محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٣٢

الأول ـ ان يكون الزمان مأخوذاً في ناحية المتعلق بان يكون شرب الخمر في كل زمان محكوما بالحرمة.

الثاني ـ ان يؤخذ الزمان في ناحية الحكم بان يكون الحكم المتعلق بترك الطبيعة باقياً في الأزمنة اللاحقة ، وبما انه لا دليل على أخذ الزمان في ناحية المتعلق من جهة ، ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آنا ما من جهة أخرى ، فلا محالة يكون دليل الحكمة مقتضيا لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة.

نلخص ما أفاده (قده) في عدة صور :

الأولي ـ ان انحلال النهي بالإضافة إلى الافراد العرضية انما هو من ناحية أخذ ترك الطبيعة فانياً في معنوناته حين تعلق الطلب به ، ولازم ذلك هو ان متعلق الطلب في الحقيقة هو ترك كل فرد من افراد هذه الطبيعة في الخارج ، فان الطلب المتعلق به لا محالة يسرى إلى جميع افراده ومعنوناته ، لفرض انه أخذ فانياً في تلك المعنونات ، وهذا معنى انحلال النهي بانحلال ترك افراد الطبيعة.

الثانية ـ ان انحلال النهي بالإضافة إلى الافراد الطولية انما هو من جهة أحد الأمرين : اما أخذ الزمان في ناحية المتعلق ، أو أخذه في ناحية الحكم. ولا ثالث ، ضرورة ان النهي لا يدل على الانحلال بالإضافة إلى تلك الافراد ، وانما يدل عليه بالإضافة إلى الافراد العرضية فحسب.

والسر في ذلك هو ان الملحوظ حال تعلق الطلب بترك الطبيعة هو فناؤه في ترك كل فرد من افرادها فحسب ، لا فناؤه في ترك كل فرد منها في كل آن من الآنات وزمان من الأزمنة ، ولأجل ذلك يدل على الانحلال من الناحية الأولى دون الثانية.

الثالثة ـ ان أخذ الزمان في ناحية المتعلق يحتاج إلى دليل ، وحيث انه لا دليل عليه في المقام ، فدليل الحكمة يعين أخذه في ناحيته فيدل على استمراره

١٦١

وبقائه في الآنات اللاحقة والأزمنة المتأخرة.

ولنأخذ بالمناقشة في جميع هذه الصور :

اما الصورة الأولى فيردها ما تقدم منا بشكل واضح ، وملخصه : اما أولا فلأن أصل هذه النظرية فاسدة ، لما سبق من ان النهي ليس عبارة عن طلب ترك الطبيعة ، ولا عبارة عن الزجر عنها ، بل هو عبارة عن اعتبار المولى حرمان المكلف عن الطبيعة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل. واما ثانياً فلما عرفت من ان انحلال النهي بالإضافة إلى الافراد العرضية والطولية على جميع المذاهب والآراء انما هو مقتضى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة ، فان المتفاهم منه عرفا ذلك بالإضافة إلى كلتيهما ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

واما الصورة الثانية فيرد عليها ما عرفت من ان استفادة العموم بالإضافة إلى الافراد الطولية أيضاً بالإطلاق ، فان إطلاق المتعلق وعدم تقييده بحصة خاصة كما يقتضي العموم بالإضافة إلى الافراد العرضية ، كذلك إطلاقه وعدم تقييده بزمان معين يقتضي العموم بالإضافة إلى الافراد الطولية ، فما أفاده (قده) من ان انحلال النهي بالإضافة إلى الافراد الطولية يتوقف على أحد امرين : اما أخذ الزمان في ناحية المتعلق ، أو أخذه في ناحية الحكم لا يمكن المساعدة عليه بوجه لما مر من انه لا يتوقف على شيء منها ، بل هو يتوقف على ثبوت الإطلاق فإذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على التقييد بزمان خاص دون آخر لا محالة كان مقتضى الإطلاق هو ثبوت الحكم لكل فرد من افراد الطبيعة في كل آن وزمان.

أضف إلى ذلك انه لا معنى لأخذ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم في أمثال هذه الموارد ، فان الزمان كالمكان بنفسه ظرف ، فلا يحتاج كونه كذلك إلى لحاظ زائد. وعليه فإذا لم يقيد المولى الحكم بزمان خاص ، فطبعاً يكون الحكم

١٦٢

ثابتاً في تمام الأزمنة والآنات.

ومن الواضح جدا ان هذا لا يحتاج إلى لحاظ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم وأخذه فيه ، كما هو ظاهر ، غاية الأمر قد يكون المتفاهم العرفي من ذلك هو استمرار الحكم على نحو العموم المجموعي ، وقد يكون المتفاهم منه هو استمراره على نحو العموم الاستغراقي ، كما هو الحال في أمثال هذه الموارد.

واما الصورة الثالثة فعلى تقدير تسليم انه لا بد من أخذ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم ، لأجل استفادة العموم بإضافة إلى الافراد الطولية ، فيرد عليها ان دليل الحكمة يعين أخذه في ناحية المتعلق دون ناحية الحكم ، وذلك لأن إطلاق المتعلق وعدم تقييده بزمان مخصوص يقتضي ثبوت الحكم له في كل زمان على نحو العموم الاستغراقي ، بان يثبت له في كل زمان حكم مغاير لثبوت حكم له في زمان ثان .. وهكذا ، وهذا هو المتفاهم منه عرفا ، ضرورة ان المتفاهم العرفي من النهي عن شرب الخمر ـ مثلا ـ وسب المؤمن وهو ما شاكلهما هو انحلال النهي بانحلال افرادها بحسب الأزمنة ، فيكون النهي الثابت لسب المؤمن في هذا الزمان مغايرا للنهي الثابت له في زمان آخر .. وهكذا.

