محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

المقصد الثاني

(مبحث النواهي)

وفيه جهات من البحث :

الأولى ـ ان المشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً ان النهي بمادته وصيغته ، كالأمر بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب ، غير ان متعلق النهي ترك الفعل ونفس ان لا تفعل ، ومتعلق الأمر إيجاد الفعل.

وبكلمة واضحة ان المعروف بينهم هو ان النهي يشترك مع الأمر في المعنى الموضوع له ، وهو الدلالة على الطلب. ومن هنا انهم يعتبرون في دلالة النهي عليه ما اعتبروه في دلالة الأمر ، من كونه صادراً عن العالي ، فلو صدر عن السافل أو المساوي فلا يكون نهياً حقيقة ، وغير ذلك مما قدمناه في بحث الأوامر بشكل واضح وبصورة مفصلة ، فلا فرق بينهما من هذه النواحي أصلا.

نعم فرق بينهما في نقطة أخرى وهي ان متعلق الطلب في طرف النهي الترك وفي طرف الأمر الفعل.

وقد أشكل عليه بان الترك امر أزلي خارج عن القدرة والاختيار وسابق عليها. ومن الواضح جداً انه لا تأثير للقدرة في الأمر السابق ، ضرورة ان القدرة انما تتعلق بالأمر الحالي ، ولا يعقل تعلقها بالأمر السابق المنصرم زمانه فضلا عن الأمر الأزلي. وعليه فلا يمكن ان يتعلق النهي به ، ضرورة استحالة تعلقه بما هو خارج عن الاختيار والقدرة

٨١

ومن هنا ذهب بعضهم إلى ان المطلوب في النواهي هو كف النّفس عن الفعل في الخارج ، دون الترك ونفس ان لا تفعل.

وغير خفي ان هذا الإشكال يرتكز على نقطة واحدة ، وهي ان يكون متعلق النهي العدم السابق ، فان هذا العدم امر خارج عن القدرة والاختيار ، فلا يعقل تعلقها به ، إلا ان تلك النقطة خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع ، وذلك لأن متعلقه الترك اللاحق. ومن المعلوم انه مقدور على حد مقدورية الفعل ، لوضوح استحالة تعلق القدرة بأحد طرفي النقيض ، فإذا كان الفعل مقدوراً للمكلف كما هو المفروض فلا محالة يكون تركه مقدوراً بعين تلك المقدورية ، وإلا فلا يكون الفعل مقدوراً وهذا خلف.

فالنتيجة هي ان النهي يشترك مع الأمر في المعنى الموضوع له وهو الطلب ويمتاز عنه في المتعلق ، فانه في الأول هو الترك ، وفي الثاني الفعل ، فيدل الأول على طلب الترك وإعدام المادة في الخارج ، والثاني على طلب الفعل وإيجاد المادة فيه.

ثم انهم قد رتبوا على ضوء هذه النظرية ـ أعني دلالة النهي على طلب ترك الطبيعة ، ودلالة الأمر على طلب إيجادها ـ ان متعلق الطلب في طرف الأمر حيث انه صرف إيجاد الطبيعة في الخارج فلا يقتضي عقلا إلا إيجادها في ضمن فرد ما ، ضرورة ان صرف الوجود يتحقق بأول وجودها ، وبه يتحقق الامتثال ويحصل الغرض ، ومعه لا يبقى مجال لإيجادها في ضمن فرد ثان ... وهكذا. كما هو واضح.

واما في طرف النهي فيما انه صرف ترك الطبيعة فلا محالة لا يمكن تركها إلا بترك جميع افرادها في الخارج العرضية والطولية ، ضرورة ان الطبيعة في الخارج تحقق بتحقق فرد منها ، فلو أوجد المكلف فرداً منها فقد أوجد الطبيعة فلم تترك.

٨٢

وإلى ذلك أشار المحقق صاحب الكفاية (قده) بما حاصله هو انه لا فرق بين الأمر والنهي في الدلالة الوضعيّة ، فكما ان صيغة الأمر تدل وضعاً على طلب إيجاد الطبيعة من دون دلالة لها على الدوام والتكرار ، فكذلك صيغة النهي تدل وضعاً على طلب ترك الطبيعة بلا دلالة لها على الدوام والاستمرار. نعم تختلف قضيتهما عقلا ولو مع وحدة المتعلق بان تكون طبيعة واحدة متعلقة للأمر مرة وللنهي مرة أخرى ، ضرورة ان وجودها بوجود فرد واحد من افرادها ، وعدمها لا يمكن إلا بعدم الجميع.

ومن هنا قال (قده) : ان الدوام والاستمرار انما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة واحدة غير مقيدة بزمان أو حال ، فانه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة إلا بعدم جميع افرادها الدفعيّة والتدريجية. وبالجملة قضية النهي ليس إلا ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له كانت مقيدة أو مطلقة وقضية تركها عقلا انما هو ترك جميع افرادها.

أقول : ان كلامه (قده) هذا صريح فيما ذكرناه من ان النهي لا يدل وضعاً إلا على ترك الطبيعة سواء أكانت مطلقة أم مقيدة. نعم لو كانت الطبيعة مقيدة بزمان خاص أو حال مخصوص لم يعقل فيها الدوام والاستمرار ، وكيف كان فالنهي لا يدل إلا على ذلك ، ولكن العقل يحكم بان ترك الطبيعة في الخارج لا يمكن إلا بترك جميع افرادها العرضية والطولية.

