محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

الكلي على حاله ، ولازم هذا هو وجود الطبيعة بوجود فرد منها ، وانتفائها بانتفاء جميع افرادها.

وجه الظهور هو ان الطارد للعدم الأزلي المعبر عنه بالعدم الكلي هو الوجود الأول على الفرض. ومن المعلوم ان عدم هذا الطارد ـ أي الطارد العدم الكلي هو عدم ذلك الوجود الأول ، لا عدمه وعدم الوجود الثاني والثالث والرابع .. وهكذا ، ضرورة ان نقيض الواحد واحد ، فلا يعقل ان يكون نقيض الواحد متعدداً. نعم عدم الوجود الأول يستلزم بقاء إعدام سائر الوجودات على حالها ، لا انه عينها.

ولعل منشأ هذا التوهم الغفلة عن تحليل هذه النقطة ، وهي ان عدم الوجود الأول ـ الّذي هو أول ناقض للعدم الأزلي يستلزم بقاء إعدام سائر الوجودات على حالها ، لا ان عدمه عين إعدام تلك الوجودات ، ليكون لازمه التقابل بين الطبيعة الموجودة بوجود واحد ، والطبيعة المنتفية بانتفاء جميع وجوداتها وقد مر استحالة ذلك ، فان لازم ذلك هو ان يكون نقيض الواحد متعدداً وهو محال.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت انه لا أصل لما اشتهر في الألسنة من جعل الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فرد منها مقابلا للطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع افرادها ، لما عرفت من استحالة المقابلة بينهما ، فان وجود الواحد طارد لعدم الطبيعة الموجودة في ضمنه ، لا له ولعدم الطبيعة الموجودة في ضمن غيره ، بداهة ان الوجود الواحد لا يعقل ان يكون طارداً لعدم الطبيعة المطلقة السارية إلى تمام افرادها ، كما هو واضح.

قد يقال ان صرف الوجود الّذي يتحقق بوجود واحد ، وصرف الترك الّذي لا يمكن إلا بانعدام الطبيعة بجميع افرادها انما هو من جهة ان بين الافراد وحدة سنخية وتلك الوحدة السنخية هي الجامع بين الوجودات والكثرات ، ولا شك في حصول

١٠١

ذلك الجامع بحصول كل واحد من الافراد والوجودات.

أو فقل ان الوجود السعي بين الوجودات كالطبيعة اللابشرط بين المفاهيم فكما ان تلك الطبيعة تصدق وتنطبق على كل فرد من افرادها ، فكذلك ذلك الوجود السعي ، فانه ينطبق على كل وجود من الوجودات. وهذا بخلاف ما في طرف العدم ، فان العدم الجامع عبارة عن مجموع الاعدام بإضافة العدم إلى الطبيعة لأن على مجموعها يصدق انه عدم الطبيعة ، لا على كل واحد واحد ، ضرورة انه ليس هنا شيء واقعي يكون جامعاً بين تلك الاعدام ومنطبقاً على كل واحد منها.

وغير خفي ان هذا التوجيه لا يرجع إلى معنى محصل أصلا ، وذلك لأنه ان أريد بالوحدة السنخية بين الوجودات الوحدة الحقيقية والذاتيّة فهي غير معقولة وذلك لأن كل وجود مباين لوجود آخر وكل فعلية تأبى عن فعلية أخرى ، ومع ذلك كيف تعقل وحدة وجودية حقيقية بينهما وكيف يعقل اشتراك الفعليتين بالذات في فعلية ثالثة.

وان أريد بها الوجود السعي الّذي هو عبارة عن الوجود المضاف إلى الطبيعة مع قطع النّظر عن جميع الخصوصيات والتشخصات الخارجية فهو امر معقول ، الا ان مثل هذا الجامع موجود بين الاعدام أيضاً وهو العدم السعي فانه عدم مضاف إلى الطبيعة مع إلغاء كل خصوصية من الخصوصيات ، وينطبق على كل واحد من الاعدام كانطباق الوجود السعي على كل واحد من الوجودات وليست وحدة الوجود السعي وحدة حقيقية ، ليقال : انه ليس بين الاعدام جامع حقيقي ، لما عرفت من ان الجامع الحقيقي الوجوديّ بين الوجودات غير معقول فلا محالة تكون وحدته وحدة بالعنوان ، ولا تتعدى عن أفق النّفس إلى الخارج إذاً تصوير هذا النحو من الجامع بين الاعدام بمكان من الوضوح كما عرفت.

١٠٢

وعلى هذا الضوء لا فرق بين ان يكون المطلوب الوجود السعي ، وبين ان يكون المطلوب العدم السعي ، فان الأول كما ينطبق على كل فرد من الافراد كذلك الثاني ينطبق على كل عدم عن الاعدام ، ولا يتوقف صدق الثاني على مجموع الاعدام ، كما توهم ، كيف فانه كما يصدق على وجود كل فرد انه وجود الطبيعة ، كذلك يصدق على عدم كل منه انه عدم الطبيعة ، بداهة ان الوجود إذا كان وجود الطبيعة ، فكيف لا يكون عدمه البديل له عدما لها ، إذاً كيف يتوقف صدق عدم الطبيعة على عدم مجموع الافراد.