نعم إطلاق المتعلق في بعض الموارد يعين أخذه في ناحية الحكم كما في مثل قوله تعالى «أوفوا بالعقود» وما شاكله كما عرفت.

فما أفاده (قده) من ان دليل الحكمة يعين أخذه في ناحية الحكم لا يتم على إطلاقه ، بل الغالب هو العكس.

هذا تمام الكلام في معنى النهي ونقطة الامتياز بينه وبين الأمر.

١٦٣

اجتماع الأمر والنهي

هاهنا جهات من البحث :

الأولى ـ ان عنوان النزاع في هذه المسألة على ما حرره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم كون النزاع فيها كبرويا بمعنى ان موضوع المسألة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ومحمولها الجواز أو الامتناع ، بمعنى ان القائلين بجواز الاجتماع يدعون انه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بدعوى انه لا مضادة بينهما ، ومعه لا مانع من اجتماعهما فيه ، والقائلين بالامتناع يدعون استحالة اجتماعهما فيه ، بدعوى وجود المضادة بينهما. وعليه فمرد النزاع في المسألة إلى دعوى المضادة بين الأحكام الشرعية بعضها مع بعض ، وعدم المضادة. فعلى الأول لا مناص من القول بالامتناع. وعلى الثاني لا بد من القول بالجواز.

والتحقيق ان النزاع في هذه المسألة لا يعقل ان يكون كبرويا ، بداهة استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد مطلقاً حتى عند من يجوز التكليف بالمحال كالأشعري وذلك لأن اجتماعهما في نفسه محال ، لا انه من التكليف بالمحال ضرورة استحالة كون شيء واحد محبوبا ومبغوضا للمولى معاً على جميع المذاهب والآراء فما ظنك بغيره.

وعلى الجملة فلا شبهة في استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، حتى عند القائل بجواز الاجتماع في المسألة ، فانه انما يقول به بملاك ان تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون ، واما مع فرض وحدته فلا يقول بالجواز أصلا ، فاذن

١٦٤

لا نزاع في الكبرى ، والنزاع في المسألة انما هو في الصغرى.

وبيان ذلك هو ان الأمر إذا تعلق بطبيعة كالصلاة ـ مثلا ـ والنهي تعلق بطبيعة أخرى كالغصب ـ مثلا ـ وقد اتفق في الخارج انطباق الطبيعتين على شيء واحد ـ وهو الصلاة في الأرض المغصوبة ـ فعندئذ يقع الكلام في ان النهي المتعلق بطبيعة الغصب ، هل يسرى منها إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصلاة المأمور بها في الخارج أم لا. ومن الواضح جدا ان سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر ترتكز على نقطة واحدة ، وهي اتحاد المجمع وكونه موجوداً بوجود واحد كما ان عدم السراية ترتكز على تعدد المجمع وكونه موجودا بوجودين.

فالنتيجة هي ان مركز النزاع في هذه المسألة ونقطة الخلاف فيها بين الاعلام والمحققين انما هي في ان المجمع لمتعلقي الأمر والنهي ، كالصلاة في الأرض المغصوبة ـ مثلا ـ في مورد التصادق والاجتماع ، هل هو موجود واحد حقيقة وبالذات وان التركيب بينهما اتحادي ، أو هو متعدد كذلك وان التركيب بينهما انضمامي ، فمرد القول بالامتناع في المسألة إلى القول باتحاد المجمع لهما في مورد التصادق والاجتماع ، إذ على هذا لا محالة يسرى النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به في الخارج ، فاذن يلزم انطباق المأمور به على المنهي عنه فعلا ، وهذا محال. ومرد القول بالجواز فيها إلى القول بعدم اتحاد المجمع.

وعليه فلا يسرى النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.

وقد تحصل من ذلك بوضوح ان النزاع في مسألتنا هذه صغروي ، ولا يعقل ان يكون كبرويا.

الثانية ـ قد ظهر مما ذكرناه نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة الآتية ، كمسألة النهي في العبادات ، وهي ان النزاع في تلك المسألة كبروي فان

١٦٥

المبحوث عنه فيها انما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة ، بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى ، وهي تعلق النهي بالعبادة واما النزاع في مسألتنا هذه فقد عرفت انه صغروي ، لفرض ان المبحوث عنه فيها هو سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر ، وعدم سرايته.

وعلى ضوء هذا فالبحث في هذه المسألة بحث عن إثبات الصغرى للمسألة الآتية ، فانها على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به ، تكون من إحدى صغرياتها ومصاديقها دون القول الآخر.

فالنتيجة ان النقطة الرئيسية لامتياز إحدى المسألتين عن الأخرى هي ان جهة البحث في إحداهما صغروية وفي الأخرى كبروية.