وقد تحصل مما ذكرناه ان النقطة الرئيسية لنظريتهم امران :

الأول ـ ان النهي يشترك مع الأمر في الدلالة على الطلب ، فكما ان الأمر يدل عليه بهيئته ، فكذلك النهي. نعم يمتاز النهي عن الأمر في ان متعلق الطلب في النهي صرف ترك الطبيعة ، وفي الأمر صرف وجودها.

الثاني ـ ان قضية النهي عقلا من ناحية متعلقه تختلف عن قضية الأمر

٨٣

كذلك ، باعتبار ان متعلق النهي حيث انه صرف الترك فلا يمكن تحققه إلا بإعدام جميع افراد تلك الطبيعة في الخارج عرضاً وطولا ، ضرورة انه مع الإتيان بواحد منها لا يتحقق صرف تركها خارجاً ، ومتعلق الأمر حيث انه صرف الوجود فيتحقق بإيجاد فرد منها ، وبعده لا يبقى مقتض لإيجاد فرد آخر. وهكذا.

ولنأخذ بالمناقشة في كلا هذين الأمرين معاً ـ أعني المبنى والبناء ـ.

اما الأول ـ فيرده ان النهي بماله من المعنى مادة وهيئة يباين الأمر كذلك فلا اشتراك بينهما في شيء أصلا. وهذا لا من ناحية ما ذكره جماعة من المحققين من ان النهي موضوع للدلالة على الزجر والمنع عن الفعل باعتبار اشتمال متعلقه على مفسدة إلزامية ، والأمر موضوع للدلالة على البعث والتحريك نحو الفعل باعتبار اشتماله على مصلحة إلزامية ، وذكروا في وجه ذلك هو ان النهي لا ينشأ من مصلحة لزومية في الترك ، ليقال ان مفاده طلبه ، بل هو ناشئ من مفسدة لزومية في الفعل. وعليه فلا محالة يكون مفاده الزجر والمنع عنه ، فاذن لا وجه للقول بان مفاده طلب الترك أصلا.

فما ذكرناه من ان النهي بما له من المعني يباين الأمر كذلك ليس من هذه الناحية ، بل من ناحية أخرى.

فلنا دعويان :

الأولى ـ ان التباين بين الأمر والنهي في المعنى ليس من هذه الناحية.

الثانية ـ انه من ناحية أخرى.

اما الدعوى الأولى فلما ذكرناه غير مرة من ان تفسير الأمر مرة بالطلب ومرة أخرى بالبعث والتحريك ، ومرة ثالثة بالإرادة ، وكذا تفسير النهي تارة بالطلب ، وتارة أخرى بالزجر والمنع ، وتارة ثالثة بالكراهة لا يرجع بالتحليل العامي إلى معنى محصل ، ضرورة ان هذه مجرد ألفاظ لا تتعدى عن مرحلة التعبير

٨٤

وليس لها واقع موضوعي أبداً.

نعم ان صيغة الأمر مصداق للبعث والتحريك ، لا انهما معناها ، كما انها مصداق للطلب والتصدي ، وكذلك صيغة النهي مصداق للزجر والمنع ، وليس الزجر والمنع معناها ، واما الإرادة والكراهة فليستا معنى الأمر والنهي بالضرورة لاستحالة تعلق الإرادة بمعنى الاختيار ، وكذلك ما يقابلها من الكراهة بفعل الغير. نعم يتعلق الشوق ومقابله بفعل الغير ، ولا يحتمل ان يكونا معنى الأمر والنهي. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى انا قد ذكرنا في محله انه لا معنى للإرادة أو الكراهة التشريعية في مقابل التكوينية ، ولا نعقل لها معنى محصلا ما عدا الأمر أو النهي.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي انه لا معنى لتفسير الأمر بالإرادة والنهي بالكراهة.

وخلاصة الكلام كما انه لا أصل لما هو المشهور من تفسير الأمر بطلب الفعل وتفسير النهي بطلب الترك ، كذلك لا أصل لما عن جماعة من تفسير الأول بالبعث والتحريك ، والثاني بالزجر والمنع.

واما الدعوى الثانية فيقع الكلام فيها مرة في معنى الأمر ، ومرة أخرى في معنى النهي.

اما الكلام في الأول فقد تقدم في بحث الأوامر بشكل واضح انه إذا حللنا الأمر المتعلق بشيء تحليلا موضوعياً فلا نعقل فيه ما عدا شيئين :

أحدهما ـ اعتبار الشارع ذلك الشيء في ذمة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة.

وثانيهما ـ إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز ، كصيغة الأمر أو ما يشبهها ، فالصيغة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري

٨٥

النفسانيّ ، لا للبعث والتحريك ، ولا للطلب. نعم قد عرفت ان الصيغة مصداق للبعث والطلب ونحو تصد إلى الفعل ، فان البعث والطلب قد يكونان خارجيين وقد يكونان اعتباريين ، فصيغة الأمر أو ما شاكلها مصداق للبعث والطلب الاعتباري لا الخارجي ، ضرورة انها تصد في اعتبار الشارع إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه ، لا تكويناً وخارجاً ، كما هو واضح.

ونتيجة ما ذكرناه امران :

الأول ـ ان صيغة الأمر وما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ ، وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف ، ولا تدل على امر آخر ما عدا ذلك.

الثاني ـ انها مصداق للبعث والطلب ، لا انهما معناها.