أو فقل : ان عدم الطبيعة بما هو ليس عدما آخر في مقابل الاعدام الخاصة ليقال ان صدق هذا العدم يتوقف على تحقق مجموع تلك الاعدام ، بداهة ان عدم الطبيعة عين تلك الاعدام ولا مطابق له غيرها كما ان وجودها ليس وجودا آخر في مقابل الوجودات الخاصة ، بل هو عين تلك الوجودات. وعلى هذا فإذا كان للطبيعة وجود واحد كان لها عدم واحد ، وإذا كان لها وجودات متعددة كان لها إعدام كذلك ، فالتفرقة بين وجود الطبيعة وعدمها مما لا أصل له ـ أصلا ـ وهي وان كانت مشهورة الا انها مبنية على ضرب من المسامحة.

واما الصورة الثانية (وهي ما إذا لو حظ الوجود مضافا إلى الطبيعة المطلقة) فقد ظهر مما تقدم ان لها أعداما متعددة بعدد وجودات افرادها ، وكل عدم منها طارد لوجوده ، لا له ولوجود غيره ، وكل وجود منها طارد لعدمه ، لا له ولعدم غيره. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان وجود الفرد كما انه عين وجود الطبيعي في الخارج ، كذلك عدمه عين عدمه فيه.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي ان الطبيعة كما توجد بوجود فرد منها كذلك تنتفي بانتفائه ، لفرض ان انتفاء الفرد عين انتفاء الطبيعة ، ولا يتوقف انتفاؤها على انتفاء جميع افرادها. نعم ان انتفاء الطبيعة المطلقة يتوقف على

١٠٣

انتفاء جميع افرادها ، لفرض ان المقابل لها هو عدم مثلها ، لا عدم فرد واحد منها ، كما هو ظاهر.

واما الصورة الثالثة (وهي الوجود المضاف إلى الطبيعة بنحو السعة والإحاطة والوحدة في الكثرة) فقد تبين مما تقدم ان المقابل للوجود المضاف إلى الطبيعة بنحو السعة لا بنحو الكثرة والانحلال عدم مثله ـ أي العدم المضاف إلى الطبيعة كذلك ـ والمراد من الوجود السعي كما عرفت هو عدم ملاحظة خصوصية وجود فرد دون آخر فيه ، بل هو مضاف إلى الطبيعة مع إلغاء جميع خصوصية من الخصوصيات ، ولذا لا يغيب ولا يشذ عنه أي وجود من وجودات هذه الطبيعة وينطبق على كل وجود من وجوداتها بلا خصوصية في البين. ومن هنا يعبر عنه بالوحدة في الكثرة ، باعتبار انه يلاحظ فيه جهة السعة والوحدة في هذه الكثرات.

ومقابل هذا الوجود السعي العدم السعي وهو العدم المضاف إلى الطبيعة مع إلغاء تمام خصوصية من الخصوصيات فيه ، ولأجل ذلك هذا عدم لا يغيب ولا يشذ عنه أي عدم من إعدام هذه الطبيعة ، وينطبق على كل عدم منها من دون جهة خصوصية في البين. ومن الواضح انه لا يكون في مقابل هذا العدم وجود فرد منها ، كما انه لا يكون في مقابل هذا الوجود عدم فرد منها.

ونتيجة ما ذكرناه لحد الآن عدة نقاط :

الأولى انه لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فرد منها والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع افرادها على ضوء جميع الصور المتقدمة.

الثانية ان الطبيعة الملحوظة على نحو الإطلاق والسريان في نقطة مقابلة للطبيعة الملحوظة على نحو تنعدم بانعدام جميع افرادها ، كما هو ظاهر.

الثالثة ان الوجود السعي المضاف إلى الطبيعة مع إلغاء الخصوصيات في نقطة مقابلة للعدم السعي المضاف إليها كذلك.

١٠٤

وبعد ذلك نقول ان الطبيعة التي يتعلق بها الحكم لا تخلو ان تكون ملحوظة على نحو الإطلاق والسريان ، أو ان تكون ملحوظة على نحو الإطلاق والعموم البدلي ، أو ان تكون ملحوظة على نحو العموم المجموعي ، فعلى الأول لا محالة ينحل الحكم بانحلال افرادها في الواقع ، فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل. ولا يفرق في ذلك بين ان يكون هذا الحكم إيجابياً أو تحريمياً ، كما هو واضح. وعلى الثاني فالحكم متعلق بفرد ما من الطبيعة المعبر عنه بصرف الوجود. ومن المعلوم انه لا يفرق فيه بين ان يكون ذلك الحكم وجوبياً أو تحريمياً ، ضرورة ان الملاك إذا كان قائماً بصرف الوجود ـ كما هو المفروض ـ فلا محالة يكون الحكم المجعول على طبقه متعلقاً به ، من دون فرق بين ان يكون ذلك الملاك مصلحة أو مفسدة ، غاية الأمر ان كان الحكم المزبور تحريمياً فلا يكون ارتكاب الفرد الثاني والثالث .. وهكذا بعد ارتكاب الفرد الأول محرما ، وهذا ظاهر. وعلى الثالث فالحكم متعلق بمجموع الافراد على نحو العموم المجموعي ، ولا يفرق فيه أيضاً بين ان يكون ذلك حكما وجوبياً أو تحريمياً ، كما هو واضح.

وعلى الجملة فالألفاظ وان كانت موضوعة للطبيعة المهملة من تمام الجهات ما عدا النّظر إلى ذاتها وذاتياتها ، الا ان الشارع في مقام جعل الحكم عليها لا بد ان يلاحظها على أحد الأنحاء المذكورة ، لاستحالة الإهمال في الواقع ، فلا محالة اما ان يلاحظها على نحو الإطلاق والسريان ، أو على نحو العموم البدلي ، أو المجموعي ، فلا رابع لها. وعلى جميع هذه التقادير والفروض لا فرق بين الحكم التحريمي والوجوبيّ أصلا.