ومن هنا يظهر فساد ما أفاده المحقق صاحب الفصول (قده) من الفرق بين المسألتين ، وحاصل ما أفاده هو ان هذه المسألة تمتاز عن المسألة الآتية في ان النزاع في هذه المسألة فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة والذات ، وان كانت النسبة بينهما العموم المطلق كما إذا امر المولى عبده بالحركة ، ونهاه عن القرب في مكان مخصوص ، فان عنوان الحركة وعنوان القرب عنوانان متغايران بالذات ، مع ان النسبة بينهما بحسب الخارج عموم مطلق ضرورة ان العبرة انما هي بتغاير ما تعلق به الأمر وما تعلق به النهي ، لا يكون النسبة بينهما عموما من وجه. وان كان الغالب ان النسبة بين الطبيعتين المتغايرتين كذلك عموم من وجه ، وقل ما يتفق ان تكون النسبة بينهما عموما مطلقاً. والنزاع في تلك المسألة فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي متحدان بحسب الذات والحقيقة ، ومختلفان بمجرد الإطلاق والتقييد ، بان تعلق الأمر بالطبيعة المطلقة كالصلاة ـ مثلا ـ والنهي تعلق بحصة خاصة منها ، وهي الصلاة في الدار المغصوبة.

وتوضيح فساده هو ان مجرد اختلاف متعلقي الأمر والنهي في هذه المسألة

١٦٦

واتحادهما في تلك المسألة ، لا يكون ملاكا لامتياز إحداهما عن الأخرى ، ما لم تكن هناك جهة أخرى للامتياز ، ضرورة انه لا يفرق في البحث عن تلك المسألة أعني البحث عن ان تعلق النهي بعبادة هل يستلزم فسادها أم لا بين ان يكون النهي متعلقاً بعبادة بعنوانها ، كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة أو نحوه وان يكون متعلقاً بعنوان آخر منطبق عليها في الخارج ، كالنهي عن الغصب ـ مثلا ـ إذا فرض انطباقه على الصلاة فيها خارجا ، فاذن لا محالة تكون الصلاة منهياً عنها ومتعلقاً للنهي.

ومن الواضح جدا ان مجرد تعلق النهي بها بعنوان آخر لا يوجب عقد ذلك مسألة أخرى في قبال تلك المسألة ، بعد ما كان ملاك البحث في تلك المسألة موجودا فيه ، وكان الغرض المترتب عليها مترتباً على ذلك أيضا ، وهو فساد العبادة. وعليه فلا أثر لمجرد الاختلاف في المتعلق ، وعدم الاختلاف فيه ، فان ميزان تعدد المسألة ووحدتها في أمثال هذا العلم انما هو بتعدد الغرض وجهة البحث وحدتهما ، لا باختلاف الموضوع والمحمول وعدم اختلافهما ، كما هو واضح.

وبكلمة أخرى ان صرف تعلق الأمر والنهي بطبيعتين مختلفتين على نحو العموم من وجه أو المطلق في هذه المسألة ، وعلى نحو الإطلاق والتقييد في تلك المسألة لا يوجب الامتياز بينهما إذا فرض عدم اختلافهما من جهة البحث ، ضرورة انه إذا فرض ان جهة البحث فيهما ترجع إلى نقطة واحدة ، فلا معنى عندئذ لجعل هذه المسألة مسألة أخرى في قبال تلك ، كما هو ظاهر.

وقد تحصل من ذلك ان الضابط لامتياز هذه المسألة عن تلك ، هو ما ذكرناه ، من ان جهة البحث في هذه المسألة غير جهة البحث في تلك المسألة فاذن لا بد من عقدها مسألة أخرى في قبالها ، كما تقدم بصورة مفصلة.

وقد يتخيل ان نقطة الفرق بين هاتين المسألتين هي ان البحث في مسألتنا

١٦٧

هذه عقلي ، فان الحاكم بالجواز أو الامتناع فيها انما هو العقل ، بملاك تعدد المجمع في مورد التصادق والاجتماع ووحدته فيه ، وليست للفظ آية صلة في البحث عنها ، والبحث في المسألة الآتية لفظي ، بمعنى ان النهي المتعلق بعبادة ، هل يدل على فسادها أم لا.

ولكن هذا الخيال خاطئ جدا وغير مطابق للواقع قطعاً. والوجه في ذلك :

اما أولا فلأن هذه المسألة تغاير تلك المسألة ذاتاً ، فلا اشتراك لهما ، لا في الموضوع ولا في المحمول ولا في الجهة ولا في الغرض ، وهذا معنى الامتياز الذاتي ومعه لا نحتاج إلى امتياز عرضي بينهما ، وهو ان البحث في إحداهما عقلي وفي الأخرى لفظي ، فان الحاجة إلى مثل هذا الامتياز انما هو في فرض الاشتراك بينهما ذاتاً ، واما إذا فرض انه لا اشتراك بينهما أصلا فلا معنى لجعل هذا جهة امتياز بينهما ، كما هو واضح.

واما ثانيا فلما سيجيء عن قريب إن شاء الله تعالى من ان البحث في تلك المسألة أيضاً عقلي ، ولا صلة له بعالم اللفظ أبدا ، ضرورة ان الجهة المبحوث عنها فيها انما هي ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة. ومن الواضح جدا ان البحث عن تلك الجهة لا يختص بما إذا كانت الحرمة مدلولا لدليل لفظي بل يعم الجميع ، بداهة ان المبحوث عنه في تلك المسألة والمهم فيها انما هو البحث عن ثبوت الملازمة وعدمه. ومن المعلوم انه لا يفرق فيه بين ان تكون الحرمة مستفادة من اللفظ أو من غيره ، وان كان عنوان البحث فيها على ما حرره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم اختصاص محل النزاع بما إذا كانت الحرمة مدلولا لدليل لفظي الا ان هذا من جهة الغلبة ، حيث ان الحرمة غالباً مستفادة من اللفظ دون غيره ، كما هو ظاهر.