واما الكلام في الثاني ـ فالامر أيضاً كذلك عند النقد والتحليل ، وذلك ضرورة انا إذا حللنا النهي المتعلق بشيء تحليلا علمياً لا نعقل له معنى محصلا ما عدا شيئين :

أحدهما ـ اعتبار الشارع كون المكلف محروماً عن ذلك الشيء باعتبار اشتماله على مفسدة ملزمة وبعده عنه.

ثانيهما ـ إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة النهي أو ما يضاهيها. وعليه فالصيغة أو ما يشاكلها موضوعة للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفسانيّ ، لا للزجر والمنع. نعم هي مصداق لهما.

ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة باعتبار دلالته على حرمان المكلف عن الفعل في الخارج ، كما انه يصح تفسير الأمر بالوجوب بمعنى الثبوت باعتبار دلالته على ثبوت الفعل على ذمة المكلف ، بل هما معناهما لغة وعرفاً ، غاية الأمر الحرمة مرة حرمة تكوينية خارجية كقولك : الجنة ـ مثلا ـ محرمة على الكفار ، ونحو

٨٦

ذلك ، فان استعمالها في هذا المعنى كثير عند العرف ، بل هو امر متعارف بينهم ، ومرة أخرى حرمة تشريعية كاعتبار المولى الفعل محرماً على المكلف في عالم التشريع وإبراز ذلك بقوله : لا تفعل أو ما يشابه ذلك ، فيكون قوله هذا مبرزاً لذلك ودالا عليه ، وكذا الثبوت مرة ثبوت تكويني خارجي ، ومرة أخرى ثبوت تشريعي ، فصيغة الأمر أو ما شاكلها تدل على الثبوت التشريعي وتبرزه.

وعلى الجملة فالامر والنهي لا يدلان إلا على ما ذكرناه لا على الزجر والمنع والبعث والتحريك. نعم المولى في مقام الزجر عن فعل باعتبار اشتماله على مفسدة لزومية يزجر عنه بنفس قوله : لا تفعل أو ما شاكله ، غاية الأمر الزجر قد يكون خارجياً ، كما إذا منع أحد آخر عن فعل في الخارج ، وقد يكون بقوله لا تفعل أو ما يشبه ذلك ، فيكون قوله لا تفعل عندئذ مصداقاً للزجر والمنع ، لا انه وضع بإزائه ، كما ان الطلب قد يكون طلباً خارجياً وتصدياً نحو الفعل في الخارج كطالب ضالة أو طالب العلم أو نحو ذلك ، وقد يكون طلباً وتصدياً في عالم الاعتبار نحو الفعل فيه بقوله : افعل أو ما يشبه ذلك ، فيكون قوله : افعل وقتئذ مصداقاً للطلب والتصدي ، لا انه وضع بإزائه.

وعلى ضوء بياننا هذا قد ظهر ان الأمر والنهي مختلفان بحسب المعنى ، فان الأمر معناه الدلالة على ثبوت شيء في ذمة المكلف ، والنهي معناه الدلالة على حرمانه عنه ، ومتحدان بحسب المتعلق ، فان ما تعلق به الأمر بعينه هو متعلق النهي ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

والوجه في ذلك واضح وهو انه بناء على وجهة نظر العدلية من ان الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها. فلا محالة يكون النهي كالأمر متعلقاً بالفعل ، ضرورة ان النهي عن شيء ينشأ عن مفسدة لزومية فيه وهي الداعي إلى تحريمه والنهي عنه ، ولم ينشأ عن مصلحة كذلك في تركه ،

٨٧

لتدعو إلى طلبه ، وهذا واضح ، فاذن لا مجال للقول بان المطلوب في النواهي هو ترك الفعل ونفس ان لا تفعل ، إلا ان يدعى ان غرضهم من ذلك هو انه مطلوب بالعرض وقد أخذ مكان ما بالذات ، ولكن من الواضح ان إثبات هذه الدعوى في غاية الإشكال.

وقد تحصل من ذلك انه لا شبهة في ان متعلق الأمر بعينه هو ما تعلق به النهي ، فلا فرق بينهما من ناحية المتعلق أبداً والفرق بينهما انما هو من ناحية المعنى الموضوع له ، كما مضى.

عدة نقاط فيما ذكرناه :

الأولى ـ ان كلا من الأمر والنهي اسم لمجموع المركب من الأمر الاعتباري النفسانيّ وإبرازه في الخارج ، فلا يصدق على كل منهما ، ضرورة انه لا يصدق على مجرد اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف بدون إبرازه في الخارج. كما انه لا يصدق على مجرد إبرازه بدون اعتباره شيئاً كذلك ، وكذا الحال في النهي ، وهذا ظاهر. ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث الإنشاء والاخبار من ان العقود والإيقاعات كالبيع والإجارة والطلاق والنكاح وما شاكل ذلك أسام لمجموع المركب من الأمر الاعتباري النفسانيّ وإبراز ذلك في الخارج بمبرز فلا يصدق البيع ـ مثلا ـ على مجرد ذلك الأمر الاعتباري ، أو على مجرد ذلك الإبراز الخارجي ، كما تقدم هناك بشكل واضح.

الثانية ـ ان النزاع المعروف بين الأصحاب من ان متعلق النهي هل هو ترك الفعل ونفس ان لا تفعل ، أو الكف عنه باطل من أصله ، ولا أساس له أبداً.