ومن هنا يظهر ان الحال كذلك على وجهة نظر المشهور من ان المطلوب من النهي هو ترك الطبيعة ، فانه في مقام جعل الحكم عليه اما ان يلاحظ على نحو الإطلاق والسريان ، أو على نحو العموم المجموعي ، أو على نحو العموم

١٠٥

البدلي ، فلا رابع. وكذا الحال على وجهة نظر من يرى ان المطلوب من النهي الزجر عن الفعل.

فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت انه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع من هذه الناحية مطلقاً بلا فرق بين وجهة نظرنا ووجهة نظر المشهور. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

واما المقام الثاني (وهو مقام الإثبات والدلالة) فهو نقطة أساسية للفرق بين الأمر والنهي والسبب النهائيّ لجواز الاكتفاء في الأول بصرف إيجاد الطبيعة في الخارج ، وعدم الاكتفاء في الثاني بصرف تركها.

بيان ذلك هو انه لا شبهة في ان الأمر إذا تعلق بطبيعة كالصلاة ـ مثلا ـ أو نحوها فلا يعقل ان يراد من المكلف إيجاد تلك الطبيعة بكل ما يمكن ان تنطبق عليه هذه الطبيعة في الخارج ، بداهة استحالة ذلك على المكلف وانه لا يقدر على إيجادها. كذلك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الأمر المتعلق بها مطلق وغير مقيد بحصة خاصة من مرة أو تكرار أو غيرهما.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي ان مقتضى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة هو جواز الاكتفاء في مقام الامتثال بإيجاد فرد من افرادها أراد المكلف إيجاده في الخارج ، وذلك لأنه بعد استحالة ان يكون المطلوب منه هو إيجاد جميع افرادها في الخارج من العرضية والطولية ، ضرورة عدم تمكن المكلف من ذلك ، وتقييده بحصة خاصة منها دون أخرى يحتاج إلى دليل يدل عليه ، وحيث لا دليل في البين فلا مناص من الالتزام بان قضية الإطلاق هي ان المطلوب صرف وجودها في الخارج.

أو فقل ان المطلوب لا يمكن ان يكون جميع وجودات الطبيعة ، وبعضها دون بعضها الآخر يحتاج إلى دليل ، وعند فرض عدمه لا محالة ، كان المطلوب

١٠٦

هو إيجادها في ضمن فرد ما المنطبق في الخارج على أول وجوداتها ، غاية الأمر يتخير المكلف في مقام الامتثال في تطبيقها على هذا أو ذاك.

وهذا بخلاف النهي فانه إذا ورد على طبيعة ليس المراد منه حرمان المكلف عن فرد ما منها ، ضرورة ان الحرمان منه حاصل قهراً ، فالنهي عنه تحصيل للحاصل وهو محال. هذا من جانب. ومن جانب آخر انه لم يقيد النهي عنه بحصة خاصة منها بحسب الافراد العرضية أو الطولية.

فالنتيجة على ضوئهما هي ان مقتضى الإطلاق الثابت فيه بمقدمات الحكمة هو منع المكلف وحرمانه عن جميع افرادها الدفعيّة والتدريجية.

وعلى أساس هذا البيان قد تبين ان هذا الاختلاف ـ أعني الاختلاف في نتيجة مقدمات الحكمة بين الأمر والنهي ـ ليس من ناحية اختلافهما في المتعلق لما عرفت من ان متعلقهما واحد وهو نفس طبيعي الفعل ، فانه كما يكون متعلقاً للأمر ، كذلك يكون متعلقاً للنهي ، بل ان ذلك انما كان من جهة خصوصية في تعلق الأمر والنهي به ، وهذه الخصوصية هي ان المطلوب من الأمر بما انه إيجاد الطبيعة في الخارج فلا يمكن ان يريد المولى منه إيجادها بكل ما يمكن ان تنطبق عليه هذه الطبيعة ، لفرض عدم تمكن المكلف منه كذلك فهذه الخصوصية أوجبت ان تكون نتيجة مقدمات الحكمة فيه هي كون المطلوب إيجادها في ضمن فرد ما المعبر عنه بصرف الوجود. والمطلوب من النهي بما انه حرمان المكلف فلا يمكن ان يراد منه حرمانه عن بعض افرادها ، لفرض انه حاصل قهراً ، والنهي عنه تحصيل للحاصل ، فهذه الخصوصية أوجبت ان تكون نتيجة مقدمات الحكمة فيه هي كون المطلوب حرمان المكلف عن جميع افرادها.

وبكلمة واضحة ان السبب الموضوعي لاختلاف نتيجة مقدمات الحكمة انما هو اختلاف خصوصيات الموارد ، ففي مورد لخصوصية فيه تنتج مقدمات

١٠٧

الحكمة الإطلاق الشمولي ، وفي مورد آخر لخصوصية فيه تنتج الإطلاق البدلي مع ان الموردين يكونان متحدين بحسب الموضوع والمتعلق ـ مثلا ـ في مثل قوله تعالى «وأنزلنا من السماء ماء طهورا» تنتج المقدمات الإطلاق الشمولي ببيان ان جعل الطهور لفرد ما من الماء في العالم لغو محض فلا يصدر من الحكيم فاذن لا محالة يدور الأمر بين جعله لكل ما يمكن ان ينطبق عليه هذا الطبيعي في الخارج ، وجعله لخصوص حصة منه كالماء الكر ـ مثلا ـ أو الجاري أو نحو ذلك ، وحيث انه لا قرينة على تقييده بخصوص حصة خاصة فلا محالة قضية الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة هي إرادة الجميع ، فان الإطلاق في مقام الإثبات كاشف عن الإطلاق في مقام الثبوت بقانون تبعية المقام الأول للثاني.