١٦٨

الثالثة ـ قد تقدم ان متعلق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلية التي يمكن انطباقها على الافراد والمصاديق الخارجية بشتى ألوانها واشكالها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان تلك الطبائع الكلية قد قيدت بقيودات كثيرة وجودية وعدمية ، مثلا ـ الصلاة مقيدة بقيودات وجودية ، كالطهور والقيام واستقبال القبلة والاستقرار وما شاكل ذلك ، وقيودات عدمية ، كترك لبس ما لا يؤكل والحرير والذهب والميتة والنجس ، وترك القهقهة والتكلم ونحو ذلك. ومن ناحية ثالثة ان تلك القيودات لا توجب الا تضييق دائرة انطباقها على افرادها في الخارج ولا توجب خروجها عن الكلية.

وعلى الجملة فان للطبائع الكلية عرضا عريضاً ، ولكل حصة منها نحو سعة وكلية ، وان ـ التقييد مهما بلغ عدده ـ لا يوجب الا تضييق دائرة الانطباق على ما في الخارج ، الا إذا فرض بلوغ التقييد إلى حد يوجب انحصار المقيد في الخارج بفرد واحد ، ولكنه مجرد فرض لعله غير واقع أصلا.

ومن هنا ـ تكون التقييدات الواردة على الصلاة من نواحي عديدة. ١ ـ من ناحية الزمان حيث انها واجبة في زمان خاص لا مطلقاً. ٢ ـ من ناحية المكان حيث انه يشترط في صحتها ان تقع في مكان مباح. ٣ ـ من ناحية المصلى فلا تصح من كل شخص كالحائض ونحوها. ٤ ـ من ناحية نفسها حيث انها مقيدة بقيودات عديدة كثيرة وجودية وعدمية ـ لا توجب الا تضييق دائرة انطباقها على ما في الخارج ، ولا توجب خروجها عن الكلية وإمكان انطباقها على الافراد الكثيرة في الخارج. ومن ناحية رابعة ان المراد من الواحد في محل الكلام هو مقابل المتعدد لا في مقابل الكلي ، بمعنى ان المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد وليس بمتعدد بان يكون مصداق المأمور به في الخارج غير مصداق المنهي عنه وإلا لخرج عن محل الكلام ولا إشكال عندئذ أصلا.

١٦٩

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي ان المجمع في مورد الاجتماع والتصادق كلي قابل للانطباق على كثيرين وليس واحداً شخصياً ، ضرورة ان الصلاة في الأرض المغصوبة ليست واحدة شخصاً بل هي واحدة نوعا ولها افراد عرضية وطولية تصدق عليها لما عرفت من ان التقييد لا يوجب إلا تضييق دائرة الانطباق فتقييد الصلاة بكونها في الدار المغصوبة لا يوجب خروجها عن الكلية وانما يوجب تضييق دائرة انطباقها على خصوص الافراد الممكنة التحقق فيها من العرضية والطولية فانها كما تصدق على الصلاة قائما فيها تصدق على الصلاة قاعدا وعلى الصلاة مع فتح العينين ومع غمضهما وفي هذه الدار وتلك .. وهكذا وعلى الصلاة في هذا الآن. وفي الآن الثاني والثالث .. وهكذا.

وبكلمة أخرى ان الواحد قد يطلق ويراد منه ما لا يكون متعدداً ، فيقال ان الصلاة في الأرض المغصوبة واحدة فلا تكون متعددة بمعنى انه ليس في الدار شيئان أحدهما كان متعلق الأمر والثاني متعلق النهي بل فيها شيء واحد ـ وهو الصلاة ـ يكون مجمعا لمتعلقيهما فالغرض من التقييد بكون المجمع لهما واحداً في مقابل ذلك أي في مقابل ما ينطبق المأمور به على شيء والمنهي عنه على شيء آخر لا في مقابل الكلي كما ربما يتوهم.

وقد يطلق الواحد ويراد منه ما لا يكون كلياً فيقال هذا واحد ليس بكلي قابل للانطباق على كثيرين والنسبة بين الواحد بهذا المعنى والواحد بالمعنى الأول هي عموم مطلق ، فان الأول أعم من هذا لشموله الواحد بالشخص والواحد بالنوع والواحد بالجنس دون هذا ، فانه خاص بالأول فحسب. وبعد ذلك نقول : ان المراد من الواحد في محل الكلام هو الواحد بالمعنى الأول دون الثاني ، بمعنى ان هذه الحصة من الصلاة ـ مثلا ـ وهي الصلاة في الأرض المغصوبة ـ مجمع لمتعلقي الأمر والنهي ومورد لتصادقهما ، وان كانت في نفسها كلياً قابلا للانطباق على الافراد

١٧٠

الكثيرة في الخارج العرضية والطولية ، كما عرفت.