الثالثة ـ ان نقطتي الاشتراك والامتياز بين الأمر والنهي على وجهة نظرنا ونقطتي الاشتراك والامتياز بينهما على وجهة نظر المشهور متعاكستان ، فان الأمر والنهي على وجهة نظر المشهور ، كما عرفت مختلفان بحسب المعنى ، ومتفقان في

٨٨

المتعلق. وعلى وجهة نظرنا مختلفان في المعنى ، ومتفقان في المتعلق ، كما مر.

الرابعة ـ ان الأمر والنهي مصداق للبعث والتحريك ، والزجر والمنع ، لا انهما موضوعان بإزائهما ، كما سبق.

واما الأمر الثاني ـ (وهو البناء) فعلى فرض تسليم الأمر الأول (وهو المبني) وان متعلق الطلب في طرف الأمر صرف وجود الطبيعة ، وفي طرف النهي صرف تركها.

فيمكن نقده على النحو التالي : وهو انه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد بوجود فرد منها والطبيعة التي لا تنعدم إلا بعدم جميع افرادها.

والوجه في ذلك هو انه ان أريد من الطبيعة الطبيعة المهملة التي كان النّظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها فحسب ، فهي كما توجد بوجود فرد منها ، كذلك تنعدم بعدم مثلها ـ أعني الطبيعة الموجودة كذلك ـ لأنه بديلها ونقيضها ، لا عدم الطبيعة بعدم جميع افرادها ، ضرورة ان نقيض الواحد واحد ، فنقيض الطبيعة الموجودة بوجود واحد لا محالة يكون عدم مثل تلك الطبيعة ، كما هو واضح.

وان أريد منها الطبيعة السارية إلى تمام افرادها ومصاديقها فهي وان كان يتوقف عدمها كلياً في الخارج على عدم جميع افرادها العرضية والطولية ، إلا ان هذا من ناحية ملاحظة وجود تلك الطبيعة على نحو الانحلال والسريان إلى جميع افرادها. ومن الواضح جداً ان عدم مثل هذه الطبيعة الّذي هو بديلها ونقيضها لا يمكن إلا بعدم تمام افرادها في الخارج ، ولكن أين هذا من الطبيعة التي توجد في الخارج بوجود فرد منها ، فان المقابل لهذه الطبيعة ليس إلا الطبيعة التي تنعدم بعدم ذلك الفرد ، ضرورة ان الوجود الواحد لا يعقل ان يكون نقيضاً لعدم الطبيعة بتمام افرادها ، بل له عدم واحد وهو بديله ونقيضه. واما المقابل

٨٩

للطبيعة التي يتوقف عدمها على عدم جميع افرادها العرضية والطولية هو الطبيعة الملحوظة على نحو الإطلاق والسريان إلى تمام افرادها كذلك ، لا الطبيعة المهملة التي توجد في ضمن فرد واحد.

وهذا بيان إجمالي لعدم كون الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بإيجاد فرد واحد مقابلا للطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع افرادها ، وسيأتي بيانه التفصيليّ فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وعلى هدي ذلك البيان الإجمالي قد ظهر انه لا أصل لما هو المشهور من ان صرف وجود الطبيعة يتحقق بأول الوجود ، وصرف تركها لا يمكن إلا بترك جميع افرادها.

والوجه في ذلك هو ان صرف ترك الطبيعة كصرف وجودها ، فكما ان صرف وجودها يتحقق بأول الوجود ، فكذلك صرف تركها يتحقق بأول الترك ضرورة ان المكلف إذا ترك الطبيعة في آن ما ، لا محالة يتحقق صرف الترك ، كما انه لو أوجدها في ضمن فرد ما يتحقق صرف الوجود ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا. وهذا لعله من الواضحات الأولية.

نعم لو كان المطلوب في النواهي هو ترك الطبيعة مطلقاً لا يمكن تحققه إلا بترك جميع افرادها في جميع الآنات والأزمنة ، إلا ان الأمر كذلك في طرف الأوامر فيما إذا كان المطلوب منها مطلق وجود الطبيعة ، لا صرف وجودها ، ضرورة ان مطلق وجودها لا يتحقق بإيجاد فرد منها بل يتوقف على إيجاد جميع افرادها في الخارج.

والسر فيه ظاهر وهو وضوح الفرق بين ان يكون المطلوب في النهي صرف ترك الطبيعة ، وفي الأمر صرف وجودها ، وان يكون المطلوب في الأول مطلق ترك الطبيعة ، وفي الثاني مطلق وجودها ، فان صرف الترك وصرف الوجود يتحقق

٩٠

بأول الترك وأول الوجود ، كما هو واضح. وهذا بخلاف مطلق الترك ومطلق الوجود ، فانهما لا يتحققان بأول الترك وأول الوجود ، بل الأول يتوقف على ترك افراد الطبيعة تماماً ، والثاني يتوقف على إيجاد افرادها كذلك.

وبكلمة أخرى ان متعلق الترك ومتعلق الوجود ان كان الطبيعة المهملة فطبعاً يكون المطلوب في النهي هو صرف تركها ، وفي الأمر صرف وجودها ، وقد عرفت ان الأول يتحقق بأول الترك ، والثاني بأول الوجود ، وان كان المتعلق الطبيعة المطلقة السارية فلا محالة يكون المطلوب في الأول هو مطلق تركها ، وفي الثاني مطلق وجودها. وعليه فلا محالة ينحل المطلوب بحسب الواقع ونفس الأمر إلى مطلوبات متعددة بانحلال افراد تلك الطبيعة ، فيكون ترك كل فرد منها مطلوباً مستقلا ، كما ان وجود كل فرد منها كذلك ، فاذن لا محالة حصول المطلوب على الأول يتوقف على ترك جميع افرادها العرضية والطولية ، وعلى الثاني يتوقف على إيجاد جميعها كذلك.