واما في مثل قولنا «جئني بماء» فتنتج المقدمات الإطلاق البدلي ، مع ان كلمة (ماء) في كلا الموردين قد استعملت في معنى واحد ، وهو الطبيعي الجامع ولكن خصوصية تعلق الحكم بهذا الطبيعي على الأول تقتضي كون نتيجة الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة شمولياً ، وخصوصية تعلقه به على الثاني تقتضي كون نتيجته بدلياً.

وكذا نتيجة مقدمات الحكمة في مثل قوله تعالى «أحل الله البيع» «وتجارة عن تراض» «وأوفوا بالعقود» وما شابه ذلك شمولياً ، باعتبار ان جعل الحكم لفرد ما من البيع أو التجارة أو العقد في الخارج لغو محض ، فلا يترتب عليه أي أثر. ومن المعلوم انه يستحيل صدور مثله عن الحكيم ، فاذن لا محالة اما ان يكون الحكم مجعولا لجميع افراد تلك الطبائع في الخارج من دون ملاحظة خصوصية في البين ، واما ان يكون مجعولا لحصة خاصة منها دون أخرى. وبما ان إرادة الثاني تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليها ، والمفروض انه لا قرينة في البين ، فاذن مقتضى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة هو إرادة جميع افراد

١٠٨

ومصاديق هذه الطبائع.

وهذا بخلاف نتيجة تلك المقدمات في مثل قولنا «بع دارك» ـ مثلا ـ أو «ثوبك» أو ما شاكل ذلك ، فانها في مثل هذا المثال بدلي لا شمولي ، مع ان كلمة (بيع) في هذا المثال والآية الكريمة قد استعملت في معنى واحد ، وهو الطبيعي الجامع ، ولا تدل في كلا الموردين إلا على إرادة تفهيم هذا الجامع ، ولكن لخصوصية في هذا المثال كان مقتضى الإطلاق فيه بدلياً ، وهذه الخصوصية هي عدم إمكان ان يراد من بيع الدار بيعها من كل أحد وبكل شيء ، ضرورة ان العين الواحدة الشخصية غير قابلة لأن يبيعها من كل شخص وبكل صيغة في زمان واحد. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان المفروض عدم تقييد بيعها من شخص خاص وفي زمان مخصوص.

فالنتيجة على ضوئهما هي جواز بيعها من أي شخص أراد بيعها منه ، وهذا معنى الإطلاق البدلي وكون المطلوب هو صرف الوجود.

ومن ذلك يظهر حال الأوامر المتعلقة بالطبائع ، كالأمر المتعلق بالصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك ، فان قضية الإطلاق الثابت فيها بمقدمات الحكمة الإطلاق البدلي وصرف الوجود ، وذلك لما عرفت من انه لا يمكن ان يراد من المكلف كل ما يمكن ان تنطبق عليه هذه الطبائع في الخارج ، لاستحالة إرادة ذلك ، لأنه تكليف بالمحال ، وإرادة بعض افرادها دون بعضها الآخر تحتاج إلى دليل ، فإذا لم يكن دليل في البين فمقتضى الإطلاق هو ان المطلوب واحد منها وصرف وجودها المتحقق بأول الوجودات. واما تكرار الصلاة في كل يوم والصوم في كل سنة فهو من جهة الأدلة الخاصة ، لا من ناحية دلالة الأمر عليه.

وهذا بخلاف ما إذا فرض تعلق النهي بتلك الطبائع ، فان مقتضى الإطلاق الثابت فيها بمقدمات الحكمة هو الإطلاق الشمولي لخصوصية في تعلق النهي بها ،

١٠٩

وهي انه لا يمكن ان يريد المولى حرمان المكلف عن بعض افرادها لأنه حاصل ولا معنى للنهي عنه ، وإرادة حصة خاصة منها بحسب الافراد العرضية أو الطولية تحتاج إلى دليل ، وحيث انه لا دليل عليها فقضية الإطلاق لا محالة هي العموم الشمولي.

وقد تحصل من ذلك ان مقتضى الإطلاق في الأوامر سواء أكان الإطلاق من تمام الجهات ـ أعني بالإضافة إلى الافراد العرضية والطولية ـ أو من بعض الجهات كما إذا كان لها إطلاق بالإضافة إلى الافراد العرضية دون الطولية أو بالعكس هو الإطلاق البدلي وصرف الوجود ، وفي النواهي كذلك الإطلاق الشمولي.

كما ان الأمر كذلك في الأحكام الوضعيّة المتعلقة بالطبائع الكلية كالطهارة والنجاسة ولزوم العقد وحلية البيع وما شاكل ذلك ، فان مقتضى جريان مقدمات الحكمة فيها هو الإطلاق الشمولي وانحلال تلك الأحكام بانحلال متعلقاتها وموضوعاتها في الخارج.

عدة نقاط فيما ذكرناه :

الأولى ـ انه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع ـ كما مر.

الثانية ـ انه لا فرق بينهما بحسب المتعلق ، فما تعلق به النهي بعينه هو متعلق الأمر ـ كما عرفت ـ

الثالثة ـ ان الأساس الرئيسي لامتياز النهي عن الأمر انما هو في مقام الإثبات والدلالة ، حيث ان نتيجة مقدمات الحكمة في طرف الأمر الإطلاق البدلي وصرف الوجود ، وفي طرف النهي الإطلاق الشمولي.