فالنتيجة ان هذه الحصة بما لها من الافراد مجمع لهما ومحل للتصادق والاجتماع في مقابل ما إذا لم يكن كذلك ، بان يكون مصداق المأمور به حصة ، ومصداق المنهي عنه حصة أخرى مباينة للأولى بما لها من الافراد الدفعيّة والتدريجية.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل السجدة والقتل والكذب وما شاكلها من الطبائع الكلية التي يتعلق الأمر بحصة منها ، والنهي بحصة أخرى منها عن محل الكلام في المسألة ، فان هذه الطبائع وان كانت واحدة بالنوع أو الجنس ، إلا انها ليست مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي معاً ، فان الأمر تعلق بحصة منها ـ وهي السجود لله تعالى ـ والنهي تعلق بحصة أخرى منها ـ وهي السجود لغيره تعالى. وهاتان الحصتان متباينتان فلا تجتمعان في مورد واحد ، ولا تنطبق. إحداهما على ما تنطبق عليه الأخرى ، وليس هنا شيء يكون مجمعاً لمتعلقي الأمر والنهي ، ومحلا لاجتماعهما فيه ضرورة ان طبيعي السجود بما هو ليس مجمعاً للأمر والنهي ليكون داخلا في محل البحث في هذه المسألة ، بل الأمر كما عرفت تعلق بحصة ، والنهي تعلق بحصة مباينة لها ، فلا تجتمعان في مورد أصلا.

وكذا الحال في القتل ، فان الأمر تعلق بحصة خاصة منه ـ وهي قتل الكافر أو غيره ممن وجب قتله ـ والنهي تعلق بحصة أخرى منه ـ وهي قتل المؤمن ـ ومن الواضح انهما لا تتصادقان على شيء واحد ، ولا تجتمعان في محل فارد ، فاذن ليس هنا شيء واحد اجتمع فيه الأمر والنهي ، بل الأمر تعلق بحصة يمكن انطباقها على افرادها الكثيرة في الخارج العرضية والطولية ، والنهي تعلق بحصة أخرى كذلك. وكذا الحال في الكذب ونحوه.

ونتيجة ما ذكرناه هي ان الغرض من تقييد المجمع بكونه واحدا انما هو التحرز عن مثل هذه الموارد التي لا يتوهم اجتماع الأمر والنهي فيها في شيء واحد

١٧١

لا التحرز عن مطلق الواحد النوعيّ أو الجنسي كما عرفت.

وقد تحصل من ذلك امران :

الأول ـ انه إذا كان مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه في الخارج ومبايناً له ، فهو خارج عن مفروض الكلام في المسألة ، ولا كلام ولا إشكال فيه أبداً.

الثاني ـ ان محل الكلام فيها ما إذا كان مصداق المأمور به والمنهي عنه واحداً ، وذلك الواحد يكون مجمعاً لهما سواء أكانت وحدته شخصية أو صنفية أو نوعية أو جنسية ، لما مر من ان المراد من الواحد في مقابل المتعدد ـ وهو ما إذا كان مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه خارجا ـ لا في مقابل الكلي وسواء أكانت وحدته حقيقية أم انضمامية.

الجهة الثالثة (التي أهم الجهات في مسألتنا هذه) قد تقدم ان القول بالامتناع في المسألة يرتكز على سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعلى هذا فلا محالة تقع المعارضة بين دليلي الحكمين كالوجوب والحرمة ـ مثلا ـ لما عرفت من ان مرد هذا القول اما إلى القول باتحاد المجمع حقيقة أو القول بسراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر. وعلى كلا التقديرين لا محالة يكون أحد الدليلين كاذبا في مورد الاجتماع وذلك لاستحالة ان يكون المجمع عندئذ مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معاً ، فاذن الأخذ بمدلول كل منهما في ذلك المورد يستلزم رفع اليد عن مدلول الآخر فيه مع بقاء موضوعه.

ومن هنا ذكرنا في بحث التعادل والترجيح ان التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين في مقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد بالذات والحقيقة ، أو بالعرض والمجاز ، بمعنى ان كل واحد من الدليلين يدل على نفي مدلول الدليل الآخر بالمطابقة أو بالالتزام ، فيكون مدلول الدليل الآخر منتفياً مع بقاء موضوعه بحاله

١٧٢

لا بانتفائه. وهذا هو الضابط الرئيسي لمسألة التعارض وواقعه الموضوعي. ومن المعلوم انه ينطبق في هذه المسألة على القول بالامتناع ، فان المجمع على هذا يكون واحداً ، كما هو المفروض. وعليه فلا محالة يدل كل من دليلي الأمر والنهي على نفي مدلول الدليل الآخر مع بقاء موضوعه بحاله ، فاذن لا بد من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة ، فان كان التعارض بينهما بالإطلاق كما هو الغالب يسقطان معاً ، فيرجع إلى الأصل في المسألة من أصل لفظي ان كان ، والا فإلى أصل عملي. وان كان بالعموم يرجع إلى اخبار الترجيح إذا كان التعارض بين الخبرين وإلا فإلى قواعد اخر على تفصيل في محله. وان كان أحدهما مطلقاً والآخر عاما فيتقدم العام على المطلق ، لأنه يصلح ان يكون بياناً له دون العكس ، وان كان أحدهما لبياً والآخر لفظياً ، فيتقدم الدليل اللفظي على الدليل اللبي ، كما هو واضح. وان كان كلاهما لبياً فلا بد من الرجوع في المسألة إلى الأصل من أصل لفظي أو عملي.