فالنتيجة قد أصبحت من ذلك ان المقابل لصرف الوجود هو صرف الترك وهو عدمه البديل له ونقيضه ، لا مطلق الترك ، فانه ليس عدمه البديل له ونقيضه ضرورة ان نقيض الواحد واحد لا اثنان ، والمقابل لمطلق الوجود هو مطلق الترك ، فانه عدمه البديل له ونقيضه ، لا صرف الترك ، ضرورة ان الواحد لا يعقل ان يكون نقيضاً للمتعدد. وهذا ظاهر.

وعلى ضوء هذا البيان نتساءل المشهور عن سبب اكتفائهم في طرف الأمر بإيجاد فرد واحد من الطبيعة ، بدعوى ان المطلوب فيه هو صرف الوجود وهو يتحقق بأول الوجود وعدم اكتفائهم في طرف النهي بأول الترك ، مع انهم التزموا بان المطلوب فيه هو صرف الترك ، فان سبب ذلك ليس هو الوضع ، لما تقدم من ان مقتضاه في كل من الأمر والنهي على نسبة واحدة ، فلا مقتضى لأجل

٩١

ذلك ان يفرق بينهما ، فان مفادهما عندهم بحسب الوضع ليس إلا الدلالة على الطلب غاية الأمر ان متعلقه في الأمر الوجود وفي النهي الترك ، ولذا قالوا باشتراكهما في المعنى الموضوع له من هذه الجهة. واما العقل فقد عرفت انه يحكم بخلاف ذلك فانه كما يحكم بان صرف الوجود يتحقق بأول الوجود ، كذلك يحكم بأن صرف الترك يتحقق بأول الترك ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

نعم الّذي لا يمكن تحققه بأول الترك هو مطلق الترك ، إلا انك عرفت انهم لا يقولون بان المطلوب في النواهي مطلق الترك ، بل يقولون بان المطلوب فيها هو صرف الترك. وقد مر ان العقل يحكم بأنه لا مقابلة بين مطلق الترك وصرف الوجود ، والمقابلة انما هي بينه وبين مطلق الوجود لا صرفه. فان المقابل له (صرف الوجود) صرف الترك ، فاذن لا يرجع ما هو المشهور إلى معنى محصل أصلا.

ولعل منشأ تخيلهم ذلك الغفلة عن تحليل نقطة واحدة ، وهي الفرق بين صرف الترك ومطلق الترك ، ولكن بعد تحليل تلك النقطة على ضوء ما بيناه قد ظهر بوضوح خطأ نظريتهم ، وانه لا مبرر لها أبداً.

إلى هنا قد تبين بطلان المبنى والبناء معاً ، وانه لا يمكن الالتزام بشيء منهما. هذا.

الّذي ينبغي ان يقال في هذا هو المقام ان سبب اقتضاء النهي حرمة جميع افراد الطبيعة المنهي عنها الدفعيّة والتدريجية وعدم صحة الاكتفاء في امتثاله بترك فرد ما منها ، وسبب اقتضاء الأمر إيجاد فرد ما من الطبيعة المأمور بها دون الزائد إحدى نقطتين :

الأولى ـ اختلاف الأمر والنهي من ناحية المبدأ.

الثانية ـ اختلافهما من ناحية المنتهى.

اما النقطة الأولى ـ فلان النهي بما انه ينشأ عن مفسدة لزومية في متعلقه

٩٢

وهي داعية إلى إنشائه واعتباره ، فهي غالباً تترتب على كل فرد من افرادها في الخارج ، ويكون كل منها مشتملا على مفسدة مغايرة لمفسدة أخرى. ومن الواضح جداً ان لازم هذا هو انحلال النهي بانحلال افراد الطبيعة المنهي عنها ، وذلك على وفق ما هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء والفهم العرفي من النواهي وهذا بخلاف ما إذا فرض ان المفسدة قائمة بصرف وجودها ، أو بمجموع وجوداتها ، أو بعنوان بسيط متحصل من هذه الوجودات في الخارج ، فان فهم ذلك يحتاج إلى بيان من المولى ونصب قرينة تدل عليه ، واما إذا لم تكن قرينة على قيامها بأحد هذه الوجوه ، فالإطلاق في مقام الإثبات كما عرفت قرينة عامة على قيامها بكل فرد من افراد تلك الطبيعة.

وعلى هدي ذلك فإذا نهى المولى عن طبيعة ولم ينصب قرينة على ان المفسدة قائمة بصرف وجودها حتى لا تكون مفسدة في وجودها الثاني والثالث. وهكذا أو قائمة بمجموع وجوداتها وافرادها على نحو العموم المجموعي ، أو بعنوان بسيط متحصل منها كان الارتكاز العرفي ولو من ناحية الغلبة المزبورة قرينة على ان النهي تعلق بكل فرد من افرادها ، وان المفسدة قائمة بتلك الطبيعة على نحو السريان والانحلال ، فيكون كل واحد منها مشتملا عليها.