الرابعة ـ ان مبدأ انبثاق هذا الامتياز انما هو خصوصية في نفس الأمر المتعلق بشيء والنهي المتعلق به ـ كما سبق ـ.

ثم ان ما ذكرناه من الاختلاف في نتيجة مقدمات الحكمة باختلاف

١١٠

الخصوصيات جار في الجمل الخبرية أيضاً ، فان نتيجة مقدمات الحكمة فيها أيضا تختلف باختلاف خصوصيات المورد ـ مثلا ـ في مثل قولنا «جاء رجل نتيجة تلك المقدمات الإطلاق البدلي ، وفي مثل قولنا «لا رجل في الدار» نتيجتها الإطلاق الشمولي ، مع ان كلمة (رجل في كلا المثالين قد استعملت في معنى واحد وهو الطبيعي الجامع ، ولكن لخصوصية في كل منهما تقتضي كون الإطلاق في أحدهما بدلياً ، وفي الآخر شمولياً ، وبتلك الخصوصية يمتاز أحدهما عن الآخر.

وبيان ذلك : اما كون النتيجة في المثال الأول بدلياً ، فلأجل انه لا يمكن ان يريد المتكلم الاخبار عن مجيء كل من ينطبق عليه عنوان الرّجل لأنه خلاف الواقع. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انه لم ينصب قرينة على الاخبار عن مجيء شخص خاص.

فالنتيجة على ضوئهما هي ان مقتضى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة هو كونه أراد الاخبار عن مجيء فرد ما من الرّجل وصرف وجوده ، فهذه الخصوصية أوجبت كون نتيجة المقدمات فيه بدلياً.

واما في المثال الثاني فباعتبار انه لا يمكن ان يريد منه الاخبار عن عدم وجود رجل واحد في الدار ، ووجود البقية فيها. بداهة ان هذا المعنى في نفسه غير معقول. كيف ولا يعقل وجود جميع رجال العالم في دار واحدة. هذا من جانب ومن جانب. آخر انه لم يقيده بحصة خاصة دون أخرى.

فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين هي ان المتكلم أراد الاخبار بنفي وجود كل فرد من افراد الرّجل عن الدار ، ضرورة انه لو كان واحد من افراده فيها لا يصدق قوله «لا رجل في الدار» ، ولصدق نقيضه.

ومن هذا القبيل أيضاً قولنا «لا أملك شيئاً» فان كلمة (شيء) وان استعملت في معناها الموضوع له وهو الطبيعي الجامع بين جميع الأشياء ، الا ان مقتضى

١١١

الإطلاق وعدم تقييده بحصة خاصة هو نفي ملكية كل ما يمكن ان ينطبق عليه عنوان الشيء لا نفي فرد ما منه ووجود البقية عنده ، فان هذا المعنى باطل في نفسه ، فلا يمكن إرادته منه.

ومن هذا القبيل أيضاً قوله عليه‌السلام «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وما شاكل ذلك ، فانه لا يمكن ان يراد منه نفي ضرر ما في الشريعة المقدسة ، لأنه لغو محض ، فلا يصدر من الحكيم. فاذن لا محالة اما ان يراد نفي جميع افراده أو نفي بعضها الخاصة. وحيث ان الثاني يحتاج إلى قرينة تدل عليه فمقتضى الإطلاق هو الأول ، وهو إرادة نفي الجميع.

وكذا قوله تعالى «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» وقوله عليه‌السلام «لا صلاة الا بطهور» وقوله عليه‌السلام «لا سهو للإمام إذا حفظ عليه من خلفه ولا سهو المأموم إذا حفظ عليهم الإمام» وغير ذلك من الجملات ، سواء أكانت في مقام الاخبار أو الإنشاء ـ أي سواء أكانت كلمة (لا) النافية بمعناها أو بمعنى النهي ـ فانه على كلا التقديرين مقتضى الإطلاق فيها هو العموم الشمولي دون البدلي ، وذلك ضرورة انه لا يمكن ان يريد المولى من النفي أو النهي نفى فرد ما أو النهي عنه ، لأنه لغو محض فلا يصدر من الحكيم ، فاذن لا محالة يدور الأمر بين ان يراد منه نفي جميع افراد الطبيعة ، أو النهي عن جميعها ، أو نفى بعضها المعين ، أو النهي عنه كذلك. وحيث ان إرادة الثاني تحتاج إلى قرينة ، فإذا لم تكن قرينة في البين يتعين إرادة الأول لا محالة. وهذا معنى كون نتيجة مقدمات الحكمة فيها شمولياً ، وانها تكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت.

عدة خطوط فيما ذكرناه.

الأول ـ ان النهي موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى حرمان المكلف عن الفعل في الخارج ، كما ان الأمر موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى الفعل على ذمة

١١٢

المكلف. ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة والأمر بالوجوب باعتبار دلالة الأول على حرمان المكلف عن الفعل ، والثاني على ثبوته في ذمته.

الثاني ـ ان حقيقة النهي هو ذلك الأمر الاعتباري ، كما ان حقيقة الأمر كذلك وانهما اسمان للمؤلف من ذلك الأمر الاعتباري وإبرازه في الخارج بمبرز.

الثالث ـ ان متعلق النهي بعينه هو ما تعلق به الأمر ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا. واما ما هو المعروف من ان متعلق النهي الترك ونفس ان لا تفعل فلا أصل له كما سبق.

الرابع ـ ان النقطة الأساسية للفرق بين الأمر والنهي هي ان نتيجة مقدمات الحكمة في طرف الأمر الإطلاق البدلي وصرف الوجود ، وفي طرف النهي الإطلاق الشمولي وتمام الوجود.