والقول بالجواز يرتكز على عدم سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به ، لما سبق من ان مرد هذا القول إلى تعدد المجمع حقيقة في مورد الاجتماع والتصادق. وعليه فلا محالة تقع المزاحمة بين إطلاقي الدليلين في مقام الامتثال والفعلية. وقد تقدم في بحث الضد بشكل واضح ان نقطة انبثاق التزاحم بين الحكمين تنحصر في عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال فان صرف قدرته في امتثال هذا يعجز عن امتثال ذاك ، وان عكس فبالعكس فيكون انتفاء كل منهما عند إعمال المكلف قدرته في امتثال الآخر بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ لا بانتفائه مع بقاء موضوعه على حاله ، وإلا لكان بينهما تعارض وتعاند في مقام الجعل ، ولذا قلنا أنه لا تنافي بين الحكمين المتزاحمين بحسب مقام الجعل أصلا ، فكل منهما مجعول لموضوعه على نحو القضية الحقيقية من دون أية منافاة ومعاندة بينهما في هذا المقام أبداً ، والمنافاة بينهما انما طرأت في مقام الامتثال

١٧٣

من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معاً.

ومن هنا قلنا انه لا منافاة بينهما ذاتاً وحقيقة ، والمنافاة انما هي بالعرض والمجاز ولأجل ذلك اختصت المزاحمة والمنافاة بينهما بالإضافة إلى العاجز ، فلا مزاحمة بينهما بالإضافة إلى القادر أصلا ، وهذا بخلاف باب التعارض ، فانه تنافي الحكمين بحسب مقام الجعل مع قطع النّظر عن وجود أي شيء في الخارج وعدمه فيه ، ولذا لا يختص التعارض بين الحكمين بالإضافة إلى شخص دون آخر. وقد تقدم الكلام في تمام هذه النقاط في بحث الضد بصورة مفصلة فلا نعيد. هذا إذا لم تكن مندوحة للمكلف في مقام الامتثال. واما إذا كانت مندوحة له ، بان يتمكن من امتثال كلا التكليفين معا ، غاية الأمر أحدهما بنفسه والآخر ببدله ، فهل يدخل ذلك في كبرى مسألة التزاحم أم لا وجهان :

فقد اختار شيخنا الأستاذ (قده) الوجه الأول ، بدعوى ـ انه لا فرق في تحقق المزاحمة بين حكمين ـ ان تكون هناك مندوحة للمكلف أم لم تكن. ومن هنا قال (قده) ان أول مرجحات باب التزاحم هو ما إذا كان لأحد الحكمين المتزاحمين بدل دون الحكم الآخر ، فيتقدم ما ليس له بدل على ماله بدل في مقام المزاحمة ، وهذا انما يتحقق في أحد موردين :

الأول ـ ما إذا زاحم بعض افراد الواجب التخييري الواجب التعييني ، كما إذا وقعت المزاحمة بين صرف المال الموجود عنده في نفقة عياله وصرفه في إطعام ستين مسكيناً ـ مثلا ـ بعد فرض انه لا يكفي الا لأحدهما فحسب ، وحيث ان للثاني بدلا في عرضه ـ وهو صوم شهرين متتابعين ـ فيتقدم الأول عليه في صورة المزاحمة مطلقاً ولو كان ماله البدل أهم منه.

الثاني ـ ما إذا وقعت المزاحمة بين الأمر بالوضوء أو الغسل ، والأمر بغسل الثوب أو البدن للصلاة ، وبما ان للوضوء أو الغسل بدلا في طوله ـ وهو التيمم

١٧٤

فيتقدم الأول عليه ، فتنتقل الوظيفة إلى التيمم.

أقول : اما المورد الأول فقد تقدم الكلام فيه بشكل واضح في بحث الضد عند التكلم عن مرجحات باب التزاحم ، وقلنا هناك انه خارج عن كبرى هذا الباب ، وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب التخييري من ان الواجب هو الجامع بين الفعلين أو الأفعال ، لا كل واحد منهما ـ مثلا ـ الواجب في خصال الكفارة هو الواحد لا بعينه ، لا كل واحد منها خاصة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد ذكرنا ان منشأ التزاحم بين الحكمين انما هو عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال.

فالنتيجة على ضوئهما هي انه لا تزاحم في أمثال هذا المورد ، لفرض ان المكلف قادر على امتثال كلا الواجبين معاً ، ومعه لا مزاحمة بينهما أبداً ، ضرورة انه كما يكون قادراً على امتثال الأمر بالنفقة والإتيان بمتعلقه في الخارج ، كذلك يكون قادراً على امتثال الأمر بالجامع بين الخصال والإتيان بمتعلقه فيه. فما هو واجب ـ وهو الجامع بينها ـ لا يكون مزاحماً للأمر بصرف هذا المال في النفقة ومانعاً عنه ، وما هو مزاحم له ومانع عنه ـ وهو إطعام ستين مسكيناً ـ ليس بواجب ، فاذن لا يعقل التزاحم في هذه الموارد.

نعم التزاحم انما يكون في تطبيق هذا الجامع على خصوص هذا الفرد ـ وهو الإطعام ولكن التطبيق بما انه باختيار المكلف وإرادته ، ولا يكون ملزما في تطبيقه على هذا الفرد ، لا من قبل الشرع ، ولا من قبل العقل ، فله الخيار في التطبيق على هذا أو ذاك ، ولكن حيث ان تطبيقه على خصوص هذا الفرد في المقام مزاحم لامتثال الواجب الآخر ، ومستلزم لتركه ، فلا يجوز ، بحكم العقل بل هو ملزم بتطبيقه على غيره لئلا يزاحم الواجب ، كما هو واضح. وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في بحث الضد فلاحظ.