وبكلمة واضحة ان قيام مفسدة بطبيعة يتصور في مقام الثبوت على أقسام

الأول ـ ان تكون قائمة بصرف وجود الطبيعة ولازم ذلك هو ان المنهي عنه صرف الوجود فحسب ، فلو عصى المكلف وأوجد الطبيعة في ضمن فرد ما فلا يكون وجودها الثاني والثالث. وهكذا منهياً عنه أصلا.

الثاني ـ ان تكون قائمة بمجموع افرادها على نحو العموم المجموعي ، فيكون المجموع محرماً بحرمة واحدة شخصية ولازم ذلك هو ان المبغوض ارتكاب المجموع ، فلا أثر لارتكاب البعض.

٩٣

الثالث ـ ان تكون قائمة بعنوان بسيط مسبب من تلك الافراد في الخارج

الرابع ـ ان تكون قائمة بكل واحد من افرادها العرضية والطولية. هذا كله بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الإثبات فلا شبهة في ان إرادة كل واحد من الأقسام الثلاثة الأولى تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليها وعناية زائدة ، واما إذا لم تكن قرينة في البين على ان المراد من النهي المتعلق بطبيعة النهي عن مجموع افرادها بنحو العموم المجموعي أو عن صرف وجودها في الخارج أو عن عنوان بسيط متولد عنها كان المرتكز منه في أذهان العرف والعقلاء هو النهي عن جميع افرادها بنحو العموم الاستغراقي. وعليه فيكون كل فرد منها منهياً عنه باستقلاله مع قطع النّظر عن الآخر.

وعلى الجملة فلا إشكال في ان إرادة كل من الأقسام المزبورة تحتاج إلى عناية زائدة فلا يتكفلها الإطلاق في مقام البيان ، وهذا بخلاف القسم الأخير فان إرادته لا تحتاج إلى عناية زائدة ، فيكفي الإطلاق المزبور في إرادته.

ومن هنا لا شبهة في ظهور النواهي الواردة في الشريعة المقدسة بمقتضى الفهم العرفي في الانحلال ، كالنهي عن شرب الخمر والزناء والغيبة والكذب والغصب وسب المؤمن وما شاكل ذلك ، ولأجل هذا قلنا : إن التكاليف التحريمية غالباً بل دائماً تكاليف انحلالية ، فتنحل بانحلال موضوعها مرة كما في النهي عن شرب الخمر ـ مثلا ـ أو نحوه ، فانه ينحل بانحلال موضوعه في الخارج وهو الخمر ويتعدد بتعدده ، وبانحلال متعلقها مرة أخرى كما في النهي عن الكذب ـ مثلا ـ أو الغيبة أو ما شاكل ذلك مما لا موضوع له ، فانه ينحل بانحلال متعلقه في الخارج ، وبانحلال كليهما معاً كما في مثل النهي عن سب المؤمن أو نحوه ، فانه كما ينحل بانحلال موضوعه وهو المؤمن كذلك ينحل بانحلال

٩٤

متعلقه وهو السب ولو مع وحدة موضوعه.

فالنتيجة هي ان النهي حيث انه ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة في متعلقه ، فالظاهر منه ـ بمقتضى الفهم العرفي ـ هو ترتب تلك المفسدة على كل فرد من افراده ، وبذلك ينحل النهي إلى نواه متعددة بانحلال موضوعه أو متعلقه. هذا تمام الكلام في النهي وفي منشأ انحلاله. واما الأمر فهو على عكس النهي. والوجه فيه هو ان الأمر بما انه ينشأ عن قيام مصلحة ملزمة في متعلقه ـ وهي داعية إلى إنشائه واعتباره ـ فلا محالة مقتضى الإطلاق فيه ـ في مقام الإثبات وعدم التقييد بخصوصية من الخصوصيات ـ هو ان المصلحة قائمة بصرف وجوده لا بمطلق وجوده أينما سرى.

وبتعبير أوضح ان قيام مصلحة بطبيعة في مقام الثبوت والواقع يتصور على صور :

الأولى ـ ان تكون المصلحة قائمة بصرف الوجود.

الثانية ـ ان تكون قائمة بمطلق الوجود على نحو العموم الاستغراقي.

الثالثة ـ ان تكون قائمة بمجموع الوجودات على نحو العموم المجموعي.

الرابعة ـ ان تكون قائمة بعنوان بسيط متولد من هذه الوجودات الخارجية هذا كله بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الإثبات فلا شبهة في ان إرادة كل من الصور الثلاث الأخيرة من الأمر المتعلق بطبيعة تحتاج إلى عناية زائدة ونصب قرينة تدل على إرادته ، واما إذا لم تكن قرينة على إرادة إحدى هذه الصور ، فإطلاقه في مقام الإثبات بمقتضى الفهم العرفي وارتكازهم ـ كان قرينة عامة على ان المراد منه هو الصورة الأولى وان المصلحة قائمة بصرف الوجود.

والسر في ذلك هو ان متعلق الأمر بما انه كان الطبيعة المهملة فلا محالة

٩٥

لا يدل إلا على إيجادها في الخارج. ومن المعلوم ان إيجادها يتحقق بأول وجودها ، إلا ان تقوم قرينة على إرادة المتعدد منها أو خصوصية أخرى. واما متعلق النهي فهو وان كان تلك الطبيعة المهملة ، إلا انه لما كان يدل على مبغوضية وجودها في الخارج بلا قرينة على التقييد بالوجود الأول ، أو بمجموع الوجودات فلا محالة مقتضى الإطلاق هو مبغوضية كل وجود منها. فهذا هو السر في افتراق كل من الأمر والنهي عن الآخر.

