عليها مضافاً إلى ما سوف يأتي في ضمن البحوث التالية ما ذكرناه غير مرة من انه لا مانع من اجتماع الحكمين المتماثلين في شيء واحد ، غاية الأمر انه يوجب التأكد والاندكاك وصيرورتهما حكماً واحداً مؤكداً. ومن ذلك يظهر حال النقطة الثالثة حيث انه لا موجب لرفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند الحدوث ، كما انه لا معنى لدعوى ان الوضوء أو ما شاكله حقائق متعددة في الواقع ونفس الأمر هذا.

ولشيخنا الأستاذ (قده) في المقام كلام وهو في غاية الصحة والجودة وإليك نصه : والحق هو القول بعدم التداخل مطلقاً ، وتوضيح ذلك انما يتم ببيان أمرين :

١١٨

الأول : ما تقدم سابقاً من انه لا إشكال في ان كل قضية شرطية ترجع إلى قضية حقيقية ، كما ان كل قضية حقيقية تنحل إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، فالمعنى المستفاد منهما في الحقيقة شيء واحد ، وانما الاختلاف في كيفية التعبير عنه ، وعليه فكما ان الحكم في القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه إلى أحكام متعددة إذ المفروض ان فرض وجود الموضوع فرض ثبوت الحكم له ، كذلك ينحل الحكم في القضية الشرطية بانحلال شرطه. لأن أدوات الشرط اسمية كانت أم حرفية انما وضعت لجعل مدخولها موضع الفرض والتقدير وإثبات التالي على هذا الفرض فلا يكون بين القضية الشرطية والحقيقية فرق من جهة الانحلال أصلا ، وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشرط وجوداً ، كما يتعدد بتعدد موضوعه في الخارج واما تعدد الحكم بتعدد شرطه جنساً فهو انما يستفاد من ظهور كل من القضيتين في ان كلا من الشرطين مستقل في ترتب الجزاء عليه مطلقاً ، فان ظاهر قضية (إذا بلت فتوضأ) هو ان وجوب الوضوء مترتب على وجود البول ولو قارنه أو سبقه النوم مثلا ، وكذلك ظاهر قضية (إذا نمت فتوضأ) هو ترتب وجوب الوضوء على النوم ولو قارنه أو سبقه البول مثلا ، فإطلاق كل من القضيتين يستفاد منه استقلال كل من النوم والبول في ترتب وجوب الوضوء عليه على جميع التقادير ، ولازم ذلك هو تعدد وجوب الوضوء عند حصول الشرطين في الخارج ووجودهما فيه.

الثاني : ان تعلق الطلب بشيء لا يقتضي إلا إيجاد ذلك الشيء خارجاً ونقض عدمه المطلق ، وبما ان نقض العدم المطلق يصدق على أول وجود من وجودات الطبيعة يكون الإتيان به مجزياً في مقام الامتثال عقلا. وأما توهم ان ذلك من جهة تعلق الطلب بصرف الوجود وصدقه على أول

١١٩

الوجودات فهو فاسد ، إذ لا موجب لأخذ صرف الوجود في متعلق الطلب بعد عدم كونه مدلولا عليه بالهيئة ولا بالمادة ، ضرورة ان المادة لم توضع إلا لنفس الماهية المعراة عن الوجود والعدم. وأما الهيئة فهي لا تدل إلا على طلب إيجادها ونقض عدمها المطلق الصادق قهراً على أول الوجودات ، وليس هناك ما يدل على اعتبار صرف الوجود في متعلق الطلب غير صيغة الأمر المفروض عدم دلالتها على ذلك هيئة ومادة ، وعليه فالطلب لا يرد على صرف الوجود المأخوذ في المتعلق في مرتبة سابقة على عروض الطلب عليه بل الطلب هو بنفسه يقتضي إيجاد متعلقه خارجاً ونقض عدمه المطلق ، فإذا فرض تعلق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كل منهما إيجاد تلك الماهية فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها ونقض عدمها مرتين ، كما هو الحال بعينه في تعلق إرادتين تكوينيتين بماهية واحدة فتعدد الإيجاد تابع لتعدد الإرادة. وبالجملة ان كل امر في نفسه لا يدل إلا على الطلب المقتضى لإيجاد متعلقه ، وأما كون هذا الطلب واحداً أو متعدداً فليس في الأمر بهيئته ومادته دلالة عليه قطعاً. نعم إذا لم يكن هناك ما يقتضي تعدد الطلب وقد فرض تعلق الأمر بالطبيعة كان الطلب واحداً قهراً الا انه من جهة عدم المقتضي لتعدده لا من جهة دلالة اللفظ عليه ، فإذا فرض ظهور القضية الشرطية في الانحلال وتعدد الطلب أو فرض تعدد القضية الشرطية في نفسها كان ظهور القضية في تعدد الحكم موجباً لارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب أعني به عدم المقتضى للتعدد ووارداً عليه.

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ظهور الجزاء في وحدة الطلب لكان ذلك من جهة عدم ما يدل على التعدد. فإذا دلت الجملة الشرطية بظهورها في الانحلال أو من جهة تعددها في نفسها على تعدد الطلب كان هذا الظهور لكونه لفظياً مقدماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب. ومن هنا يظهر الفرق بين

١٢٠