الخامس ـ انه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع على وجهتي كلا النظرين ـ أعني وجهة نظرنا ووجهة نظر المشهور وذلك لأنهما لا تخلوان بحسب الواقع من ان يكونا مجعولين للطبيعة على نحو العموم البدلي أو الاستغراقي أو المجموعي فلا رابع في البين. ومن المعلوم انه لا فرق بينهما من هذه النواحي أصلا كما تقدم.

السادس ـ ان النهي يختلف مع الأمر في المعنى الموضوع له ، ويتحد معه بحسب المتعلق على وجهة نظرنا واما على وجهة نظر المشهور فمتعلق الطلب في النهي الترك وفي الأمر الوجود. نعم متعلق نفس الأمر والنهي معاً الفعل والوجود.

السابع ـ انه لا فرق بين عدم الطبيعة ووجودها ، فكما ان عدمها على نحو القضية الكلية يتوقف على عدم جميع ما يمكن ان تنطبق عليه هذه الطبيعة في الخارج ، فكذلك وجودها على هذا النحو يتوقف على وجود جميع ما يمكن انطباق تلك الطبيعة عليه. فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلا ، واما وجودها

١١٣

على نحو القضية الجزئية فهو وان تحقق بوجود فرد ما منها ، الا ان عدمها كذلك أيضاً يتحقق بعدم فرد ما منها فلا خصوصية من هذه الجهة للوجود ، بل هما من هذه الناحية على نسبة واحدة. ومن هنا قلنا ان مقابل كل وجود من وجودات الطبيعة عدم من أعدامها وهو بديله ونقيضه ، ولذا ذكرنا انه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد بوجود فرد منها والطبيعة التي تنتفي بانتفاء جميع افرادها.

الثامن ـ ان نتيجة جريان مقدمات الحكمة تختلف باختلاف خصوصيات الموارد ، فان نتيجتها في الأوامر المتعلقة بالطبائع الإطلاق البدلي وصرف الوجود وفي النواهي المتعلقة بها الإطلاق الشمولي وتمام الوجود. وفي الأحكام الوضعيّة المتعلقة بالطبائع الكلية أيضاً ذلك أعني الإطلاق الشمولي والانحلال.

الجهة الثانية ـ ان الأمر كما يتعلق بالفعل من ناحية اشتماله على مصلحة لزومية قد يتعلق بالترك كذلك ، وكما انه على الأول يتصور على صور كذلك على الثاني.

بيان ذلك هو ان المصلحة القائمة بالفعل لا تخلو من ان تقوم بصرف وجودها في الخارج أو بتمام وجوداتها على نحو العموم الاستغراقي أو على نحو العموم المجموعي أو بعنوان بسيط متحصل من الوجودات الخارجية. فعلى الأول يكون المطلوب هو صرف وجود الطبيعة المتحقق بأول وجوداتها. وعلى الثاني يكون المطلوب هو جميع وجوداتها على نحو الانحلال. وعلى الثالث يكون المطلوب هو مجموع تلك الوجودات بطلب واحد شخصي. وعلى الرابع يكون المطلوب هو ذلك العنوان البسيط ، واما الوجودات الخارجية فهي محصلة له.

وكذا الحال في المصلحة القائمة بالترك ، فانها لا تخلو بحسب مقام الثبوت والواقع من ان تكون قائمة بصرف ترك الطبيعة ، أو بتمام تروكها على نحو العام الاستغراقي ، أو بتمامها على نحو العام المجموعي ، أو بعنوان بسيط متولد من هذه التروك الخارجية ، ولا خامس لها.

١١٤

فعلى الأول المطلوب هو صرف الترك ، وهو يحصل بترك فرد ما من الطبيعة في الخارج ، فيكون حاله حال ما إذا كان المطلوب هو صرف الوجود.

وعلى الثاني المطلوب هو كل ترك من تروكها على نحو الاستقلال بحيث يكون كل منها متعلقاً للحكم مستقلا مع قطع النّظر عن تعلق الحكم بالآخر ، فحاله من هذه الناحية حال ما إذا كان المطلوب هو إيجاد الطبيعة على نحو الإطلاق والانحلال.

وعلى الثالث المطلوب هو مجموع التروك من حيث هو بطلب واحد شخصي بحيث يكون تعلق الحكم بكل منها مربوطاً بتعلقه بالآخر ، فيكون حاله حال الصورة الثالثة من هذه الناحية.

وعلى الرابع المطلوب هو ذلك العنوان البسيط ، واما التروك الخارجية فهي محصلة له ، فيكون حاله من هذه الجهة حال الصورة الرابعة.

ثم انه لا يخفى ان مرد هذه الصور الأربع جميعاً إلى إيجاب الترك ، كما ان مرد الصور الأربع الأولى إلى إيجاب الفعل ، ولا يرجع شيء من تلك الصور إلى المنع عن الفعل وحرمته واقعاً ، وان فرض ورود الدليل عليه بصورة النهي.

والوجه في ذلك واضح وهو ما ذكرناه من ان النهي عن شيء ينشأ عن اشتماله على مفسدة لزومية وهي تدعو المولى إلى اعتبار حرمان المكلف عنه ، ولا ينشأ عن مصلحة كذلك في تركه ، وإلا لزم ان يكون تركه واجباً لا ان يكون فعله حراما ، ضرورة انه لا مقتضى لاعتبار حرمان المكلف عنه أصلا بعد ما لم تكن فيه مفسدة أصلا ، بل اللازم عندئذ هو اعتبار تركه في ذمته من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة. وهذا بخلاف النهي الوارد في المقام ، فانه غير ناش عن مفسدة في الفعل ، بداهة انه لا مفسدة فيه أصلا ، بل نشأ عن قيام مصلحة في تركه ، وهي داعية إلى إيجابه واعتباره في ذمة المكلف.