فالنتيجة هي ان الأمر لا يدل إلا على اعتبار صرف وجود الطبيعة في ذمة المكلف ، من دون الدلالة على خصوصية زائدة عليه.

ومن هنا قلنا ـ في بحث المرة والتكرار ـ انهما خارجان عن مفاد الأمر مادة وهيئة ، فهو كما لا يدل عليهما في الافراد الطولية كذلك لا يدل على الوحدة والتعدد في الافراد العرضية. واما سبب الاكتفاء بالمرة ـ في مقام الامتثال ـ فهو من جهة انطباق الطبيعة المأمور بها عليها لا من جهة دلالة الأمر على المرة وهذا واضح.

وخلاصة هذا الفرق بين الأمر والنهي هي ان المصلحة في طرف الأمر قائمة بصرف وجود الطبيعة ما لم تقم قرينة على الخلاف. ولأجل ذلك لا ينحل الأمر بانحلال افراد الطبيعة في الواقع. واما المصلحة ففي طرف النهي قائمة بمطلق وجودها ، إلا إذا قامت قرينة على انها قائمة بصرف وجودها ـ مثلا ـ أو بمجموع وجوداتها ، وهكذا. ولذلك ينحل في الواقع بانحلالها فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل.

ولنا ان نأخذ بالنقد على هذا الفرق من ناحيتين :

الأولى ـ ان هذا الفرق أخص من المدعى فانه لا يثبت التفرقة بين الأمر والنهي مطلقاً ، وعلى وجهة نظر جميع المذاهب ، حيث انه يرتكز على وجهة نظر

٩٦

مذهب من يرى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، ولا يجري على وجهة نظر مذهب من لا يرى التبعية كالأشاعرة ، فاذن لا يجدى مثل هذا الفرق أصلا.

الثانية ـ ان هذا الفرق ـ وان كان صحيحاً في نفسه ـ الا انه لا طريق لنا إلى إحرازه مع قطع النّظر عما هو مقتضى إطلاق الأمر والنهي بحسب المتفاهم العرفي ومرتكزاتهم ، وذلك لما ذكرناه ـ غير مرة ـ من انه لا طريق لنا إلى ملاكات الأحكام مع قطع النّظر عن ثبوتها ، وعلى هذا الضوء فلا يمكننا إحراز ان المفسدة في المنهي عنه قائمة بمطلق وجوده ، والمصلحة في المأمور به قائمة بصرف وجوده ، مع قطع النّظر عن تعلق النهي بمطلق وجوده وتعلق الأمر بصرف وجوده ، فاذن لا أثر لهذا الفرق مع قطع النّظر عن الفرق الآتي ، وهو ان قضية الإطلاق في النواهي هي الانحلال وتعلق الحكم بمطلق الوجود ، وفي الأوامر هي عدم الانحلال وتعلق الحكم بصرف الوجود. هذا تمام كلامنا في النقطة الأولى.

واما النقطة الثانية (وهي الفرق بينهما من ناحية المنتهى) فيقع الكلام فيها في مقامين :

الأول في مقام الثبوت.

والثاني في مقام الإثبات.

اما المقام الأول فالصحيح هو انه لا فرق فيه بين الأمر والنهي ، ولتوضيحه ينبغي لنا ان نقدم مقدمة ، وهي ان أسماء الأجناس ، كما ذكرناها في بحث الوضع انها وضعت للدلالة على الماهية المهملة ، وهي الماهية من حيث هي هي التي لم يلحظ فيها أي اعتبار زائد على ذاتها وذاتياتها ، فيكون النّظر مقصوراً على ذاتها من دون نظر إلى امر خارج عنها ، ولأجل ذلك تكون الماهية المهملة فوق الماهية

٩٧

اللابشرط المقسمي في الإبهام والإهمال ، فانها مندمجة فيهما غاية الاندماج دون تلك الماهية ـ أعني الماهية اللابشرط المقسمي ـ ضرورة ان النّظر فيها ليس مقصوراً على ذاتها وذاتياتها ، بل تلحظ فيها حيثية زائدة ، على ذاتها وهي حيثية ورود الاعتبارات الثلاثة عليها ـ أعني اللابشرط القسمي وبشرط لا وبشرط شيء ـ باعتبار انها مجمع لتلك الاعتبارات ومقسم لها فهذه الحيثية ملحوظة فيها ولم تلحظ في الماهية المهملة.

ثم ان لتلك الطبيعة المهملة افراداً ومصاديقاً في الخارج ، وهي كل ما يمكن ان تنطبق عليه هذه الطبيعة. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ان لكل وجود عدما مضافا إليه وهو بديله ونقيضه وقد برهن في محله ان نقيض الواحد واحد ، فلا يعقل ان يكون الاثنان بما هما اثنان نقيضاً للواحد ضرورة ان نقيض كل شيء رفع ذلك الشيء لا رفعه ورفع شيء آخر : وهكذا ـ مثلا ـ نقيض الإنسان رفع الإنسان ، لا رفعه ورفع شيء آخر فان رفع ذلك الشيء نقيض له لا للإنسان.