١٧٥

واما المورد الثاني فقد تقدم الكلام فيه أيضا بصورة واضحة في بحث الضد ، وقلنا هناك ان أمثال هذا المورد داخلة في كبرى باب التعارض ، دون باب التزاحم فراجع ، ولا حاجة إلى الإعادة.

ونتيجة ما ذكرناه هي ان مسألة الاجتماع على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به تدخل في كبرى باب التعارض ، وتكون من إحدى صغرياتها ، فلا بد عندئذ من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب. وعلى القول بالجواز وعدم السراية تدخل في كبرى باب التزاحم ، إذا لم تكن للمكلف مندوحة في البين ، بان لا يتمكن من الإتيان بالصلاة في خارج الأرض المغصوبة واما إذا كانت له مندوحة ، بان كان متمكناً من الإتيان بها في الخارج ، فلا تزاحم أبداً.

الرابعة ـ هل ان مسألتنا هذه من المسائل الأصولية أو من المسائل الفقهية ، أو من المسائل الكلامية ، أو من المبادئ التصديقية؟ وجوه وأقوال : قيل انها من المسائل الفقهية ، بدعوى ان البحث في هذه المسألة في الحقيقة عن عوارض فعل المكلف وهي صحة العبادة في المكان المغصوب وفسادها فيه. وهذا هو الضابط لكون المسألة فقهية لا غيرها.

ويرده ما تقدم من ان البحث فيها ليس عن صحة العبادة وفسادها ابتداء ، بل البحث فيها متمحض في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته. ومن الواضح جدا ان البحث من هذه الناحية لا يرتبط بعوارض فعل المكلف أبدا ، ولا يكون بحثاً عنها أصلا ، بل الصحة التي هي من عوارض فعله تترتب على القول بعدم السراية ، ونتيجة لهذا القول ، وهذا ملاك كون هذه المسألة مسألة أصولية ، لا غيرها وذلك لما تقدم من ان الميزان في كون المسألة أصولية ترتب نتيجة فقهية عليها ، ولو باعتبار أحد طرفيها من دون ضم

١٧٦

كبرى مسألة أصولية أخرى ، وكيف كان فعدم كون هذه المسألة من المسائل الفقهية من الواضحات الأولية.

الثاني ـ انها من المسائل الكلامية بتقريب ان البحث فيها عن استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وإمكانه عقلا. ومن الظاهر ان البحث عن هذه الجهة أعني الاستحالة والإمكان يناسب المسائل الكلامية دون المسائل الأصولية ، ضرورة ان الأصولي لا بد ان يبحث عما يترتب عليه أثر شرعي ، وليس المناسب له البحث عن إمكان الأشياء واستحالتها.

وغير خفي ان البحث في هذه المسألة وان كان عقلياً ، ولا صلة له بعالم اللفظ أبدا ، الا انه مع ذلك ليس من المسائل الكلامية. والوجه فيه هو ان الضابط في كون المسألة كلامية هو ان يكون البحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد ومسألتنا هذه وان كانت مسألة عقلية ، الا ان البحث فيها ليس بحثاً عن أحوال المبدأ والمعاد في شيء ، بل البحث فيها ـ كما عرفت ـ انما هو عن سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم السراية. ومن المعلوم انه لا مساس لها على كلا القولين بالعقائد الدينية والمباحث الكلامية.

وبكلمة أخرى ان المسائل الكلامية وان كانت مسائل عقلية ، الا انه ليس كل مسألة عقلية مسألة كلامية ، بل هي طائفة خاصة منها ، وهي ما يترتب على البحث عنها معرفة المبدأ والمعاد ، وبذلك نميز المسائل الكلامية عن غيرها ، فكل مسألة يترتب على البحث عنها هذا الغرض ، فهي من المسائل الكلامية ، والا فلا ، وحيث ان هذا الغرض لا يترتب على البحث عن مسألتنا هذه فلا تكون منها.

نعم يمكن إرجاع البحث في هذه المسألة إلى البحث عن أحوال المبدأ والمعاد بتقريب ان يجعل البحث فيها عن قبح صدور الأمر والنهي منه تعالى بالإضافة إلى شيء واحد وعدم قبح ذلك منه تعالى ، وبهذه العناية وان كانت من المسائل

١٧٧

الكلامية ، الا ان البحث فيها ليس عن هذه الجهة في شيء ، بل قد عرفت ان البحث فيها عن السراية وعدمها بعد ما تعلق الأمر بطبيعة ، والنهي بطبيعة أخرى واتفق انطباقهما على شيء ، فعندئذ يقع الكلام في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى قد ذكرنا ان الضابط لكون المسألة أصولية أو كلامية أو غيرهما انما هو جهة البحث في تلك المسألة ، فان كانت الجهة مما يترتب عليه الغرض الأصولي تكون المسألة أصولية ، وان كانت مما يترتب عليه الغرض الكلامي تكون كلامية .. وهكذا ، كما هو واضح. وحيث انه يترتب على البحث عن هذه المسألة غرض أصولي ، فهي من المسائل الأصولية ، لا غيرها.