وبكلمة واضحة ان المولى كما يعتبر الفعل على ذمة المكلف باعتبار اشتماله

١١٥

على مصلحة إلزامية ويبرزه في الخارج بمبرز ، كصيغة الأمر أو ما شاكلها ، قد يعتبر الترك على ذمته باعتبار قيام مصلحة لزومية فيه ويبرزه في الخارج بمبرز ما سواء أكان إبرازه بقول أم بفعل ، وسواء أكان بصيغة الأمر وما شابهها أم بصيغة النهي ، ضرورة ان اختلاف أنحاء المبرز (بالكسر) لا يوجب الاختلاف في المبرز (بالفتح) أصلا فانه واحد ـ وهو اعتبار المولى الترك في ذمته ـ كان مبرزه قولا أو فعلا كان بصيغة الأمر أو النهي ، وهذا واضح.

ونتيجة ذلك هي ان الأمر ناش عن قيام مصلحة إلزامية في متعلقه ، سواء أكان متعلقه فعل شيء أم تركه ، كما ان النهي ناش عن قيام مفسدة إلزامية في متعلقه كذلك.

والسر فيه ما عرفت من ان حقيقة الأمر هو اعتبار المولى الشيء على ذمة المكلف من جهة وجود مصلحة ملزمة فيه. ومن المعلوم انه لا يفرق بين اعتباره فعل شيء على ذمته أو تركه ، كما انه لا يفرق بين ان يكون مبرز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج فعلا أو قولا. وحقيقة النهي اعتباره حرمان المكلف عن الشيء باعتبار وجود مفسدة ملزمة فيه. ومن الواضح جدا انه لا يفرق بين اعتباره حرمانه عن فعل شيء أو اعتباره حرمانه عن ترك شيء.

وقد تحصل من ذلك ان هذا هو الميزان الأساسي لتمييز حقيقة النهي عن حقيقة الأمر ، وليست العبرة في ذلك بالمبرز (بالكسر) أصلا ، ضرورة انه لا شأن له ما عدا إبرازه عن واقع الأمر وواقع النهي ولا خصوصية له أبدا.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر حال النواهي الواردة في أبواب العبادات منها ما ورد في خصوص باب الصلاة كموثقة سماعة قال سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن جلود السباع فقال : «اركبوها ولا تلبسوا شيئاً منها تصلون فيه» وما شاكلها من الروايات الدالة على ذلك. وصحيحة محمد بن مسلم قال سألته عن الجلد الميت

١١٦

أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال عليه‌السلام «لا ولو دبغ سبعين مرة» وصحيحة محمد بن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الميتة قال «لا تصل في شيء منه حتى في شسع» وقوله عليه‌السلام «لا تصل فيه حتى تغسله» وما شاكل ذلك من الروايات ، فان هذه الروايات وان كانت واردة بصورة النهي ، الا انها في الحقيقة إرشاد إلى مانعية تلك الأمور عن الصلاة وتقيد الصلاة بعدمها ، لأجل مصلحة كانت في هذا التقييد ، لا لأجل مفسدة في نفس تلك الأمور حال الصلاة ضرورة انه ليس لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس في الصلاة من المحرمات في الشريعة المقدسة.

نعم الإتيان بالصلاة عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرم. وهذا خارج عن محل الكلام ، فان الكلام في حرمة هذه القيود ، لا في حرمة الصلاة ، على ان الكلام في الحرمة الذاتيّة ، لا في الحرمة التشريعية ، والفرض ان هذه الحرمة حرمة تشريعية. فاذن لا يمكن ان تكون هذه النواهي ناشئة عن وجود مفسدة ملزمة فيها.

وعلى الجملة ففي أمثال هذه الموارد ليس في الواقع وعند التحليل العلمي الا اعتبار الشارع تقييد الصلاة بعدم تلك الأمور من جهة اشتمال هذا التقييد على مصلحة ملزمة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرز ، كهذه النواهي أو غيرها. ومن هنا تدل تلك النواهي على مطلوبية هذا التقييد ومانعية تلك الأمور عن الصلاة ، ضرورة انا لا نعني بالمانع الا ما كان لعدمه دخل في المأمور به ، وهذا معنى كون هذه النواهي إرشادا إلى مانعية هذه الأمور وتقيد الصلاة بعدمها ، هذا كله فيما إذا كان الترك مأمورا به بالأمر الضمني.

وقد يكون الترك مأموراً به بالأمر الاستقلالي بأن يعتبره المولى على ذمة المكلف باعتبار اشتماله على مصلحة ملزمة ، ويبرزه في الخارج بمبرز ، سواء أكان

١١٧

ذلك المبرز صيغة امر أم نهي ، لما عرفت من انه لا شأن للمبرز (بالكسر) أصلا ما عدا إبرازه ذلك الأمر الاعتباري في الخارج ، والعبرة انما هي للمبرز (بالفتح) فانه إذا كان ناشئاً عن مصلحة في متعلقه سواء أكان متعلقه فعلا أم تركا ، فهو امر حقيقة وان كان مبرزه في الخارج صيغة النهي ، وإذا كان ناشئاً عن مفسدة في متعلقه كذلك ، فهو نهي حقيقة ، وان كان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أو ما يشبهها.