نعم قد ثبت في المنطق ان نقيض الموجبة الكلية السالبة الجزئية ، وبالعكس ونقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية كذلك ، ولكن من المعلوم ان هذا التناقض ملحوظ بين القضيتين والكلامين بحسب مقام الإثبات والصدق بمعنى ان صدق كل منهما يستلزم كذب الآخر ـ مثلا ـ صدق الموجبة الكلية يستلزم كذب السالبة الجزئية وبالعكس ، وكذا صدق السالبة الكلية يستلزم كذب الموجبة الجزئية وبالعكس ، فهما متناقضان بحسب الصدق ، فلا يمكن فرض صدق كليهما معاً ، كما انه لا يمكن فرض كذب كليهما كذلك. وهذا هو المراد بالتناقض بينهما ويسمى هذا التناقض بالتناقض الكلامي.

ومن الواضح جدا ان هذا أجنبي عن التناقض فيما نحن فيه ـ وهو

٩٨

التناقض بين الوجود والعدم بحسب مقام الثبوت والواقع الموضوعي ـ ضرورة انه لا يمكن ان يكون نقيض الوجود الواحد أعداما متعددة ، ونقيض العدم الواحد وجودات متعددة وإلا لزم ارتفاع النقيضين وهذا من الواضحات الأولية.

ومن ناحية ثالثة ان وجود الطبيعي عين وجود فرده في الخارج ، لوضوح انه ليس للطبيعي وجود آخر في قبال وجود فرده. وقد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر بالطبائع ان معنى وجود الطبيعي في الخارج هو ان هذا الوجود الواحد الخارجي كما انه مضاف إلى الفرد ووجود له حقيقة وواقعاً ، كذلك مضاف إلى الطبيعي ووجود له كذلك. وقد قلنا هناك ان كل وجود متشخص بنفس ذاته وهويته لا بوجود آخر ، بداهة ان الوجود عين التشخص لا شيء وراءه.

واما الاعراض الملازمة له في الوجود فهي وجودات مستقلة في قباله ، فليست من مشخصاته ، وفي إطلاق المشخص عليها مسامحة واضحة ، كما تقدم ذلك بشكل واضح ، فهذا الوجود كما انه وجود للفرد حقيقة وجود للطبيعي كذلك ، فلا فرق بينهما إلا في الاعتبار وجهة الإضافة. ومن هنا صح القول بأن نسبة الطبيعي إلى افراده نسبة الآباء إلى الأولاد ، لا نسبة أب واحد إلى الأولاد.

ومن ناحية رابعة انه إذا كان وجود الطبيعي في الخارج عين وجود فرده فلا محالة يكون عدمه فيه عين عدم فرده ، وهذا واضح.

ومن ناحية خامسة كما ان للطبيعي وجودات متعددة بعدد وجودات افراده كذلك له إعدام متعددة بعدد أعدامها ، لما عرفت من ان عدم الطبيعي عين عدم فرده وبالعكس.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي انه لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فرد منها والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع افرادها ضرورة ان نقيض الوجود الواحد واحد ، وهو عدمه البديل له لا عدمه وعدم

٩٩

الفرد الثاني والثالث ... وهكذا ، فأول وجود هذه الطبيعة أول ناقض لعدمها ـ ونقيضه البديل له عدم هذا الوجود الأول ، وهو وان كان يستلزم بقاء إعدام بقية الافراد على حالها ، الا انه ليس عينها ، لتثبت المقابلة بين الطبيعتين المذكورتين وهذا ظاهر. وقد عرفت ان وجود كل فرد وجود للطبيعة ، وعدمه عدم لها غاية الأمر ان عدمه عدم لها بنحو القضية الجزئية ، فان عدمها بنحو القضية الكلية بفرض عدم جميع افرادها ، وهو مقابل وجودها بهذا النحو ، لا مقابل وجودها بوجود فرد منها ، كما لا يخفى.

وبكلمة واضحة ، الوجود قد يضاف إلى الطبيعة المهملة ، وهي التي كان النّظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها ، ولم يلحظ معها حيثية زائدة على ذاتها أصلا.

وقد يضاف إلى الطبيعة المطلقة السارية إلى افرادها ومصاديقها في الخارج.

وقد يضاف إلى الطبيعة بنحو السعة والإحاطة والوحدة في الكثرة.

اما الصورة الأولى فقد تقدم ان الطبيعة المهملة كما تتحقق بتحقق فرد ما ، كذلك تنتفي بانتفاء ذلك ، ضرورة ان المقابل لهذه الطبيعة هو عدم مضاف إلى مثلها. ومن الواضح جدا ان عدم مثلها يتحقق بانتفاء ذلك ، لوضوح ان كل وجود يطرد عدمه البديل له ، لا عدمه وعدم غيره ، فأول وجود لهذه الطبيعة أول طارد لعدمها. ومن المعلوم ان نقيضه ، وهو العدم البديل له عدم هذا الوجود الأول ، لا عدمه وعدم سائر وجوداتها ، وان استلزم عدمه أي عدم هذا الوجود الأول بقاء إعدام سائر وجوداتها على حالها ، الا انه ليس عينها لاستحالة ان يكون نقيض الوجود الواحد إعدام متعددة ، كما هو ظاهر.

ومن هذا البيان يظهر فساد ما قيل من ان الوجود الناقض للعدم الكلي وطارد العدم الأزلي ينطبق على أول الوجودات ، ضرورة انه أول ناقض للعدم الأزلي ونقيضه ـ وهو العدم البديل له ـ عدم ناقض العدم الكلي وهو عين بقاء العدم

١٠٠