الثالث ـ انها من المبادي الأحكامية ، والمراد بها ما يكون البحث فيه عن حال الحكم ، كالبحث عن ان وجوب شيء هل يستلزم وجوب مقدمته ، أو حرمة ضده أم لا؟ والبحث في هذه المسألة في الحقيقة بحث عن حال الأحكام من حيث إمكان اجتماع اثنين منها في شيء واحد وعدم إمكانه. وعليه فتكون المسألة من المبادي الأحكامية ، كما هو الحال في بقية مباحث الاستلزامات العقلية.

ويرده ان المبادي لا تخلو من ان تكون مبادئ تصورية أو مبادئ تصديقية فلا ثالث لهما ، والمبادي التصورية عبارة عن تصور نفس الموضوع والمحمول بذاتهما وذاتياتهما ، والمبادي التصديقية هي التي تكون مبدأ للتصديق بالنتيجة ، فانها عبارة عن الصغرى والكبرى المؤلفتين منهما القياس المنتج للعلم بالنتيجة. ومن تلك المبادي المسائل الأصولية بالإضافة إلى المسائل الفقهية باعتبار انها تكون مبدأ للتصديق بثبوت تلك المسائل ، وتقع في كبرى القياس الواقع في طريق استنباطها ، وبهذا الاعتبار تكون المسائل الأصولية مبادئ تصديقية لعلم الفقه ، لوقوعها في كبرى قياساتها التي تستنتج منها المسائل الفقهية ، ولا نعقل المبادي

١٧٨

الأحكامية في مقابل المبادي التصورية والتصديقية ، بداهة انه ان أريد من المبادي الأحكامية تصور نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما فهو من المبادي التصورية إذ لا نعني بها إلا تصور الموضوع والمحمول كما مر. وان أريد منها ما يوجب التصديق ثبوت حكم أو نفيه ـ ومنه الحكم بسراية النهي إلى متعلق الأمر في محل الكلام ـ فهي من المبادي التصديقية لعلم الفقه ، كما هو الحال في سائر المسائل الأصولية.

الرابع ـ انها من المبادي التصديقية لعلم الأصول ، وليست من مسائله. وقد اختار هذا القول شيخنا الأستاذ (قده) وأفاد في وجه ذلك ما حاصله وهو ان هذه المسألة على كلا القولين لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلي الشرعي بلا واسطة ضم كبرى أصولية. وقد تقدم ان الضابط لكون المسألة أصولية هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة ، والمفروض ان هذه المسألة ليست كذلك ، فان فساد العبادة لا يترتب على القول بالامتناع فحسب ، بل لا بد من ضم كبرى أصولية إليه وهي قواعد كبرى مسألة التعارض ، فان هذه المسألة على هذا القول تدخل في كبرى تلك المسألة ، وتكون من إحدى صغرياتها. وعليه ففساد العبادة انما يترتب بعد إعمال قواعد التعارض وتطبيقها في المسألة لا مطلقاً وهذا شأن كون المسألة من المبادي التصديقية دون المسائل الأصولية ، كما انها على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم.

ويرد عليه ما ذكرناه غير مرة من انه يكفي في كون المسألة أصولية وقوعها في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة بأحد طرفيها وان كانت لا تقع بطرفها الآخر ضرورة انه لو لم يكن ذلك كافياً في اتصاف المسألة بكونها أصولية ، بل يعتبر فيه وقوعها في طريق الاستنباط بطرفها الآخر أيضا للزم خروج عدة من المسائل الأصولية عن كونها أصولية. منها مسألة حجية خبر الواحد فانها لا تقع في طريق

١٧٩

الاستنباط على القول بعدم حجيته ولا يترتب عليها أي أثر شرعي على هذا القول ومنها حجية ظواهر الكتاب ، فانه على القول بعدمها لا يترتب عليها أي أثر شرعي ، وغيرهما من المسائل ، مع انه لا شبهة في كونها من المسائل الأصولية ، بل هي من أهمها.

نتيجة ذلك هي ان الملاك في كون المسألة أصولية وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ، ولو باعتبار أحد طرفيها في مقابل ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة ، كمسائل بقية العلوم ، والمفروض ان مسألتنا هذه كذلك ، فانه يترتب عليها أثر شرعي ، وهو صحة العبادة على القول بالجواز وتعدد المجمع وان لم يترتب أثر شرعي عليها على القول بالامتناع ، وهذا يكفي في كونها مسألة أصولية.

وقد تبين لحد الآن ان هذه المسألة كما انها ليست مسألة فقهية ، كذلك ليست مسألة كلامية ، ولا من المبادي الأحكامية ، ولا من المبادي التصديقية.

الخامس ـ انها من المسائل الأصولية العقلية ، وهذا هو الصحيح.

فلنا دعويان :

الأولى ـ انها مسألة عقلية ولا صلة لها بعالم اللفظ أبدا.

الثانية ـ انها مسألة أصولية تترتب عليها نتيجة فقهية بلا واسطة.

اما الدعوى الأولى فهي واضحة ، ضرورة ان الحاكم باستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وإمكانه انما هو العقل ، فانه يدرك استحالة الاجتماع فيما إذا كان المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحدا ، وجوازه فيما إذا كان المجمع فيه متعدداً.

وبتعبير آخر ان القضايا العقلية على ضربين :

أحدهما ـ القضايا المستقلة العقلية بمعنى ان في ترتب النتيجة على تلك القضايا لا نحتاج إلى ضم مقدمة خارجية ، بل هي تتكفل لإثبات النتيجة بأنفسها ، وهذا

١٨٠