ونتيجة ما ذكرناه هي ان الأمر المتعلق بالترك على قسمين :

أحدهما ـ انه امر ضمني متعلق بعدم إيجاد شيء في العبادات أو المعاملات وثانيهما انه امر استقلالي متعلق بعدم إيجاد شيء مستقلا.

اما القسم الأول فهو بمكان من الكثرة في أبواب العبادات والمعاملات.

واما القسم الثاني فهو قليل جداً. نعم يمكن ان يكون الصوم من هذا القبيل باعتبار ان حقيقته عبارة عن ترك عدة أمور كالأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء ونحو ذلك ، وليست عبارة عن عنوان وجودي بسيط متولد من هذه التروك في الخارج ، فاذن الأمر بالصوم ناش عن قيام مصلحة ملزمة في هذه التروك ، ولم ينشأ عن قيام مفسدة كذلك في فعل هذه الأمور ، ولذا يقال ان الصوم واجب ، ولا يقال ان فعل المفطرات محرم. وعليه فلا محالة يكون مرد النهي عن كل من الأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء في نهار شهر رمضان إلى اعتبار تروك هذه الأمور على ذمة المكلف باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيها. فالنهي عن كل واحد منها إرشاد إلى دخل تركه في حقيقة الصوم ، وانه مأمور به بالأمر الضمني.

فالنتيجة هي ان مجموع هذه التروك مأمور به بالأمر الاستقلالي ، وكل منها مأمور به بالأمر الضمني.

ومن هذا الباب أيضا تروك الإحرام في الحج ، فان كلا منها واجب على

١١٨

المكلف وثابت في ذمته وليس بمحرم ، ضرورة ان النهي عنه غير ناش عن قيام مفسدة إلزامية في فعله ، بل هو ناش عن قيام مصلحة ملزمة في نفسه ، بمعنى ان الشارع قد اعتبر ترك كل من محرمات الإحرام على ذمة المكلف ، وأبرزه في الخارج بمبرز ، كصيغة النهي أو ما شاكلها.

ومن الواضح جداً انه ليس هنا نهى حقيقة ، بل امر في الحقيقة والواقع تعلق بترك عدة من الأفعال في حال الإحرام. فيكون ترك كل منها واجباً مستقلا على المكلف. وقد تقدم ما هو ملاك افتراق الأمر والنهي وانه ليس في المبرز (بالكسر) لما عرفت من انه لا شأن له أصلا ما عدا إبرازه عن واقع الأمر وواقع النهي ـ وهما اعتبار الشارع فعل شيء أو تركه في ذمة المكلف ، واعتباره حرمانه عن فعل شيء أو تركه ـ فالأوّل امر ، سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة امر أم صيغة نهي. والثاني نهي كذلك أي سواء أكان مبرزه فيه صيغة نهي أم امر.

نعم فيما إذا كان مبرز الأمر خارجا صيغة النهي يصح ان يقال انه امر واقعاً وحقيقة ، ونهي صورة وشكلا.

ومن هنا يظهر ان تعبير الفقهاء عن تلك الأفعال بمحرمات الإحرام مبني على ضرب من المسامحة والعناية ، والا فقد عرفت انها ليست بمحرمة بل تركها واجب ، وكيف كان فلا إشكال في ان هذا القسم قليل جداً في أبواب العبادات والمعاملات ، دون القسم الأول ، وهو ما إذا كان الترك متعلقاً للأمر الضمني.

وبتعبير آخر ان الواجبات الضمنية على ثلاثة أقسام :

الأول ـ ما يكون بنفسه متعلقاً للأمر.

الثاني ـ ما يكون التقيد بوجوده متعلقاً له.

١١٩

الثالث ـ ما يكون التقيد بعدمه متعلقاً له ، ولا رابع لها. والأول هو الأجزاء ، لفرض ان الأمر متعلق بأنفسها. والثاني هو الشرائط ، فان الأمر متعلق بتقيد تلك الاجزاء بها لا بنفسها ، خلافا لشيخنا الأستاذ (قده) حيث انه قد ذهب إلى ان الشرائط كالأجزاء متعلقة للأوامر الضمنية بنفسها ، ولكن قد ذكرنا بطلان ذلك في بحث الواجب المطلق والمشروط فلا نعيد. والثالث هو الموانع ، فان الأمر متعلق بتقيد هذه الاجزاء بعدمها.

وبعد ذلك نقول : الكلام هنا يقع في مقامين :

الأول ـ في مقام الثبوت والواقع.

الثاني ـ في مقام الإثبات والدلالة.

اما المقام الأول فيقع الكلام فيه في موردين :

الأول ـ في بيان ظهور الثمرة بين الصور المتقدمة في فرض كون الترك متعلقاً للأمر مستقلا.

الثاني ـ في بيان ظهورها بين تلك الصور في فرض كونه متعلقاً للأمر ضمناً.

اما الكلام في المورد الأول فتظهر الثمرة بين تلك الصور في موضعين :

الأول ـ فيما إذا فرض ان المكلف قد اضطر إلى إيجاد بعض افراد الطبيعة في الخارج كان المطلوب تركها فيه ، كأن اضطر إلى إيجاد بعض محرمات الإحرام في الخارج ، أو اضطر إلى ترك الصوم في بعض آنات اليوم.

فعلى الصورة الأولى ، وهي ما كانت المصلحة قائمة بصرف تركها ، فان تمكن المكلف من صرف الترك في هذا الحال وجب عليه ذلك ، والا فيسقط الأمر المتعلق به لا محالة ، لفرض انه غير مقدور له.

وبكلمة واضحة ان الاضطرار المزبور لا يخلو من ان يكون مستوعباً لتمام

١٢٠